ads

Bookmark and Share

الأحد، 2 مايو 2021

154 محتبس النيل عند أصوان

محتبس النيل عند أصوان

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 7 نوفمبر 1996م - 25 جمادى الآخرة 1417هـ


يعلم المهتمون بتاريخ الرى في مصر أن أول عمل إنشائى كبير يعترض مجرى النيل في مصر، بعد القناطر الخيرية، كان خزان أسوان الذى افتتحه خديو مصر مع شقيق ملك إنجلترا في ديسمبر عام 1902، والذى كانت تسميه الاهرام بالخزان أحيانًا، وبمحتبس النيل عند أسوان أحيانًا أخرى!

يعلمون أيضًا جملة من الحقائق العلمية حول هذا العمل الإنشائى الكبير.. أن "طول جدران الخزان ميل وربع ميل ومتوسط علوه 66 قدمًا على أن هذا العلو يبلغ في بعض الأماكن 130 قدمًا تبعًا لعمق مجرى النيل وارتفاع قناة السد 24 قدمًا وعدد قناطره التي تنساب منها المياه 180 قنطرة منها 30 قنطرة ذات أبواب تفتح وتقفل وهى تختلف كبرًا وصغرًا ويبلغ ارتفاع وجه الماء المخزون 46 قدمًا أما الماء الذى يخزن فهو 1140 مليون طن أو 1500 مليون ياردة مكعب وعلى الفرع الغربى من النيل ممر السفن والبواخر وعلى هذا الممر 5 بوابات اثنتان منها كبيرتان علوهما 59 قدمًا وعمقهما 36 قدمًا. وزنة الحديد الذى وضع في هذه الخزانات عشرة آلاف طن، وهى الحقائق التي أوردناها هنا نقلا عن الأهرام قبل ثلاثة أسابيع من افتتاحه.

يعلمون ثالثًا إن حجر الأساس للخزان وضعه الدوق دى كونوت شقيق ملك بريطانيا في 12 أبريل عام 1898 وأن الحجر الأخير وضعته الدوقة دى كونت يوم الأربعاء 10 ديسمبر عام 1902، أي استغرقت عملية بنائه أربع سنوات ونصفًا، وهى معلومات مسجلة على مبنى الخزان.

رغم ذلك يبقى ما قد لا يعلمونه وهو كثيرًا.

***

انخفاض الفيضان أو شح النيل على حد تعبير الأهرام كان السبب الأساسى وراء التفكير في "احتباس النيل"، فقد قالت الصحيفة في عددها الصادر يوم 18 يناير عام 1894 "أن النيل يلغ في فصل التحاريق من سنة 1892 نحو 17 مليون متر مكعب في حين أن الزراعة الصيفية تحتاج إذ ذاك إلى 30 مليونًا التي هي آخر تناقص النيل في حالة اعتداله.. ولما كان هذا الشح مما يخشى أن يدوم الحؤول الطوال كان لابد من مشروع تحبس به المياه تفاديًا من التحاريق المتوالية التي تجر الفاقة واستزادة للزراعة في أراض صالحة فاتها السقى فهى إلى الآن كنوز مرصودة"!

مفتش عام الرى المستر ويلكوكس كان عاكفًا وقتئذ على وضع مشروع الاحتباس، الذى صدر على صورة مذكرة طويلة وضعها المستر جارستن وكيل نظارة الأشغال في أوائل فبراير من ذات العام ونشرتها الصحف بما فيها الأهرام..

أهم ما تضمنته المذكرة خطة لإنشاء عدد من مشروعات الاحتباس على النهر في المنطقة بين وادى حلفا والقاهرة توفر كميات من المياه.. للصعيد 1160 مليون متر مكعب لرى 200 ألف فدان، للوجه الأوسط، بين أسيوط والقاهرة، 950 مليونًا لرى 200 ألف فدان أخرى، للدلتا 1551 مليون متر مكعب لأراضيها "الزراعية التي تقبل الإصلاح ويبلغ مجموعها 3 ملايين و340 ألف فدان فجملة ما يحتاج إليه القطر على هذا التعديل 3661 مليون متر مكعب وذلك يمكن خزنه في حالة شح النيل".

مع هذه الخطة تحفّظ المستر ويلكوكس ومعاونوه فطالبوا باستدعاء لجنة من أشهر المهندسين الأوروبيين "ليس لقلة الثقة منه ومن إخوانه بمعارفهم الكافية بل لحبهم ألا يندفعوا إلى عمل من أخطر الأعمال دون استشارة العلماء المشهود لهم بالفن".

وقع الاختيار على ثلاثة من هؤلاء العلماء، السير بنيامين باكر الإنجليزى، السنيور جياكومو تورشيللى الإيطالى والمسيو أغوسط بوله الفرنسي، الذين عكفوا على دراسة مشروع المستر ويلكوكس واتفقوا واختلفوا!

اتفق المهندسون الثلاثة بعد تفقد المواضع التي اختيرت للخزانات على أن مشروعات ويلكوكس وجارستن "منافية للأصول الهندسية ويستحيل إنفاذها"، الأمر الذى اعتبر طعنة للقائمين على شئون الرى من رجال الاحتلال انتهزها الأهرام فرصة للبكاء "على ضياع السنين الطوال في هذا العمل الذى راح هدارا ويالفقد المال الكثير الذى لا تجد ماليتنا المقتصدة بابا لإنفاقه إلا مثل هذه المشروعات التي لا يوثق لها بأصل"!

إنقاذًا لسمعة رجال الرى الإنجليز طالب المستر باكر بإمهاله لوضع مشروع بديل، وبينما بقى المهندس الإيطالى بصحبة الإنجليزى في الصعيد لوضع المشروع الإنجليزى، آثر المهندس الفرنسي العودة إلى الثاهرة مؤملا أن يفشل زميلاه في مهمتهما، وهو أمل صنعته أسباب تاريخية.

فالمعلوم أن مشاريع الرى الكبرى فى تاريخ مصر الحديث كانت قد بدأت على أيد فرنسية، ولعل قصة السان سيمونيين الذين أسهموا في بناء القناطر الخيرية تقدم المثل الحى على ذلك، ولعل انبثاث الفنيين في مشروعات الرى قبل الاحتلال تقدم المثل الحى الآخر.

ما لم يكن معلومًا بدرجة كافية وقد نشرته الأهرام في بعض أعدادها أن مشروع المحتبس كان في أصله فكرة فرنسية، ونترك القصة للجريدة كما روتها.. تقول:

"إن شركة فرنساوية تسمى شركة (درس النيل) أسسها المسيو دلاموت قدم للديار المصرية عام 1870 وأخذ يدرس مجرى النيل وفى يقينه أن الأرض البور تزرع وثروة مصر تزيد إذا خزنت مياه النيل التي تصب في البحر.. ووضع الرسوم وعرضه على المهندسين الكبار في مصر وأوربا فقالوا إن إنقاذ مشروعه لمن الممكنات فسافر الرجل إلى فرنسا سنة 1876 وألف شركة وصل رأسمالها إلى 10 آلاف جنيه زادت سنة 1881 إلى 80 ألف جنيه.. وفى سنة 1882 تمكنت الشركة من استخدام المسيو جاكه مهندس الطرق والجسور في فرنسا لدرس مشروعها فقدم الرجل إلى مصر وسافر إلى الصعيد على باخرة قدمتها له الحكومة بصحبته بعض المهندسين المصريين فوضع عن ذلك تقريرًا ضافيًا.. وطلبت الشركة من الحكومة أن تنشئ الخزان على مسئوليتها في منعطف "جبل السلسلة".

تضيف قصة الأهرام أن الاضطرابات التي صاحبت أحداث الجنوب، الثورة المهدية، قد أرجأت المشروع، غير أن الشركة الفرنسية حصلت على وعد من الحكومة المصرية أن تكون شركة "درس النيل" مفضلة عن غيرها في حالة إتمام المشروع.

تمنيات الفشل التي أضمرها العضو الفرنسي كشفت عن نفسها بعد عودة المهندسين، الإنجليزى والإيطالى، بالمشروع الجديد الذى وضعه المستر باكر فاعترض المسيو بوله لسببين "أحدهما أن المشروع أنجز في بضعة أيام فلم يتمكن المستر ويلكوكس من ضبط الحسابات كما تقتضيه خطارة الخزان ومن ترتيب سائر أجزاء التخطيط بحيث يستوفى المزايا الفنية الضرورية له، وثانى السببين أن المشروع لا يقى هيكل أنس الوجود وهو من الآثار العظمى التي لا تقدر بأثمان"!

فتح الفرنسيون بذلك ملف "الآثار الجانبية "لمحتبس النيل عند أسوان"، لم يكن أنس الوجود الورقة الوحيدة داخله، وإن كان أولى هذه الأوراق..

عرضت صحيفة التايمز اللندنية للجدل الدائر حول تأثير الخزان على الآثار المصرية حتى وصلت إلى القول "علمنا من جهة إن ذاك الموقع المختار هو أفضل من كل موقع سواه وأن الخزان المختار هو أفضل من كل موقع سواه وأن الخزان عميل سيكفل لمصر الإقبال والازدهار ومن جهة أخرى سمعتا علماء العاديات ينادون فليمت كل إقبال مادى إذا أريد شراؤه بخراب يهيج كل إنسان هذبته العلوم".

الحل في رأى الصحيفة الإنجليزية الشهيرة ألا تمس الآثار يد مهندس أبدًا وإنما يبنى الخزان على أساس أدنى من الأساس الذى عرض في الأصل "وهذه الطريقة تقى هياكل أنس الوجود وتبقيها مصونة من تطرق المياه إليها وغرمها وإتلافها".

في أواخر نوفمبر عام 1894 تتحدث الأهرام عن الحل السعيد الذى تم التواصل إليه "فبدلا من أن يبنى سد الخزان المشار إليه على علو 114 مترًا خفض هذا العلو إلى 106 أو 108 أمتار لكن الخزان المراد إقامته على هذا العلوم أصبحت مياهه تكفى في المستقبل لرى مصر الوسطى أو مصر السفلى كل منهما على حده".

الجانب الصحى مثل ثانى الآثار الجانبية فيما أعربت عنه الأهرام في أكثر من مناسبة.. في إحدى تلك المناسبات تخوفت من شرب ما أسمته "المياه المخزنة.. فإذا كان للخزان منافع عظيمة فإن له وجهًا للضر من جهة أخرى"!

ولم ينس الفرنسيون في هذه المناسبة أن ينبهوا لخطر حدوث الزلازل فيما يقول به المسيو بوله بأنه "ربما حدث زلزال فزلزل البناء ثم ارتفعت المياه فأوقعته وانحدر إلى القطر فلا ريب أنها تغرقه عن آخره بمن فيه من سكان وبما فيه من ثروات فماذا تكون إذ ذاك منافع الخزان في جنب هذا الضرر الذى يمحو مصر من وجه الأرض"!

الأثر الجانبى الرابع تمثل في التعويضات التي كان على الحكومة المصرية أن تدبرها لسكان النوبة التي ستغرق مياه الخزان أراضيهم مما كان محل أخبار عديدة ساقتها الأهرام....

بينما تجرى أعمال بناء الخزان تشكلت اللجان للنظر في تعويض النوبيين عن أملاكهم، والتي قررت أن تصنفها إلى قسمين:

أراض تغمرها المياه أثناء سد الخزان وتنحسر عنها بعد فتحه فتتم زراعتها، وأراض تغمرها المياه كل السنة فلا ينتفع بها...

في القسم الأول تدف الحكومة للأهالى ثمن المساكن والنخيل وأما في القسم الثانى فإنها تدفع الثمن كله على الأرض والمنازل والنخيل، وتم تقدير هذه التعويضات بثمانين ألف جنيه وهو ما لم يرض النوبيين "فصممت الحكومة تلقاء عنادهم على استصدار أمر عال بنزع الملكية للمنافع العمومية"، وتنصح الأهرام الحكومة بألا تلجأ إلى ذلك "لئلا تظهر مع نزع الملكية بمظهر المغتصب القادر من الضعيف العاجز لأنها مع نزع الملكية ترمى بالجور ولو أنصفت"!

لم تعبأ الحكومة بهذا التحذير الأهرامى وصدر في أول يوليو عام 1902 الأمر العالى "بنزع مليكة أملاك البرابرة التي تغمرها مياه الخزان"، كان أهم ما قرره الاعتماد في تقدير التعويضات على ما أجرته "لجان التعداد والمقاس والتثمين ويبدأ بصرف التعويضات المذكورة حال نشر أمرنا هذا وينتهى على الأكثر في أول سبتمبر ويكون الصرف في ذات الجهة"، وقد انطبق هذا القرار على الأطيان الكائنة بنواحى دابود ودهميت وأبناركاب وكلابشة وأبى هو وثلاثة عشر نجعًا تابعة لناحية مرورا بمدينة أسوان.

وأغلق بذلك ملف الآثار الجانبية لمشروع "محتبس النيل عند أصوان"، والتي لم تمنع السير قدمًا في بناء الخزان مما يشكل الجانب الأخير من القصة.

***

صناعة نسيج هذا الجانب الأخير من القصة تم من خلال خيوط متقاطعة.. عمل يجرى في بناء الخزان بينما يحتدم على الجانب الآخر صراع بين العدوين التقليدين المتنافسين على النفوذ في مصر.. فرنسا وانجلترا، وهو صراع لم يتوقف حتى بعد حفل افتتاح الخزان الذى قدمته الأهرام بكل تفاصيله..

نبدأ بالعمل في بناء "المحتبس" والذى بدأ بوضع شروط المقاولة بين الحكومة والسير جون ايرد المقاول الانجليزى الشهير والتي وقعها في 21 فبراير عام 1898 فزى باشا ناظر الأشغال باسم الحكومة المصرية ومضمونها أن تتعهد الحكومة للسير جون ايرد وشركاته بدفع مليوني جنيه في مقابل إنشاء خزان أسوان وقناطر أسيوط تقسطها على 30 سنة على أن تدفع القسط الأول في أول يوليو عام 1903.

وجاء اقتران بناء الخزان بقناطر أسيوط من أنه بينما بخزن الأول كمية معروفة من المياه فإن القناطر أنشئت "لرفع منسوب الماء حتى يعلو ويجرى في الترعة الإبراهيمية والبحر اليوسفى وهى على مثال القناطر الخيرية عدد قناطرها 111 وسع كل واحدة منها خمسة أمتار".

بعد أن اضطر المقاول للحفر ستة أمتار زيادة نتيجة لما تبينه من ضعف كبير في الأرض طالب بزيادة المقاولة مليونًا و340 ألف جنيه "فطلبت الحكومة هذا المال من صندوق الدين فأعطاه ودفع في هذا العام القسط الأول وهو 670 ألف جنيه".

تردد اسم السير جون ايرد كثيرًا في تلك الأيام الأمر الذى دفع الأهرام إلى أن ترسل مندوبها لمقابلته فوجده "شيخًا كبيرًا ضخم الجثة تتدلى لحيته البيضاء حتى منطقته ومعيشته معيشة الفعلة السانجين بلا زهو ولا فخفخة كأغنياء الشرقيين مع أنه شريك أكبر الماليين كالسير أرنست كاسل وخدين الأمراء والملوك وبانى خزان أصوان"!

مع ألوف العمال المصريين الذين قاموا ببناء المحتبس استعانت الشركة المنفذة بعدد من العمال الأجانب في بعض الأعمال التي كانت تتطلب خبرة خاصة، وقد سبب هؤلاء متاعب متنوعة للقائمين بالعمل مما كشف عنه عدد من الأخبار...

في 25 مارس عام 1899 خبر من أسوان "أن العملة الإيطاليين الذين يشتغلون في أعمال الخزان قد اغتصبوا واضربوا عن العمل إلى أن تنيلهم الشركة صاحبة الامتياز مطالبهم وأهم هذه المطالب تقليل ساعات العمل"... في 31 يوليو من نفس العام خبر آخر بوصول ثلاثين عاملا ايطاليًا من الذين يعملون بالخزان إلى القاهرة "لأنهم لم يستطيعوا تحمل الحر وضنك المعيشة في تلك الناحية وقفلوا راجعين إلى بلادهم".. بعد ذلك بأيام قليلة عاد أربعون عاملا نسماويًا "وسافروا إلى بلادهم وكان فريق منهم قد طرد من العمل لسوء السلوك والسير والفريق الآخر ترك شغله لاعتلال صحته"!

رغم ذلك فقد استمر العمل يسير قدمًا حتى انتهى في أقل من خمس سنوات مما كان محل زهو من الصحافة الإنجليزية التي عقدت مقارنة بينه وبين القناطر الخيرية التي تطلبت 15 سن لإتمامها وأن الفعلة الذين اشتغلوا بها كانوا يصلون أحيانًا إلى 12 ألف جندي برى وثلاثة آلاف جندي بحرى والفى عامل مسخر، مما دعا الأهرام إلى التنبيه على ظلم المقارنة وأن "قولهم هذا كقول من يعير الجمال ببطئها على خفة حملها إذ كانت تجتاز المسافة من مصر إلى السودان في ثلاثة شهور ونصف مع أن السكة الحديد تحمل الأثقال كالجبال وهى تجتاز المسافة في بضعة أيام".

ولم يكن موقف المهندس الفرنسي عام 1894 ضد المشروع، كما لم تكن تلك المعايرات الصحفية التي اتخذت فيها الأهرام الجانب الفرنسي، المظهر الوحيد للتنافس بين الجارتين اللدودتين..

كان من هذه المظاهر ما قدمه المسيو بوله المهندس الفرنسي من مشروع بديل بإنشاء خزان مؤلف من "سلسلة قناطر متينة إذا أسقط طارف من الحدثين إحداهما فضررها محدود وإن بقيت قائمة جميعها في تنفع نفع الخزان الكبير ولا ينفق عليها إلا جزء قليل مما ينفق على الخزان"!

انتقد المهندسون الإنجليز الاقتراح واعتبروا المهندس الفرنسي ليس إلا مشعوذًا جاهلا، وهو ما لم تقبل به الأهرام التي ارتأت أن سبب هذا الانتقاد أن الاقتراح الفرنسي جاء "هادمًا للأساس الذين أرادوا أن يبنوا عليه لأنفسهم شهرة عظيمة وعملا فرعونيًا ضخمًا"!

ولما لم تجد المحاولات الفرنسيين بوضع العصى لعرقلة عجلات الخزان الدائرة فقد أخذت الأهرام تذكر بأن الفرنسيين أول من قالوا به "لكن الأغراض الإنكليزية حالت دون إنفاذ هذا المشروع الخطير أيان كان الفرنسويون يشيرون بإنشائه".

وكأنما أراد الفرنسيون إفساد الفرحة الإنجليزية بافتتاح الخزان فأوعزوا للشركة التي كانت قد بدأت فيه منذ السبعينات برفع قضية تعويض على الحكومة المصرية مقابل ما أنفقته من أموال على المشروع. وبلغت قيمة هذا التعويض 52 ألف فدان من الأراضى المستصلحة قرب الخزان.

والملاحظ أن حدة انحياز الأهرام إلى الموقف الفرنسي كانت تخف كلما اقترب ميعاد الافتتاح وكلما بدت قيمة الفوائد التي سوف تعود على مصر من الخزان فيما ظهر من تعليق داود بركات، مكاتب الجريدة الذى ذهب لحضور احتفال الافتتاح: "لا يهمنا أن يكون صاحب المشروع فلانا أو فلانًا ولكن يهمنا أن نعرف أن الرى هو حياة البلاد".

انتقلت صحيفتنا بعد ذلك من موقف عد الانحياز إلى موقف الإعجاب بالعمل الذى تم إنجازه فيما جاء في التقارير المتوالية التي بعث بها بركات في وصف حفل الافتتاح.

صباح يوم الأربعاء 10 ديسمبر تقدم القطار الذى يقل الخديو ووكلاء الدول فوصل إلى الخزان وحيته المدافع، فسار مع دوق ودوقة كونت والأمراء والنظار وفضيلة المفتى وبطريك الأقباط، وتبادل الخديو وناظر الأشغال خطبتين تليقان بالمناسبة، توجه بعدهما الأول للدوقة راجيًا أن تقوم بوضع الحجر الأخير من البنيان كما وضع الدوق قبل أكثر من أربع سنوات الحجر الأول.

بملعقة من الفضة أخذت الدوقة قليلا من الطين وضعته على قاعدة الحجر الذى استقر في مكانه ثم تقدم الخديو إلى آلة كهربائية أدارها بمفتاح فارتفعت من الخزان سبع بوابات تدفق منها الماء.

لاحظ الحاضرون الخطأ الذى ارتكبته نظارة الأشغال في الحجر الأخير الذى نحت من الصوان مربع الزوايا وعلوه متر ونصف المتر وقد حفرت عليه هذه العبارة بالإنجليزية...

"وضعت هذا الحجر الأخير من الخزان الدوقة دى كونت في السنة العاشرة لتولية الخديو عباس باشا - 10 ديسمبر سنة 1902".

الخطأ الذى رصدته الأهرام بما جاء على الحجر "السنة العاشرة لتولية الجناب الخديو مع أنها السنة الحادية عشرة وأهملت لفظة الثانى بعد عباس مع أن ذلك لم يحدث في تاريخ وإن تكن القرينة تدل عليه. وأكبر من هذا أنها وضعت اسم أمير البلاد بعد الكلام على وضع الحجر الأخير وكان الواجب المحتم أن يكون مقدمًا"!

غير أن هذا الخطأ لم يمنع مراسلنا من الانفعال بالمناسبة، فتحدث عن "هذا المنظر الباهر الذى يتمثل الآن بضخامته وفخامته أمام الأنظار بما استوجبه من النفقات الطائلة بمعاونة أساطين العلم والحكمة وجهابذة الفن والعرفان"..

ولم يكن المنظر الأخير فى تاريخ مصر، فقد تكرر مرة أخرى بعد نحو ستين عامًا... وقت افتتاح محتبس النيل الثانى المعروف باسم السد العالى، وفى ظروف مختلفة جد الاختلاف!


صورة من المقال: