ads

Bookmark and Share

السبت، 31 يوليو 2021

158 باشوات وبكوات!

باشوات وبكوات!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 5 ديسمبر 1996م - 24 رجب 1417هـ


الألقاب نظام عرفته أوروبا إبان العصور الوسطى من خلال طبقة الفرسان وتبلور في شكله النهائي خلال الحروب الصليبية، وفيما تشير إليه دائرة المعارف البريطانية فقد تطورت تلك الألقاب من كونها ذات طابع عسكرى دينى.. فرسان المعبد والقديس يوحنا وسواهم، إلى ألقاب ذات طابع قومى.. عسكرى أو مدنى.

ويشير نفس المصدر إلى تلك العلاقة الحمية بين الطبقة الحاكمة والألقاب، فقد كان حملتها في الغالب من رجال الحكم، كما أن الاشتراك في دوائر الحكومة كان يتيح على الأرجح الفرصة لنيل تلك الألقاب.

شيء قريب من هذا حدث في الدولة العثمانية، وكانت البداية بالتمييز بين القادة العسكريين بعدد "الأطواخ" التي تمنح لهم تبعًا لمراتبهم، والطوخ عبارة عن مزراق رأسه كرة مذهبة يعلوها هلال، تعلق به خصلة من ذيل حصان.

وكان لرجولات الدولة أطواخ بحسب منازلهم، السلطان سبعة، الصدر الأعظم خمسة، الوزير ثلاثة، الوالى شأن أغا الإنكشارية وشيخ الإسلام طوخان، ولقاضى عسكر طوخ واحد، وكان للطوبجية أطواخهم الخاصة.

في مصر اختلف الأمر فقد كانت تعرف صاحب الطوخين، ممثلا في الوالى الذى كان يحمل لقب الباشا، فضلا عن البكوات والأفندية..

البكوات كانوا من فرسان المماليك الذين استمروا يشاركون في حكم البلاد حتى بعد الغز العثمانى، وكان لكل منهم بيته ورجاله، وقد حملوا هذ اللقب من أولهم.. خاير بك الذى عاون العثمانيين على دخول مصر إلى البكوات البرديسى والألفى، اللذين سعيا إلى الحكم في أعقاب خروج الحملة الفرنسية وإن لم يمكنهما محمد على من ذلك، وإذا كان دور المماليك في الحكم في مصر قد انتهى بعد مذبحة القلعة الشهيرة عام 1811 إلا أن اللقب الذى حملوه لم يختلف بل تلقب به غيرهم!

الأفندى كان اللقب الذى عرف في العصر العثمانى على نطاق محدود، وقد استخدم لقبًا للرجل الذى يقرأ ويكتب، خاصة كبار الموظفين، ولما كان موظفي الروزنامة (الخزينة) في مصر من هذا الصنف، فقد عرفوا بأفندية الروزنامة.

غير أن هذا اللقب بمعنى السيد الكبير استخدم في أغراض مختلفة فأطلق مثلا على نقيب الأشراف في مصر، السيد عمر مكرم أفندى، كما أطلق على بعض الشخصيات النسائية الكبيرة مثل زوجات الخديو، فكان يقال "هانم أفندى" الأهم من ذلك أنه كان اللقب المصرى لضباط الجيش حتى رتبة البكباشى التي كان يحصل صاحبها على لقب البكوية.

***

القرن التاسع عشر عرف جملة متغيرات أثرت أيما تأثير على طبيعة تلك الألقاب يمكن رصدها فيما يلى:

1) بناء الدولة الحديثة وتنامى السلطة المركزية في البلاد، فضلا عن قيام الجيش الوطنى واختفاء الحامية العثمانية والمماليك بألقابهم القديمة.. الأمر الذى أتاح للحكام من أبناء أسرة محمد على الفرصة لإعادة ترتيب هذه الألقاب على نحو يتناسب مع الأوضاع الجديدة، اعترفت الأستانة لهؤلاء بحق منح الألقاب فيما تضمنته الفرمانات الشاهانية التي نظمت العلاقات بينها وبين القاهرة..

فرمان 1841 الصادر لمحمد على كان مما جاء فيه "لا يكون فرق بين النشانات والرايات في كلية مصر وبين ما تستعمل عساكرنا.. ولوالى مصر أن يرقى ضباط البرية والبحرية حتى رتبة أمير آلاى أما الترقى لما فوق هذه الرتبة فمن اللازم ضرورى أن تطلبوا رضانا الملوكى".

فرمان 1873 الصادر لإسماعيل والمعروف باسم "الشامل" جاء فيه "أبقينا لخديو مصر الامتياز القديم في حق إعطاء رتبة أمير آلاى من الرتب العسكرية وإعطاء رتبة ثانية من الرتب الديوانية (البكوية) وأن تكون أعلام وصناجق العساكر البرية والبحرية المصرية كأعلام وصناجق سائر عساكرنا الشاهانية".

وإذا كان الفرمان الأول تعرض للرتب العسكرية فحسب فإن الفرمان الثانى تحدث أيضًا عن الرتب الديوانية أي الرتب التي تمنح للمدنيين.

لعل ذلك ما دعى واضعى الأمر العالى الصادر في سبتمبر عام 1892 إلى التمييز بين الجانبين.. المدنى والعسكرى، فخصص الباب الأول لأولهما وكان تحت عنوان "في منح النشانات العلية لذوى الرتب من الموظفين والأعيان" بينما جاء عنوان الباب الثانى "في منح النشانات لحضرات العلماء والأعلام والموظفين وغير الموظفين والوجوه والأعيان الغير حائزين رتبًا ملكية" والأخير عنوانه "قاعدة أساسية تتبع في إحراز النشانات العثمانية وللجيدية لدى الهيئة العسكرية المصرية برية وبحرية".

غير أن هذا الحق المشروط ترتب عليه ظاهرة ظلت تلاحق نظام الألقاب في مصر حتى عام 1914.. ظاهرة أن يمنح هذه الألقاب الخديو أحيانًا والسلطان أحيانًا أخرى، وكثيرين ممن حملوا لقب الباشوية على وجه الخصوص حصلوا عليها من الباب العالى، في طليعة هؤلاء بشارة تقلا صاحب الأهرام ومصطفى كامل الزعيم الوطنى الشهير.

2) نمو الجهاز الإدارى على نحو يتوافق مع متطلبات الحكومة المركزية الناشئة، ولم يعد الأفندية ينحصرون في تلك المجموعة المحدودة من رجال الروزنامة بل انتشروا ليشكلوا قاعدة عريضة على نحو هرمى له قاعدته كما أن له قمته.

وإذا كان أغلب من في القاعدة قد احتفظوا بلقب الأفندى فإن عديدين من أهل القمة قد اكتسبوا ألقاب البكوية والباشوية، وكان عيد جلوس الخديو مناسبة لمنح هذه الألقاب، مما كان يتكرر بشكل سنوي تقريبًا في عهد عباس الثانى..

الصفحة الثانية من عدد الاهرام الصادر يوم 13 يناير 1901 شغل أغلبها أسماء المنعم عليهم بالرتب والنياشين.. أولا من المديرية (الدقهلية، أسيوط، البحيرة، الفيوم، القليوبية، أسوان)، نحو عشرين من مآمير المراكز، وعدد آخر من ضباط البوليس خاصة من حكمدارى المديريات، ثم عدد من كبار موظفي النظارات، الأشغال، الحقانية، المالية، المعارف والحربية، ويلاحظ أنه بينما حظى موظفي المالية بالنسبة الأكبر من تلك الرتب، فقد حصل موظفو الحربية على النسبة الأقل.. والسبب: أن العسكريين الذين كانوا يشغلون الجانب الأكبر من العاملين من تلك النظارة كانت لهم رتبهم الخاصة.

وبعد ذلك بنحو ثلاثة أعوام وفى عدد الاهرام الصادر يوم 9 يناير عام 1904 شغل الصفحة الثانية أيضًا أسماء المنعم عليهم، مجلس النظار، نظارة الداخلية، المالية، الأشغال، الحقانية وأخيرًا مصلحة السكة الحديد، التي كانت قد انفصلت عن نظارة الأشغال منذ أواخر عصر إسماعيل بعد أن تم رهن دخلها لأصحاب الديون.

ولم يكن عباس ينسى رجاله في هذه المناسبات.. من أكبرهم إلى أصغرهم مما تشير إليه جملة من الأخبار..

أحدها في يناير عام 1896 بالإنعام بالنيشان العثمانى من الدرجة الثالثة على سعادة حسن بك عاصم سرتشريفاتى خديوى، الثانى في 4 فبراير من العام التالى بالإنعام "بالنيشان الجيدى من الدرجة الثالثة على عزتلو رولو بك رئيس القلم الأفرنجى الخديوى وبالرتبة الثانية على حضرة الدكتور بلانكى بك طبيب سموه والمجيدى الرابع على حضرة الصيدلى الأول لمعيته وبالرتبة الثالثة على حضرة عبد الرحيم أفندى أحمد من موظفي المعية"، غير أن أطرف هذه الأخبار جاء في عدد الأهرام الصادر يوم 23 يناير عام 1903 وكان نصه:

"أنعم سمو الخديو بالرتبة الثالثة مع لقب بك على حضرة أحمد بك عبد اللطيف ترزى الخديوى ورئيس طائفة الترزية في مصر فنهدئه"!

3) نشوء البرلمان المصرى، تحت اسم مجلس شورى النواب ثم مجلس النواب بين عامي 1866 و1882، تحت اسم مجلس شورى القوانين والجمعية العمومية بعد الاحتلال البريطاني للبلاد، ولما كان أغلب أعضاء هذه المجالس من أعيان الريف ووجهاء المدن فقد كان مطلوبًا بعد أن وصلوا إلى عضويتها أن ينالوا رتبًا تتناسب مع الهيبة التي وفرتها لهم تلك العضوية..

يتضمن الأمر الصادر عام 1904 منح رتبة الميرميران والعثمانى الثانى التي تخول الحاصلين عليها حمل لقب الباشوية لخمسة من أعضاء مجلس الشورى، حسن عبد الرازق إبراهيم سعيد، مراد رفعت، محمود سليمان وأخيرًا محمد صدقى، ومنح رتب تخول الحاصلين عليها لقب البكوية من أعضاء الجمعية العمومية.. عمر مكرم، نخلة يوسف ومقار عبد الشهيد.

وكثيرًا ما كان منح البكوية والباشوية لأعضاء المجالس النيابية يثير الأقاويل بأن هدف الخديوية من ورائها اجتذاب تأييد أعضائها لمطالب الخديوى مما حدث في يونية عام 1894 أثناء خلاف بين عباس وسلطات الاحتلال حول التصديق على ميزانية جيش الاحتلال فيما عبرت عنه جريدة التايمز اللندنية في عددها الصادر يوم 17 يونيه من ذلك العام بقولها "أن الأوسمة والرتب التي نالها بعض أعضاء مجلس الشورى الآن إنما هي تحقيق المكافأة التي وعدوا بها من قبل عندما أوعزت اليوم الحكومة أن لا يصدقوا على ميزانية جيش الاحتلال وأن أعضاء المجلس الذين لم ينعم عليهم بالرتب متكدرون وربما حدث عن كدرهم شقاق في المجلس.".

وعندما سأل مكاتب الأهرام بعض أعضاء المجلس عن رأيهم فيما كتبه التايمز عبروا عن استهجانهم وأنكروا ذلك الإيعاز وكذبوا كل مشيع له "وأنهم لم يعملوا عملا قط إلا لمرضاة الأمة وأنهم لم يعرفوا ولن يعرفوا مرشدًا لهم إلا ذمتهم الصادقة ومصريتهم الخالصة".

4) اجتماعيًا فقد أدى استقرار الملكية الزراعية إلى بروز طبقة من كبار ملاك الأراضى تنامت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وتعددت شرائحها.. أبناء الأسرة الحاكمة، كبار الموظفين، شيوخ البدو وأعيان الريف، ونتوقف عند هذه الشريحة الأخيرة.

وقد تعددت الروافد التي صنعت مليكات هؤلاء، أطيان المتوفين ممن لا ورثة لهم، مساحات من أطيان الميرى التي طرحت للبيع في عهد الاحتلال، الإنعامات الخديوية التي طالها بعضهم إلى جانب المنتفعين الأساسيين بها من كبار موظفي الدولة، وأخيرًا الاشتغال بتوريد بعض المواد لجهات الحكومة، وقد اكتسب هؤلاء الأطيان ولكن لم يكتسبوا الجاه، وكان طريق ذلك الحصول على أحد الألقاب الحكومية غير لقب الشيخ الذى طالما حظوا به من أبناء المناطق التي تملكوا فيها أراضيهم، وكان لقبًا أهليًا!

وعلى الرغم مما أطلقه البعض على هؤلاء من ألقاب مثل "عين الأعيان" و"الوجيه الأمثل" فقد ظلوا في حاجة إلى البكوية والباشوية، وكانوا مستعدين أن يبذلوا الغالى والرخيص في سبيل ذلك.

من نماذج تلك الإنعامات الخديوية على هؤلاء بالنياشين ما جاء في الأهرام في 4 مايو 1894 "بأن الجناب الخديوى أنعم بالنيشان المجيدى الثالث على حضرة الحسيب الوجيه عزتلو أفندم الشيخ عبد الغنى بك عبد الملك فنحن نهنئ حضرته التهنئة الخالصة على هذا الالتفات العالى"!

وكان هذا النيشان يوفر لصاحبه لقب البكوية من الدرجة الأولى التي كانت تتميز عن بكوية الدرجة الثانية أنه بينما يتلقب صاحبها بلقب "حضرة عزتلو" فقد كان الآخر يتلقب بعزتلو فقط!

وظلت تلك الإنعامات تصدر بين الحين والآخر غير مقيدة بعيد الجلوس المأنوس، ودون كشوف ترفع من جانب النظارة أو أية جهة رسمية، مما أثار حولها لغطًا شديدًا سوف نعرض له بعد قليل.

5) أخيرًا فقد أدى اشتغال الأجانب في جهات حكومية متعددة على رأسها الجيش والبوليس إلى الحاجة إلى توفير المهابة لهم في نفوس مرؤوسيهم، ولم يكن من سبيل لذلك سوى الألقاب.

مثلا لم يكن منتظرًا أن يتولى إنجليزى قيادة الجيش ويقع تحت رئاسته عدد من الضباط المصريين من رتب الأمير آلاى واللواء ممن يحملون لقب الباشوية ولا يحصل هو نفسه على هذا اللقب، وقد أدى ذلك إلى أن نسمع عن عدد من الباشوات البيض. غوردون أيام إسماعيل، ثم كتشنر وونجت أيام عباس، ولم يقتصر الأمر على هؤلاء مما نعثر على أمثلة عديدة له في أخبار الإنعامات التي كانت تنشرها الأهرام.

في قائمة عام 1901 يحصل على الباشوية هوارى باشا مدير الحسابات في نظارة المالية، وعلى البكوية كل من أرموللى بك سكرتير رئيس النظار وماكلوف بك مفتش الأموال المقررة ومور بك من رجال الدائرة السنية.

وبمراجعة قوائم الأعوام الثلاثة التالية نلاحظ أنه لم تخل قائمة منها من أسماء بعض الأوربيين العاملين في الإدارات الحكومية، خاصة في تلك التي ينتشرون فيها مثل المالية والداخلية والأشغال، فضلا عن العسكريين الذين كانت تصدر لهم قوائم خاصة.

ومن بين كل هؤلاء نتوقف عند طبقة الأعيان، ممن في لهفتهم الشديدة للحصول على البكوية أو الباشوية بأى ثمن فجروا فضيحة كبيرة في مطلع القرن.

***

يعترف أحمد شفيق باشا رجل القصر في مذكراته عن عام 1903 بأنه لوحظ هذا العام أن مسألة الرتب بلغت حدًا عظيمًا من الفوضى، وأن الرتب أصبحت كالسلع السهلة، وكان لهذه التجارة وسطاء كثيرون: منهم الشيخ على يوسف وحسين بك زكى وأحمد بك العريسى ومصطفى الحصرى والشاعر أحمد شوقى وكان لكل رتبة سعر مخصوص يدفعه الطالب، فالرتبة الثالثة يدفع عنها 250 جنيهًا والثالثة مع لقب بك 300 جنيه، والثانية 400 جنيه والمتمايز 500 جنيه"!

بيد أن هذا الاعتراف سبقه مقدمات طويلة وتبعته أيضًا عواقب وخيمة نجحت الأهرام في أن تميط اللثام عنها.

وقبل إماطة اللثام نعود لنكرر أن شريحة الأعيان المصريين الناشئة من شيوخ الريف، وممن لم تكن لهم علاقات بدوائر الحكومة، مثل شريحة ملاك الأراضى المنحدرين من أصول تركية.. هذه الشريحة كانت وراء تفشى ظاهرة الإتجار بالألقاب، فقد كانوا مستعدين للتضحية ببعض ما يملكون في سبيل الحصول على اللقب الذى يوفر لهم المكانة بين الأهالى في مناطقهم.

أول الانتقادات الصريحة وجهتها الأهرام في صدر صفحتها الأولى في العدد الصادر يوم الثلاثاء 15 يناير عام 1901 وفى مقال طويل تحت عنوان "الرتب والنياشين"..

انصب أهم هذه الانتقادات على القائمة التي كانت قد صدرت إيثار المنعم عليهم من رجال الحكومة على غيرهم من المصريين في الحصول على الرتب والنياشين "فكأن مصر وما ضمت جوانحها من كبير وأمير وعظيم وشريف وعالم وكاتب وصانع وحاسب ومحسن وجواد وكريم فاضل لا يستحق واحد منهم نيشانًا أو رتبة إذا لم يكن من أبناء الحكومة الجالسين على كراسيها"!

انتقدت الأهرام أيضًا ما عمدت إليه السلطات منذ ذلك العام بعدم نشر أسماء المنعم عليهم في الوقائع المصرية "كأن الجريدة الرسمية ليست للأمة بل هي ملك للحكومة والحكومة شيء والأمة شيء آخر وهو أمر لم تسمع بمثله في بلد من أصقاع الأرض"، وكان هذا أول الغيث.

تجددت الحملة مع صدور قائمة العام التالى ولم تقتصر على مقالة واحدة بل استمرت لوقت غير قصير، فقد كانت قد فاحت وقتئذ روائح الفساد المصاحبة لهذه القائمة.

تحت عنوان الجاه الموهوم وبتوقيع "ضائع بين الرتب" تكتب الأهرام "لقد مللنا مسألة الرتب والنياشين فكأننا في سوق العطار أو في مخازن التجار يبتاع منها من أراد كما أراد فلا الشبع يكفى الطامعين ولا الزيادة تروى الصامتين وكل منهم يصبح ظمآن وفى البحر فمه"!

بعد أسابيع قليلة، وتحت عنوان التحاسد على الرتب تعرض الصحيفة للآثار المترتبة على أن يكون من البكوات والباشوات من يستحق ومن لا يستحق، فتحت هذا العنوان وبمناسبة إنعام الخديو بالرتب على بعض المقاولين، وكان إنعامًا غير برئ، تساءلت الصحيفة "إذا كان نيل النعمة بالحرفة فمن منا أيها الناس لا يكون جديرًا بنشان ولربما يقول قائل: ولا يبعد أن نحمل كلنا الرتب والنياشين فيصبح صاحب الرتبة من لا رتبه له"!

غير أن أخطر تلك الانتقادات كانت الموجهة في العدد الصادر يوم 29 نوفمبر من نفس العام وتحت عنوان "هزلت الرتب" والتي تناولت بصراحة أخبار السمسرة بين العمد والمشايخ "وبات كل صاحب نفوذ أو كلمة مقرب وعزيز يفتح صدره للطالبين ويبذل سعيًا لدى الحاكمين حتى أنهم يذكرون أن بعض كتبة المديريات يعدون هذه الأيام موسمًا لهم فنحن تلقاء هذه الحالة لا يسعنا السكون فقد هزلت الرتب وقد حقرت النياشين وقد كثر الإتجار بها حتى بخس ثمنها"!

وفى تلك الظروف بدأت الدعوة خلال عام 1904 لتغيير نظام الرتب وإعادة العمل بالأمر العالى الصادر على عهد الخديوى توفيق والذى يحفظ لمجلس النظار حق الموافقة على منح الرتب والنياشين وترشيح الأشخاص المستحقين لنيل هذه الرتب.

ولأن اسم الشاعر الشهير وأمير الشعراء بعدئذ لاكته الألسن على نطاق واسع في تلك الإنعامات فقد شكل منحه لقب البكوية مناسبة هامة لإبداء الامتعاض الذى تجسد في سؤال لأحد قراء الأهرام نشرته في عددها الصادر في أول أكتوبر عام 1904، القارئ اسمه أحمد الكاشف وسؤاله "هل لديكم سند قوى أو ضعيف لخبر الإنعام على الشاعر (الشيق) أم هي المجاملة اقتضت التسليم بما روى عن نفسه فنشرتم ما نشرتم مخالفين عادتكم في إغفال الرتب والأوسمة حتى تذيعها المصادر الرسمية"؟! الأمر الذى دعا الأهرام إلى أن تدافع عن نفسها وأنها اتبعت في خبر نشر رتبة أحمد شوقى بك "القواعد الأصولية" التي اعتادت على اتباعها!

وصل الأمر أخيرًا إلى حد الأزمة عندما أنعم الخديو برتبة على أحد موظفي الأشغال ممن سبق فصلهم بتهمة الاختلاس فاعترض وكيل الوزارة الإنجليزية وأبلغ الواقعة للورد كرومر الذى طالب بإلغاء الرتبة، ولم يكن أمام عباس سوى الانصياع المهين، وقد اتخذ اللورد العتيد هذا الإنعام دليلا على فساد "ولى النعم" وكانت مع غيرها من ذرائع خلعه عن العرش، ولو بعد عشرة سنوات.


صورة من المقال: