ads

Bookmark and Share

الجمعة، 30 أبريل 2021

152 ثور الخديوى!

ثور الخديوى!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 24 أكتوبر 1996م - 11 جمادى الآخرة 1417هـ


صباح الأربعاء 7 مايو 1902 انعقدت جلسة محكمة الاستئناف بالعاصمة لتنظر أولى القضايا المشهورة التي حفل بها القرن العشرون ونترك لمكاتب الأهرام في القاهرة وصف افتتاح المحاكمة لما ينم عليه هذا الوصف من الأهمية البالغة للقضية.. قال:

"في الساعة الثامنة صباحًا توافد الناس مئات. ومعلوم أن المحكمة كانت قد قررت منع حضور الجلسة على من لا يحمل تذكرة فوصل حاملو التذاكر فوجدوا على الباب بعض الحجاب فأدخلوهم فساروا إلى محل الجلسة حيث وجدوا مئات من الناس مجتمعين فتزاحم الناس للدخول ولا يمنعهم أحد من رجال البوليس وبعد دخولهم وجلوس أصحاب الجرائد في أماكنهم صدر الأمر بإخراج الجميع فكان تصادم وكان تلاطم ولولا لطف الله لأفضى إلى التراكم، وكان الحاجب أو البوليس يمسك بيد الواحد ويقذفه من جهة إلى جهة حتى صمت الآذان من سماع الأوامر الصادرة من كل ناحية فداروا بالناس دورة طويلة ثم حاصروهم وراء عمود كقطيع من الغنم، وبعد مدة أذنوا لهم بالدخول فدخلوا، وما كدنا نستقر في مكاننا حتى تنفسنا الصعداء شاكرين الله على السلامة، ثم جاء حضرة سكرتير المحكمة وسأل مكاتبى الجرائد عن صفتهم وقال أن المحل محفوظ للمديرين لا المراسلين مع أنه معروف أن المحل محفوظ للمراسل لا لصاحب الجريدة. والخلاصة أننا جلسنا في أماكننا فالحمد لله"!

في تمام التاسعة دخلت هيئة المحكمة برئاسة مصري، يحيى بك إبراهيم، وعضوية انجليزيين، كونى وبرى، بينما مثل النيابة الأفوكاتو العمومى، صفوت بك، وبدأت إجراءات المحاكمة، وكان موضوعها سرقة ثور من مزرعة الرجدية التابعة لأملاك الجناب الخديوى قبل نحو شهر ونصف، 25 مارس، بيد أن هذه السرقة التي كثيرًا ما تتكرر في الريف المصرى، ربما حتى يومنا هذا، اكتسبت أبعادًا سياسية واجتماعية خلال تلك الفترة مما أضفى عليه كل تلك الأهمية، وقد تقلبت فصولها بامتداد الفترة السابقة، وشكل عرضها على محكمة الاستئناف الأهلية فصلها الأخير.. ولنبدأ القصة من فصلها الأول.

***

أول الأخبار عن السرقة أشارت إلى أن أحد أعيان الغربية، أحمد المنشاوى باشا، قد انبرى للبحث عن الفاعلين بعد أن علم بسرقة الثور، وألقى التهمة على شخصين من بلدة شبرا قاص واستدعى مأمور مركز طنطا، الذى قام بالتحقيق، ونجح في الحصول على اعتراف من المتهمين بالسرقة وأنهما ذبحا الثور وألقيا جلده في البحر.

وإلى هنا تبدو القصة عادية لما يحدث من تكرر تلك الممارسات، وأن الناس، على حد تعبير مكاتب الأهرام "قد ألفو مثل تلك الحادثة ولو سمعوا بحدوث ضرب وتعذيب في سراى القرشية، ما استنكروا الأمر ولا عدوه مشينًا فهم كل ساعة يرون عسكرى البوليس في الشوارع العمومية سائقًا متشاجرين أو سكارى ويكاد أحدهم لا يعى قولا من شدة ما يصيبه من الأذى"!

تبدو عادية أيضًا بحكم أن سرقات المواشى من الجرائم المتكررة في الريف المصرى، غير أنها حدثت هذه المرة في الخاصة الخديوية، وأن أحد كبار الملاك مدفوعًا برغبته للتقرب من ولى النعم، وبعمله على صناعة الأمثولة حتى لا يتجرأ الفلاحون على أراضى كبار الملاك الخديوى أو غيره، قام بالواجب وألقى القبض على من اتهمهم بالسرقة غير أن ما حدث بعدئذ لم يكن عاديًا!

يروى مكاتب الأهرام في طنطا ما حدث، فيقول أن المأمور بعد أن عرض المتهمين على نيابة أمرت بالتحفظ عليهما في المركز لحين التحقيق، وهو ما لم يفعله حضرة المأمور الذى أخذهما دون علم النيابة إلى القرشية لسراى سعادة أحمد المنشاوى باشا ثم عاد بهما إلى مركز البوليس بطنطا فعند عودتهما ذهب حضرة رئيس النيابة لسؤالهما فشكيا إليه ما لحق بهما من الضرب المبرح والعذاب الأليم وقالا أنهما اعترفا بسرق الثور ليخلصا من العذاب فأمرت النيابة بالكشف عليهما طبيًا فوجدت آثار الضرب فيهما وتقرر بعلاج أحدهما 15 يومًا ولعلاج الثانى عشرة أيام.

وكان يمكن حتى بحدوث ذلك أن سوى القضية بشكل أو بآخر، وهو ما رفضه المحتلون الذين كان قد أصبح لهم وقتئذ وجود قوى في الجهاز القضائى وكما كان لوجودهم مظاهرة في تلك القضية، فقد كان لرفضهم تسويتها أسبابه..

فبعد أربعة أيان فقط وصل إلى طنطا جناب النائب العمومى، المستر كوربت، وجناب مفتش الداخلية، المستر وينسون (لاحظ الأسماء)، وصدر الأمر بالقبض على المأمور، على أفندى جلبى وعلى منشاوى باشا وأمر معاون البوليس باستياقهما إلى السجن ففعل.

في ذلك اليوم أصدرت نظارة الداخلية قرارها بإيقاف سعد الدين باشا مدير الغربية عن أعماله وإحالته على مجلس تأديب يتألف برئاسة ناظر الحقانية ووكلاء نظارات الداخلية والمالية والخارجية والأشغال، وكانت أصبع سلطات الاحتلال وراء هذا القرار.

تحولت قضية "ثور الخديوى" منذ تلك اللحظة إلى قضي رأى عام، فلم يكون متوقعًا أن يلقى رجل بحجم منشاوى باشا، عين أعيان الغربية، في السجن دون أن يخلف ذلك ردود فعل واسعة جاء أسرعها من المناطق القريبة حيث "غصت طنطا بالوافدين من جهات المديرية للوقوف على تقلبات هذه الحادثة الخطيرة"!

الأهم من ذلك أن القضية تحولت إلى أزمة سياسية أطرافها رجال الاحتلال، الخديو، جماعة الأعيان، الصحافة التي عبرت عن كل تلك القوى، وكان منها جريدتنا بالطبع.

حرص المحتلون على تسييس القضية بالسعى إلى تأكيد وجهة النظر بأنهم حماة العدالة وأن لاستمرارهم في حكم البلاد مبرره الإنسانى، مما كان محل نقد من الأهرام في مقال طويل شغل أغلب الصحف الأولى من عددها الصادر يوم الخميس 3 أبريل وجاء تحت عنوان "سياسة الاحتلال وطنبوره وقضية المنشاوى والثور"!

أول ما رصده هذا المقال الطويل ما سعت إليه الأقلام الاحتلالية، على حد تعبير الأهرام، من أن تشهد على ما حدث، "فالباشا المصرى في القرشية وهو من أكبر باشاوات مصر والمدير الباشا في الغربية وهو أكبر حاكم لأكبر عمالة في أقاليم مصر لم يصدهما أن أكون أنا الاحتلال في وجههما عن ارتكاب المنكر والاستئثار بالأمر فأخذا المجرمين من السجن وهما في قبضة النيابة ليعذباهما عذابًا أليمًا غرسة حبة في نفوسهم وخلقه في صدورهم متنزلا إليهم من الآباء فالأجداد فالمماليك فالفراعنة"!

ردت الأهرام على ذلك بأن من يتقولون بمثل تلك الأقوال "طلاب مأرب لا طلاب حق" وكان من رأيها أنه حتى في حفلة التسليم بالخطأ الذى ارتكبه الباشا المشهور فيكف تتهم كل الأمة بارتكاب الوزر "فليعلم خصوص الأمة المصرية أنها اليوم بناشئيها وشبيبتها وأدباؤها وفضلائها ولا بأغنيائها ولا أمرائها"!

في مناسبة أخرى تتحدث الصحيفة عما أرادته صحف الاحتلال من "أن تحول المسألة إلى سياسة فدمغناها بالحجة والبرهان وليس على صحفنا الأخرى أن تحول المسألة إلى غير شكلها وأن تخرجها عن دائرة العدالة والقانون"، وكأنا أرادت الأهرام من وراء ذلك أن تفسد على سلطات الاحتلال سعيها إلى تسييس القضية.

بالمقابل وقع عباس الثانى في مأزق شديد، فهو بموقعه الاجتماعى واحد من أكبر ملاك الأراضى الزراعية في مصر. ففضلا عما ورثه عن أبيه فقد نجح خلال السنوات التي انقضت من حكمه (20 عامًا) أن ينمى هذه الثروة مغتنمًا في ذلك، هو وسائر كبار الملاك المصريين، فرصة ما عمدت إليه سياسات سلطات الاحتلال من بيع أراضى الدائرة السنية (أملاك إسماعيل التي كان قد رهنها لحساب الديون). وأراضى الدومين (أملاك الحكومة) واشترى منها مساحات واسعة كان منها ثلاثة آلاف فدان مرة واحدة من أراضى الدومين.. نقول أنه بحكم هذا الموقع كان متعاطفًا مع المنشاوى باشا.. ولكن!

على الجانب الآخر فإن عين أعيان الغربية قام بفعلته، والتي تميل إلى تصديق أنه فعلها، تقربًا لولى النعم، بكل ما يحمله تخلى عباس عنه في محنته من إضعاف لهيبة دور عابدين في حكم البلاد.

على الجانب الثالث فقد كان معنى تحركه مساندًا للمنشاوى أن عليه مواجهة المحتلين في قضية تبدو حججهم فيها هي الأقوى، ومن ثم جاء تحركه حذرًا..

في الأهرام الصادر في أول أبريل تشير الصحيفة أن عددًا من أعيان المديرية قرروا أن يؤلفوا وفدًا "ليذهب إلى العاصمة لاستعطاف سمو الجناب الخديوى ورجال حكومته بطلب الإفراج عن سعادة منشاوى باشا إلى أن يتم التحقيق ويصدر حكم المحكم"، غير أن هذا الوفد لم يتألف أبدًا، مما يبدو وأنه قد حدث استجاب لنصيحة خديوية.

بعد الأعيان جاءت محاولة من المنشاوى نفسه الذى أرسل عددًا من البرقيات إلى رجال الحكومة وفى مقدمتهم الخديوى يقول فيها أنه برئ من تهمة الضرب والتعذيب وأنه يلتمس من سموه النظر في مسألته، مما اضطر عباس إلى اللجوء لإجراء شكل لحفظ ماء الوجه.

فقد أوفد الخديو إلى طنطا أحد ياورانه "عزتلو زكى بك" وقد اتخذ كل سبل التحوط حتى لا يفهم المحتلون من هذا العمل على أنه تعاطف مع المنشاوى فيما جاء في البيان الصادر عن المعية السنية من أنه أرسل زكى بك "لئلا يظن المتهم أنه أهمل شكواه بعدما أخلص للأريكة الخديوية على صحة التهمة أو بطلانها فإن الجناب الخديوى كبير الثقة برجال حكومته وبمن نيط بهم أمر التحقيق، ويجسد هذا البيان قمة تنصل عابدين من الرجل وثوره!

المنفذ الوحيد لعباس كان الصحافة الوطنية، وفى مقدمتها الأهرام، والتي شنت حملة متعددة الجوانب مناصرة للباشا الطنطاوى، ولا شك أنها كانت مدفوعة في ذلك أيضًا بما استشعرته من سعى سلطات الاحتلال إلى توطيد سلطاتها من خلال هذه القضية.

أحد جوانب تلك الحملة تجسد في إبراز النفى المتكرر من جانب المنشاوى للتهمة، ففي عدد الأهرام الصادر يوم 3 أبريل تؤكد الصحيفة على أن النيابة استمعت إلى 9 شهود في القضية وأنهم جميعًا قد نفوا حدوث الضرب.

جانب آخر أكدت فيه الصحيفة أن المنشاوى ليس صاحب مصلحة في ضرب المتهمين وساقت في هذه المناسبة المثل الذى يردده المصريون بأن الرجل "ليس له في الثور ولا في الطحين" وروت أصل هذا المثل، وهو أن رجل دخل طاحونًا يدير رحاها ثور فأراد مداعبته فسقط في الحفرة ورض جسده فاستغاث بالمارة الذين أنحوا عليه اللوم وخر من أحدهم تلك القولة التي سارت مثلا!

على الجانب الثالث أعربت الصحيف عن امتعاضها من سوء المعاملة التي يلقاها عين أعيان الغربية في سجنه لأنه لم يسمح له بإدخال اللبن "فإذا صح هذا القول كانت مصلحة السجون ملومة أشد اللوم لأن منشاوى باشا لم يسجن انتقامًا منه لبل ليعاقب على ذنب اتهم به هذا إذا ثبت عليه الذنب والعقاب لا يكون إلا تأديبًا وعبرة فلماذا يمنع مأمور سجن طنطا اللبن عن المتهم"!

غير كل ذلك سارت سلطات الاحتلال في طريق محاكمة الباشا لا تلوى على شيء ولا تأبه لأية احتجاجات..

***

العرض الأول للقضية على محكمة طنطا الأهلية بدأ يوم 22 أبريل.. المحكمة برئاسة محمد بك شكرى وعضوية محمد بك صدقى وحنا بك إبراهيم، المتهمون المنشاوى باشا الذى وكل اثنين من أشهر المحامين، أحمد بك الحسينى وعبد الكريم أفندى فهيم، المأمور على أفندى جلبى الذى وكل إبراهيم بك الهلباوى، فضلا عن عدد من رجال الباشا الذين اتهموا بالقيام بعملية التعذيب بناء على أوامره..

بدأت المحكمة باستجواب المجنى عليهم، مرزوق أو طبيخ، عيسوى سلمان، إبراهيم جوهره، حسن خليل، وأحمد أبو النجا سلام الذين صمموا على أقوالهم ف التحقيق أنهم أهينوا وعُذبوا في الرجدية والقرشية، وأن المنشاوى باشا كان موجودًا وقت ضربهم خدامه الكثيرون.

وكانت تهمة الثلاثة الأوائل أنهم سرقوا الثور، وتهمة الآخرين أنهم ابتاعوا هذا الثور وذبحوه وأكلوه، هم وأولادهم، ورغم التشكيل الذى حاول الهلباوى بك خصوصًا أن يدخله في نفوس أعضاء المحكمة، خاصة وأن واحدًا من الخمسة كان من أرباب السوابق، إلا أن هؤلاء قد نجحوا في الإدلاء بأوصاف صحيحة لبعض من عذبوهم وللأماكن التي تم ضربهم فيها.

الطبيب الشرعى أكد استحالة أن يكون المدعون هم الذين أحدثوا الإصابات في أنفسهم، وأن الآثار التي وجدت ببعضهم من ضرب بعصى رفيعة كالخيرزان، والآثار التي وجدت في البعض الآخر من آلات صلبة أشد غلظة.

شهود النفى بلغوا عشرين شاهدًا، وكانت نسبة كبيرة منهم من عمد ومشايخ الرجدية والقرى المجاورة، فضلا عن خواجة اسمه ماركيتو كان مدعوًا يومئذ للغداء على مائدة الباشا، ودارت شهاداتهم على أنهم لم يروا أي تعذيب ينزل بالرجال الخمسة وأنهم سمعوهم وهم يعترفون بسرقة الثور.

دارت مرافعات طويلة شارك فيها النيابة والمحامون، وكان من أطرف ما جاء فيها استلال النيابة بأن المنشاوى باشا عندما أسلم "المتهمون إلى رجاله قال لهم: خدوهم غدوهم" وكان الغذاء هو العلقة الساخنة التي شكك فيها المحامون.

وفى تلك الظروف لوحت هيئة الدفاع بكرم المنشاوى باشا الذى كان قد أنفق خلا العام السابق، 1901 جملة إحسانات بلغت 13.600 جنيه على شكل مستشفى سلمت لمصلحة الصحة ومدرسة للبنين والبنات "موقوفة على الفقراء لا فرق بينهم في الجنس أو الدين".

يوم 24 أبريل كان الميعاد المحدد للنطق بحكم المحكمة الابتدائية ويقول مراسل الأهرام أن الناس "أقبلوا أفواجًا على المحكمة وضاق بهم شارع المديرية وساحاتها وزيد عدد رجال البوليس على أبواب المحكمة ونوافذها وفى قاعة الجلسة بلغ عددهم 40 إنسانًا بالبنادق والحرب تحت قيادة حكمدار البوليس وظل الناس ينتظرون حكم المحكمة بنافذ الصبر والتي لم يخرج أعضاؤها لإعلان الحكم إلا بعد خمس ساعات ونصف من الميعاد المقرر.. في الثامنة والنصف مساء على وجه التحديد.

الحكم قضى بالحبس "على سعادة منشاوى باشا بالحبس مدة ثلاثة شهور لاعتباره فاعلا أصليًا وعلى حضرة على أفندى جلبى مأمور مركز طنطا بالحبس مدة شهرين لاعتباره شريكًا في الجرم وعلى خدم الباشا سرور أحمد وزايد عقاب ومحمد رزق بالحبس شهرين باعتبار أنهم نفذوا الجريمة طوعًا لأمر سيدهم".

يعلق مكاتب الأهرام أنه في أعقاب ذلك أخذ المتهمون مخفورين إلى السجن وقد تأثر سعادة منشاوى باشا تأثيرًا شديدًا عند سماع الحكم الذى كان بمثابة الفصل الأول من القصة، فلم تكن قد انتهت بعد!

الفصل الثانى بدأ بالحملة التي شنتها الصحف المصرية والفرنسية على المحاكمة.. الأهرام رأت أن كلمة القضاء "فى شيخ كبير ورجل وجيه ومأمور حرم رزقه وثمرة تعبه ألمت القلوب ومضت النفوس، وإن الحكم والسجن لا ينزلان من مكانة المنشاوى باشا عند قومه".. الديبا الفرنسية كتبت تعلق على الحكم بأنه "لو لم يكن منشاوى باشا صديق الخديوى لما علق الإنكليز على هذه الحادثة مثل هذه الأهمية وكم من حادث مثله يجرى في هذه البلاد ولا يتحرك لأجله ساكن ولا يثور الاحتلال هذا الثوران"!

في تلك الظروف، وفيما يشبه المظاهرة، سافر منشاوى باشا بالقطار إلى العاصمة للنظر في الاستئناف المقدم من النيابة، وقد ركب على متن القطار نحو ستين شخصيًا من أعيان الغربية، وكان الجمهور عظيمًا عند محطة طنطا حتى خيل لمكاتب الأهرام فيها أنه في أحد أيام المولد!.

في اليوم التالى انعقدت المحكمة على النحو الذى وصفناه في مستهل هذه الحلقة، وقد حفلت بأسباب الإثارة بحكم الاهتمام الواسع الذى حظيت به من جمهور القاهريين، وبحكم ما لاحظه الحضور من عمد المحكمة لتحقير الرجل "فقد أوقف المنشاوى والمأمور في موقف المجرمين فاستولى على الجلسة تأثير شديد عظيم، خاصة وأن المحكمة نقلت المتهمين إلى ذلك المكان بعد أن كانوا في مكان آخر، فضلا أن الباشا كان قد تلكأ في الوقوف عندما سأله رئيس المحكمة فأمره بالوقوف فوقف"!

استغرق نظر القضية أمام الاستئناف ثلاثة أيام وانتهى بتأييد حكم المحكمة الابتدائية باستثناء على أفندى جلبى مأمور طنطا الذى تمت تبرئته وإن كان قد أحيل على مجلس تأديب في الداخلية.

لم يكن أمام منشاوى باشا إلا قضاء مدرة العقوبة إلى أن خرج من السجن يوم 27 يونيه "وكان بانتظاره جمهور كبير من عمد الغربية ومشايخها فركب معهم قاصدًا دار المحامى عنه وفى المساء ركب معهم قطار السكة الحديد إلى طنطا في صالون خاص وكان في استقباله على محطة طنطا جمهور كبير قابله أحسن مقابلة وعرض عليه بعض الوجهاء المركبات الفاخرة ليركبها إلى المدينة فأبى احترامًا للمستقبلين وسار بين جمع يبلغ عدده 500 نفس إلى منزل حضرة المحامى الفاضل عبد الكريم أفندى فهيم حيث استراح قليلا ثم استقل مركبتين إلى داره بالقرشية ومعه الكثيرون من الأخصاء والأصدقاء"!

وإذا كانت القضية قد انتهت بهذا بالنسبة للمنشاوى باشا فإنها استمرت محل لجاج في الدوائر السياسية بامتداد العام التالى إلى الحد الذى اضطر معه اللورد العتيد "كرومر" أن يكتب عنها تقريره لعام 1903 والذى كان لا يعرض فيه إلا للأمور الجسيمة.

فبعد أن استعرض التقرير القضية من وجهة نظر بريطانية خلص إلى القول "أن الأحكام التي صدرت في هذه القضية كانت على غاية من العدالة" الأمر الذى أثار عاصفة من الاحتجاجات.

عبرت الأهرام عن ذلك بقولها "لقد وضح من كلام اللورد أنه مع ما أوتى من الذكاء والتمييز بين الحق والباطل عجز في هذا المقام أن يخلص نفسه تمامًا مما أجمعت عليه الأفكار والآراء، وعندنا أن الإمساك عن الكلام خير من المحاباة في هذه المسألة التي أصبح رأى اللورد كرومر ورأى الجمهور فيها على طرفى النقيض".

وليس من شك أن تعرض التقرير البريطاني الشهير لهذه القضية قد أدخل ثور الخديوى من باب التاريخ بدلا من باب المجزر!.


صورة من المقال: