ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 27 أبريل 2021

149 سماحة قاضى مصر

سماحة قاضى مصر

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 3 أكتوبر 1996م - 20 جمادى الأولى 1417هـ


قاضى عسكر، قاضى القضاة، قاضى مصر.. ألقاب تمتع بها القاضي التركى الذى كانت ترسله حكومة استنبول لنحو أربعة قرون، بين أوائل القرن السادس عشر وأوائل القرن العشرين، وكان شخصية في غاية الأهمية، وإن لم تحظ بالأضواء الكاشفة، وهى الأضواء التي تركزت عليه خلال السنوات بين عامي 1899 و1901، فيما تابعته الأهرام باهتمام شديد.

مصدر أهمية صاحب هذا المنصب أنه ظل بامتداد تلك الفترة الطويلة الشخصية التالية لباشا مصر، فقد كان يقوم مقامه في حالة غيابه، وكان يصدر بتعيينه فرمان شأنه شأن الباشا، حافلا بأسباب التفخيم.. "أقصى قضاة المسلمين، أول ولاة الموحدين، معدن الفضل واليقين، ورافع أعلام الشريعة والدين، وارث علوم الأنبياء والمرسلين، وكان يستقبل بشتى ألوان التعظيم، فقد كان يأتي في ركاب عظيم ويوصف بأنه يأتي في ركاب عظيم ويوصف بأنه "المولى الأعظم والنحرير الفخم شيخ مشايخ الإسلام، ملك علما الأعلام، قاموس البلاغة ونبراس الأفهام 

بيد أن التطورات التي عرفها القرن التاسع عشر قد خلفت بصماتها على "النحرير الأفخم"، فيما يمكن رصده في ثلاثة منها:

(1) ما أصاب العلاقات المصرية - العثمانية من تحولات جذرية بسبب نشأة الدولة الحديثة، ونجاح حكامها في الحصول على كثير من أسباب الاستقلال عن حكومة الأستانة، هذا من جانب، ثم سعيهم إلى إقامة الدولة المركزية التي لا يسمح المسئولون فيها بمشاركة غريبة، كان منها صاحب هذا المنصب الذى يعينه السلطان، من جانب آخر.

ولما كان كل من محمد على وإسماعيل أكثر من جسدوا هذا التطور، فقد كان من الطبيعى أن يتعرض المنصب لأشد التأثيرات في عصرهما..

يروى الشيخ عبد الرحمن الجبرتى المؤرخ المصرى المشهور في بعض يومياته كيف طالت يد محمد على صاحب هذا المنصب.. يقول: "في يوم.. حصلت جمعية ببيت البكرى وحضر المشايخ وخلافهم وذلك بأمر باطنى في صاحب الدولة وتذاكروا ما يفعله قاضى العسكر من الجور والطمع في أخذ أموال الناس والمحاصيل.. وسجل هذا الاجتماع ما كان القاضي يقدم عليه، وذيل بالتماس للوالى بطلب التدخل بما يراه".

ونجح محمد على من خلال التلويح بالتماس إلى جعل "رافع أعلام الشريعة والدين، طوع بنانه، فيما أكدته تطورات علاقاته مع الأستانة، فمرة يعين ابن أحد القضاة بعد أن انتهت مدته، ومرة أخرى يرفض إنهاء مدة قاض آخر.. وهكذا..

التطور الآخر شهده عصر إسماعيل والذى اعتمد أسلوبًا آخر في التعامل مع الباب العالى.. تقديم المال في مقابل تنازل الدولة العلية عن بعض مظاهر سيادتها، فقد تم الاتفاق على أن تحصل الأستانة على ما قيمته 250ليرة عثمانية شهريًا من الخزينة المصرية في مقابل أن يبقى القاضي التركى بها ولا يأتي إلى مصر على أن يُعين إسماعيل نائبًا له، ويصدر بتعيينه فرمان سلطانى، وهو الاتفاق الذى استمر معمولا به حتى وقوع الاحتلال البريطاني، بما كان يعنى ببساطة تجميد صلاحية الباب العالى في تعيين سماحة قاضى مصر.

سجلت الأهرام قصة هذا التطور في إحدى مقالاتها بقولها: "كان تعيين القضاة من الأستانة ثم تقرر دفع مبلغ معلوم لأجل أن تكون تولية قضاة المديريات والمحافظات بمعرفة الحكومة المصرية ولم يبق للأستانة إلا تعيين قاض لمدينة مصر فقط إلى أن تعين المرحوم الشيخ عبد الرحمن أفندى نافذ فبطل الإرسال وتكلفت الحكومة أن تدفع مبلغًا لمن يعين قاضيًا سنويًا ويبقى بالأستانة"!

(2) تطور آخر ترتب على علميات الإصلاح القضائى التي عرفتها مصر خلال سبعينيات القرن نتيجة للمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي شهدتها، من ناحية، ونتيجة لفوضى المحاكم القنصلية التي خلقت نظام الامتيازات من ناحية أخرى، وهى العملية التي ترتب عليها ظهور نوعين جديدين من المحاكم.. المختلطة التي أحيل إليها القضايا التي يكون طرفاها، أو أحدهما من الأجانب، والأهلية التي يمثل أمامها المصريون.

نتج عن ذلك انحسار ظاهرة في اختصاصات المحاكم التي كانت قائمة من قبل.. المحاكم الشرعية، وانحصرت اختصاصاتها في الأمور الشخصية بعد أن كانت من قبل تمتد لشتى مناحى التقاضى، كما نتج عنه قيام نظارة خاصة بالقضاء، هي نظارة الحقانية، التي شملت اختصاصاتها المحاكم الشرعية، أو على الأقل تعيين القضاة الشرعيين.

تم كل ذلك على حساب "سماحة قاضى مصر" الذى تحول مع مرور الوقت إلى شخصية دينية أكثر منه شخصية قضائية، وهو الأمر الذى بدا بشكل جلى خلال أزمة 1899.

(3) بعد الاحتلال البريطاني، وكما امتدت أيدى رجاله إلى سائر الإدارات المصرية، فقد امتدت أيضًا إلى شئون القضاء، ونشأ منصب مستشار نظارة الحقانية، المستر جون سكوت، شأن سائر النظارات المصرية، الأمر جعل في يديه التخطيط لشئون القضاء.

والملاحظ أن السياسات البريطانية في مصر قد عمدت طوال الوقت على تجنب التدخل في الأمور الدينية، الأوقاف، الأزهر، المحاكم الشرعية، بيد أنها بالنسبة لهذه الأخيرة لم تجد مانعًا من التدخل لحساب القضاء المدنى، الأهلى، وعلى حساب القضاء الدينى، وهو التدخل الذى أثبت حكمة السياسة التي اتبعها المحتلون من قبل، فقد تكسر على نصال الرفض العام، والذى انبعث من مشاعر دينية، وربما من المرات القليلة التي احترقت فيها أصابع الإنجليز كانت المرة التي حدث فيها ذلك التدخل، والذى لبس رداء "إصلاح المحاكم الشرعية"، وكان له قصة نتابعها مع الأهرام..

بامتداد تسعينات القرن الماضى كانت فكرة إصلاح الماكم الشرعية تتردد على صفحات الجرائد، ومن بينها الأهرام طبعًا، وقد طرحت مشروعات عديدة لهذا الإصلاح كان من أهمها المشروع الذى نشرته الصحيفة في أواخر عام 1893 والذى دار حول ثلاثة محاور: "حسن انتقاء القضاء الشرعيين لكى لا يكون بينهم العالم غير الموثوق في ذمته والجاهل غير الموثوق بعلمه"، واستدلت الصحيفة على أهمية هذا المطلب بما يحدث من تضارب الأحكام في قضايا متشابهة.

المحور الثانى يقوم على مساواة مرتبات قضاة تلك المحاكم بقضاة المحاكم الأهلية الأمر الذى "تعف معه نفوسهم ولا يتطاولون اضطرارًا إلى تناول ما تصل إليه أيديهم"!

الثالث: تنفيذ أحكما تلك المحاكم بالوسائل القانونية التي تنفذ بها أحكام المحاكم الأهلية، فضلا عن تشديد العقوبة على شهود الزور الجاهزين للشهادة أمام هذه المحاكم..

أواخر عام 1897 شهد إعداد مشروع قانون لإصلاح المحاكم الشرعية تطلب أكثر من عام للانتهاء منه واستقبله المصريون بشكوك واسعة..

كان أهم ما أثار تلك الشكوك ما ابتدعته المشروع الجديد من تشكيل ما أسماه بالمحكمة العليا بمصر "من خمسة وهم قاضى مصر بصفته رئيس ومفتى الديار المصرية ومفتى الحقانية وعضوان يعينان بأمر منا بناء على طلب ناظر الحقانية"، وحول هذين العضوين الأخيرين تركز الجانب الأول من الشكوك.

الجانب الثانى صدر عما جاء في المادة العاشرة من نفس المشروع بأن "انتخاب قاضى مصر يكون منوطًا بنا وتعيينه يكون حسب القواعد المرعية، وانتخاب وتعيين مفتى الديار المصرية يكون منوطًا بنا وبأمر منا بالطرق المتبعة".

لم ينظر المصريون إلى هذه التغييرات باعتبارها سبيل الإصلاح الذى طالبوا به بالنسبة للمحاكم الشرعية وإنما ارتأوها في جانب تطاولا على السلطة الدينية لسلطان العثمانيين وخليفة المسلمين، كما أنهم استشعروا من ورائها رغبة انجليزية محمولة للتدخل في شئون المحاكم الشرعية..

وبينما كان مقبولا تجميد منصب قاضى مصر فيما نجح فيه إسماعيل، فلم يكن مقبولا إنهاء حق الباب العالى بما له من سلطة دينية في تعيين قاضى مصر، خاصة وأن مياهًا كثيرة كانت قد جرت في نهر المشاعر الدينية خلال تلك السنوات القصيرة.

كان أهم تلك المياه ما ترتب على الحرب الروسية - التركية وما تبعها عام 1878 من انعقاد مؤتمر برلين الذى بدأت به الدول الكبرى في تقسيم الكعكة العثمانية، الأمر الذى دعا السلطان عبد الحميد الثانى إلى اتباع السياسة التي عرفت "بالجامعة الإسلامية" والتي سعى من خلالها إلى تجميع المسلمين وراء سلطته الدينية، وهى السياسة التي لقيت نجاحًا كبيرًا في سائر البلاد الإسلامية ومن بينها مصر.

كان من بينها أيضًا ما كان قد جرى في منصب مستشار نظارة الحقانية حين رحل السير جون سكوت وخلفه المستر ماكلريث الذى صدر المشروع الجديد بإيعاز منه، ونترك للأهرام  وصف أثر هذا التغيير.. قالت:

"كان السير جون سكوت قليل الرأفة بالمحاكم المذكورة يمنع وصول أي مدد إليها ولا يعينها على إصلاح ولكنه مع ذلك كان يكره بطبعه التهجم ويكتفى بإعداد معدات الدمار، فلما خلفه المستر ماكلريث وهو شاب ماضى العزيمة شديد العارضة سعى إلى أن يضع المحاكم كلها بين يديه من صغيرتها إلى كبيرتها يسيرها كيف شاء ثم يعدلها كيف شاء إلى أن يأتي وقت مزجها بالحاكم الأهلية فتضيع فيها كما تضيع مياه النهر في البحر"!

ومنذ بداية الأزمة وكانت الأهرام متنبهة إلى خطورة الخوض في المسائل الدينية للمسلمين من غيرهم فيما جاء في إحدى نصائحها بعدم المساس بالمحاكم الشرعية "وذلك لأنها دينية محضة ولأن إصلاحها وهو واجب ينبغي أن يناط بالمسلمين وحدهم دون سواهم.. وأن أن يمد الإنكليز يدهم إلى هذه المحاكم الدينية فلا. أو أن يوعزوا بأفكار لهم مخصوصة تبنى عليها مشروع الإصلاح المطلوب فلا وألف لا"!

ولم يمض وقت طويل إلا وتحققت مخاوف صحيفتنا، فقد فوجئ المسئولون في عابدين والدوبارة ونظارة الحقانية بصدور فتوى عن قاضى مصر والشيخ حسونة النواوى، شيخ الأزهر باعتباره مفتيًا للديار المصرية في نفس الوقت، ترفض المشروع المقدم من النظارة إلى مجلس شورى القوانين، "وقامت الحكومة وقعدت وقد اجتمع مجلس النظار وتباحث في هذا الشأن ولا نظنه يخالف مقتضى الفتوى ويتعرض لمسألة تمس العواطف الدينية في حين أن المحتلين أعلنوا مرارًا أنهم يحترمون تلك العواطف"، غير أن ظن الأهرام لم يكن في محله، فقد سارت الحكومة قدمًا في خطتها وعرضت المشروع على مجلس الشورى، وتلقت الصدمة!

قبل اجتماع المجلس المرتقب في يوم الأربعاء 10 مايو عام 1899 أرسلت الحكومة إليه كتابًا ردت فيه على ما أفتى به قاضى مصر وشيخ الأزهر، فضلا عن ذلك فقد تقرر أن يذهب النظار بأنفسهم لحضور الجلسة "وهم يتوهمون أنهم بعملهم هذا يوقعون الرهبة في قلوب الأعضاء فتحملهم على العدول عن رأيهم إلى رأى تقتضيه السياسة البريطانية التي من أهم آلاتها رجال الحكومة المصرية"!

تحت عنوان "الجلسة العظيمة" ساقت الأهرام ما جرى في مجلس الشورى في اليوم المنتظر، حين تحدث ناظر الحقانية، تلاه ناظر الخارجية، بطرس باشا غالى، الذى ألقى خطبته في الدفاع عن المشروع بالفرنسية، مما كان محل تندر الأعضاء، ووصلت الجلسة إلى ذروتها عندما تحدث شيخ الأزهر وقال: "بصفتى عضوًا في مجلس شورى القوانين ومفتيًا للديار المصرية قد أفتيت وأفتى وأصرح بأن هذا المشروع مخالف للشرع الشريف ولا يجوز العمل به وأن انتداب قاضيين من الاستئناف يحكمان بمقتضى القوانين الوضعية التي تخالف الشرع أحيانًا لا يسوغ أن يتوليا القضاء الشرعى"، وتقول مضبطة الجلسة التي نقلتها الأهرام أن قاضى مصر قد وقف بعد ذلك ليقول "أنا موافق على هذا الاعتراض، ثم خرج شيخ الأزهر وقد اشتد تأثره وتلاه سماحة القاضي بالخروج فأشار سعادة الرئيس إلى بعض الأعضاء بإرجاعهما وبالغوا في استرضائهما حتى أعادوهما وتلت ذلك سكتة كنا على الرؤوس الطير".

أعلنت هزيمة الحكومة بعد أن وافق المجلس بالإجماع على اقتراح عضوين من أعضائه بوضع مشروع آخر لإصلاح المحاكم الشرعية وخرج النظار "بادية عليهم علامات التأثر وكان بعضهم عابسًا عبوسة سوداء" وكان مطلوبًا أن يدفع الشيخ والقاضى الثمن.

شيخ الأزهر لم يتأخر حسابه طويلا، فقبل أقل من شهر وفى يوم 3 يونيه عام 1899 على وجه التحديد "تقرر إقالة فضيلتو الشيخ حسونة النواوى من منصب افتاء الديار المصرية ومشيخة الأزهر"، في نفس الوقت تم فتح ملف سماحة السيد جمال الدين قاضى قضاة مصر.

***

أول ما عمدت إليه السلطات بالنسبة لصاحب السماحة التشكيك في كونه قاضيًا لمصر على النحو الذى كان عليه أصحاب هذا المنصب قبل عصر إسماعيل، ودفعت إلى الصحف بيانًا يفيد بذلك.

كان مما جاء في هذا البيان التذكرة بالطريقة التي تم بها تعيين جمال الدين أفندى في عهد الخديو توفيق، وأنه قد بعد وفاة بعد الرحمن افندى القاضي السابق الذى كانت قد عينته الحكومة المصرية، وبدون اتفاق بين حكومتى القاهرة والأستانة، مصحوبًا ببرقية من الصدر الأعظم مفادها أنه "عين لمأمورية أمور مصر الشرعية، ولما لم يكن هناك منصب بهذا المسمى فقد عينه الخديو قاضيًا لمصر المحروسة.

ترتيبًا على ذلك فند البينا كون جمال أفندى قاضى القضاة أو قاضى مصر متذرعًا بجملة من الحجج.. فرمانات توليه حاكم مصر التي تنص على أن "الخديوية المصرية ملزومة بإدارة أمور المملكة الملكية والمالية والعادلية" ومنها عدم صدور فرمان بتعيين القاضي كما جرت العادة من قبل واقتصر الأمر على مجرد برقية.

استدل البيان أيضًا على أن جمال الدين أفندى ليس قاضيًا للقضاة من حملة الممارسات التي سلم بها خلال السنوات السابقة.. قبوله بمشاركة قضاة عينهم الخديو في الفصل في الدعاوى بمقتضى نصوص لائحة المحاكم الشرعية، قبوله لتصرف الحكومة المصرية في القضاء الشرعى "بالتخصيص والتعميم والتقييد والإطلاق وقبول إعادة النظر في الأحكام".

خلص البيان من كل ذلك إلى القول: "يتضح بهذا عدم جواز أن يكون سند تعيين سماحته لقضاء مصر تلك الإشارة التلغرافية التي تصلح لوظيفة لا وجود لها.. ويتعين إذن أن يكون سند ولاية سماحة القاضي في وظيفة قضاء مصر التي عين فيها واستمر في تاديتها للآن قاصرًا على الأمر الكريم الصادر من الخديوية المصرية في أول أبريل سنة 1891".

وكان معنى ذلك ببساطة أنه كما عين الخديو حضرة صاحب السماحة بأمر كريم فإن من حقه أن يعزله بأمر آخر، حتى لو لم يكن كريمًا!

ولم يقبل الرأي العام المصرى وجهة نظر حضرات النظار بسهولة، فقد شاع الاعتقاد أن القضية هذه المرة مختلفة عنها في عصر إسماعيل، فقد كان تجميد هذه الوظيفة فيما تم في عصر الخديو الأشهر لحساب الاستقلال المصرى، باعتبار أن صاحبها ظل يمثل رمزًا من رموز سيادة حكومة الأستانة، أما هذه المرة فقد بدت في محاولة التخلص من الوظيفة كرصيد مضاف للسيطرة البريطانية على البلاد، وقد تفهمت الأهرام هذه الحقيقة الأمر الذى دعاها إلى اتخاذ موقف المعارضة من المساس بجمال الدين أفندى.

عبرت عن ذلك عدة مقالات أكدت في إحداها أن "سلطة القضاء منوطة بجلالة الخليفة وأنه لا يستطيع أحد أن يقول أن المرحوم توفيق باش جرى في هذه المسألة على خطة أبيه، وعليه فالذى قرره الأول من هذا القبيل نقضه الثانى بعدم جريه عليه".

حرص الأهرام، شأن سائر الصحف الوطنية، حضرة صاحب السماحة على ألا يتخلى عن منصبه، فيما كانت تروج له الصحف المشايعة للاحتلال على رأسها المقطم، وهللت لاستجابة الرجل بقولها "أن سماحة القاضي غير مستعد لأن يدع ذرة تضيع من حقه في منصبه ومن حقه في السلطة التي خوله إياها جلالة السلطان".

وانتهت الصحيفة إلى التحذير من الشرر الذى بدأت نذره في الجو "إذ لم تسر الحكومة في عملها على خطة المراعاة للعواطف الدينية والمقتضيات الشرعية"!

وبدت جدية التحذيرات من عزل القاضي بأمر خديوى من مضاعفات القضية.. فقد ترددت الأقوال عن السلطان سوف يعتبر مثل هذا العمل إهانة موجهة لسلطته، وأنه لن يتسامح تجاهه، فضلا عما تردد من أن القاضي في حالة عزله "سيفتح أبواب بيته للمتقاضين وعند ذلك فإما أن تصبر الحكومة على أمر جلل وإما أن تضطر إلى نفى القاضي ويومئذ تبلغ المسألة أشدها".

في يوم 2 يونية عام 1899 زفت الأهرام البشرى بأن النظار قد اجتمعوا برئاسة الخديو "وتقرر بقاء كل قديم على قدمه بأن يبقى سماحة القاضي جمال الدين أفندى متوليًا منسب القضاء في مصر وأن يصدر أمر عال بإيقاف الأمر السابق صدوره بتعيين مستشارين من محكم الاستئناف في المحكمة العليا الشرعية"، وأن هذا القرار قد تم اتخاذه بعد مشاورات مع اللورد كرومر، الأمر الذى دعا المصريين إلى النظر إليه باعتباره هزيمة كاملة للمحاولة الاحتلالية للتدخل في شأن دينى مصري، ولم يكونوا مغالين في ذلك.

وقد أدى احتراق الأصابع الاحتلالية في هذه القضية إلى عدم الاقتراب مرة أخرى منها، بالعكس استرد سماحة قاضى مصر كثيرًا من مكانته التي كان قد فقدها على عصر إسماعيل مما اتضح بعد نحو عامين..

ففي يوم 22 يناير دفن جمال الدين افندى الذى توفى اليوم السابق في احتفال لم يتكرر كثيرًا في تاريخ قاضى القضاة.. "خرج المشهد من منزله في شارع الدواوين تحيط بالنعش شرذمة من رجال البوليس شاهرة السيوف وتتقدمه الكفارة ويتلوه شيوخ المشايخ ودولة البرنس محمد على واللورد كرومر وحضرات النظار جميعهم"!

بعد ذلك بأكثر قليلا من شهر كانت السفينة التي تقل القاضي الجديد عبد الرحمن أفندى يحيى تتهادى داخلة ميناء الإسكندرية، فاستقبلت بما يليق من احتفالات ساقت الأهرام تفاصيلها يوم 25 فبراير عام 1901، فخرج في موكب حافل مارًا بالشوارع "التي ضاقت بأهلها"، ولم يكن أمام الحكام في القاهرة سوى الانتظار على مضض ولثلاثة عشر عامًا أخرى إلى أن أعلنت الحماية البريطانية على مصر وأسقط مع الإعلان بقية رموز السيادة العثمانية عليها بما فيها وجود صاحب السماحة!


صورة من المقال: