ads

Bookmark and Share

الاثنين، 26 أبريل 2021

146 إقلاع سلطانة البحار

إقلاع سلطانة البحار

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 12 سبتمبر 1996م - 28 ربيع الثانى 1417هـ


في يوم الثلاثاء 22 يناير عام 1901 أقلعت سلطانة البحار في رحلتها النهائية إلى العالم الآخر(!)، ولم تكون سوى فيكتوريا ملكة بريطانيا العظمة وإيرلندا وإمبراطورة الهند، وقد جرى هذا الإقلاع بما يليق مع التاريخ الذى صنعته السلطانة..

كانت أطول الملوك الإنجليز عمرًا في التاريخ الحديث (حكمت 64 سنة من 1837 إلى أن توفيت في مطلع القرن العشرين)، ويكفى تدليلا على طول عمرها أن مجموع عهود الملوك الأربعة الذين خلفوها لم يبلغ سوى 51 عامًا، وكانوا جميعًا من الرجال!

يقودنا ذلك إلى ملاحظة طريفة وهى أن ملكات بريطانيا في العصور الحديثة كن الأطول عمرًا.. إليزابيث الأولى التي حكمت 45 عامًا (1558 - 1603)، ثم ملكة بريطانيا الحالية إليزابيث الثانية زاد حكمها على 44 عامًا حتى هذه اللحظة، وتقود هذه اللحظة إلى أخرى وهى أن أولياء عهود تلك الملكات لا يصلون إلى العرش إلا بعد أن يبلغوا من العمر أرذله، إدوارد السابع خليفة فيكتوريا اعتلى سدة الحكم بعد أن بلغ الستين، ويعتقد أن ذلك ما سوف يصيب تشارلز أمير ويلز، هذا إذا ما تولى الحكم أصلا!

وكانت تلك الملكة التي عرف عصرها ازدهارًا ملحوظًا في الآداب والفلسفة والكشوف العلمية والجغرافية فضلا عن الاختراعات لم يعرفه عصر آخر بمثل هذه الكثافة مما دعا المؤرخين بحق أن يصفوا سنى حكمها بالعصر الفيكتورى Victorian Age، وهو العصر الذى ارتبط بأسماء عدد من عماء الرواة (ديكنز)، وأعلام المؤرخين (ماكولى)، وكبار المفكرين (كارليل)، ورواد التربية (هربرت سبنسر).

ثم أنها أخيرًا كانت الملكة التي صنعت الإمبراطورية الثانية بعد أن نجحت إليزابيث الأولى قبل ثلاثة قرون في إقامة الإمبراطورية الأولى.. وإمبراطورية فيكتوريا هي التي نعتت بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، فقد انتشرت في قارات العالم الخمس خارج أوروبا، وقد اعتمدت في ذلك على قوة الأسطول البريطاني، الذى شهد خلال ذلك العصر متغيرين كبيرين.. أولهما: اختفاء أساطيل الشركات، وعلى رأسها شركة الهند الشرقية الإنجليزية، مما أنيطت معه السيادة على البحار إلى الأسطول الملكى Royal navy تمامًا، وثانيهما: ترجمة هذه السيادة إلى سياسة محددة تقوم على الحفاظ على الحد الأدنى من قوة هذا الأسطول بمقدار قوة أسطولين لأكبر قوتين بحريتين في العالم.

تلك السياسة هي التي أدت إلى أن تصبح بريطانيا القوة رقم 1 في عهد فيكتوريا، وإلى أن تفرض شروطها على العالم بما يناسب مصالحها فيما عرف بالسلام البريطاني Pax Britannica، الأمر الذى لم يحدث قبل ذلك إلا مرة واحدة في التاريخ القديم بعد هيمنة روما على العالم المعروف، وأخرى بعدها في أيامنا تلك التي نعيشها في ظل الباكس أمريكانا!

لم يكن غريبًا مع كل ذلك أن تصف الأهرام وفاة فيكتوريا برحيل سلطانة البحار، ولم يكن غريبًا أيضًا أن تبدأ جنازتها من البحر، وكانت من أغرب الجنازات التي عرفها التاريخ..

الملكة العجوز (82 سنة) التي "عمرت عمرًا مديدًا وشبعت من الجاه العريض والملك الواسع"، على حد تعبير الأهرام، نقل نعشها إلى قصر أوزبورن في موكب حافل ومنه "حمل البحارة النعش إلى ظهر اليخت ألبرتا تحت مظلة من المخمل الأرجوانى مفتوحة من جميع الجهات فكان النعش المزدان يظهر عن بعد للناظرين"!

تبدأ الأهرام بعد ذلك في وصف الجانب البحرى من جنازة السلطانة بما يتناسب مع اسمها.. قالت: "كانت ثمان من سفن المقاومة للتوريد تتقدم اليخت الملكى بين صفى البوارج الحربية اللذين كانا يملآن العيون هيبة (بلغ مجموعها أربعين بارجة حسب رواية رويتر) وفى جملة البوارج المذكورة سبع أجنبيات وعند دنو اليخت ألبرتا الذى يقل النعش كان جميع البحارة على حبال المراكب والموسيقى تعزف الألحان المحزنة والمدافع تطلق بين دقيقة وأخرى وعلى ذلك ظل دوى المدافع ونغمات الموسيقى المحزنة متواصلة مدة اجتياز المضيق، وفى الساعة الخامسة وصل اليخت ألبرتا إلى غوسبورن حيث يصرف سحابة هذه الليلة تخفره السفن البحرية"!

ما بقى بعد ذلك مسطور في كتب التاريخ وفى بطون الوثائق.. غير المسطور الجانب الإنسانى في حياة سلطنة البحار، وهو الجانب الذى قلما تعنى به الكتابات الرسمية، ولكن تعنى به كتابات الصحف التي عاصرت الحدث.. غير المسطور أيضًا ردود فعل انتقال سلطانة البحار خارج المملكة المتحدة، وعلى وجده التحديد في مصر، مما سجلته الأهرام بتفصيلات المعلوم عنها قليل.. بل قليل جدًا!

في الجانب الإنسانى أول ما يلفت النظر في السيرة الذاتية التي شغلت أغلب الصفحة الأولى من عدد الأهرام الصادر يوم 2 يناير عام 1901 الدماء الألمانية التي كانت تجرى بكثرة في عروقها.. ابنة البرنس دى ساكس كوبورج الألمانية، وقرينة أمير من نفس أسرة أمها، والدة دلايد أم الإمبراطور الألماني ولهلم الثانى، أي أنها كانت جدة هذا الأخير.

ولم يكن ثمة غرابة أن تنحدر سلطانة البحار من أصول غير إنجليزية على ضوء ما كان متعاملا به في أوروبا منذ العصور الوسطى من أن الزيجات الملكية زيجات مصالح لا زيجات عواطف، وعلى ضوء حرص الأسر المالكة عل الحفاظ على نقاء دمائها، والتي عرفت بالدماء الزرقاء من الاختلاط بدماء الناس العاديين!

ثانى ما يثير الانتباه في هذا الجانب أن فيكتوريا كانت امرأة ولودًا، فقد أنجبت بنتًا في العام الأول من زواجها (1840) واستمرت تنجب بانتظام خلال السبعة عشر عامًا التالية، فكان مجموع أبنائها تسعة.. خمسًا إناث وأربعة ذكور، ولم تتوقف عن الإنجاب إلا قبل وفاة زوجها بأربع سنوات فحسب!

وكان طبيعيًا مع ملكة من فصيلة الأرانب مثل فيكتوريا أن تتضخم الأسرة المالكة البريطانية من الأبناء والأحفاد والأمراء ليبلغ عددها اثنين وسبعين فردًا "يعيشون من مالها بعد وفاتها"!

يلفت الأنظار ما اتسمت به حياتها الأسرية من قدر ملحوظ من الاستقرار، حتى أنه بعد وفاة زوجها عام 1861 "ظلت معتزلة خمس سنوات لا تقيم حفلة ولا تقابل مقابلة كبيرة وفى سنة 63 طبعت كتابًا بعنوان "التأمل في الحياة الأبدية" معزوًا إلى البرنس ألبرت وفى سنة 69 طبعت رسالة بعنوان "أيام حياتنا في جبال الإيكوس"، ولم يكن غريبًا مع كل ذلك أن يصف رئيس وزراء فرنسا زوج الملكة بأنه أول رعايا!

وفى إطار المناسبة كانت الأهرام تبحث عن صورة للحياة الاجتماعية للسلطانة الراحلة حتى وجدتها أخيرًا بشكل تفصيلى في جريدة فرنسية هي "صوت باريس" فنقلتها عنها، وكانت صورة ممتعة..

في المأكل "كانت إذا أجلست تأكل تناولت حساء الدقيق ثم تشرب كأسًا من الشيرى الأبيض وتأكل بعده البيض المسلوق ثم الخيار المخلل فقطعة مشوية من لحم البقر أما النبيذ فإنها كانت تختار أجوده فإذا قدم لها نبيذ ليس في منتهى الجودة تأفقت وتضجرت وغضبت ولحرصها على النبيذ حفظت عندها كمية كبيرة من النبيذ الذى أهداه إليها ملك فرنسا لويس فيليب سنة 1846 وسيرث هذا النبيذ المعتق ابنها الملك إدوارد المعروف بشدة ميله إلى طيب الألوان كميله إلى بنت الحان وللشمبانيا في صدره أو في جوفه أعز مكان!

في الإنفاق تؤكد الأهرام أن سلطانة البحار في العالم كانت مقترة أشد التقتير.. تقول بالحرب الواحد "يجب أن تكون الثروة الشخصية لجلالة الملكة طائلة عظيمة لأنها ملكت ستين سنة ونيفًا كانت تحب الاقتصاد وتأنف من الزخرفة والبهرجة البالغة حد الإفراط ومما يؤثر عنها أنها لم تكن تشترى القفاز بأكثر من 12 شلنًا!

حب الكلاب كان من أكثر ما اشتهرت به ملكة الإنكليز "فإنها أنفقت عليها من مالها أكثر ما أنفقته على رعاياها ففي حدائق وندسور 50 كلبًا من كل نوع وفصيلة.

لم تنس الأهرام في هذه المناسبة أن تسخر من هذا الحب الكلابى "فلكل كلب مرقد ما حلم بمثله فقير من فقراء الإنكليز وتطعم هذه الكلاب في أوقات معروفة ألوانًا يتمنى مائة ألف من الناس يطوفون شوارع لندرا لو وعدوا بواحدة منها مرة ف العمر، هذا حظ الكلاب الحية أما الميتة فإن ما أحبته الملكة يشيد له جدث جميل يُنصب فوقه رسمه حتى أن حدائق كثيرة تفخرها بكلابها الحية فخرها بالميتة!

غير أن المساحة الأكبر من هذا الجانب الإنسانى الذ أمدتنا الأهرام بتفاصيله خصصته الجريدة لثروة ملكة بريطانيا وإمبراطورة الهند، وقد جاءت أخبارها بشكل متراكم بامتداد الأيام العشرة التي انقضت بين وفاتها وتشييع جثتها..

أول الأخبار عن ثروة فيكتوريا جاءت في معرض الحديث عما سوف يرثه الملك الجديد، بعد يومين فقط، وذكر أن الملكة وزعت بالوصية ثروتها "أما ما تملكه فهو فوق فهو فوق المائة مليون فرنك ولها أرض في بردنشير تبلغ مساحتها 33 ألف هكتار وقصر كلاريمون وأملاك أوزبورن".

خبر آخر بعد أسبوع ضمن مقال طويل تحت عنوان "ملكة الإنكليز وملكهم"، جاء فيه أن فيكتوريا أول ملكة ماتت ولم تضطر الحكومة لدفع ديونها "فراتبها السنوي كان 15 مليون فرن ودخلها من أملاكها في لانكاستر أكثر من مليوني فرنك فما تملكه يُقدر بأكثر من 500 مليون فرنك أما ثروة زوجها البرنس ألبرت فإنها تقدر بمائة و25 مليون فرنك..

ويبدو أن تلك الأخبار المتناثر لم تكن لتشبع فضول قراء الأهرام لمعرفة مزيد من التفاصيل عن ثروة سلطانة البحار، الأمر الذى دفع الجريدة إلى أن تخصص مقالا بأكمله لهذا الموضوع نشرته في عددها الصادر يوم 9 فبراير تحت عنوان "ثروة الملكة فيكتوريا".

صنفت الأهرام أولا دخول ملوك إنجلترا إلى ثلاثة أقسام، الرواتب الملكية، الأملاك الملكية أو الإقطاعات، وأخيرًا الثروة الشخصية، وبينما بلغ مقدار القسم الأول 543 ألف جنيه استرلينى 385 ألفًا للمكلة والبقية لوى العهد، وصل دخل الإقطاعات إلى 385 ألفًا أخرى، أما الثروة الشخصية "فلم تعرف حتى الآن معرفة دقيقة غير أنه يجب أن تكون طائلة عظيمة لأن الملكة فيكتوريا ملكت ستين سنة ونيفًا.. ثم أنها خلفت لوراثها عدة قصور خصوصية هي أوزبورن وبالمورال وساندرينام والبرجيدى وكلارمون".

ولم تنس الأهرام في هذه المناسبة أن تقارن بين ثروة الملكة قبل توليها العرش وما أصبحت عليه عند وفاتها.. "كانت ديونًا تثقل عاتقها فبادت إلى وفائها في العاجل الممكن وكانت تعطى أمها راتبًا قدره 8000 جنبه".

وبينما نترك ورثة الملكة في لندن يقرأون وصيتها ويحسب كل منهم نصيبه في ثروتها الطائلة ننتقل إلى مصر لنرى ما كان يحدث فيها بعد أن وصل إلى القاهرة خبر "إقلاع ملكة البحار"!

***

يوم وفاة الملكة فيكتوريا كان الاحتلال البريطاني لمصر، الذى تم في عهدها، قد اقترب من عشرين عامًا، وتآكلت تمامًا فكرة أن يكون موقوتًا، وكان الموظفون "من أبناء التيمز" كما كانت تفض الأهرام تسميتهم قد انبثوا في سائر الوظائف القيادية في الإدارة المصرية، وأصبحوا يمسكون بسائر مفاتيح حكومة المحروسة، فضلا عن ذلك كان لرعايا الملكة وجود قوى على أرض الكنانة، وقد تفاعلت كل هذه العناصر لتصنع الاستقبال المصرى للمناسبة.

على المستوى الأول تقرر إيفاد وفد رسمي على مستوى عال للمشاركة في جنازة الملكة، وهو الوفد الذى تشكل "بأمر الحضرة الخديوية وموافقة نظار الحكومة المصرية" بعد بيومين فحسب من وصول خبر الوفاة.

تشكيل الوفد ينم عن أهمية المناسبة.. يرأسه "دولة البرنس محمد على باشا شقيق الجناب العالى ومن أعضائه دولة البرنس محمد بك إبراهيم وعزيز بك عزت وتورنيزون باشا وعلى بك جاهين وياور بك".

والجميع فيما يتضح من أسمائهم من رجال المعية السنية.

تقرر أن يبحر الوفد من الإسكندرية إل برنديزى إلى إنجلترا رأسًا، وإن واجهته مشكلة كانت محل اهتمام المسئولين في قصر عابدين وفى دار المعتمد البريطاني في القاهرة.. مشكلة الوصول في الوقت المناسب ليتمكن من حضور الجنازة.

فبينما يتأهب أعضاء الوفد للركوب على متن "الوابور الفرنساوى" صدرت الأوامر بالانتظار إلى حين يجرى اللورد كرومر اتصالاته للتأكد من الموعد وقد "أرسل تلغرافًا إلى حكومته أول أمس ليسأل عن موعد الجنازة وحفل التتويج فتأخر الجواب يومًا كاملا ثم ورد أمس ومفاده أن حفلة الجنازة لا تكون في 2 فبراير فأبلغ اللورد الجواب إلى سمو الجناب الخديوى وإلى نظار حكومته فصدر الأمر بأن يتأهب الوفد للسفر على الباخرة النمساوية".

ولما كان الأمير محمد على قد سبق له أن حضر عام 1887 الاحتفال باليوبيل الذهبى لجلوس الملكة فقد ذكرت الأهرام بذلك، ثم أنها نوهت بحجم الوفد المصرى الذى لم يقتصر على الشخصيات الستة الأعضاء وإنما شمل أيضًا "الأتباع من الخدم والحشم مما سيجعله أكبر وفد شرقى في حفلة الجنازة لأن البلاد القاصية كالهند وغيرها لا تتمكن من إرسال الوفود ولأن دولتنا العلية (الدولة العثمانية) لا ترسل وفدًا يزيد عدده على ثلاثة، إذا أرسلت"!

وفى حضور سرتشريفاتى الخديوى ركب الوفد "الوابور النسماوى" قاصدًا برنديزى التي وصلها يوم 30 يناير، وقد أخرت السلطات قطار السكة الحديد الذى يقلهم إلى أوستند لمدة نصف ساعة حتى يلحقوا به ليصلوا إلى لندن مساء اليوم التالى ليحضروا الجنازة في اليوم الذى يليه.

ويبدو أن الأهرام قد أرسلت في هذه المناسبة أحد رجالها لحضور الجنازة وحفل تنصيب الملك الجديد، مما يتضح من أنه لعد أن كانت تستقى أخبارها في بداية الأمر نقلا عن وكالات الأنباء، خاصة رويتر والصحافة الأوروبية عمومًا والإنجليزية والفرنسية على وجه الخصوص، أخذت تنشر الأخبار والتقارير بدءًا من أول فبراير التي يبها بها "مكاتبها في العاصمة البريطانية".

وبقى الوفد المصرى في العاصمة إلى أواخر فبراير حين حضر حفل تتويج الملك الجديد، وقد اهتم مكاتب الأرهام بتكلفته التي وصلت إلى أربعة ملايين جنيه استرلينى "منها 700 ألف لإعداد المآدب و25 ألفًا لصنع الأزرار الذهبية و850 ألفًا لمقابلة الأمراء والملوك والوفود" ونترك الوفد الرسمي ومعه مكاتب الأهرام ونعود للمحروسة.

على المستوى الرسمي أيضًا شهدت مصر مظاهر إعلان الحداد، فقد تقرر إغلاق كافة دواوين الحكومة يوم السبت 2 فبراير بمناسبة تشييع جنازة "سلطانة البحار" كما أرجئ في نفس الوقت اجتماع مجلس شورى القوانين الذى كان مقررًا في نفس اليوم إلى اليوم التالى، فضلا عن القرار بإغلاق البورصة الخديوية.

في ذات الوقت رفعت كافة قنصليات الدول "أعلامها مقرونة بعلامة الحداد" ولمدة أسبوع بدأ يوم 26 يناير وانتهى في 3 فبراير.. اليوم التالى لدفن الملكة، وقد تقاطر ممثلو الدول في تلك المناسبة على دار المعتمد البريطاني يؤدون واجب التعازى.

فضلا عن ذلك فإن أعدادًا كبيرة من المصريين والأجانب قدمت إلى الدار الأمر الذى دعا اللورد كرومر إلى أن يصدر بيانًا يعرب فيه عن "جزيل الشكر والامتنان لجميع من تكرموا بإظهار شعائر الوداد بحضورهم شخصيًا إلى الوكالة البريطانية أو بإرسالهم الرسائل البرقية أو المكاتبات تعزية في وفاة جلالة الملكة المعظمة والإمبراطورة المفخمة"!

من ناحية أخرى فقد فرض كبار الموظفين في الحكومة المصرية الحداد على كل من يشغل في دواوينها وبشكل مبالغ فيه وصل في بعض الأحيان إلى مرتبة الكوميديا مما تكشف عنه تلك القصة التي رواها الأهرام عن العاملين في السكك الحديدية، والمعلوم أن تلك المصلحة قد ظلت تحت الهيمنة الكاملة لإدارة البريطانية.

القصة حسب كلمات الأهرام أنه "لما طير البرق إلينا نعى ملكة الإنكليز راق لأحد رؤساء الأقلام في السكة الحديد أن يشير على العمال بلبس الحداد على الملكة فنبه عليهم في المساء أن ليس الحداد أمر إذا لم يكن واجبًا فهو لائق وكان أحدهم غائبًا فلم يتصل به ذلك وفى صبيحة اليوم التالى عاد العمال وكلهم بلبس شارة الحداد إلا ذاك العامل الذى أضاعت عليه غيبته سماع الأوامر التي ألبسها حضرة الرئيس لباس النصائح فما استقر في مجلسه حتى دعاه الرئيس الحزين وسأله عن مخالفة الأمر فارتعدت فرائضه جزعًا وتدلت أذناه وقال عفوًا مولاى إنى جهلت ذلك فأنا ذاهب لأغير ردائى"، وتتعجب الأهرام من أن يكون الحزن "أمرًا يُطاع لا شعور يخامر الفؤاد".

وكان من الطبيعى أن يبرز دور الجالية الإنجليزية في سائر أنحاء مصر، كان هناك أولا الصلاة الرسمية التي أقيمت في الكنيسة الإنجليكانية والتي حضرها البرنس إبراهيم حلمى نائبًا عن الخديوى.. ركب سعادة السر تشريفاتى خديوى وسعادة أحمد زكى باشا السرياوران من عربات السراى الخديوية إلى سراى البرنس إبراهيم باشا وعادوا منها مع دولته إلى الكنيسة حيث يحضرون الصلاة.

شارك في الصلاة عدد كبير من موظفي الحكومة والأعيان، مصريين وأجانب، الأمر الذى دعا اللورد كرومر إلى أن يعلن "على صفحات الجرائد مزيد شكره مما أظهروه من حسن العواطف والمودة للأمة البريطانية وأنه يعرب عن كافة إحساسات النزلاء البريطانيين".

غير أن الأهم من كل ذلك ما شرع فيه أبناء التبعة البريطانية في الإسكندرية الذين بدأوا في أعقاب تشييع الجنازة في عقد اللقاءات مع القنصل الإنجليزى في المدينة للتفكير في القيام بعمل يخلد ذكرى الملكة في القطر المصرى.

وتم تداول عدد من الاقتراحات في تلك الاجتماعات كان منها فكرة إنشاء مستشفى غير أن الرأي استقر أخيرًا على إنشاء مدرسة على النظام الإنجليزى هي التي عرفت باسم مدرسة فيكتوريا.

مصدر أهمية هذا العمل أنه لأول مرة في تاريخ وجود الإنجليز في مصر يشرعون فيما سبقهم إليه الفرنسيون والأمريكيون.. إقامة مؤسسات تعليمية أصبحت رمزًا للوجود الثقافي لأبناء التيمز على أرض الكنانة!


صورة من المقال: