صفحة طويت وصفحة تنشر
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 5 سبتمبر 1996م - 21 ربيع الثانى 1417هـ
المقال الأول غير موقع، والأرجح أن يكون أحدد محررى الجريدة قد وضعه على عجل بحكم ما يحفل به من أخطاء ويتسم به من عدم الدقة، أما المقال الثانى فقد وقعه أحد محررى الصحيفة.. يوسف الخازن، ومكتوب بشكل أفضل كثيرًا من شقيقه، وبينما استعرض أولهما تاريخ مصر إبان القرن التاسع عشر، تتبع الثانى التاريخ العالمى خلال نفس القرن.
ولأن المناسبة لا تأتى إلا مرة كل مئة عام ولأننا اقتربنا من الاحتفال برحيل المئة عام التالية، فعل غير عادتنا في الديوان نكتفى في هذه الحلقة بتقديم نص المقالين مع تدخل محدود لتوضيح لعض المعلومات أو تصحيحها، احتفالا مع الأهرام باستقبال القرن الذى كاد أن ينصرم!
((1)) صفحة طويت وصفحة تنشر
صفحة طويت هي القرن التاسع عشر على السن أنامل الكتاب وبدأ القرن العشرون وعلى صفحته من آثار الذاهب ما يحزن ويفرح ففي أحد سطوره متابعة الحروب الناشبة والهمجية المستكنة كأنها نكتة على جبين الإنسانية وفى الآخر نور المدينة المتلألئة رينت عنق البشرية.
أجل مضى القرن التاسع عشر كما أتى مصبوغة إحدى يديه بالدماء ومزدانة الأخرى بمشكاة الحضارة يفيض منها على العالم كل لآلآه ولكنه أقبل على الشرق والشرق في خمول وذهول ومضى عنه وهو في نهضة الطفل من ضعفه يريد ولا يقدر ويعرف ولا يسمع ويتمنى ولا ينال والعاقلون من أبنائه يعوذونه من عثرة ويشفقون عليه من سقطة ويدعون له بالنماء والكبر والعلاء حتى يدرك أشده وتقوى الحضارة للسعى ساقه وللعلى يده فلا خاب لهم أمل ولا ضاع لهم رجاء أنها الشرق قد ذبل وذوى فجدير به أن تعود إليه الحية فيقول وهو مدركها بإذن الله أما وأن صفحة القرن التاسع عشر قد طويت فللأبد أن نذكر ما سطر التاريخ فيها لهذه الديار المصرية، ففي أول يناير من عام 1800 كان كليبر القائد الأكبر للحملة الفرنساوية في مصر بعد سفر نابوليون يفاوض الباب العالى ليعقد الصلح وتجلى جنود الفرنساويين عن القطر على مراكب إنكليزية وتسليم البلاد للحكومة العثمانية وفى 24 يناير وقع على الاتفاق المعروف باتفاق العريش، وبات الجنود الفرنساوية تستعد للرحيل ولكن الأميرال كيت (أميرال البحرية البريطانية الذى كان يتبعه سيدنى سميث راعى الاتفاق) أبلغ كليبر أن حكومة إنكلترا لا تعترف باتفاق العريش فعلى الجيش الفرنساوى أن يسلم وفى 21 مارس أعلن كليبر أنه قد ألغى الاتفاق وأنه لا يرضى الذل ودونه الموت وسار برجاله وعددهم 10 آلاف لمقاتلة الجيش التركى في المطرية (موقعة عين شمس) فانتصر وعاد إلى القاهرة فوجد إبراهيم بك أحد كبار المماليك قد دخلها وحرض أهلها على الثورة فضربها 10 أيام (المعروفة بثورة القاهرة الثانية وكان مركزها في بولاق) ثم دخلها وولى مراد بك وفى 14 يونيو قتل كليبر وكان قتله ويلا على الحملة الفرنساوية التي أراقت كثيرًا من الدماء ولكنها أتت إلى مصر بمائة وعشرين عالمًا وصانعًا لا تزال آثار معارفهم فيها حتى اليوم، وفى أول 1801 وصل جيش إنكليزى عدده 30 ألفًا بقيداة الجنرال ايبركرمبى الذى أعد له الإنكليز تمثالا يقام في الرمل إلى سواحل مصر في أبى كير (أبى قير) ووصل جيش عثمانى عدده 80 ألفًا فأحاطو بالفرنساويين وأخرجوا حامية مصر في 25 يونيو وحامية الإسكندرية في 2 سبتمبر.
وبعد رحيل الفرنسويين ظلت الماليك والإنكليز والترك ولكن المماليك لم يشأوا الخضوع التام لخسروه باشا فاجتمعوا بقيادة كبيرين منهم عثمان البرديزى (البرديسى) ومحمد الألفى وقاتلوا الباشا فانتصروا عليه وكان محمد على قائدًا لألف مقاتل من الأرناؤوط فغضب عليه خسروه باشا لأنه لم يكن في ساحة القتال مع رجاله وعزم على إعدامه فعلم محمد على بما أعد له رئيسه فمال إلى المماليك وفتح لهم أبواب القاهرة وانضم إلى البرديزى فقاتل خسروه باشا فأسره سنة 1803 وفى سنة 1805 عين محمد على بعد مهارة كبيرة أبداها وشجاعة عظيمة أظهرها وتدبير دقيق أتاه واليًا على القاهرة وحاكمًا على مصر على شرط أن يدفع جزية سنوية قدرها 7 ملايين وفى ذلك العام ابتدأ حقيقة تاريخ مصر الحديث فإن محمد على باشا ألف جيشًا جرارًا وأحل الأمن محل الفوضى فعز الأمر على الإنكليز وتوسموا بهذا النابغة شرًا لهم وخيرًا لمصر فاتفقوا مع المماليك على قتاله وإذلاله فلم يجبن محمد على أمام قوة الإنكليز والمماليك، والإنكليز ما أخرجوا الفرنسويين إلا ليملكوهم فجردوا لقتال الجنرال فرزر قوة كبيرة سنة 1807 فكسره وظل المماليك يقلقون البلاد فعزم محمد على على الانتقام منهم.
وفى سنة 1811 جمعهم وهم 480 مملوكًا في القلعة فأعدمهم وظل منهم 600 في جهات القطر فيادوا وفى تلك السنة جهز حملة ضد الوهابيين بقيادة ولديه طوسون وإبراهيم وفى سنة 1822 اتما فتح الحجاز وأتم ابنه إسمعيل وصهره الدفتردار فتح النوبة وسنار وكردوفان وأسسا الخرطوم وفى سنة 1824 أرسل ولده إبراهيم باشا بستة وعشرين ألف مقاتل وأسطول ضخم لمساعدة السلطان محمود على إخضاع بلاد اليونان وفى سنة 1827 حطمت مراكب الدول الأوروبية الأسطول المصرى والأسطول العثمانى (موقعة نفارين).
وفى سنة 1828 انجلى إبراهيم باشا عن المورة وطلب محمد على أن يتولى سوريا مكافأة له على خدمته الدولة فأبت عليه ذلك فسار إبراهيم باشا بجيش جرار إلى سوريا ومنها زحف إلى الأناضول وفى سنة 1831 ظهرت الوقائع المصرية (المعلوم أن العدد الأول من الوقائع المصرية صدر في 3 ديسمبر 1823) وهى أول جريدة في الشرق وفى سنة 1832 تداخلت فرنسا وروسيا فأوقفتا رحى الحرب بين مصر والدولة العلية وفى سنة 1833 عقد اتفاق بين محمد على باشا والباب العالى على أن تكون له ولاية سوريا وفى سنة 1839 أراد الباب العالى عزله من الولاية فعادت الحرب إلى الإنقاذ وأرسلت إنكلترا أسطولا استولى على بيروت وعكا فأشارت فرنسا على محمد على بترك سوريا ففعل وتم الاتفاق على صدور خط شريف يجعل ولاية مصر لسلالة محمد على وفى سنة 1841 وافقت جميع الدول على ذلك وحول محمد على وأبناؤه همتهم إلى إصلاح الشئون المصرية فاستخدم الفرنساويين وبعض الأميركان (خدم الأخيرون في مصر في عصر إسماعيل وليس في عصر محمد على) وغيرهم فنجحت مصر نجاحًا نتمناه اليوم ولا نصل إليه وفى سنة 1843 (الصحيح 1848) تنازل محمد على عن الولاية لابنه إبراهيم باشا فلم يحكم سوى ستة أسابيع لمرضه فتوفى في 10 نوفمبر من نفس السنة وولى عباس باشا ابن طوسون شقيقه افكان ميالا إلى الإنكليز فلم يتم في عهده شيئًا يذكر وفى سنة 54 تولى سعيد باشا رابع أنجال محمد على فواصل إتمام الأعمال التي قام بها والده فأبطل تجارة الرقيق (هذا الإبطال تم بمقتضى اتفاق بين مصر وانجلترا عام 1877 في عصر إسماعيل) وأبطل الاحتكار والالتزام والجمارك الداخلية ومنح الفلاح الحرية الشخصية وحق التملك وأتم القناطر الخيرية ومنح دلسبس امتيازًا يفتح قناة السويس في 5 يناير 1856 ووضع ميزانية للحكومة وفى سنة 1859 بدأت الأعمال في حفر القناة وفى 18 يناير 1863 توفى سعيد باشا فتولى إسمعيل باشا وأتم ما بدأ به سلفه وفى أكتوبر من سنة 1863 تم بناء دار العاديات والتحف المصرية بعناية مريت باشا فاحتفل بافتتاحها في بولاق احتفالا كبيرًا.
وفى سنة 1866 صدر الفرمان السلطانى بحصر الولاية على مصر في أبناء إسمعيل.
وفى سنة 1867 نال إسمعيل باشا من الحضرة السلطانية لقب خديوى وفى شهر نوفمبر من ذاك العام تم حفر قناة السويس واحتفل بافتتاحها افتتاحًا كبيرًا لا تزال وادى النيل تردد صوته وصدى بهجته.
وفى سنة 1871 جرد إسمعيل باشا الحملات العسكرية بقيادة صامويل بركر (بيكر) وغردون لافتتاح أقاصى السودان.
وفى 5 أغسطس من سنة 1875 ظهر العدد الأول من جريدة الأهرام (الصحيح 1876) في الإسكندرية وبدأ تاريخ الصحافة المصرية.
وفى سنة 1876 تم فتح كوردفان ودارفور وفيزوغلى وسواحل البحر الأحمر وبلاد الصومال وجزء من الحبشة وأصبح ملك مترامى الأطراف حتى عاهد سلطان زنجبار الخديوى على الدخول تحت حمايته ولكن مصر أثقلت بالديون حتى بلغ دينها مليارين، نصف مليار (الصحيح نحو 99 مليون جنيه استرلينى) فتداخلت الدول بأمرها..
وفى سنة 1876 صدرت الأوامر بإنشاء صندوق الدين وبتوحيد ديون مصر وبتأليف مجلس عال وبحصر الميزانية وبوضع ضريبة المقابلة وبتعيين مستشارين أحدهما فرنساوى والآخر إنكليزى.
وفى سنة 187 تنازلت الأسرة الخديوية عن جزء من أملاكها للحكومة فرهنتها لروتشلد بقرض قدره ثمانية ونصف مليون جنيه وفى تلك السنة حدث خلاف بين إسمعيل باشا والمراقبين فطلبت فرنسا وإنكلترا من الباب العالى عزله فصدر الأمر في 26 يونية 1879 بعزل إسمعيل باشا وبتولية توفيق باشا.
وفى 9 سبتمبر سنة 1881 بدأت الحركة العرابية بأكبر مظاهرها إذ تظاهر ضد توفيق باشا في ساحة عابدين 4 آلاف جندي يطلبون إسقاط الوزارة.
وفى 4 يناير من سنة 1882 سقطت وزارة شريف باشا وتألفت وزارة محمود باشا البارودى وفى 2 فبراير طلبت عزل توفيق باشا وفى 10 مايو طلب قنصل فرنسا وقنصل إنكلترا نفى عرابى وفى 31 مايو عقد مجمع في الأستانة لتسوية المسائل المصرية وفى 11 يونيو حدثت مذبحة الإسكندرية فانسحب الأسطول الفرنساوى وخرب الأسطول الإنكليزى الإسكندرية فعزم الباب العالى على إرسال جيش ولكن الإنكليز اشترطوا بعض الشروط فلم يقبل بها الباب العالى حفظًا لكرامة السيادة وفى 20 أغسطس نزل 35 ألف إنكليزى في بورسعيد وفى 28 حدثت موقعة القصاصين فاستمرت 5 دقائق فقط وفى 13 سبتمبر كانت موقعة التل الكبير ثم دخول الإنكليز القاهرة وفى 11 يناير سنة 83 ألغيت المراقبة الفرنساوى الإنكليزية وتفرد الإنكليز بالإدارة.
وفى سنة 1881 ظهرت ثورة المهدويين وفى سنة 1882 سقطت الأبيض في قبضتهم وفى سنة 83 بادت حملة هيكس وفى سنة 84 بادت حملة بكر باشا وفى سنة 85 سقطت الخرطوم وجعل الإنكليز حدود مصر في وادى حلفا وفى سنة 1892 رقى إلى عرش الخديوية المصرية سمو الخديوى المعظم عباس باشا حلمى الثانى.
ولم يبرح الأذهان ما حدث على عهد سموه من فتح السودان واشتراك الإنكليز بملكها وغير ذلك مما لم يغب عن فكر أحد. أما تاريخ العام الماضى فمحصور أهمه في أمرين يحزنان البشرية ويبكيان المدنية وهما حرب الترنسفال (المعروفة بحرب البوير) وثورة الصين (المعروفة بثورة البوكسر) وبأمر واحد تبتهج له الإنسانية وتفرح المدنية وهو فتح معرض باريز الذى جمع صناعة جيل وتقدم البشرية أثناء ذاك الجيل فلعل مقدمة عامنا الجديد تكون فالا حسنًا فتغمد الحسام وتحكم العدل فنبشر بالأمن والسلام.
((2)) كلمة في المئة البارحة
في الثانية عشرة من ليل أمس قضى القرن التاسع عشر وحشر مع القرون الخالية في هاوية الزمان التي لا قرار لها. ولم يبق لنا منه سوى ذكر إذا تجلت عظمته الآن في أفخم المشاهد وأبهى المناظهر فلابد أن تتضاءل على قدر ما تبعد عنه كالطود الشامخ يملأ العيون كبرًا وعلوًا ثم يتدانى ويتصاغر كلما بعد عنه الناظر حتى يكاد يساوى سطح البسيطة عند الأفق البعيد. على أنه لا يزال إلى الآن ملك القرون وزهرة العصور وغرة الأيام يستوقف الناظر ويستلفت العابر لما وعى في صدره من الحكم والعبر مما هو جدير بالتأمل والاعتبار.
وأول ما سيخطر في خاطر الكاتب في وصف هذا القرن الرجوع إلى أسفار التاريخ للمقابلة بينه وبين ما يضارعه من القرون السابقة والعصور الماضية والحق أن في طيات الزمان قرونًا ممتازة ثم فيها من عظائم الأمور وجلال الحوادث ما يحتار لها الذكر ويرفع قدرها على سائر العصور. فهى للإنسان مراحل ومواقف جددت بها العزائم لاستئناف السير في شوطه الأبدى ولكن القرار الذى نودعه كان آخر مرحلة وصل إليها الإنسان فجنى فيها من ثمار الهدى والهمة ما لم يوفق إلى اجتنابه من قبل. ومقامه بين تلك القرون الممتازة مقام الهرم الأكبر بين الأهرام القائمة في أرض الفراعنة. ولست أقصد الآن وصف القرن وما تم فيه فإنى أترك ذلك إلى مقام آخر وفرصة ثانية واكتفى في هذه الكلمة بالإشارة إلى صفتين يمتاز بهما عن بقية العصور والأجيال.
فالأولى منهما أنه لا يعرف باسم رجل ولا يطلق عليه اسم حادث على كثرة الرجال العظام الذين ظهروا فيه والحوادث الجليلة المتسلسلة من فاتحته إلى خاتمته لأنه إن جاز للتاريخ أن يطلق على عصر اسم رجل من الرجال العظام الذين قاموا بها فذلك لأن تلك العصور إنما هي من صنع أولئك الرجال بهم فخرها وإليهم مرجع مجدها ولولاهم لما اختصت بصفحات بارزة في أسفار الأيام. فحق لهؤلاء الرجال أن يضرب اسمهم عليها كما ضرب على المسكوكات التي سكت لعهدهم فقد أقرنا لتاريخ اسم بركليز وأوغستوس قيصر وهارون الرشيد ولويس الرابع عشر باسم العصور التي شادوا مجدها وبنوا فخارها.
أما القرن الذى نودعه فليس هو من صنع رجل ليلقب باسمه ولا أبًا حادث واحد ليكتفى به كما يتكنى الآباء بأبنائهم. فلا الجبار الكورسيكى "يقصد نابليون بونابرت" الواقف على عتبته كالصنم الهائل على باب رودس ولا الشيخة الكهنوتية التي كادت تطويه تحت جناحيها ولا داهية المرين ( يقصد بسمارك) طابخ الوحدة الألمانية ولا فكتور هوجو سباك القواف من الصوان والمصهور ولا دورين (صاخب نظرية النشوء والتطور) ناشر ظل الشك والريبة في مصدر الإنسان ومصيره ولا أدسون (المخترع المشهور) الذى كاد يدرك سر الحياة ولا ستفنسون القابض على أنفاس البخار ولا رجل من رجال الاستنباط والاكتشاف الذين راضوا الطبيعة وأذلوا مناكبها يحق له أن يدعى هذا القرن أو يتبناه فهو في صفحات التاريخ القرن التاسع عشر بلا زيادة ولا نقصان ولست أرى لوصفه وتعريفه اسمًا أفضل منه وقد انطوت تحت معان وصفات تنضى في وصفها الأقلام والأفهام وخلاصة ما يقال فيه أنه شرطة عظيمة تساهم فيها أرباب العلم والسيف والسياسة والإدارة والصناعة للبلوغ إلى ذروة الارتقاء. ولست أقول للبلوغ إلى ذروة السعادة لأن الآراء غير مطبقة على أن حالة الإنسان اليوم هي حالة الهناء والسعادة التي تصبو إليها الآمال ومن ينظر إلى الأزمات التي تتناوب المجتمع والاضطراب الذى يتغلغل في طبقات الإنسان يرى دلائل واضحة على أن تيار السعادة لا تزال بعيدة المزار. وزعم بعضهم أن انتشار العلوم بما وسع من أفكار البشر وولد من المطامع دعا إلى حاجات جديدة عديدة ضلت في طلبها الأفكار وفسدت الأخلاق فأخطأ الناس السعادة وهذا الزعم لا يزال موضوع الجدال بين العلماء المراقبين سير المجتمع. على أنى أرى قول الكونت مليكور دى فوجيه في هذا المعنى أقرب إلى الحقيقة وأدنى من الصواب قال: "كما أن الخبز هو غذاء الجسم والرجل الصالح والرجل الطالح يتساويان في الاغتذاء ثم يختلفان في الأقوال والأفعال كذلك العلم هو غذاء العقل والصالح والطالح يجنيان منه قوة عقلية إلا أن الأول يصرفها فيما يفيد والثانى في ما يجلب الضرر والفساد".
والصفة الثانية لهذا القرن هي أنه ظهر إلى عالم الوجود فعلا بل ظهوره اسمًا فهو لم يظهر على لوح التاريخ إلا سنة 1801 على أنه ابن الثورة الفرنسوية تمخضت به بين تلك الأوجاع والمصائب المشهورة. فهو كالنيل لا يعرف بهذا الاسم إلا إلى مسافة معلومة عل كونه النيل منذ تلك البحيرة التي يخرج منها إلى البحر المالح الذى ينتمى إليه. فالروح التي سرت في المئة البارحة إنما هي من أنفاس تلك الثورة وهى عروة أوثق من الأرقام الهندية تجعل حقيقة ابتداء القرن التاسع عشر سنة 1789 أيام سرت شرارة الثورة عن باريس إلى أطراف العالمين فنفخت في الكون حياة جديدة ونسمة أنعشت الإنسان فحلت قيودًا ثقيلة لزمته عصورًا وأدهارًا.
غير أن الكتاب قد اختلفوا في هذا الرأي أيضًا بعد أن اجتمعوا عليه طويلا فذهبت كتابتهم إلى أن روح الثورة الفرنسوية لم يتجاوز غير سنوات من تاريخ حدوثها وأن القرن التاسع عشر ليس ابن تلك الثورة ولا ربيبها بدعوى أن كثيرًا من الأصول والنواميس المتبعة اليوم تخالف الأصول والنواميس التي وضعها على رجال الثورة وأخصها ما يتعلق بالدين والمساواة والحق الملكى والصلات الجنسية فالدين الذى حاولت الثورة أن تنسخه لا يزال قائمًا على أركانه كما يتضح بالتفاته إلى وجه المعمورة والمساواة التي وضعتها الثورة قانونًا لم تلبث فعلا وما كان يومًا أرباب الحسب والنسب في القرون الماضية أشد وطأة على عواتق العامة من أرباب الفضة والذهب الذين يتحكمون اليوم في الجمهور بحكم السيد في عبده. فالحق الملكى الذى جعلته الثورة حقًا من حقوق الامة تمنحه من تشاء لا يزال أرباب التيجان يدعونه حقًا موروثًا لهم بأمر الله ومعظم العباد خاضعون لهؤلاء الملوك والصلات الجنسية التي أرادت الثورة إلا غطاء عنها لتنظر إلى الإنسان بصفته فردًا من المجتمع فقط قد عادت قاعدة أساسية في سياسية الأمم فهى السبب الأكبر فيما أصاب الدولة العلية من التجزئة والباعث على توحد الشعوب الألمانية والطليانية والداعى إلى الاضطراب الشديد في قلب البلاد النمسوية وبها يعتد رجال الإنكليز حين ينادون أبناء عمهم الإميريكان للمصافحة من فوق المحيط.
على أن هذه الأمور وإن تثبت لا تؤيد حجة المعترضين فإن من مبادئ الثورة ما كان فاسدًا فكان لابد من نبذة بعد الامتحان والاختبار ومنها ما هو صالح نافع للمجتمع ولكن ظروف الأحوال قد تبدل منه وتفسد صلاحيته ولكن المبدأ الأصيل الذى تتفرغ عنه سائر المبادئ لا يزال قائمًا على أساس وطيد وركن متين وهو حرية الضمير واللسان واليد والتأمين على العرض والروح والمال فيما يتعلق بالفرد والرجوع إلى رأى الجمهور فيما يتعرق بمصالح الجماعة على ما تراه من سلوك الحكومات في الأمور الجليلة والشؤون الخطيرة وتلك هي الغاية الأولى للثورة وقد ثبتت ووطدت فلا يزعزعها مزعزع.
ومما يجدر أن يشار إليه في هذا المقام هو أن جميع الذين ائتمنتهم الثورة على مبادئها ثم لم يخلصوا الأمانة لها كان جزاؤهم الفشل والسقوط بسبب تلك المبادئ نفسها التي لم يحسنوا الوصاية عليها. فنابليون الأول توغل في الفتوحات وأخرج الأمة الفرنساوية من موقف الدفاع إلى موقف الهجوم والاعتداء فشذ بأعماله تلك عن مبادئ الثورة التي أقيم أمينًا عليه فنال جزاءه في ساحة واترلو (1815) وجاء ابن أخيه (لويس نابليون) يعتلى منصة الجمهورية الثانية فما عتم أن حاد وشذ عن السبل الت وضعتها الثورة وكان أعظم نصير لسياسة الجنسيات فكان جزاؤه في محشر سيدان (1870) يوم تألب عليه الناطقون باللغة الجرمانية من كل فج وقطر فتحطم سيفه وضاع تاجه بين سنابك الخيل وأقدام الرجال فعلم أن المبادئ الصحيحة في الثورة الفرنساوية هي كتابوت العهد في بنى إسرائيل لا يسلم من مسها بسوء من عقاب شديد.هاتان الصفتان اللتان وددت أن أشير إليهما في هذه الكلمة وأميز القرن التاسع عشر بهما..
وبهذا العرض على المستويين المصرى والدولى، وفى حدود ما كان متاحًا لصحيفة مصرية في فجر القرن العشرين، ودعت الأهرام في القرن السابق، وعلى طريقتها المحافظة دون إسفاف، أو بحث عن غرائب أو عجائب القرن الراحل فيما فعلته صحف أخرى!
صورة من المقال: