ads

Bookmark and Share

الجمعة، 30 يوليو 2021

155 العودة من سرنديب!

العودة من سرنديب!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 14 نوفمبر 1996م - 3 رجب 1417هـ


"رجل بدين ضليع ضخم الجثة عريض الصدر طويل النجاد واسع الجبين ذو لحية كثيفة بيضاء ليس في عينيه حدة أو بريق ولا في ملامح وجهه ما ينبئ بالصفات التي يعرف بها رؤساء الأحزاب وذوو الغايات البعيدة ولكن في بعض لمحاته شدة وهيبة وفى وجهه شيء يعيد إليك صورة شيخ الترنسفال، وهو يحسن لفظ الثاء والذال ويقول الجيم تارة بلهجة مصر وتارة بلهجة الشام ولكنه يلثغ بالسين والصاد وهو اليوم يجتاز الواحد والستين من سنيه، وله 17 ولدًا بين ذكور وإناث ثمانية منهم ولدوا في مصر.. والباقون من مواليد المنفى ويعرفون العربية والإنكليزية والسنهالية وهى فرع من اللغة السنسكرية تكتب بحروفها ويتداولها أهل سيلان".

كان هذا بعضًا من وصف طويل قدمه مكاتب الأهرام، يوسف الخازن، الذى وقف في محطة العاصمة يوم الاثنين 30 سبتمبر عام 1901 مع من يستقبلون أحمد عرابى، زعيم الثورة الوطنية الشهير، بعد أن قضى تسعة عشر عامًا في المنفى البعيد.. جزيرة سيلان أو سرنديب كما كان يسميها البعض.

وكان عرابى الزعيم الوحيد في تاريخ الحركة الوطنية المصرية الذى ثار جدول حول نهاياته أكبر كثيرًا من الجدل الذى احتدم مع بداياته، مما تؤكده سيرة الزعامات التاريخية المصرية بعدئذ... مصطفى كامل، سعد زغلول، وجمال عبد الناصر..

أولهم حين رحل عن العالم عام 1908 في شرخ الشباب (34 عامًا) هبت مصر كلها تودعه، حتى خصومه السياسيين لم يملكوا سوى المشاركة في حملة التمجيد التي صحبت هذا الرحيل.

ثانيهم سعد زغلول الذى ترك الدنيا عام 1927 تحولت جنازته إلى مظاهرة شعبية كبرى، ومع أن الرجل كان قد جاوز السبعين فإن مكانته في قلوب المصريين بعد أن قاد أكبر ثورة جماهيرية، كانت لا تسمح إلا بمثل هذه المظاهرة الشعبية الكبرى.

بعد ذلك بأكثر من أربعين عامًا جاءت جنازة عبد الناصر عام 1970 بمثابة رفع رايات الحزن على كل بيت مصري، فلعله من المرات القليلة في التاريخ الوطنى يساور المصريين الشعور باليتم، نتيجة لرحيل أحد زعمائهم..

كلهم حظى بهذا التكريم إلا عرابى باشا الذى ثار لجاج شديد كان له صناعه كما كانت له مسبباته ومظاهره...

وبينما صنع المحتلون جانبه الأول فإن الزعيم المصرى كان مسئولا عن صناعة الجانب الآخر...

من استقراء تاريخ الحركة الإمبريالية التي نشطت خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وأوائل القرن التالى نخرج بنهجين اتبعتهما الدول الاستعمارية حيال زعماء الحركات الوطنية التي ناهضت التوغل الإمبريالى ممن وقعوا في أيدى القوات الاستعمارية...

1) صناعة الأمثولة يمثل النهج الأول، فيما كان يجرى بتعذيب هؤلاء الزعماء، ثم إعدامهم بشكل علنى لإدخال الخوف في قولب الآخرين فينكصوا على اعقابهم، ويؤثروا السلامة، ونرى أن اللاتين كانوا أقرب إلى اتباع هذا النهج... الفرنسيون وقبلهم الإيطاليون!

2) القتل خنقًا وببطء شديد، وكان أصحاب هذا النهج عازفين عن صناعة الشهداء الذين يلهمون روح المقاومة في شعوبهم ويلهبونها، ولم بعد زمن طويل أو قصير، وقد اتبع أصحاب الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس... الإمبراطورية البريطانية، هذه السياسة، وكان زعماء الحركة الوطنية عام 1882 من أهم ضحاياها، على رأسهم أحمد عرابى نفسه.

بدأت هذه السياسة في أعقاب تسليم عرابى لقائد القوة البريطانية بعد سقوط القاهرة في 13 سبتمبر عام 1882، فبينما أراد معسكر الخديوى أن يمثل بعرابى وصحبه أسوأ فقد تدخل المحتلون الجدد لمنع ذلك وبذرائع إنسانية، وعقدوا صفقة انتهت بنفى الرجل وأهم زعامات الحركة الوطنية إلى إحدى جزر التاج البريطاني... سيلان "وإذا رجع عرابى إلى مصر لا يعامل بالعفو بل يقتل"! (الحلقة 21).

ورغم نشاطات الرجل في سرنديب فإن النفى الطويل فضلا عما يسببه من انشقاقات بين المنفيين، وفضلا عن تداعى صحة أغلبهم تحت ظروف مناخية لم تعودوا عليها، فمات البعض بينما أصاب العمى آخرين، فإن الحنين إلى الوطن يظل ممسكًا بتلابيب الجميع... خاصة بالنسبة لرجل مثل عرابى ذاق طعم الزعامة ونال من أبناء وطنه فوق ما يحلم، وقد عبر عن ذلك أحد الزعماء المنفيين في رسالة له إلى المحامى الإنجليزى الذى تولى مهمة الدفاع عنهم، المستر برودلى، بقوله: "أوكد لك أن الأربع سنوات التي مضت منذ رحيلنا من القاهرة مرت على وكأنها آلاف السنين"!

لعل ذلك ما جعل الرجل طرفًا في عملية خنق زعامته التاريخي وذلك من خلال مناشداته المتوالية لشخصيات بريطانية بالعفو عنه والتصريح له بالعودة إلى وطنه.

شجعه على ذلك رحيل الخديوى توفيق غير المتوقع عام 1891 وتولى ابنه الفتى عباس الثانى سدة الحكم وما فعله في مستهل عهده من إصدار العفو من عدد ممن شاركوا في الثورة، الندين والعقاد ومحمد عبيد، فى فبراير عام 1892، شجعه أيضًا اللقاءات المرحبة التي كان يلقاها من المسئولين البريطانيين الذين كانوا يزورون الجزيرة بين الحين والآخر، الأمر الذى دعاه إلى أن يبدأ حملة المناشدات منذ وقت مبكر، ومع أن إحداها قد نجح أخيرًا إلا أنه جاء على حساب مكانته التاريخية.

بدأت هذه الحملة بالالتماس الذى قدمه للملكة فيكتوريا في 20 يونية عام 1887 بمناسبة مرور خمسين عامًا على توليتها رجا فيه "بأتم بالخضوع شمولنا بحسن رأفتكم ونبتهل إلى الله من صميم القلب أن يطيل مدة سلطتكم العظيمة الشاملة"، ولم تأت أية استجابة لهذا الالتماس وغن كان قد ترك أسوأ الأثر بين المصريين.

الأهم من ذلك الالتماس الذى تقدم به إلى والى عهد بريطانيا لدى زيارته إلى الجزيرة في أبريل عام 1901 والذى بذل فعلا مساعيه التي نجحت في الشهر التالى من استصدار عفو خديوى عن الرجل والتصريح له بالعودة إلى مصر، وإن كان قد سبق صدور هذا العفو بعض من المؤشرات التي أشارت إلى اتجاه النية نحو العفو عن المنفيين العرابيين.

***

نرى أن هذه النية لم تأت من فرغ، فمن جانب المحتلين لم يعد هؤلاء يمثلون أى خطر على الوجود البريطاني الذى نجح على مد جذوره خلال السنوات السابقة في التربة المصرية، من جانب آخر كانت تلك الفترة قد شهدت ميلاد حركة وطنية جديدة يقودها أفندية الحقوق الخديوية، كامل وفريد ولطفى السيد وغيرهم بدلا من العسكريين الذين جسدوا قيادة الثورة العرابية، أضف إلى كل ذلك أن من بقى من قيادات العرابيين كان قد أنهكه النفى أو عمليات الهروب من هنا إلى هناك بامتداد ما يقرب من عقدين.

المهم أن القضية طرحت على نطاق واسع في منتصف التسعينات، وكانت المناسبة بحث الطلب الذى تقدم به 250 ضابطًا من متقاعدى الحركة العرابية بالحصول على معاشات، وجاء تعليق الأهرام على تلكؤ المسئولين في الاستجابة لهذا الطلب في عددها الصادر يوم 7 فبراير عام 1895 أنه "إذا كان ذلك لأنهم أطاعوا رؤساء الحركة فهو ذنب مصفوح عنه بعد الذى رأيناه من الامتيازات لكثيرين ولنا في العفو الخديوى عن الجريمة السياسية ما يبرئ هذه الجماعة ونحن نعتقد أن ذنب هؤلاء وذنب رؤسائهم مغتفران لا يذكران بإزاء ذنب الذين يخدمون الاحتلال الإنجليزى لأن هؤلاء يعملون علانية على ضياع بلادهم بينما أولئك لم يريدوا إلا معارضة السلطة الأجنبية والفرق بين الوجهتين ظاهر".

في يوليو 1896 بدأت الإشاعات تملأ القاهرة بأن دوائر يوثق بأخبارها "تتحدث بإمكان صدور العفو عن عرابى باشا المنفى في جزيرة سيلان والسماح له بالعودة إلى القطر فإن بعض أصدقائه يسعون في ذلك تعضدهم فيه الحكومة الإنجليزية.

وتطلب الأمر ثلاث سنوات أخرى حين صدر العفو عن محمود سامى باشا مما اعتبرته الأهرام مقدمة للإذن بالعودة لسائر المنفيين الذى تم فعلا بعد نحو عامين... في 25 مايو 1901 على وجه التحديد، وجاء على صورة أمر عال كان نصه:

"بعد الاطلاع على الأمرين الصادرين في 3 ، 7 ديسمبر سنة 1882 باستبدال حكم الإعدام على أحمد عرابى وعلى فهمى بالنفى المؤبد من القطر المصرى وملحقاته أمرنا بما هو آت:

المادة الأولى: رُخِص لأحمد عرابى وعلى فهمى بالعودة إلى القطر المصرى والإقامة فيه.

المادة الثانية: على ناظرى الحربية والداخلية تنفيذ أمرنا هذا"

وكان باديًا منذ الوهلة الأولى أن الأمر العالى صدر بناء على طلب انجليزى مما تأكد من أمرين.. تصريح لوزير الخارجية البريطانية في مجلس اللوردات كان مما جاء فيه أنه لا يعرف إذا كانت موافقة الخديو على عودة عرابى قد تمت قسرًا أو قهرًا!، الأمر الثانى بدا في عرائض الامتنان التي بعث بها عرابى بمناسبة العفو عنه، فقد كانت ثلاثة.. واحدة للخديو والثانية للملك إدوارد السابع والأخيرة للحكومة البريطانية، أكثر من ذلك أنه لما سأله أحد الصحفيين عن الكيفية التي حصل بها على العفو جاءت إجابته "لا أدرى بأى طريق نلت هذا العفو ولكنى لا أرى مندوحة عن إبداء الامتنان لما لقيته من تعطف الدوق دى كورنويل حين قابلته في كاندى"!

وبدأ بعد ذلك استعداد الزعيم المصرى للعودة إلى أرض الوطن، وكان من أول ما فعله في هذا الصدد أن شرع في إعادة تقديم نفسه للمصريين من خلال نشر مذكراته في مجلة الهلال ابتداء من العدد الصادر في منتصف أكتوبر عام 1901 والتي عرفت فيما بعد باسم "كشف الستار عن سر الأسرار في النهضة المصرية المعروفة بالثورة العرابية".

وقد لاحظت الأهرام أن الرجل حاول في مستهل هذه المذكرات أن يمد جذوره إلى أصول شريفة فيما جاء في قوله أنه "من سلالة الإمام الحسن بن على بن أبى طالب وابن فاطمة الزهراء البتول بنت محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم"، واندهشت من ذلك وعلقت بقولها "ذهب جميع الذين كتبوا عن عرابى حتى الآن إلى أنه من عامة المصريين ولكن زعيم الثورة أبى أن يوافق الكتاب على ذلك فكتب فصلا طويلا ضمنه ترجمته وذكر عيلته وشرح حوادث قلما يعثر عليها في الكتب المطبوعة"!

على لسان عرابى نتابع رحلته، هو وأسرته التي تجاوزت العشرين فردًا من سيلان إلى أرض الكنانة.. قال:

ركبنا الباخرة الألمانية بعد ظهر الثلاثاء 17 سبتمبر ولم تبحر بنا في ذلك النهار بل بتنا في الميناء وفى اليوم التالى برحنا ثغر كولومبيا قاصدين عدن فدخلناها ليلا ولم نمكث فيها إلا ساعات قليلة من اليوم التالى على أننا لم ننزل إلى البر بل صعد إلى الباخرة بعض الوجهاء وكبار ضباط الموقع للسلام.. ثم قمنا منها توًا إلى السويس فدخلناها يوم السبت الماضى (28 سبتمبر) وكنا نلاقى من رجال الباخرة كل تَجِلة واحترام حتى أنهم رفعوا الراية المصرية ساعة دخولنا ميناء السويس"، وفى الميناء المصرى الشهير حدث الاستقبال الأول ونترك لمكاتب الأهرام ما جرى فيه...

تحت عنوان "عرابى في السويس" يصف مكاتبنا اللقاء الصحفى الذى عقده مع الزعيم القادم من المنفى، ونعتقد أنه كان أول لقاءاته مع الصحافة.. سأله المكاتب عن أحواله في المنفى فتحدث عن بنائه لثلاث مدارس كان يزورها يوميًا، وأنه لم يفد سائح للجزيرة إلا وزاره في بيته.

تبع ذلك بقوله: "إنى أحمد الله على راحة بلادى في الظلم فإنى قد صرفت مع عيلتى 18 عامًا في المنفى ولكنى أرى عذابى قد أنتج هذه الراحة لعشرة ملايين من الناس فضحكت في سرى وقلت أن الرجل يمتن على مصر ويقول لها أنى أتيتك بالراحة"!

على رصيف محطة القاهرة كان كاتب آخر للجريدة في انتظاره مع جمهور من أصدقائه والعامة من المتفرجين وأنفار البوليس الملكيين ووصل القطار فاستولى السكون على الجميع وتطالت الأعناق إلى المركبة التي يركبها المنفى وازدحمت الأقدار من حولها حت صعب عليه الخروج من غرفته والوصول إلى باب المحطة فركب عربة من عربات أوتل برستول يجرها جوادان أبيضان مزينان بالشرائط الحمراء.

وقد لاحظ مكاتبنا الذى تعقب العربة قلة النفر من الوطنيين الذين تعرفوا على الرجل أو لوحوا له بأيديهم، "ولا عجب ولا غرابة فإن الجموع اعتادت أن ترى عرابى في غير هذا الموكب يوم كانت تضيق بها الأرصفة وترتج الأبنية من التصفيق له والضجيج"!

وكان للفتور دلالته الذى انعكس في معركة سياسية حامية أعقبت عودة الرجل إلى وطنه..

***

لم يكتف الزعيم العائد بالإعراب عن امتنانه للمسئولين الإنجليز فور علمه بقرار الإعفاء وإنما زاد على ذلك بأن وقف يوم ودعه المسلمون في سيلان وهو يتأهب لركوب السفينة التي سوف تقله إلى الوطن.. وقف يمدح الاحتلال "تملقًا إليه واستمرار لكفه"، حسب توصيف الأهرام.

الأدهى من ذلك ما حدث بعد نزوله إلى السويس وتصريحاته لصحيفة المقطم التي كانت معروفة بمظاهرتها للإنجليز، فقد جاء في جانب من تلك التصريحات "أنى لم أجد من الذين قاتلتهم وحاربتهم غير معاملة الكرام الذين يستحق معروفهم الشكر وكرمهم الإكرام فإنهم حفظوا حياتى من الإعدام ولما بت وحيدًا فقيرًا بذل قوم منهم المال لمساعدتى"، وأعرب في جانب آخر عن أمنيته أن يسمح له الخديو بالسفر "ليرفع شكره إلى جلالة ملك الإنكليز وسمو ولى عهده على فضلهما".

ودفعت هذه التصريحات الاستفزازية الصحف الوطنية، على رأسها لواء مصطفى كامل التي كانت قد اكتسبت شهرة واسعة وقتئذ، على فتح النيران على الرجل..

هاجم مصطفى كامل ما أعرب عنه عرابى عن زيارة ملك بريطانيا كما اتهمه بالهروب في معركة التل الكبير وكان مما جاء في هجومه "إن عرابى ليس بالجندى الذى عرف بالبسالة والإقدام في ميدان القتال بل لم يُجرح جرحًا خفيفً قبل هروبه"، كما انتقده في اعتماده على حماية ديليسبس وعدم ردم القناة.

شاركت المؤيد في الهجوم على الزعيم العائد مما نيم عن أن مثل تلك الهجمات قد تمت برضاء من عباس إن لم يكن بإيعاز من الخديو الذى نعتقد أنه لم يكن راضيًا عن الضغوط الإنجليزية لإعادة عرابى وعن تصريحات هذا الأخير في مديح الإنجليز...

وقد زاد لهيب الحملة عندما صرح ابن عرابى للأهرام عن رأيه فيما نشره اللواء والمؤيد بأن مصطفى كامل كثيرًا ما كان يبعث إلى الزعيم المنفى يسأله أمورًا كثيرة وإن تلك الرسائل محفوظة "بين أيدينا وإن كنا لا نود إظهارها".

غير أنه مع اشتداد الحملة قررت الأسرة أن تبرزها، وقد رحبت المقطم بنشرها، فقد احتوت على العديد من عبارات المدح والتفخيم لعرابى.

وذكرت المقطم أن مصطفى كامل مدفوع في هجومه بسبب غير خاف على أحد من الوطنيين، وكانت تقصد بذلك تحريض الخديو للواء!

وفى تلك الظروف كان للأهرام موقف مختلف..

فقد كانت الصحيفة الوحيدة من الصحف الكبرى، المقطم، المؤيد واللواء التي عاصرت الثورة العرابية وذاقت من أهوالها إلى الحد الذى كاد يودى بها. ورغم ذلك فقد كانت أقل تلك الصحف في انحيازاتها.. مع أو ضد الرجل بعد عودته.

أخذت عليه تصريحاته طبعًا، ولم تكن تستطيع أن تفعل غير ذلك، ثم انها أخذت على حركة الرجل ما تسببت فيه حيال عرش السلطنة، "فلو تفرقت القلوب وتخلفت عن الإمارة كما أراد عرابى ولو قطعت مصر حبل اتصالاتها وارتباطها بالعرش السلطانى كما حاولت الثورة لما رأينا الاحتلال باقيًا حتى اليوم"!

بعدئذ وفى العدد الصادر أول أكتوبر عام 1901 تحت عنوان "عرابى أيضًا" حاولت الأهرام أن توصف الجو العام الذى استقبل الزعيم القادم من غياهب المنفى.. قالت:

"ما كادت قدم الرجل تطأ أرض السويس حتى قابلته الجرائد بالمقالات ناسبة إليه كل ما تم في هذه الديار في العهد الأخير فحسب البعض ذلك شرًا وشؤمًا على مصر فسلقه من أجله بألسنة حداد وخرج معه الكلام عن حد ما تقتضيه حالة شيخ عجوز يعود من المنفى بعد 20 سنة وحسبة الفريق الآخر خيرًا عامًا ومأثرة حسنة ومدح وأطنب وأنزل القادم على الرحب والسعة".

وقد سعت الأهرام أولا أن تضع القضية في موقعها الصحيح، فالرجل في رأيها لم يعد له سوى الاسم "وكل ما في اسمه أنه ذكرى لحوادث مضت واضحت ملك التاريخ يمحصها ويعرب جيدها من رديئها"، غير أنه مع الإصرار على تسييس قضية عودة عرابى لم تجد الصحيفة مندوحة من المشاركة بالرأى.

انتقدت الأهرام هذه النظرة الأحادية ورأت أنها لا الثناء ولا المطاعن تعبر عن واقع الحال، "فالرجل لم يكن إلا السبب الأدنى والعلة الظاهرة"، للاحتلال البريطاني لمصر، وفوقه أسباب أولية وعلل جوهرية، عددتها الصحيفة في تلك المناسبة.

ضعف الحكومة في ذلك الوقت وإحجامها عن الإصلاح الذى يقضى به العدل وحسن السياسة، وسريان روح الاستياء في صدور المصريين لما لقوه من حكومتهم ولا سيما بعد تبذير إسماعيل واستبداده، دين المقابلة وقيود السخرية (العونة)، ثم مطامع الدول الأوروبية ودسائس رجالها.

وتحاول الأهرام في هذه المناسبة أن تنصف الرجل بأن كان على ضوء كل تلك الاعتبارات السابقة، "مدفوعًا لا دافعًا ومُنقادًا لا قائدًا فإذا كان ثمة موجب للطعن أو الإطناب فليس من العدل والصواب أن يكون ذلك كله نصيب عرابى وحده بل يجب أن يشرك في الجزاء إن مدحًا وإن ذمًا أولو الأمر وأنصار الرجل من وطنيين وأجانب سواء كانوا في قيد الحياة يتربعون في المناصب العالية أو تحت الثرى يؤدون الحساب بين يدى الخالق الديان"، ونعتقد أنه لو رغب مؤرخ معاصر في أن يقيم عودة الزعيم المنفى بكل الموضوعية فلن يقول أكثر من ذلك!


صورة من المقال: