ads

Bookmark and Share

السبت، 31 يوليو 2021

157 حادثة الهماميل الدولية

حادثة الهماميل الدولية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 28 نوفمبر 1996م - 17 رجب 1417هـ


ظهر يوم الأربعاء 3 أغسطس عام 1901، وفى شارع صغير وراء شارع الهماميل بقسم المنشية بالإسكندرية كان أحد البلطجية ممن يحبون "بيوت الفسق والفجور" على حد توصيف الأهرام وهو إيطالى اسمه ستيفانو لاروزا يحتفل مع بعض أصحابه "بعيد مولده السعيد بتناول الغداء في بيت عاهرة فظلوا يأكلون ويقصفون حتى الساعة الرابعة فنزلت المرأة، واسمها ماريا فومى، تبتاع غازوزة من بائع ثلج قريب فاختلفت معه" فنزل إليه البلطجى الإيطالى وتحول الأمر إلى مشاجرة انتهت بقتل جاويش من رجال البوليس، اسمه أحمد موسى، كان قريبًا من أحداثها وحاول التدخل لفضها، وانفتحت بعد ذلك أبواب جهنم...

قبل أن نطل من هذه الأبواب نقدم تفاصيل هذه الحادثة التي بعث بها مكاتب الأهرام في الإسكندرية في تقرير طويل نقدم بعضه هنا..

وفى الساعة الرابعة بعد ظهر أمس طرأت حادثة كادت تكون فتنة متطايرة الشرار متعالية الأوار وامتدت من شارع مالطة حتى قهوة أوربا وأول شارع انسطاسى.

"أما تفصيلها فهو أن أربعة من الإيطاليين تنازعوا وتشاجروا على أمر تافه في شارع صغير وراء شارع الهماميل فخف جاويش من البوليس لتفريقهم فسبه أحدهم فقبض عليه الجاويش وأصر على سواقه "القره قول" فانقض الثلاثة الباقون وامرأتان إيطاليتان على الجاويش وجعلوا يضربونه ضربًا مبرحًا رجاء أن يخلصوا ابن وطنهم من يديه ثم استل أحدهم مدية وضرب بها الجاويش في بطنه واتبعا بعيار نارى فسقط قتيلا يتخبط بدمائه.

"فما دوى البارود حتى هرع جمع من الوطنيين مسلحين بالعصا والنبابيت وتعاظم عددهم وعلت جلبتهم وأردوا أن يثأروا للقتيل فاضطر أرباب المخازن إلى إقفال مخازنهم وتوارى الأوربيون عنهم تلافيًا للشر.

"أما الجانون فقد صعد واحد منهم إلى منزلة في الطبقة العليا وأخذ بندقيته وجعل يتهدد كل من يقترب منه ثم ذهب الآخرون إلى أحد المخازن للاعتصام به وفى تلك الأثناء هم البوليس بالقبض عليهم فلم يفلح لأنهم قاوموه مقاومة شديدة فطلب نجدة وبعث أولياء الأمر بتلغراف إلى قنصلية إيطاليا فخف جناب وكيل القنصلية إلى محل الحادث وإذ ذاك تمكن البوليس من القبض على الإيطاليين الأربعة وعلى المرأتين وسوقهم في عربة إلى "القره قول" فتبع الهائجون العربة على مسافة وهم يصرخون وفى إبان ذلك الهرج جرح بعض الأوروبيين وأوقع بفتى أرمنى.

"ولما وصلوا إلى قرب القره قول أخذوا يكسرون زجاج القهوة ولولا وصول كوكبة من الفرسان لهاجموا الأوروبيين الذين كانوا فيها، على أن البوليس كان يشتت الهائجين من جهة فلا يلبثون أن يجتمعوا من جهة أخرى وظلوا يطوفون الشوارع وهم يصيحون ويتهددون فاضطرت جنود الاحتلال إلى التدخل وذهبت شرذمة منها إلى شارع محمد على وسارت كوكبة من الفرسان لتوطيد الأمن في شارع الفرنج وشارع السبع بنات.

"وفى الساعة السابعة وضع الإيطاليون الأربعة في مركبة السجناء فسارت يحيط بهم رجال البوليس مشاة وفرسانًا وشرذمة من جنود الاحتلال ومع ذلك الاحتياط لم يرجع الهائجون بل ظلوا يشيعون المركبة صائحين متهددين حتى سجن الحضرة.

"أما جثة الجاويش فإنها نقلت في مركبة سوداء محفوفة بالجنود ولما كانت الساعة التاسعة تمكن رجال الأمن من تشتيت المتجمهرين.

وعد الجرحى فبلغوا اثنى عشر وكلهم من الأوروبيين وجراحهم خفيفة جدًا.

وانفتحت الأبواب بعد ذلك فيما نتابعه من الأهرام ومن غيرها...

***

الصحف الأوربية في مصر انبرت لتهاجم المصريين، وكان على رأسها المساجيرى الإيطالية والريفورم والبورص اجيسيان الفرنسيتين، وقد اتهمت الأخيرة المصريين "بالهمجية والتوحش والتعصب واللوم والخساسة إلخ إلخ، وهى النغمة التي عزفتها الصحيفتان الأخريان وإن كانت المساجيرى زادت على ذلك بأن اقترحت إلحاق عناصر إيطالية بقوة البوليس في الثغر.

وإذا كانت الأهرام لم تنقل ما كتبته الصحف اليونانية فمن المعتقد أنها قد شاركت في الحملة خاصة وأن خمسة من اليونانيين كانوا من الجرحى الاثنى عشر، فضلا عن إقفال المخازن اليونانية في المدينة.

وكان مفهومًا أن تنبرى تلك الصحف للهجوم على المصريين بحكم أن اليونانيين والإيطاليين والفرنسيين شكلوا نحو 70% من مجموع الأجانب في الإسكندرية وفق إحصاء عام 1897.. المجموع 46.118 منهم 15.182 يونانيًا بما يعادل 32.9% و11.743 إيطاليًا بنسبة 25.4% و5221 فرنسيًا بنسبة 11.3%

وقد بالغت الصحف الأوروبية في حملتها حتى أنها ذكرت بحادثة المصرى والمالطى والتي كانت سببًا في اشتعال الأحداث في 11 يونيو عام 1882 مما كان مقدمة للاحتلال البريطاني لمصر بعد ثلاثة شهور فحسب وخطورة مثل هذه النغمة أنها وفرت للاحتلال البريطاني ذريعة للبقاء في البلاد.

ولم يكن متوقعًا أن تسكت الصحف الوطنية على ذلك فيما بدأ في الحملة المضادة التي شنتها اللواء والمؤيد والأهرام نختار منها ما أسهمت به صحيفتنا فيها.

فمع أن الأهرام في أول نقلها لأخبار الحادثة وصفتها في موقع بأنها حادثة كادت تكون فتنة متطايرة الشرارة متعالية الأوار، ووصفتها في موقع آخر بأنها حادثة مخيفة أرعبت كل قلب إلا أنها بعد أن تبينت عواقب المبالغة في الحادثة عمدت إلى التخفيف من آثارها فيما كشفت عنه جملة أخبارها وتعليقاتها خلال الأيام التالية منها....

سياسة الجريدة في مواجهة الهجوم على المتجمهرين المصريين بدت في التحذير من الانصراف عن الفعل إلى رد الفعل فيما جاء في أحد تعليقاتها: "نقول كلمة واحدة للحكومة وللصف وهذه الكلمة هي أن المهم الذى تشتغل به البلاد هو مقتل الأونباشى فتحويله إلى جمهرة الناس وغضبهم يعد لعبً بأحلامنا وكرامتنا"!

دلفت من ذلك إلى تقديم الأسباب التي أفضت إلى رد الفعل، والتي يمكن أن نعددها على النحو التالى..

إن التجمهر من جانب المصريين لم يحدث لذاته أو لرغبة كامنة عند هؤلاء للاعتداء على الأجانب وإنما لجسامة الأمر، "لأن في الحادثة خطرًا على الأمن ومصادمة لقوة الحكومة فاجتماعهم أمر بسيط لا يستحقون عليه تشنيعًا وتبكيتًا ورميًا بالتعصب الجنسى أو الدينى"!

إذا كان من صنعوا الحادثة من سفلة الإيطاليين فإن المتجمهرين كانوا من رعاع المصريين، على حد توصيف الجريدة مما لا يخرج عن حد المألوف في كل زحام، وقد عهدنا هؤلاء الرعاع يضرب بعضهم بعضًا. وإذا حدث أقل زحام حشروا أنفسهم فيه وسبوا أبناء جنسهم ودينهم فكيف بهم وقد كان أمس ما كان والأنباشى مقتول والقاتلون ممتنعون في منزلهم.. فما حدث لم يكن عن تعصب جنسى ولا تعصب دينى ولا انتقامًا ولا ولا بل فعل الأشقياء في كل زمان ومكان".

في نفس السياق.. سارعت الأهرام بنقل الخبر الذى نشرته الإجبشيان جازيت، الصحيفة الإنجليزية، والذى ذكرت فيه أن حملة النبابيت ممن اعتقدت بعض الصحف أنهم من عامة الوطنيين كانوا في الحقيقة من الخفراء "الذيم يقضى عليهم النظام بالحضور كل ليلة إلى أقسام البوليس التابعين لهم لتلقى الأوامر وأنهم بادروا بالحضور إلى مكان الحادثة اعتبارًا أنهم من البوليس".

ولما كان إغلاق اليونانيين لمحالهم، وكانوا يشكلون نسبة كبيرة من أصحاب تلك المحال.. مقاهى، حوانيت، مخازن وغيرها، وقد صنع مناخ الاضطراب مما ذكر بأعمال العنف الدموى التي جرت عام 1882، فقد كان على الصحف الوطنية أن تبحث عن أسباب ذلك وابتهجت عندما توصلت إليه وهو أن ذلك الإغلاق جاء بأمر من القنصل اليوناني في الثغر تخوفًا من تطور الموقف، وهو ما لم يحدث.. بمعنى آخر أنه قد حدث في إطار الإجراءات الوقائية وليس بسبب الحادثة ذاتها.

عمدت جريدتنا بعد ذلك على الدق على الوتر الإنسانى في الحادثة... الجاويش المصرى الذى قتل وعمره 30 سنة وقد رقى منذ أيام وهو رب عيلة وأولاد كثيرين.

بل سعت إلى ما هو أكثر من ذلك بالدعوة للاكتتاب للعيلة المنكوبة خاصة وأن الحكومة لم تعطها سوى مائة جنيه.. صحيح أن المبلغ كان معقولا بمقاييس ذلك الزمان، وصحيح أن الأهرام شكرت الحكومة على ذلك، غير أنها ناشدت النظار الاشتراك في الاكتتاب الذى افتتحته، وطالبت كل منهم أن يدفع ولو "جنيه واحد من 300 جنيه تعطيه إياها الحكومة.. ولا نظن بعد ذلك إلا أن كبارنا يحذون حذو حضرات النظار الفخام".

وقد ساهمت الأهرام في ذلك الاكتتاب بأربعة جنيهات بالتمام والكمال غير أنها احتفت احتفاء ظاهرًا بتبرع "البرنس الجواد السمح الكف محمد بك إبراهيم بخمسين جنيهًا لمساعدة هذه العيلة وتبرع صاحب اللواء (مصطفى كامل) بثلاث جنيهات وشقيقه بجنيه"!

بعد التحجيم من "رد الفعل"، وبعد استنفار المشاعر الإنسانية تعاطفًا مع الضحية، صرفت الأهرام همها إلى "الفعل".. أفعال سفلة الأوروبيين خاصة "ذعر الإيطاليين" الذين تعددت أعمالهم الاستفزازية للمواطنين، وهى في هذ وضعت ردودًا مطولة على المساجيرى والأطراف الأوروبية التي أخذت في استعداء السلطات والقوى الدولية على المصريين.

* فقد وجهت صحيفتنا سؤالا استنكاريًا للصحيفة الإيطالية عما كانت تنتظره بعد أن تحصن القتلة في منزلهم وقاموا برجم الناس بالحجارة ورشق المحافظ بالحصى وتوجيه الإهانات إلى رئيس النيابة مما "اعتبره الشعب محاربة للبلاد ولنظاماتها وقوانينها وإهانة كبيرة للشعب وآدابه فليس عجيبًا أن يجتمع الناس لمثل هذا الأمر ويضطربون ويغضبون بل العجيب أن يظلوا في استماتهم كالرمم البالية ومع ذلك فإنه لم يحدث أمر ذو بال بل فليقولوا لنا هل إذا قتل مصري بوليسًا طليانيًا في رومه وضرب الحاكم يبارك ويسجد له؟"

* ذكرت الأهرام بعد ذلك بالتعديات التي ظل الرعايا الإيطاليون يمارسونها على المصريين دونما عقوبة تذكر.. حادثة البطيخة التي قتل فيها أحدهم مصريًا فأرسل للمحاكمة في "أنكون" فبرأته المحكمة "وعاد إلى الإسكندرية يتخطر بين أهليها"، والأخرى التي حدثت قبل أيام في شوارع الأزبكية إذ وقف إيطاليان "يتبادلان إطلاق النار والناس ألوف تنفر من وجههما"!

* وفى النهاية تناشد جريدتنا الأوروبيين المقيمين في البلاد أن "كفوا عنا مداكم ومسدساتكم ونحن براحة من مثل هذا الشغب وهل نحن متوحشون إذا طالبنا بدمنا وأولئك القتلة السفاكون هم المتمدنون.. لقد آن لبعض أن يبقوا على كرامة الكرام من رعاياهم بطرد أشرارهم أو بالأحرى تأديبهم".

وقد تضمنت هذه المناشدات بيت القصيد في جانبين: تهمة التعصب التي ظلت تتذرع بها الدول لبقاء بريطانيا في البلاد، الحماية التي يستظل بها رعايا الدول المتمتعة بنظام الامتيازات Capitulations، وهو الباب الذى خرجت منه حادثة الهماميل بطابعها الدولى.

***

الصحف الوطنية بذلت غابة طاقتها خلال الأيام التالية لحادثة الهماميل لإفساد هذه التهمة الدولية فيما خصصت له الأهرام مقالها الافتتاحى في عددها الصادر يوم 17 أغسطس عام 1901 والذى جاء تحت عنوان "درس مفيد في صحيفة سوداء"!

"السلاح الذى نحارب به" فيما استهلت به الصحيفة مقالها هو "التعصب الدينى والجنسى فإذا اجتمع الشرقيون لأمر ولو تافهًا نادى نذير أوربا بالتعصب الدينى فكان هذا التعصب حجة علينا تدل على أكبر ذنوبنا.. فأوربا بأجمعها لا تتساند على أمر إلا على مناهضته فهو حجة الإنكليز علينا في مصر وهو حجة غيرهم في غيرها وهو قد كان أمس في الإسكندرية حجة الذين دافعوا عن القاتل"!

ويشخص المقال النظرة الموضوعية من جانب المصريين للأوربى وهى أن يتعلموا منه "فإذا أردنا الصناعة اكتسبناها من يديه وإذا أردنا التجارة تعلمناها منه.. فلابد لنا من ممازجته ومخالطته لتلتقى منه ما نجهله"، ولكن..

"لا نريد بهذا الأوربى جليس الحانة ولا سمير المقامرة ولا ابن السوق وأبا الشر وأخا الفساد بل الأوربي الذى كان دعامة بلاده بمدنيته وآدابه وعلمه"، وأعربت عن رأيها بأن رفض النوع الأخير من هؤلاء لا يمكن أن يترجم بحال على أنه شكل من أشكال التعصب.

بيت القصيد الثانى نظام الامتيازات، فالمعلوم أنه رغم نشأة نظام المحاكم المختلطة عام 1876 فقد بقيت المحاكم القنصلية تحكم في أغلب القضايا الجنائية التي يكون طرفاها أو إحداهما من رعايا الدولة التي يمثلها القنصل، وكانت تشكل في العادة من القنصل رئيسًا واثنين من أعيان الرعية التابعة لها أعضاء، وكان المتهم يحاكم أمام هذه المحاكم وفقًا لقانون دولته، وعندما كان يرفع القنصل بعض قضايا الجنايات إلى محكمة في بلده لم تكن لتقف على الحقيقة حيث تحكم من خلال المذكرات والأوراق، فلا شهود ولا دراسة، وبذلك تفقد القضية معالمها الأساسية، وحتى إذا عوقب المجرم يكون التأثير الأدبى الذى ينتج عن سرعة العقاب قد زال بسبب التأخير، وفى الغالب كان يحظى بالبراءة.

وإذا كانت الأهرام قد جسدت هذه الحقيقة عندما أشارت إلى الإيطالى قاتل بائع البطيخ فإن الوثائق قد اكتظت بأمثلة أخرى.. "جنسيب سكريا" المالطى المتمتع بالحماية البريطانية الذى ضبط خلال عامين فحسب في 13 جريمة تزييف عملة وسرقة واختلاس وتعدى وهجوم بالآلات الحادة.. "روبرتو برنو" المالطى أيضًا الذى اضطر القنصل البريطاني في الإسكندرية إلى ترحيله بعد أن تأكد أن "إقامته في الإمبراطورية العثمانية خطر على الأمن العام".. مهندس بريطاني في أسوان أطبق النار على الأهالى فأردى أحدهم مما أثار الأهالى، وحوادث عديدة أخرى.

لعل ذلك ما دعا خليل مطران، رئيس تحرير الأهرام بعد وفاة بشارة إلى أن يكتب في الصفحة الأولى من عدد الجريدة الصادرة يوم 10 أغسطس عام 1901 مقالا ضافيًا تحت عنوان "حادثة الإسكندرية - الامتيازات الأجنبية".

نبه في مطلعه إلى أن حادثة الهماميل "ستتجدد وتتعاظم حينًا بعد حين ما دام قناصل الدول يتوسعون إلى ما وراء حدود المعقول في تفسير الامتيازات والحكم بمقتضاها" ودلفت من ذلك إلى القول أن رأى الأهرام منذ نشأتها أن الامتيازات في أي بلد "كانت ظلمًا فادحًا لا مسوغ له في شرع ما فهى مؤسسة على القوة المميزة بين فريق وفريق وبالتالي بغيضة على كل ذي نفس تحب المساوة"!

رغم ذلك يتوقف كاتب المقال عند حقيقة غابت كثيرين ممن عالجوا هذا الموضوع في دراسة تاريخية فيما بعد، وهى أن دولة الاحتلال كانت متطلعة لإلغاء هذه الامتيازات والسبب لم تذكره تقارير اللورد كرومر خلال هذه السنوات التي أعقبت حادثة الهماميل..

في أحد هذه التقارير عرض القضية بشكل جدلى.. ان نظام الامتيازات خاصة ما كان متعلقًا منه بعدم محاكمة الجناة من الأوربيين أمام المحاكم يلقى رفضًا مصريًا عامًا، غير أنه عل الجانب الآخر فإن الخارجين على القانون من أبناء الجاليات الأجنبية المقيمة في مصر يشكلون أقلية بينما تقوم الأغلبية من هؤلاء بدور هام في تطوير البلاد، وإن إخضاعهم للمحاكم الأهلية قد يدخل الخوف على قلوبهم مما ثد تفقد مصر معه وجود هذا العنصر النشيط "في صناعة رخائها" على حد تعبيره.

وبعد أن طرح اللورد العتيد المعضلة على هذا النحو تقدم بالحل السعيد.. لبريطانيا طبعًا، وكان: أن "تتنازل الدول صاحبة الامتيازات لبريطانيا العظمى عما لها من الوظائف التشريعية، وأن ذلك التنازل يحتم أن تكون إحدى نتائجه إيجاد أداة محلية تشارك في سن القوانين التي تنفذ على الأوربيين".

كان هذا ما تنبه إليه خليل مطران فيما قال به من الامتيازات "حالت إلى الآن دون ابتلاع المحتلين للقطر وأبقت له بقية أمل للاستقلال ولا جرم أن مصر تدعى إلى الآن ولاية ممتازة عثمانية بسبب هذه الامتيازات وأن فيها دوائر مستقلة ومحاكم لا تسيطر عليها الحكومة بسبب هذه الامتيازات إلى ما يماثل هذه الأسباب التي لا ينبغي أن تغرب عن فكر بصير"!

الحل في رأى مطران أن يشتد القناصل على الرعاع من أبناء بلادهم ومعاملتهم كما يفضى القانون ولو أنهم فعلوا ذلك "لامتنعت مفاسد وشرور كثيرة ولنجمت عن ذلك خيرات عظيمة لدولهم ولرعاياهم"!

حل آخر في يد الحكومة المصرية، ففضلا عن السلاح المخول لها ينفى المتشردين من رعاع الدول الأوربية هناك سلاح المعاملة بالمثل.. أي أن تعاقب المحاكم الأهلية المتهمين المصريين في قضايا طرفها الآخر أحد رعايا الدول صاحبة الامتيازات بنفس المعاملة التي يلقاها من المحكمة القنصلية "فلماذا تكون محاكم مصر أكلف بالإنصاف وأشد وطأة على الجناة الذين يقاضون لديها"!

الحل الإنجليزى كان مختلفًا، بتقديم مشروع متكامل لإصلاح القضاء للدول صاحبة الامتيازات بأن يمثل المتهمون من أبنائها أمام محاكم جديدة يتمتعون بمقتضاها بكافة الضمانات..

الحق في عرض أية قضية لأحد هؤلاء على قاض من رعايا دولته أو على محكمة ثلاثة أخماس أعضائها من هؤلاء الرعايا، إلا ينفذ الحكم بالسجن ما لم يكن المتهم قادرًا على تقديم كفيل، ألا يصدر إشعار بالضبط إلا من قاض من رعايا الدول صاحبة الامتيازات، ألا يصدر إشعار بالتفتيش بدون وساطة القنصلية، ألا ينفذ الحكم بالإعدام إلا بعد إعلان لوكيل الدولة بشهر على الأقل، وأخيرًا صرح القانون المقترح لرجال القنصلية بحق الدخول أي وقت للسجن لرعايته.. المهم في كل هذا أن تكون المحكمة المقترحة صناعة إنجليزية.

شرعت دوائر الاحتلال في التفاوض حول القانون الجديد مع الدول الأربعة عشر صاحبة الامتيازات والذى بدا بشكل جدى بعد عقد الوفاق الودى مع فرنسا بشأن مصر عام 1904 اعتقادًا من حكومة لندن بأنه قد أمكن بمقتضاه التخلص من معارضة الفرنسيين التي شكلت أهم العقبات في ذلك السبيل، ولكن كان على المتفاوضين أن ينظروا أكثر من ثلاثين عامًا للتوصل إلى اتفاق.. في مونترو عام 1937 على وجه التحديد كانت قد جرت خلالها مياه كثيرة، وكانت نقطة البداية حادثة الهماميل!


صورة من المقال: