ads

Bookmark and Share

الجمعة، 23 أبريل 2021

143 الأزهر الزاهر!

الأزهر الزاهر!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 22 أغسطس 1996م - 7 ربيع الثانى 1417هـ


"إن نجاح طلبة الجامع الازهر وتقدمهم هما أكبر عامل لنجاح الشرق وإنارة أذهان الأمة لأن الأمة الإسلامية كما قلنا ونقول هي العنصر القوى الكبير في شرقنا. فمن هذا العنصر ينتظر التقدم ويرفع شأنه رفع شأن الشرق أجمع، فعلى حضرات رؤسائه العلماء والحالة هذه أن يعلموا أن في قبضتهم أمل البلاد وأن كل علم يبثونه في صدور الطلبة يكون وسيلة جديدة من وسائل نهضة الأمم الشرقية عمومًا والأمة المصرية خصوصًا، وفقهم المولى تعالى وسدد خطواتهم في خدمة البلاد والعباد"!

بهذه الكلمات المنشورة في عدد الأهرام الصادر يوم 13 يوليو عام 1900 كان الجامع الأزهر العريق يغلق ملف القرن التاسع عشر ويتأهب لدخول قرن جديد، وقد شكلت السنوات الأخيرة من القرن الراحل مرحلة عاصفة في تاريخ وداع الأزهر له.

قبل التطرق لهذه المرحلة نرى تسجيل عدد من الملاحظات..

1) القرن التاسع عشر، قرن بناء الدولة الحديثة، والاتجاه نحو مركزية السلطة، كان من المفهوم أن تشوبه درجة من الصراع بين الحكام الجدد الذين مدوا أيديهم إلى كل ركن في المعمور المصرى وبين المؤسسات القديمة، ولم يكن متوقعًا مع هذا أن يتركوا الأزهر في حاله.

ولقد بدأ هذا الصراع منذ السنوات المبكرة في عهد مؤسس الأسرة الحاكمة، محمد على باشا، خلال سعيه لتحييد الأزهر في عملية استيلائه على السلطة، فعمل على ضرب مشايخه ببعضهم، مما كان محل تفصيلات عددية قدمها بنبرة أسف واضح المؤرخ المصرى المشهور الشيخ عبد الرحمن الجبرتى.

المهم أنه قبل أن ينتهى القرن كانت الحكومة المركزية قد نجحت في تحقيق أهدافها مع الجامعة العتيدة، تعيين شيخ الأزهر أصبح بأمر عال، الأراضى الموقوفة على الجامع التي استمرت مصدرًا لاستقلاله المالى وقعت تحت هيمنة إدارة الأوقاف التي لم تكن قد أصبحت وزار بعد، مخصصات المؤسسة الدينية والتعليمية العريقة أصبحت مرهونة بإرادة رجال الميرى!

2) رغم الاحتلال البريطاني للبلاد والذى طالت أيدى رجاله العديد من المؤسسات المصرية، إدارية واقتصادية وتعليمية، فقد كفت تلك الأيدى عن جهات ثلاث.. الأزهر، الأوقاف، والمحاكم الشرعية، فقد كان كبير الإنجليز في مصر، اللورد كرومر، يعلم مدى حساسية المصريين من المساس بأى من هيئاتهم الدينية، وأنه يمكن أن يثير روح الاستشهاد في بعضهم، ولم يكن رجال قصر الدوبارة راغبين في أي وقت في إيقاظ تلك الروح!

3) مع أن مصر عرفت التعليم العلمانى منذ عصر محمد على، وكان من بين مؤسساته عدد من المدارس العليا، إلا أن توصيف الجامعة لم يكن ينطبق إلا على الأزهر.. مشايخ لكل منهم مدرسته، حرية للطلاب في اختيار مشايخهم الذين يدرسون على أيديهم، إجازات دراسية تصل إلى درجة الدكتوراة (العالمية).

وثمة ملاحظتان في هذا الشأن، أولاهما: أن عديدين من أبناء التعليم الحديث، وممن ذاع صيتهم في ميادينهم بدأوا حياتهم التعليمية في الجامعة العريقة.. رفاعة رافع الطهطاوى، سعد زغلول، الثانية، أن الانتساب للأزهر ظل يوفر لبعض الأسر، خاصة في الريف، مكانة اجتماعية خاصة، مما دفع المسئولين عن تلك الأسرة أن يرسلوا بنفر من أبنائهم إلى القاهرة للتتلمذ في الجامعة الشهيرة، مهما كانت درجة انخراطهم في عالم الحداثة. وتقدم أسرة حسن باشا عبد الرازق نموذجًا على ذلك.

وكان على المصريين أني قبلوا بتفرد الأزهر بالتعليم الجامعى حتى عام 1908 على الأقل حين فتحت أول جامعة مدنية أبوابها على استحياء، فقد كانت جامعة أهلية!

4) بحكم الطابع الدينى للأزهر، فقد استمر مؤسسة أممية، يقصدها الدارسون من شتى أنحاء العالم الإسلامي، مما عبر عنه نظام الأروقة الذى كان بمثابة خريطة تمثل خطوطها طلاب العلم من هذا العالم، فضلا عن أن التغييرات في خطوطها إنما كانت تعبر عن موجات المد والجزر في طلب العلم من أبنائه.

وأهم ما تكشف عنه تلك الخطوط أن القدامين للتعليم بالجامعة قد غطوا رقعة واسعة من العالم.. من الشام شمالا إلى السودان جنوبًا، ومن الجبشة شرقًا إل المغرب وموريتانيا (شنقيط) والسنغال غربًا، بل إن طلابًا من الهند وإندونيسيا قدموا إلى المحروسة وتتلمذوا على مشايخ الجامع العتيد، وكانت لهم أروقتهم الخاصة.

ونظن أنه لم تلق المراكز العلمية الشبيهة، في فاس والزيتونة ودمشق، هذا الاقبال الإسلامي الذى لقيه جامع المعز، حتى أن أغلب من تلقى تعليمه فيه من تلك البلاد البعيدة كانوا يؤثرون التسمى "بالأزهرى" لما كانت تلقاه التسمية من احترام وإجلال في بلادهم، وهى التسمية التي حرص الأبناء على توارثها!

وعلى ضوء هذه الملاحظات نتابع تلك السنوات العاصفة من تاريخ الجامع العتيدة.. سنوات التسعينات من القرن الماضى، والتي أوردت الأهرام أحداثها باهتمام شديد..

***

معلوم أن مطلع ذلك العقد شهد رحيل الخديو توفيق (1892) وتولى ابنه الشاب عباس حملى الثانى، وكان متعطشًا للسلطة..

وبينما أدى هذا التعطش إلى فرض سلطته على المؤسسات السياسية والعسكرية إلى صدامات مع سلطات الاحتلال، كان أشهرها أزمة وزارة فخرى باشا (1893) وحادثة الحدود (1894) فإنه على الجانب الآخر لم يجد أي مقاومة من تلك السلطات على فرضه هيمنته على المؤسسات الدينية التي كفت يدها عنها، وفى طليعتها الأزهر.

معلوم أيضًا أن السنوات التي أعقبت الاحتلال البريطاني على البلاد قد عرفت تقطعًا تدريجيًا في علاقات مصر مع الدولة العثمانية، خاصة بعد أن فشلت مفاوضات الجلاء التي جرت بين لندن واستنبول خلال عامي 1886 - 1887، فضلا عن انحسار العلاقات المصرية مع دول المغرب العربى بعد وقوع الجزائر (1830) وتونس (1881) تحت السيطرة الفرنسية، وتجمع استخدام طريق الحج البرى عبر مصر، خاصة بعد افتتاح قناة السويس للملاحة (1869)، ولم يعد لرواق المغاربة حيويته القديمة، الأمر الذى انعكس على أممية الجامعة العتيدة مما عربت عنه بعض أحداث ذلك العقد.. ونبدأ بعباس واقتحام سراى عابدين لأبواب الأزهر والتدخل في مسيرة حياته القديمة!

البداية كانت في أواخر عام 1894، وهى السنة التي شهدت في مطلعها انكسار عباس في حداثة الحدود الشهيرة، والمناسبة كانت مرض شيخ الأزهر محمد الانبابى، وبدأت اليد العباسية بالامتداد بتعيين "حضرة الأستاذ الفاضل الشيخ حسونة النواوى أحد كبار علماء الأزهر ومدرس الشريعة الغراء والحديث الشريف في مدرستى الحقوق الخديوية ودار العلوم نائبًا عن حضرة فضيلتلو الأستاذ الشيخ الإنبابى ليقوم مقامه في إدارة مشيخة الأزهر الزاهر مدة اعتلال صحته وهو تعيين صادف محله وعناية من الجناب الخديوى كانت منتظرة عند جميع الأزهريين"، ولم يكن تعيينًا عاديًا فيما أشار إليه بقية الخبر المنشور في الأهرام يوم 8 ديسمبر، وفيما عبر عنه مقال طويل للجريدة بعد نحو أسبوعين.

تتمة الخبر جاء فيها أنه سيصدر أمر عال قريبًا بتشكيل مجلس إدارة "ينتخب أعضاؤه من أفاضل علماء الجامع الشريف لكل المذاهب الأربعة ليديروا شؤون هذه المدرسة الشهيرة"، ويكشف ما في هذا الجانب من الخبر على نية عابدين على التدخل في شئون الأزهر مما جاء فيه من أن هذه الإدارة سوف تتم "طبق رغائب الجناب العالى الخديوى وأمانى عقلاء المسلمين المحبين لانتظام أعماله وترقى التعليم فيه وتوسيع نطاقه".

عاقل من هؤلاء هو صاحب المقال الذى نشرته الأهرام في صدر صحيفتها الأولى في عددها الصادر يوم الجمعة 21 ديسمبر، وجاء تحت عنوان "الأزهر والمعارف - لمصرى مخلص للأمير والبلاد"!

اغتنم الرجل فرصة تعيين الشيخ النواوى في منصبه الجديد ليطرح التساؤل "عن مستقبل تلك المدرسة الإسلامية الكبرى بعد هذه الرقدة الطويلة العريضة"، وقدم إجابة على هذا التساؤل مشروعًا لإصلاح الأزهر، ويندهش القارئ عندما يلاحظ أن الشيخ الإمام محمد عبده تقدم بمشروعه لإصلاح الجامع الشهير إلى الخديوى في نفس الوقت، مما يشير إلى أن "المصرى المخلص للأمير والبلاد"، لم يكن سوى الشيخ عبده نفسه، يقوى من هذا الظن أمران، أولهما وجوه الشبه العديدة بين المشروعين، وثانيهما أن الشيخ محمد عبده كان من كتاب الأهرام منذ سنوات صدوره الأولى ومنذ أن كان مجاورًا بالجامع العتيد!

اعتمد المشروع الذى قدمته الأهرام لتحديث الأزهر على ثلاثة محاور رئيسية..

1) تقرير تدريس العلوم الرياضية والطبيعية والجغرافيا والتاريخ "وغير ذلك من المعارف المستحدثة وأننا لا نقصد بالرياضيات والطبيعيات رياضيات وطبيعيات أرسطو وأرشميدس وابن رشد وابن سينا وجغرافيا هرمس وبطليموس فقط بل نقصدها على وجهها العام، أعنى يزاد عليها أبحاث العلماء المتأخرين ومذاهبهم وأقوالهم واستكشافات الباحثين الحاليين حتى يدخل الأزهر المعمور في دور جديد يؤهله لإخراج فحول يبارون ويناظرون كبار العلماء الإفرنج في جمعياتهم العلمية والأدبية"!

2) ينتهز كاتب المقال فرصة أن الشيخ النواوى كان من مدرسى دار العلوم ويذكر كيف أنه قد نبغ من هؤلاء من تفتخر المدرسة المذكورة بإرسالهم إلى مدارس أوربا بصفة مدرسين أو متعلمين لإكمال علومهم وباستخدام البعض في مصالح الحكومة وهم "كالفرائد في القلائد". ويعرب عن أمله أن "نجد من الازهر مدرسة تبارى وتنافس دار العلوم فتكون الفائدة أعم والظهور أقوى"!

3) يحض "المصرى المخلص للأمير والبلاد" على إدخال تدريس اللغات الأوربية إلى الأزهر الزاهر، ويذكر بإقبال "محبى التحلى بالعلوم والآداب والمولعين بالتعليم من الملوك والأمراء على تعلم اللغتين اليونانية واللاتينية في الأعصر الخالية"، ويشير إلى ضرورة تعلم لغات الإفرنج في العصور الحدية بعد ما أفرغ هؤلاء جهدهم "في ترجمة كل الكتب العربية والفارسية وغيرها ومزجوها بمعارفهم وصاورا اليوم في غنى عن هذه اللغات".

عرف النصف الأول من عام 1895 اتباع عباس الثانى لشكل من سياسة الإغراء لعلماء الأزهر، وكانت وسيلته لذلك "كساوى التشريفة"، فقد تعددت أخبار إنعام الخديوى على هؤلاء بتلك الكساوى، كان منها الإنعام على الشيخ النواوى "بكسوة التشريفة الأولى" تبعه بعد ذلك بأسابيع قليلة الإنعام بكسوة التشريفة السنية على خمسة من أهم علماء الجامع الكبير. الروبى، المنصورى، صبرى، رزق، والمحلاوى.

شهد يونية من ذات العام، وبعد أن ثبت عجز الشيخ الإنبابى عن الاستمرار في أداء مهام منصبه، الخطوة التالية بإقالة الرجل وتولية الشيخ حسونة النواوى محله، وقد حرص سيد سراى عابدين على أن يبدوا التغيير نابعًا تمامًا من إرادته.

ففي أوائل الشهر وبعد أن راجت الأخبار عن "تأليف لجنة من العلماء لاختيار من يصلح لشياخة الأزهر" نفت دوائر عابدين هذا الخبر جملة وتفصيلا!

في 27 من ذلك الشهر نشرت الصحف المصرية، بما فيها الأهرام، الأوامر الثلاثة العالية بقبول استقالة الشيخ الإنبابى وتعيين الشيخ النواوى في مشيخة الأزهر المعمور..

الأول موجه إلى رئيس النظار وجاء فيه البلاغ بقبول التماس الشيخ الإنبابى بالاستقالة وتوجيه مسند المشيخة "إلى حضرة الأستاذ الشيخ حسونة النوانى الذى كان وكيل تلك المشيخة بالنسبة لما هو عليه من الصفات الحسنة التي تؤهله لذلك"، والثانى موجه إلى الشيخ الإنبابى يبلغه فيه "قبلنا التماس فضيلتكم وأقلناكم من مشيخة الجامع المشار إليه لحصولكم على الراحة من عناء الأشغال وأعلموا حضرتكم أنكم دائمًا حائزون على حسن رعايتنا وكمال توجهاتنا" والأخير للشيخ النواوى بإسناد "مشيخة الجامع لعهدتكم وبقاء هيئة مجلس الإدارة به الصادر عنه أمرنا لرئاسة مجلس النظار لرؤية الأشغال معكم"!

خلال السنوات الأربع التالية كان عباس يراقب أداء الشيخ النوانى عن كثب، ويبدو أن الرجل ترك هامشًا محدودًا للتدخل في شئون الأزهر، فضلا عن أن جمعه بين منصب شيخ الأزهر والمفتى قد قوى من شأنه مما بدا في معارضته لتعديل تأليف المحكمة الشرعية العليا في مايو عام 1899، ونجح في دفع مجلس شورى القوانين على رفض المشروع على غير رغبة من الحكومة، التي لم يعجبها موقفه.

فقد فوجئ المصريون صباح يوم 2 يونية بخبر فصل الرجل من منصب الإفتاء ومشيخة الأزهر، الأمر الذى احتجت عليه الأهرام واعتبرته انتقامًا "من الرأي العام المصرى"، وليس من الرجل..

في اليوم التالى عين الشيخ عبد الرحمن قطب النواوى محله، غير أنه لم يستمر في منصبه سوى أيام قليلة ليخلفه في المنصب الشيخ سليم البشرى، وشرع منذئذ في التغيير الذى شارك فيه الشيخ محمد عبده الذى كان قد عين مفتيًا، بعد أن تم الفصل بين المنصبين.

بدا هذا التغيير في وضع برنامج جديد للتدريس في الأزهر الزاهر "وهو البروجرام الذى وضعه فضيلة شيخ الجامع ولجنة العلماء والأعلام"، وتشكيل لجنة امتحان في الجامع من أكابر العلماء.

وكانت آخر لمسات الخديوى على الجامعة العتيدة افتتاح رواق جديد بالجامع في 17 مارس عام 1898، وكان وراقًا غير عادى، فبينما تسمت الأروقة من قبل بأسماء الجماعات التي تقطنها من خارج مصر أو داخلها، فقد تسمى الجديد بالرواق العباسى نسبة إلى الخديوى نفسه مما أصبح رمزًا لنجاح عابدين في التدخل، وكان التدخل الأخير قبل أن ينتهى القرن.

***

حادثة كبيرة جرت داخل أسوار "الأزهر المعمور" خلال عام 1896 كشفت عما أصاب دوره الأممى من تغيير.. الحادثة جرت ف رواق الشوام ونشرت الأهرام أخبارها بدءًا من يوم 3 يونية..

الحادثة كما جاءت في تقرير شيخ الأزهر أنه جاءه في صباح اليوم السابق أن شخصًا من رواق الشوام "حصلت له إصابة ليلا وأخبر أحد الطلبة أنه لا يمكنه الخروج إلى المستشفى فإنه كل من ذهب إليه يموت"، تبع ذلك أن حضر طبيب وطلب نقل المصاب إلى المستشفى "امتنع أهل الرواق من ذلك وهددوه فالحكيم أرسل الخبر للقسم فخضر وطلبنا نقل المصاب فهاج علينا المجاورون فصرنا نعاملهم بالملاطفة فلم يمتثلوا وصاروا يقولون لنا أننا لا نمكنكم من أخذه ولو متنا وصاروا يصفقون علينا وحالتهم حالة هيجان عظيم فالتزمنا أن نرسل للحكمدارية".

في تلك الاثناء حضر بعض الشوام إلى باب محل إدارة الجامع "لأجل تهديدنا ولعلمنا من سوابق الجامع الأزهر ما يحصل عند هيجانهم من الإهانة وعدم التوقير"، فقد لجأ الشيخ إلى الملاطفة.

ننتقل بعد ذلك إلى شهادة وكيل المحافظة الذى ذكر أنه بعد الوصول إلى الجامع وجد الأبواب مقفلة، مما دفعه إلى فرض الحصار على الطلاب، غير أن هؤلاء بدأوا في إلقاء الأحجار من الشبابيك بوفرة "فما وجدنا طريقة للحسم سوى استعمال القوة والضرب بالسلاح ولكن بكل ترو حتى يعرف مثل هؤلاء سطوة الحكومة ولا يقتدى بهم غيرهم إذ بعد ضرب البوليس والمحافظ واستمرار التهديد بقذف الأحجار لا يصح استمرار اللين لأنه يكون بهيئة ضعف نتيجته تكون مضرة جدًا بالأمن العمومى"!

استطرد الرجل في شهادته متتبعًا تصاعد الأحداث حتى وصلت إلى ضرب الرصاص "ولكنهم لم يزدادوا إلا عنادًا، وقد أطلقت العساكر الرصاص من خارج الباب فنفذ منه وأصاب البعض وعليه أمكن فتح الباب والدخول وتشتيت شمل المتعصبين.. وقد أصيب من الرصاب خمسة مات أحدهم في الحال وجميعهم أرسلوا إلى الاستبالية بالنقالات وكذلك المصاب الأصلى بالكوليرا وجد ميتًا في محله وأرسل للاستبالية أيضًا"، وإلى هنا تنتهى الحادثة، وتبدًا قصة علاقة الأزهر بالمبعوثين.

بعد أسبوع صدر قرار مجلس النظار في القضية، ونشرته الجريدة الرسمية ونقلته الأهرام عنها.. كان مما جاء فيه:

أولا: تستمر النيابة في مباشرة الإجراءات القانونية لمحاكمة الطلبة الذين ثبت من التحقيق أنهم أثاروا الفتن وأهانوا مأمورى الحكومة وعددهم 14 طالبًا كلهم من رواق الشوام.

ثانيًا: أن باقى الطلبة من رواق الشوام وهم الذين لا يزالون مسجونين بالحوض المرصود (يصير إرجاعهم إلى أوطانهم) بمعرفة الحكومة، حيث أنهم قد اشتركوا في هذا التجمهر والتمرد.

ثالثًا: لأجل استتباب الأمن والنظام فى سائر أروقة الجامع (يقفل رواق الشوام سنة كاملة من 6 يونية) حتى تكون العبرة راسخة في أذهاب الطلبة جميعًا!

في يوم 12 يونية صدر الحكم على خمسة ممن تقدموا للمحاكمة أمام محكمة السيدة زينب بالسجن سنتين ونصف وعلى سبعة تسعة أشهر وبراءة إثنين، وقد علقت الأهرام على الحكم بأن "المحكمة لم تستعمل فيه الشفقة ولذلك اعتبره الجميع شديدًا"!

الأشد من الحكم الذى صدر في حق أبناء رواق الشوام كان الحكم على دور الأزهر في العالم الإسلامي، فلعله من المرات القليلة جدًا في تاريخ الجامعة العتيدة التي تقوم خلالها السلطة المركزية بتعطيل دور الجامع المعمور في هذا العالم، حتى لو كان تعطيلا موقوتًا!

ويقينًا فإن هذا الإجراء قد أزعج كثيرًا الحاديين على هذا الدور مما عبرت عنه الأهرام في الالتماسات العديدة التي نشرتها تطالب الخديو "بصدور عفوه الكريم عن الذين نفوا من طلبة العلم بالأزهر ليفتح ثانية رواق الشوام الذى أقفل ولا نرتاب أن سموه أيده الله سيتفضل بإجابته في الوقت المناسب لما طبع عليه من الرحمة السامية"!

في 8 ديسمبر بشرت الصحيفة قرائها "بالعفو الكريم الذى تفضل به الجناب الخديوى عن المحكوم عليهم من طلبة الأزهر الشوام مما أحدث سرورًا عند القوم ووسع نطاق رجائهم بأن سموه لا يلبث أن يأمر باستئناف الدروس في رواق الشوام"، ومع أن ذلك قد حدث فعلا بعد العام المحدد إلا أنه تبقى دلالة الحادثة على ما أصاب دور الجامع المعمور في العالم الإسلامي من جراء التطورات الجديدة.


صورة من المقال: