ads

Bookmark and Share

الخميس، 29 أبريل 2021

151 حمارة منيتى

حمارة منيتى

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 17 أكتوبر 1996م - 4 جمادى الآخرة 1417هـ


في 3 مارس عام 1902 نشرت جريدة صغيرة اسمها "حمارة منيتى" يملكها صحفى اسمه محمد أفندى توفيق، وأخرى اسمها البابا غللو، يملكها صحفى اسمه عبد المجيد كامل صورة لمفتى الديار المصرية، الشيخ محمد عبده، وهو في لباس الرقص مع سيدة أوربية، مقرونة بقصيدة هجاء حادة للرجل.

وقد جاءت الصورة في سياق حملة شنها خصوم الشيخ عليه لبعض آرائه خاصة ما جاء فيما عرف بالفتوى الترنسفالية والتي أباح فيها الرجل لبعض الأفراد في الترنسفال "بلبس البرانيط لقضاء حوائجهم".

ولما ثبت أن الصورة مصطنعة وقفت الدنيا ولم تقعد، ولم يقتصر الأمر على الحمارة أو صاحبها بل تعداه إلى قضية حرية الصحافة..

الأهرام كان لها موقفها من قضية "حمارة منيتى" وكانت في صف استهجان عمل الصحيفة، وإن لم تساير المطالبين بإعادة العمل بقانون المطبوعات الذى كان قد توقف العمل به قبل ثماني سنوات.. منذ عام 1894 على وجه التحديد، نبدأ القصة من أولها..

أول الأخبار عن القضية قدمتها الأهرام على لسان سكان الدرب الأحمر في عددها الصادر يوم 7 مارس في خطاب مفاده أنهم "رفعوا عريضة إلى النيابة العمومية يوجهون فيها أنظارها إلى قصيدة نشرتها جريدة حمارة منيتى وأومأت فيها إلى حضرة العلامة المفضال الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية"، وأن النيابة استدعت صحاب الجريدة وسألته عما نشر في صحيفته وأن المفتى وجه أنظار النيابة إلى الأمر.

الشاعر الذائع الصيت حافظ إبراهيم، على حد توصيف الأهرام، بعث لجريدتنا بقصيدة طويلة يرد على قصيدة حمارة منيتى جاء في مطلعها"

إن صوروك فإنما قد صوروا * تاج الفخار وطلع الأنوار

أو نقصوك فإنما قد نقصوا * دين النبى محمد المختار

سخروا من الفضل الذى أوتيته * والله يسخر منهم في النار

الأديب الشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى، على حد توصيف الأهرام أيضًا، لم يكن ليدع الفرصة تفوته فوضع بدوره قصيده طويلة جاء في مطلعها:

حسدوا مجدك الرفيع وظنوا * أنهم قد رأوا إليك سبيلا

فافتروا ما افتروا وراموا دليلا * فأقاموا من الخيال دليلا

لك رسم في حبة القلب يحكى * شرفًا باذخًا ومجدًا أثيلا

بعدئذ وصلت الصحيفة رسالة وقعها ثلاثون شخصًا من أعيان القاهرة فحواه أن الطعن على مثل مفتى الديار المصرية هو استهزاء واحتقار من جهة ومن جهة أخرى أن الكاتب "أورد آيات قرآنية في غير موضعها المناسب وفى ذلك مس بالديانة".

وصل رد الفعل إلى قاعة الجمعية العمومية حين تقدم أحد أعضائها أمين بك الشمسى، في جلسة 16 من مارس باقتراح جاء فيه "إننا نرى أسافل الناس يقدمون على إنشاء الجرائد وقد ملأوا الدنيا سفاهة وتعديًا على الأعراض.. فأقترح على الجمعية أن تطلب من الحكومة سن قانون عمومى للمطبوعات يقى الناس من هذه الفوضى أو أنها تقرر معاقبة من يخرج عن حده".

ومع أن الأهرام أعربت عن سرورها من مثل "هذا التظاهر المرموق لأنه دليل على شعور الأمة وغيرتها على كرامة كبارها وعلمائها" فإنها أعربت عن أملها "أن ينتهى الأمر عند هذا الحد وأن يصفح فضيلة المفتى عما كان وأن يقلع صاحب الجريدة عن تلك الخطة فإن ذلك كله خير من المحاكمة وسواها"، خاصة وأن الصحيفة هزلية لا يؤخذ كلامها في العادة مأخذ الجد.

ونظن أن الأهرام كانت مدفوعة في ذلك بالأصوات التي أخذت تتعالى مطالبة بتقييد حرية الصحافة، والتي وصلت إلى المجلس النيابى الكبير.. الجمعية العمومية. 

غير أن أمل جريدتنا لم يتحقق وسارت النيابة قدمًا في إجراءاتها وقد صاحب "حمارة منيتى" إلى المحكمة أمام محكمة الموسكى الجزئية يوم 17 مارس، "وكان الزحام في المحكمة شديدًا وطلبت النيابة القبض على المتهم وسجنه إلى أن تتم محاكمته مخافة أن يفر فأجاب المتهم أنى لست من الذين يفرون فردت المحكمة طلب النيابة وأجلت القضية إلى أسبوعين".

وفى تلك الأثناء سار محمد أفندى توفيق في طريقه لا يلوى على شيء فهاجم بعنف الشيخ على يوسف صاحب المؤيد، بنفس القدر الذى هاجم به الشاعر حافظ إبراهيم، مما دفع الرجيل إلى رفع قضايا على صاحب حمارة منيتى، الأمر الذى دعا الأهرام إلى مناشدتها التخلي عن نيتها في ذلك "وكفى الرجل الموقف الحالي".

وقد استجاب الرجلان للأهرام، من قبيل المروءة، كما صرح شاعر النيل غير أن محاكمته انتهت بإصدار الحكم عليه في أول أبريل "بالسجن البسيط 3 شهور"، بعده بأربعة أيام صدر الحكم ضد صاحب البابا غللو بالحبس البسيط لمدة ستة شهور، وأغلقت أبواب السجون على الرجلين وفتحت في نفس الوقت أبواب قضية حرية الصحافة، وكانت مفتوحة من قبل ولكن ليس على مصراعيها كما حدث بعد واقعة "حمارة منيتى"!

***

(من قبل) كانت قضية الصحف الصغيرة التي استغلت جو الحرية بعد إبطال العمل بقانون المطبوعات قد انتشرت انتشارًا واسعًا، ولم يكن أغلبها على مستوى المهمة التي أوكلت لنفسها القيام بها.. مهمة تربية الرأي العام، فقد تشكل ملاكها من خليط غريب من البشر رأى بعضهم في الصحافة حرفة قبل أن تكون رسالة، ورأى بعضهم الآخر أنها وسيلة للتجارة يتكسبون من ورائها، ورأى بعضهم الثالث أنها طريقة للابتزاز سواء من الأفراد أو من الجماعات، وبينما أطلق البعض على هذا النوع من الصحافة توصيف الصفراء، فإن الأهرام اختارت اسمًا آخر.. الصحف المارقة!

عرفت نفس الفترة حالة استقطاب حادة بين المعسكرات المتصارعة في حلبة السياسة المصرية، الاحتلال يمثله قصر الدوبارة وتنتصر له صحيفة المقطم، الدولة العلية وقد انتصرت لها بقية الصحف وإن حدث ذلك بدرجات متفاوتة.. المؤيد فالأهرام، قصر عابدين في عهد عباس الثانى الذى دأبت المقطم على الهجوم عليه لمزًا وغمزًا مرة وصراحة مرة أخرى بينما وقعت في صفه الصحيفتان الأخريان، النفوذ الفرنسي الذى اتخذت الأهرام موقف المؤيد له على طول الخط، وهو ما فعلته اللواء خلال السنوات الخمس الأولى من عمرها.

ومع هذا الاستقطاب الذى حدد موقع الصحف الكبرى كانت هناك الصحف الصغرى التي استمرت تتأرجح بين سائر المعسكرات تبعًا لما تتمكن من تحقيقه من مصالح من أي منها.

ولعل هذه القصة التي روتها الأهرام عن أحد أصحاب تلك الصحف المارقة تقدم صورة لدرجة هذا التأرجح.. قالت:

"قال صاحب جريدة في مصر لصديق له لم يسعنى أمام النهضة المصرية العباسية إلا تغيير خطتى فذممت الإنكليز وجرائدهم لغايتين الأولى حتى لا أصاب بنفور أبناء البلاد والثانية لعلمى أن الإنكليز يخافون الذم من لسان مسلم فيزيدون راتبى وهكذا كان فإن البارون المحترم أرغى وأزبد لتغيير سياستى وأخذ يذكرنى بالمبالغ السرية التي نقدنى إياها.. فقاطعة صاحب الجريدة أن ذلك من مال أخى الفلاح المسكين قال أنا أعدك بدراهم إنكليزية من خزانة إنكلترا ونقده صرة رنانة فشكره المحرر"!

دعا ذلك جريدتنا إلى المطالبة "بإلغاء المبالغ السرية وذلك بأن تقضى اللجنة المالية بسد هذا الباب من المصاريف"!

وبينما تمت رشوة الصحف الصغيرة من جانب سلطات الاحتلال بهذا الشكل المباشر فإن الصحف الكبيرة التي دعمته، في طليعتها صحيفة المقطم حصلت على العون بشكل غير مباشر، وهو العون الذى تعددت أشكاله..

إيثار الصحيفة بالأخبار وحجبها على غيرها من الصحف قدم شكلا أول من أشكال هذا المدد.. وهو ما واجهته تلك الصحف بالشكوى أحيانًا وبالتحايل للحصول على ما حرمت منه من أخبار أحيانًا أخرى..

كانت أصوات الشكوى ترتفع عندما تلم بالبلاد أحداث كبرى يتشوق القراء إلى متابعتها، فيما جرى في الفترة بين عامي 1896 و1898، وهى الفترة التي عرفت عمليات الجيش المصرى لاستعادة السودان، فقد كانت تحصل المقطم على الأخبار دون الصحف الأخرى.

في تعليق لاذع جاء في عدد الأهرام الصادر يوم 4 فبراير عام 1897 تنتقد الصحيفة الحكومة لأنها "اختارت الجرائد التي لم ينس أحد شدة مطاعنها على سمو الأمير حتى أن بعضها كانت تقول عن سموه أنه ليس إلا كأحد الباشوات لا شأن له ولا حول.. وبعضها ومنها المقطم أشهر من أن نعيد كلمة من أقوالها" اختارتها لتؤثرها بأخبارها.

***

وفى تعليق ساخر آخر تطلب الأهرام من قرائها أن يكتفوا بالتفكه لها في ساعات طلبهم للهضم والتماسهم لتنزيه الخواطر طالما بقيت الحكومة على سياستها في حجب أخبار الحملة على السودان عنها!

غير أنه إلى جانب الشكوى كان هناك التحايل ولعل القضية الشهيرة التي حوكمت بسببها المؤيد بسبب حصولها على تلغراف سرى مرسل من السردار إلى ناظر الحربية تقدم نموذجًا على ذلك (الحلقة 108 تحت عنوان محاكمة عامل التلغراف).

* إرغام الهيئات الحكومية فضلا عن وجهاء الأقاليم وكبار الموظفين على الاشتراك في الصحف الموالية وفى طليعتها المقطم، ولما كانت الاشتراكات بمثابة الواسطة الأساسية في توزيع الصحف في ذلك العصر فقد كان من الطبيعى أن تعبر الصحف الأخرى عن تبرمها من هذا النهج وترحب بأية سياسات تغايره.. كان منها ما قرره عباس في بدايات عهده "بألا يتدخل الموظفين بأمر الجرائد ولا سيما إجبار الأهلين على الاشتراك بها".

وتعلق الأهرام على ذلك بأن الموظفون تهللوا بهذه الأوامر "لأنهم تخلصوا أولا من أثقال أوفر من وظائفهم وثانيًا من خدمة مطبوعات أقل أضرارها خيانة الوطن وأميره" وتحثهم في موقع آخر على عدم الانصياع لتخويفات سماسرة السوء وأن ينبذوا المقطم "نبذ النواة قصاصًا لها وإنذارًا لكل جريدة تخون مصركم ووطنكم وأميركم وسلطانكم والسلام"!

* حرمان الصحف التي تنهج أسلوبًا معاديًا للاحتلال من بعض أسواقها فيما حدث من منع المؤيد والأهرام من الدخول إلى السودان بعد استعادته وانضمت إليهما اللواء بعد صدورها بينما فتحت تلك البلاد للمقطم، ولم يكن الهدف من السعي لدخول هذا السوق القارئ السودانى الذى لم تكن عادة قراءة الصحف قد تمكنت منه بعد بل كان تلك الأعداد الكبيرة من العسكريين والموظفين المدنيين من المصريين الذين خدموا في ربوع تلك البلاد ممن شكلت قراءة الصحيفة جزءًا من حياتهم اليومية. وقد سعت الأهرام بكل الوسائل لإبطال هذا المنع ويرى لنا بشارة تقلا في عدد الصحيفة الصادر يوم 29 أبريل عام 1901 تفاصيل المحاولة الأهرامية في الشأن وكيف أنه قابل السردار وسأله السماح للصحيفة بدخول السودان "فقال إن ذلك غير ممكن الآن فسألته لماذا وأخبار الجرائد واحدة تقريبًا قال إن هناك أمرًا أهم وهو لهجة الجريدة وعليه فلا نسمح للأهرام لأنه هو هو كما كان ولكنا نسمح بالدخول لكل جريدة غيرت لهجتها أجبته أنا طلبى الترخيص للأهرام فلا نقصد منه الفائدة الخصوصية ولكن المساواة في العادلة وإنى لا أقصد من السماح للأهرام ضياع حقوقه من الاستقلال في المباحث السياسية والإدارية والمالية"!

وفى هذا الجو من الاستقطاب كانت الصحف الصغيرة تمرق من معسكر إلى آخر بحثًا عن مصالحها التي قدمت أزمة "حمارة منيتى" صورة لها، غير أن هذا المروق لم يكن دائمًا في الاتجاه الخطأ..

من أشهر القضايا التي عرفتها المحاكم المصرية في الاتجاه الصحيح الطعن الذى وجهته صحيفتا المنير والوقت للملكة فيكتوريا خاصة بعد أن رسمتها الأخيرة في صورة هزلية، وحين قدما صاحبا الصحيفتين للمحاكمة لقيا عطفًا بالغًا من المصريين الذين جمعوا الأموال لمساعدتهما، وإن لم ينقذهما ذلك من حكم ثقيل "قابله الجمهور بعلامات الاستهجان لشدة صرامته" غير أن المروق في العادة كان في الاتجاه الخطأ مما خلف ردود فعل واسعة.

في واحد من تلك الردود تنشر الأهرام ما أرسلته إليها أحد أصحاب تلك الصحف بأن ما يكتبه مدحًا في رياض باشا ونما في الأهرام ليس القصد منه "إلا تحصيل بعض دريهمات منه لأنه يكافئ جميع الجرائد التي تذمكم". وتحذر الأهرام في مناسبة أخرى من لهجة تلك الصحف خاصة قولها "المنافقين والمضللين والمدلسين وغير ذلك من الألقاب السفيهة، وفى مناسبة ثالثة تأخذ على بعض الصحف الأوربية الصادرة في طليعتها الإجيبشيان جازيت اكتراثها ببعض الصحف العربية الصغيرة الحديثة النشأة وتهتم بأقوالها أكثر مما تستحق فإن العقلاء من المصريين وغيرهم من قراء الجرائد العربية مجمعون على استهجان خطة الطعن الشنعاء ولا سيما متى كان الطعن موجهًا إلى من تجل أشخاصهم عن كل وقيعة"!

***

(من بعد) أدت أزمة "حمارة منيتى" إلى وضع كل أوراق الصحافة المصرية على المائدة، فقد أسفر كل عن موقفه..

الصحف المارقة ازدادت حدتها التي تعددت أسماؤها وكان أكثرها مروقًا صحيفة الفونوغراف "لصاحبها متولى أفندى عزمى"، وصحيفة الخلاعة لصاحبيها الأفندية حسن راغب وأحمد عباس والتي يشى اسمها بفحواها!

الفونوجراف كان لها قضية مع أحد الوجهاء لم تفصح الأهرام عن اسمه انتهت بأن أصدرت محكمة شبرا في أول فبراير عام 1904 حكم على متولى أفندى عزمى بالحبس ستة شهور وبغرامة 1200 قرش، وكانت قضية تشهير وابتزاز مما يمكن تبينه من بين سطور الخبر.

الخلاعة قضيتها التي والتها الأهرام في أعداد متتالية كانت أكثر وضوحًا.. القضية نظرت في محكمة السيدة زينب في 20 فبراير عام 1904 التهمة: التطاول على أعراض بعض أفراد أسرة الدرمللى، الشاهد: جميل أفندى فهمى الذى جاءت شهادته أن صاحبى الجريدة وسطاه لدى الدرمللى ليأخذ منه نقودًا ليكفا عن التطاول، التحقيق، انتهى بالأمر بسجن صاحبى الجريدة.

ولك تكون الفونوغراف والخلاعة وحدهما في الميدان، بل تعددت القضايا الشبيهة وكان من أهمها القضية التي رفعها الزعيم المصرى أحمد عرابى بعد عودته من المنفى والذى وصفته الأهرام بأنه "الذى كان باشا".. رفعها على صاحب الأفكار، بحجة أنه قذف فى عرضه فبرأته محكمة عابدين، ومن سياق الخبر بدا أن الأهرام تعاطفت مع المارق ولم تبد أي حماس للضحية، ويبدو أنها لم تكن نسيت بعد ما أصابها على أيدى العرابيين قبل أكثر من عشرين عامًا!

وقد أدى تعدد القضايا على هذا النحو ودخول العديد من الصحفيين المحابس إلى طرح قضيتين.. أولاهما خاصة بإنشاء اتحاد للصحفيين يحميهم من الآخرين ويحميهم من أنفسهم، ثانيهما متعلقة بالحرية التي تمتع بها الصحفيون المصريون خلال العقد السابق، فقد تعالت بعض الأصوات بوضع بعض الضوابط!

القضية الأول ظلت تتردد على صفحات الأهرام ولكن بشكل متقطع في أواخر عام 1895 وجهت الأهرام الدعوة لإنشاء "نقابة للجرائد" وأنها "إذا خدمت الجرائد 10 في المئة خدمت القراء التسعين وعرفت أولى الأمر الاحترام الواجب لمطالب الرأي العام بلسان الجرائد".

ومع أن الأهرام أعربت عن خيبة أملها بعد أيام قليلة لأنه لم يجب "حضرات أصحاب الجرائد دعوتنا عل أننا لا نيأس من الوصول إلى هذه النتيجة إلى المستقبل، وهو ما ظل يتكرر من جانب صحيفتنا إبان السنوات التالية.

وكانت الصحف المارقة وراء مطالبة البعض بإعادة النظر في حرية الصحافة، ومن الغريب أن المسألة بدأت من بعض الصحف الإنجليزية، وعلى وجه التحديد التايمز التي تكلمت عن وجوب "سلب الجرائد الوطنية المصرية حقوقها لأنها على ما زعمت منبع أخطار على الأمن"، ولم تكسب الأهرام عن هذه الإشارة وخصصت جملة مقالات للحديث عن حرية الصحافة.

كشفت في إحداها عن سر تقدم بريطانيا العظمى وهو "الأدوار المهمة التي أتتها وتأتيها الجرائد في أعمال هذه الأمة مما يتيح لنا أن نقول بأن حرية المطبوعات قد ساعدت على نجاح هذه البلاد" وتحدد في مقال آخر مفهوم الانتقاد وتعيب على إنهاء لفظة "لم يعهدها الشرق إلا ممزوجة بمداد الطعن والقدح ولم يعلموا أنها الإصلاح في صورة التنبيه والمودة في صورة النصح".

ولما وجدت الأهرام أن بعض أصحاب الأقلام في مصر يحبذون وضع قانون جديد للصحافة، يزيد الأقلام تكبيلا وتقييدًا "سألتهم أن يدلوها على وسيلة، تحبس ألسنة السفهاء وأقلام المتطفلين بدون أن تمس الحرية التي نتمتع بها" وإن وافقت على الرأي الذى أدلى به بعض الكتاب "برذل كل كاتب عرف بالسفاهة والبذاءة وقصر قلمه عل هدم الأعراض المصونة والتطاول على المقام العالى".

ويبدو أن طرح القضية بإلحاح بعد أزمة "حمارة منيتى" وما تبعها من قضية الخلاعة جعلها في بؤرة اهتمام أطراف عديدة على رأسها دار المعتمد البريطاني التي خصصت في التقارير السنوية قسمًا عن حرية الصحافة..

شغلت القضية مساحة واسعة من تقرير عام 1904 تضمنت جدولا بأهم الصحفيين الذين صدرت ضدهم أحكام خلال العام السابق، بيومى إبراهيم صاحب التمثيل، محمد عباس صاحب الخلاعة، عبد المجيد حلمى صاحب البابا غللو، حسين توفيق صاحب الأرنب، محمد توفيق صاحب الحمارة وأخيرًا أحمد متولى عزمى صاحب الفونوغراف.

وخلص كرومر من ذلك إلى القول بانتشار عمليات الابتزاز التي اتخذت من نشر الطعون في الأشخاص وسيلة للحصول على المال منهم، وأن ذلك قد شاع بين ملاك بعض الصحف الأهلية من الطبقات الدنيا، وأن من يتكسبون معاشهم بهذه الطريقة إنما يشكلون وباء اجتماعيًا.

ومع أن المعتمد البريطاني الشهير ضمن تقريره هذا قوله إنه "مهما كان من قصور الجرائد المحلية فإن لبعضها يدًا في تعليم الأمة" غير أن ما جاء من انتقادات عميقة كان ينبئ عن الاتجاه لتقييد حرية الصحافة، وهو ما بدا يحدث في ذات العام.. عام 1904.


صورة من المقال: