ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 21 أبريل 2021

141 قناصل الدول الفخيمة!

قناصل الدول الفخيمة!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 8 أغسطس 1996م - 23 ربيع أول 1417هـ


في ظل الإمبراطورية العثمانية كانت مصر شأنها شأن بقية ولايات الدولة تستقبل عددًا محدودًا من القناصل الأجانب، كانوا من ناحية تابعين لسفراء دولهم في العاصمة، الأستانة، ثم أنهم من ناحية ثانية قد انصرفت مهمتهم بالأساس إلى العلاقات التجارية المحدودة بين رعايا الدول التي يمثلونها وبين مصر، ولعل ذلك ما أدى من ناحية ثالثة إلى أن يكون أغلب مقام هؤلاء في الإسكندرية.

وقد أدت حالة عدم الاستقرار التي عرفتها مصر خلال النصف الثانى من القرن الثامن عشر إلى أنه كثيرًا ما أغلقت الدول الكبرى صاحبة المصالح قنصلياتها لفترات تطول أو تقصر، فضلا عن أن تلك الحالة هي التي وفرت للفرنسيين الذريعة لإرسال حملة نابليون المشهورة تحت دعوى سوء معاملة الأمراء المماليك للتجار الفرنسيين والتي رفعها القنصل الفرنسي في تقارير عديدة إلى حكومته.

يتغير الحال مع بدايات الدول الحديثة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، لأسباب سياسية بعد أن نجح محمد على في أن يجعل مصر قوة إقليمية تمتد حدودها من جبال طوروس شمالا إلى بحر الغزال جنوبًا، وبعد أن بدأ إنشاء الحكومة المركزية بكل ما صحبها من قيام جيش حديث وإدارة قوية استعان الرجال بالأوروبيين في صناعتهما، وبعد أن تحول الاقتصاد المصرى من النظام الإقطاعى إلى النظام الرأسمالى وما استتبعه من زيادة حجم التجارة مع الغرب، ثم زيادة مصالح الأوروبيين وتعقد مصالحهم في أرض الكنانة.

انعكس ذلك على طبيعة التمثيل الأجنبي في مصر في نواح عدة..

1) لم يعد ممثل الدولة الأجنبية في البلاد مجرد قنصل وإنما أصبح "قنصلا عامًا ومندوبًا سياسيًا"، ومما يكشف عما أصبح يتمتع به هؤلاء من صلاحيات ديبلوماسية جنبًا إلى جنب مع وظائفهم القنصلية.

2) توقف تبعية القناصل لممثلى دولهم في العاصمة التركية التي تحولت إلى علاقة مباشرة مع وزارات الخارجية في لندن أو باريس أو فيينا أو بطرسبرج.

3) زيادة حجم التمثيل الأجنبي في البلاد حتى أنه كان هناك ممثلون لأربعة عشر دولة في منتصف الثلاثينات، فضلا عن الدول الأربعة الكبرى كان هناك قناصل عامون لكل من سردينيا، هولندا، اسبانيا، السويد، صقلية، تسكانيا، الدانيمارك، بروسيا، اليونان، والولايات المتحدة الأمريكية، وقد ظلت الإسكندرية المقر المختار لكل هؤلاء.

4) دفع ذلك الحكومة المصرية إلى أن تنشئ إدارة من أهم إداراتها للتعامل مع هؤلاء، وهى الإدارة التي تشكلت عام 1826 تحت اسم ""ديوان الخارجية"، وكانت أول وزارة خارجية لبلد استمر يعتبر من الناحية القانونية ولاية عثمانية، والطريف أنها بدورها اتخذت من الإسكندرية مقرًا لها إبان سنواتها الأولى على الأقل.

لم تتجمد الأمور على هذا الوضع، فقد عرف النصف الثانى من القرن متغيرات عدة طالت بين ما طالته أوضاع القناصل في مصر الذين تغير عالمهم.. من عالم حماية المصالح التجارية إلى عالم تصارعت فيه القوى وتضاربت المصالح وتعقدت العلاقات الإنسانية.. وقد نجحت الأهرام أن ترسم صورة تفصيلية لهذا العالم المثير.. عالم "قناصل الدول الفخيمة" على حد تعبير صحيفتنا.

***

صناعة هذا العالم جاءت نتاجًا لمجموعة التطورات التي عرفتها مصر خلال الفترة التي تبدأ بنهاية عصر محمد على. والتي بلغت ذروتها خلال الفترة التي تبدأ بنهاية عصر محمد على، والتي بلغت ذروتها خلال عصر إسماعيل (1862 - 1879) وما بعده.

* الهجرة الأوروبية الواسعة والتي تركزت أولا في الإسكندرية ثم انتشرت إلى سائر أنحاء الكنانة، في الوجه البحرى، طنطا، المنصورة، الزقازيق ودمنهور وغيرها، وفى الوجه القبلى، المنيا، أسيوط، الأقصر وسواها، هذا فضلا عن المحروسة التي عرفت أحياء جديدة خصصت لسكنى هؤلاء.

أدى ذلك إلى وجود البيئة الاجتماعية التي يتحرك فيها القناصل.. بيئة الجاليات أو "التبعة"، حسب المسمى الذى كان شائعًا وقتئذ، وهى بيئة أضافت للوظيفة المحدودة التي كانت لهم من قبل آفاقًا جديدة.

** احتدام الصراع السياسى بين القوى الأوروبية، على رأسها إنجلترا وفرنسا، ومع ما بدا وكأن هذا الصراع قد حسم لصالح الأولى بعد احتلال البلاد عام 1882، إلا أن السعي الفرنسي لوضع العصى في عجلات الإدارة البريطانية للبلاد، ومشاركة الدول الكبرى الأخرى في هذا الصراع في طليعتها روسيا والنمسا وألمانيا وإيطاليا، قد أضاف وظيفة سياسية للقناصل أضفت عليهم مزيدًا من الطابع الديبلوماسى.

*** التحولات الكبرى التي شهدها المجتمع المصرى.. البلاط الخديوى وما عرفه من نظم أوروبية.. مقابلات، اتيكيت، بروتوكول، عميد للسلك القنصلى تبعًا لأقدميته، حفلات "الباللو" التي كان القناصل وأسرهم أهم روادها.

**** ما عرفته مصر خلال تلك الحقبة من تفاقم الامتيازات الأجنبية Capitulations بكل ما ترتب عليها من مضاعفات، خاصة فيما يتصل بإسباغ الحماية على رعايا الدول صاحبة الامتيازات، مما كان يوفر لهؤلاء حصانة قضائية لا يمثلون معها أمام السلطات أو المحاكم الوطنية، أو كما كانت تسمى وقتئذ "بالمحاكم الأهلية" تمييزًا لها عن المحاكم الأجنبية، وهى حصانة انتقصت على وجه اليقين من درجة الاستقلال الذى تمتعت به مصر قبل سيادة هذا النظام.. انتقاصًا إلى حد اللا معقول كما يتضح من روايات الأهرام.

* نبدأ بالبيئة.. بيئة "التبعة"، بكل جوانبها الاجتماعية، وكانت شديدة التعقيد.. ونلاحظ أن أغلب الجاليات الأوروبية جاءت من أبناء البحر المتوسط.

اليونانيون شكلوا التبعة رقم (1)، وكان أمرًا طبيعيًا بحكم التاريخ والقربى الجغرافية والتبيعة السياسية، فقد ظلت اليونان، شأن مصر، قسمًا من الدولة العثمانية حتى مطلع ثلاثينات القرن، هذا فضلا عما عرف عن الشعب اليوناني من حب للهجرة.

التبعة رقم (2) كانوا من الإيطاليين الذى انتشروا في المدن الكبيرة خاصة في الإسكندرية، والمعلوم أن هؤلاء ظلوا العنصر الأوروبى الذى لم تتوقف علاقاته بمصر خلال العصر العثمانى، من خلال التجارة بين المدن الإيطالية وبين الموانئ المصرية.. الإسكندرية ودمياط.

يأتي بعد ذلك الإنجليز، أو بالأحرى من يتمتعون بالرعوية الإنجليزية من سكان جزر البحر المتوسط على رأسها مالطة وقبرص، يتبعهم الفرنسيون الذى شكلوا "التبعة الرابعة" من الناحية العددية، وإن كانوا من الناحية الاقتصادية والاجتماعية قد شكلوا أقوى الجاليات تأثيرًا على البلاد.

في المرتبة التالية الروس والألمان والنمسويون وكانت أعدادهم محدودة ولكن ليست قليلة كما كان الحال لسائر الجنسيات.. وداخل هذه المجموعات البشرية تحرك القناصل فيما رصدته الأهرام بشكل شديد الإمتاع غزير التنوع!

لعل تلك الأخبار العديدة التي بعث بها مكاتب الجريدة في المنصورة عن احتفالات التبعة اليونانية تدل على حجمها في عاصمة الدقهلية، فضلا عن الدور المعتبر لقنصلها في المدينة.. في 9 أبريل عام 1892 خبر عن احتفالها بعيد الاستقلال "وأقيمت الصلاة في الكنيسة وحضرها جميع أبناء التبعة يتقدمهم القنصل"، بعد ذلك بأقل من سبعة شهور يقيمون "ليلة طرب خيرية تخللها فصول تمثيلية خصص دخلها للمدرسة اليونانية"، في 16 فبراير عام 1894 تسجل الأهرام تفاصيل الحفل السنوي لنفس المدرسة التي قصدها "كبار هذه التبعة وصغارهم يتقدمهم حضرة القنصل.. ثم شرعوا في المحاورات الأدبية بين يونانية وعربية وفرنسية وختم الحفلة حضرة ناظر المدرسة بخطاب رقيق العبارة"!

المركيز دى ريفرسو أشهر قناصل فرنسا خلال التسعينات كانت كل تحركاته محل اهتمام من الصحافة، خاصة الأهرام ذات الميول الفرنسية، ومن "التبعة الفرنسوية" الذين حكمتهم أوثق الروابط.. لعل ذلك الخبر عن وصول الرجل إلى مصر "فقابله على المحطة جم غفير من أعيان الفرنساويين ورجال القنصلاتو وغيرهم" ينم عن حجم هذا الاهتمام.

وكان العيد القومى الفرنسي، 14 يوليو من كل عام، مناسبة لنشاط القناصل الفرنسيين بين تبعتهم في سائر أنحاء البلاد حيث يتقدمون الاحتفالات بالمناسبة، في القاهرة، الإسكندرية، الزقازيق، المنصورة وطنطا.

أعياد ميلاد العواهل في الدول الملكية كانت مناسبة لاحتفال قناصلها مع تبعتهم.. في يوم مولد همبرت ملك إيطاليا "تلقى حضرة القنصل وفود المهنئين من النزالة وأرسل بالنيابة عنهم رسالة برقية إلى روما يهنئ بها جلالة الملك ويدعو له بطول البقاء"، وهو ما فعله قنصل ألمانيا الجنرال "إكرامًا لتذكار يوم ميلاد الإمبراطور غليوم الثانى حيث ألقى خطبة في مأدبة النزلاء الألمانيين بالقاهرة".

غير الاحتفالات، كانت هناك التحركات القنصلية لتفقد المؤسسات التي أسسها أبناء البلاد التي يمثلونها، وتنم كثرة تحركات القنصل الفرنسي عن مدى انتشار تلك المؤسسات.. زيارة المدارس الفرنسية في سائر أنحاء البلاد من الإسكندرية شمالا إلى المنيا جنوبًا حيث استقبله جمهور النزلاء الفرنسويين يتقدمهم رئيس الآباء اليسوعيين.. وزار صيدلية الدير التي ينفق الراهبات منها في معالجة الفقراء بغيرة تستحق الثناء "دير الراهبات الفرنسيسكات في بنى سويف" ورفع العلم الفرنسي عليه خلافًا لما أشيع من أنه موضوع تحت الحماية الإيطالية، وزياراته للمستشفى الأوروبى في الإسكندرية الذى لقى اهتمامًا واضحًا من القنصل الروسى أيضًا.

وأدى انتشار التبعة الأوروبيين عل هذا النحو إلى إقامة وكالات للقنصليات في المدن التي تزيد فيها كثافة هؤلاء، ومع أن بعضًا من وكلاء القناصل كانوا من جنسية الدولة صاحبة التمثيل القنصلى إلا أن دولا عديدة وظفت مصريين في ذلك المنصب بعد أن حصلوا على حمايتها.. غبريال يوسف رزق نائبًا للقنصل البرتغالى بالمنصورة، نجله جسطر نائبًا للقنصل الفرنسي في طنطا.. في إسنا عين القنصل الفرنسي الخواجا إبراهيم أبادير الذى دخل في معركة مع وكيل "قنصلاتو إيطاليا الخواجا بطرس بولس وأطلق عليه عيارين ناريين في الشارع ولكن لم يأت ذلك بضرر البتة"، وقد أرسل قنصل عام فرنسا في العاصمة لجنة للتحقيق!

** الصراعات السياسية المحتدمة شكلت وجه الاختلاف الثانى لقناصل الدول الفخيمة في النصف الثانى من القرن التاسع عشر عنهم في نصفه الأول.

كان صندوق الدين حيث تودع الحكومة المصرية كافة احتياطاتها ولا تنفق منها إلا بإذن أعضائه الأداة الرئيسية في هذا الصراع، فقد تربص القنصل الفرنسي يدعمه زميله الروسى لأية مشروعات يسعى المحتلون إلى تنفيذها، وتكون في حاجة إلى سحب الأموال من الصندوق.

وإذا كانت الحملة على السودان عام 1898 تقدم أشهر هذه المناسبات حين نجح القنصلان في منع سحب ما احتاجته مصر لتمويل تلك الحملة، فإن المناسبات تعددت قبل تلك الحملة وبعدها في تدخل القناصل في الشئون المصرية من خلال موقعهم في الصندوق.

من هذه المناسبات ما اشترطه القناصل للموافقة على تمويل مشروع مجارى المحروسة عام 1892 بتكوين لجنة من ثلاثة مهندسين، فرنسى وانجليزى وألمانى، وضعت شروط المسابقة وعينت الشركة المسئولة عن التنفيذ!

شكلت التبعة الأداة الثانية، فالمدن التي يزداد فيها حجم هذه الجاليات كانت ميدانًا لتبارى القناصل لإثبات الوجود، وتقدم عملية تأسيس بلدية الإسكندرية والتي تألفت من غلبة من الأوروبيين نموذجًا على هذا التدخل وذلك الصراع.

يكشف عن ذلك، الخبر الذى نشره الأهرام في 14 مايو عام 1894 عن أن تلك المسألة كانت من "أهم عوامل المخابرات بين حضرات القناصل وفيما بينهم وبين الحكومة.. وإذا بحثنا في الخلاف حصرناه في أمرين الأول بين الحكومة والقناصل لأنهم يريدون أن تكون الأغلبية أوروبية غير مصرية لاعتقادهم بأنها متى تكون مصرية والاحتلال موجود كانت إنكليزية أسوة بسائر الإدارات والنظارات مما لا يختلف فيه اثنان، وأما الثانى فبين القناصل أنفسهم لأن الأغلبية منهم تسأل أن يكون الرئيس أجنبيًا والأقلية تريد أن يكون مصريًا. ولا نعجب إذا كانت هذه الأقلية لم تقطع بهذا الأمر إلا لاعتقادها بأن الإنكليز لا يشترطون تعيين رئيس أجنبى إلا ليكون إنكليزيًا، وبالتالى أن تكون البلدية إدارة إنكليزية أشبه بالرى والمالية"!

ويبدو أن هذه الصراعات بين القناصل قد أنعشت آمال الأهرام أن ينحاز أغلبهم إلى المصالح المصرية مما تبدى في موقفها من استقبال القنصل العام الألماني الجديد، البارون فون هيكنغ، فيما عبر عنه تعليق طويل للجريدة في عددها الصادر يوم 22 فبراير عام 1894 كان مما جاء فيه:

"يؤمل العموم في حضرة قنصل ألمانيا الجديد وهو لا يجهل الأهمية التجارية لألماني في مصر أولا وكونها طريق الشرق الأقصى ثانيًا ولأنها باب المستعمرات لألمانيا ثالثًا بأن تكون خطه مما يساعد المصريين على تحقيق أمانيهم لأن وقوع مصر في قبضة إنكلترا يحول دون مصالح ألمانيا الثلاث التجارية والسياسية ولا نعجب إذا كانت سياسة الجديد غير سياسة سلفه"!

*** فتحت التحولات الكبيرة التي عرفها المجتمع المصرى خلال نفس الحقبة نوافذ جديدة للقناصل الأوروبيين على هذا المجتمع.

نافذة أولى نرى منها الاحتفالات التي كانت تجرى في سراى عابدين بمناسبة تقدين القناصل العاملين الجدد لأوراق اعتمادهم حيث كانوا يصلونها "بعربة التشريفات التي يجرها أربعة خيول" فيكون في استقبالهم الخديو "محفوفًا برجال الوزارة والمعية السنية وكلهم بالملابس الرسمية والنياشين الفاخرة"، يعقب ذلك أن يتقدم القنصل العام بأوراق اعتماده ويتبادل مع الخديو خطبتين معدتين سلفًا.

المناسبات الاجتماعية في سراى عابدين فتحت النافذة الثانية، ففي أي من ليالى الأنس (الباللو) التي كان يقيمها الخديو احتل القناصل مكانهم الخاص، بعد الوزارة مباشرة، ثم أنه كان لرجالهم ونسائهم المساحة الأكبر في حلقة الرقص، مما كان موضوعًا لأخبار ضافية في الأهرام، إذ ظل المصريون محجمين عن اقتحام هذه الحلبة، حتى ذلك الوقت على الأقل!

بدت النافذة الثالثة في العلاقات بين قناصل العموم بعضهم البعص، وتذخر أخبار الأهرام بالجانب الاجتماعى من هذه العلاقات، كأن يقيم قنصل بلجيكا "مأدبة فاخرة في رستوران سانتى بجنينة الأزبكية إكرامًا للمسيو ريفرسو القنصل الفرنسي العام"، وكأن "يؤدب قنصل ألمانيا الجنرال مأدبة شائقة لحضرات قناصل فرنسا وبلجيكا والدانمرك في أوتل شبرد"، وأخبار عديدة!

كانت النافذة الرابعة تفتح في مناسبة زيارات الشخصيات الأجنبية لمصر، فقد كان القنصل العام ينشط خلال ذلك في تدبير الزيارات الرسمية لمثل هذه الشخصية لكبار المسئولين في البلاد على رأسهم الخديو وكبار النظار، خاصة ناظر الخارجية.

تؤكد الأخبار التي قدمها الأهرام خلال شهر مايو عام 1894 عن زيارة قائد الأسطول الفرنسي في البحر المتوسط مدى اتساع هذه النافذة.. في يوم 16 يستقبل "النزالة الفرنسويين في الثغر"، في الساعة العاشرة من صباح اليوم التالى يستقبله "الخديوى لكل رعاية واحتفاء"، وفى يوم 18 يقيم القنصل للرجل وضباطه "مأدبة شائقة حضرها كبار النزالة الفرنسيين فتبودلت عبارات الوداد وشرب الجميع نخب حضرات رئيس الجمهورية والكنتر اميرال وانصرفوا مسرورين شاكرين"!

ومع تعدد النوافذ على هذا النحو، كان مطلوبًا شكل من التنظيم وهو ما توصل إليه "حضرات القناصل بأن حق رئاسة اجتماعاتهم بالأقدمية لا يكون إلا للمعينين منهم من الخارج دون المعينين من سكان القطر"!

**** أخيرًا أضاف نظام الامتيازات صلاحيات جديدة للقناصل في حماية رعايا دولهم، وهى الصلاحيات التي استخدمت أسوأ استخدام ضد وقوع هؤلاء تحت طائلة القانون، مما كان مثارًا لاحتجاجات متوالية من السلطات لم تأل الأهرام جهدًا في دعمها.

من الروايات العديدة التي نشرتها الجريدة في هذا الصدد نختار ما أسمته "بقضية العواهر" التي أثيرت بشدة في مطلع عام 1894 "وحادثة أشمون" التي جرت في صيف نفس العام.

الأولى بدأت بشكوى من سكان الثغر من "اختلاط العواهر بالمنازل التي يقطنها الأحرار وما ينجم عنه من الأضرار ولا سيما فيما يختص بالآداب العامة، فإن كان لا يمكن الآن نبذ كل النساء العواهر إلى جهة واحدة، فلا أقل من تطهير الشوارع العظيمة من المحلات العامة وهى مسألة نوجه إليها أنظار ولاة الشأن وحضرات القناصل مؤملين وضعها في موضع النظر".

بعد أيام تعلن الأهرام عن أسفها لعدم قبول وكلاء القناصل إجراء الكشف الطبي على الأجنبيات من هؤلاء، وعلى عدم موافقتهم على فتح المحافظ لهذا الموضوع من أصله!

الثانية تبدأ بأن شخصًا يونانيًا يدعى كبورلى استأجر أرضًا بإحدى نواحى مركز أشمون تأخرت عليه الأموال الأميرية "فأوقع المركز على حاصلاتها ومن ضمنها مائتى أردب فول حجزًا إداريًا فاختلس المستأجر السالف الذر الفول المحجوز ثم هربه عند آخر من التبعة اليونانية يدعى كوربتى بأشمون وهذا وضعها بمخزن خارج البلدة المذكورة".

وفى تفاصيل طويلة تتحدث الأهرام عن محاولة المأمور ضبط الفول فتعرض له كوربتى "وحصلت بينهما مضاربة" تبعها أن وجه نائب القنصل اليوناني بالغربية والمنوفية إنذارًا برفع التحفظ على الفول وإلا يتوجه إلى المكان ليرفعه بنفسه.

اقتضى الأمر أن تتدخل نظارة الخارجية لتجرى مفاوضات طويلة مع قنصل جنرال اليونان في العاصمة كان موضوعها "مائتى أردب فول" ونظن أنها كانت أغرب مفاوضات في التاريخ!

وإذا كانت ثمة دلالة لتلك القضايا فهو ذلك الدور السلبى الذى لعبه القناصل من خلال نظام الامتيازات، وكان على مصر الانتظار لنحو نصف قرن للتخلص منه!


صورة من المقال: