ads

Bookmark and Share

الاثنين، 19 أبريل 2021

140 أولاد الحوارى!

أولاد الحوارى!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 1 أغسطس 1996م - 16 ربيع أول 1417هـ


المدينة المصرية عرفت خلال العقدين الأخيرين من القرن الماضى اتساعًا ملحوظًا بم يقتصر على المباني بل شمل أيضًا المعانى!

القاهرة نموذج لهذا الاتساع زاد عدد سكانها في الفترة بين عامي 1882 و1897 من 374838 إلى 570062 بنسبة وصلت إلى 52%، وكان أهم ما في هذا الاتساع أن المدينة الجديدة قد انطلقت من أسوارها القديمة التي كانت تضم حواريها المعروفة إلى أحياء جديدة لا تختلف فحسب في التخطيط بل تختلف أيضًا في المكون البشرى، مما ترتب عليه مع وجود هذا الاختلاف إلى أن برز في أغلب المدن المصرية مدينتان.. مدينة الحى القديم التي يعيش فيها أولاد الحوارى، ومدينة الأحياء الجديدة التي تعيش فيها قوى اجتماعية مختلفة، ونتوقف قليلا لرصد الفروق..

مدينة أولاد الحوارى كانت تعانى في العادة من أزمة متعددة الجوانب.. فالحارة لم يعد حالها كما كان من قبل في العصر العثمانى.. مكان يضم أبناء طائفة بعينها، حرفية أو دينية أو عرقية، يحتمون في داخله ويمارسون حياتهم الاقتصادية والاجتماعية في إطاره، فقد حدث أن انهارت أبواب الحارات وخرج أبناؤها يواجهون العالم في الخارج..

ساعد على ذلك تخلخل كيان الطوائف الحرفية بعد أن أغرقت المنتجات الأوروبية الأسواق، وما استتبع ذلك من ضعف الدور الاقتصادى لمشايخ تلك الطوائف على رأسهم شيخ الحارة نفسه الذى كان في ذات الوقت كبير الطائفة، خاصة بعد أن برز الدور المركزى للدولة الحديثة التي سلبته أغلب سلطاته، وأصبح مجرد ممثل من ممثليها، تبقيه أو تخلعه في أي وقت تشاء!

فقد تطورت وظيفة شيخ الحارة خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، وبعد أن طالت يد الحكومة كل ركن في مصر، في الريف أو في الحضر، لتصبح قضاء حاجات الناس اليومية كتقديم الضمانات واستخراج تراخيص البناء وأعمال الحفر، والتصديق على الشهادات الإدارية، وأخيرًا الإرشاد عن المطلوبين، مما كان يعنى تغير وظيفة هؤلاء من الوساطة بين الحكومة وأهل الحارة إلى أن أصبحوا إحدى أدوات الحكومة في التحكم في أولاد الحوارى!

ولم يكم متوقعًا أن يبقى هؤلاء أسرى لحواريهم التي ضاقت بهم اقتصاديًا واجتماعيًا، فقد خرجوا منها، ولكنه لم يكن خروجًا نهائيًا، فهم قد جعلوا معهم كثيرًا من أسباب القديم.. الزى وطريقة التعامل ومجمل القيم إلى عالم المدينة الجديدة، وكان عالمًا مختلفًا، ثم إنهم كانوا يخرجون ليعودوا.. آخر النهار أو بعد بضعة أيام!

الأحياء الجديدة كانت تعبيرًا عن جملة متغيرات..

إدارية: نتيجة لتزايد دور الدولة بكل ما صحبه من نمو المؤسسات الحكومية وما استتبعه من اتساع نطاق جماعات الأفندية الذين عملوا في الميرى، وكانت لهم أحياؤهم التي شكلوا وجودًا قويًا بداخلها.. ولعل العباسية وشبرا تقدم نموذج ذلك في المحروسة.

اقتصادية: بدت في التحول إلى النظام الرأسمالى وما نشأ عنه من وجود قوى جديدة كان على رأسها الأوربيون الذين تدفقوا على مصر في تلك السنوات، ولم يكن لهم مكان في الحياة، الأمر الذى قاموا معه ببناء الأحياء التي تناسب طرائقهم في المعيشة، وكانت في الغالب بعيدة عن أسوار المدينة القديمة..

في القاهرة نشأت أحياء الزمالك وجاردن سيتى، ثم أن نسبة من هؤلاء انتقلت إلى الضواحى البعيدة على رأسها حلوان، وفى الإسكندرية كان هناك الرمل بكل مسميات أحيائه الأوروبية التي ما زال يحتفظ بها حتى يومنا هذا، ثم في المدن الأخرى المطلة على القناة أو في أنحاء الدلتا تسمى الأحياء التي قطنها هؤلاء بحى الأفرنج في مقابل الأحياء التي قطنها الوطنيون.. أحياء الحارات، وكانت تسمى بأحياء العرب!

اجتماعية: تجسدت ف الهجرة التي عرفتها المدن من الريف، وفضلا عن هجرة الفقراء الذين عاشوا على هوامش المدينة، كانت هناك هجرة القوى الاجتماعية التي نمت نتيجة لاستقرار الملكية الزراعية في مصر.. متوسطى وكبار ملاك الأراضى، فهؤلاء أصبحوا يقتنون في الغالب فضلا عن دورهم في أملاكهم الزراعية دورًا في المدن القريبة، أو في العاصمة، وقد تعددت أسبابهم في ذلك..

بعض هذه الأسباب نتجت عن الرغبة في تحقيق مصالح اقتصادية كان لا يتأتى تحقيقها إلا بوجودهم في المدينة، البعض الآخر يعزى إلى ما درج عليه عديدون منهم بإرسال أبنائهم إلى مدارس التعليم الحديث التي لم توجد إلا في حواضر المديريات أو العاصمة، البعض الثالث برز مع ما أصبحت تذخر به المدن الكبيرة من أسباب المتعة، مطاعم، مسارح، متنزهات نعتقد أن هؤلاء قد ارتأوا أن من حقهم الاستمتاع بها، وأخيرًا ما أخذ يدب في أوصال المدن الجديدة، خاصة القاهرة من أنشطة سياسية تطلعوا إلى المشاركة فيها.

ولم تكن الصلة منقطعة بين هذا العالم الجديد وبين أولاد الحوارى من أبناء الأحياء القديمة الذين أخذوا يفدون إليه، ولم يكن ذلك محل ارتياح سكانها الذين نظروا إليهم باعتبارهم مخلوقات غريبة، ومن هنا اقترن توصيف "أولاد الحوار" بكل ما هو ذميم، وكانت وجهة نظر السكان الجدد للمدينة في أبنائها الأصلاء، وهى وجهة النظر التي أخذت بها السلطات كما تبنتها الأهرام، فقد انتموا جميعًا إلى العالم الجديد بكل نظمه التي نفرت من الحارات ومن أولادها!

***

قدمت الأهرام وجهة النظر تلك في عديد من أعدادها نختار منها قصة مشاجرة كبرى اشتبك فيها أولاد الحارات في ربيع عام 1887.. جاء في أول أخبارها المنشور يوم 18 مارس: "اجتمع في الساعة التاسعة من مساء أول أمس زمرة مؤلفة من بعض الرعاع من حارة الداودية وحارة السنانية حاملين النبابيت فتشاجروا وقد تهشم منهم كثيرون ثم انقسموا حزبين متصادمين وطافوا في تلك الشوارع وكسروا بعض القناديل وكان إذا تعرض لهم أحد أهانوه إلى أن وصلوا إلى شارع محمد على ففعلوا مثلما فعلوا في الشارعين المذكورين واستمروا في ذلك زمنًا ثم تفرقوا من أنفسهم لأن رجال البوليس قد وجدوا بأن لا قوة لهم على المدافعة فلزموا الحيادة"!

وتكشف هذه المعركة التي كثيرًا ما كانت تتكرر بين أولاد الحوارى في القاهرة عن أكثر من حقيقة.. روح العصبية التي استمرت تجمع بين أبناء كل حارة، فيتحولون في وقت اللزوم إلى أسرة كبيرة واحدة، وهى الروح التي كانت لا ترحب الغريب وتتحول في الوقت المناسب إلى اتخاذ الموقف الموروث.. موقف الكتلة الواحدة في مواجهة المخاطر، أو ما يعتقدونها مخاطر، على الجانب الآخر كان استخدام العنف الجماعى أحد مظاهر التعبير عن هذه الروح، وهم في ذلك لم يعولوا كثيرًا على ما كان قد حدث منذ أوائل القرن بتنامى قوة السلطة المركزية التي لم تكن مستعدة أن تقبل بالانتقاص من هيبتها من جراء مثل هذه السلوكيات، وأخيرًا فهم في أعمالهم العنيفة استخدموا نفس أدواتهم القديمة.. النبابيت التي انتهت فعالياتها في مواجهة الأسلحة الحديثة لرجال الحكومة، ومن ثم كان ما جرى بعد ذلك منتظرًا..

فلم يمض وقت طويل إلا وكانت الدولة قد تحركت، ففي اليوم التالى أرسلت النيابة العمومية فأمسكت نحو خمسين رجلا منهم أودعتهم السجن، تبع ذلك أن اجتمع رئيس النظار وناظر الداخلية واستدعيا "حضرة فنك بك (حكمدار العاصمة) للاستقصاء منه عن حقيقة المسألة والتشدد بمتابعتها إلى أن يعرف الفاعلون وتتحقق الأسباب وذلك بناء على أمر الجناب الخديو المعظم"!

اهتمت الأهرام بمتابعة ما جرى بعد ذلك في قضية المشاجرة التي وقعت بين الحارتين، وحاولت أن تهون منها فذكرت أن طواف بعض أولادها في الشوارع كان لمناداة بعضهم أكثر منه للدخول في المعركة، مما يشير إلى حقيقتين: أولاهما: أن المعركة قد اتخذت ساحتها في الأحياء الجديدة من المدينة، وليس في إحدى الحارتين أو كليهما، وإلى أن أبناء هذه الأحياء قد انزعجوا كثيرًا مما عاينوه من أولاد الحارات، وهو الأمر الذى جعل السلطات، وعلى رأسها الخديو لا تتهاون بحال في الواقعة، مما يشير إليه الخبر الذى ساقته الأهرام بعد عشرة أيام وجاء فيه:

"انتهى التحقيق في حادثة حارتى الداودية والسنانية وثبتت التهمة على 30 من المحبوسين وأحيلت القضية على النيابة العمومية، وأعربت الصحيفة عن أملها بأن "يعامل هؤلاء الرعاع بصرامة القانون حتى لا يرجعون إلى مثل هذه الأعمال السيئة ويقتدى بهم غيرهم من مثلهم فيتسع الخرق على الراقع"، ولم تكن على أي الأحوال الحادثة الوحيدة من أولاد الحوارى..

بعد أسابيع قليلة تشاجر بعض هؤلاء الذين اصطلحت الأهرام على توصيفهم بعدئذ بالرعاع في جهة طيلون "وظلوا يضربون بعضهم بعضًا بالنبابيت مدة ساعة أو أكثر إلى أن تهشم قسم كبير منهم"، وانتقدت الصحيفة غياب أي وجود أمنى في موقع المعركة لا سيما أن الداخلية كانت قد ألغت قسم بوليس كان موجدًا بها، فضلا عن أن شيخ الحارة لم يقم بواجبه في إخطار السلطات في الوقت المناسب "فآملنا من الإدارة المذكورة أن تعيد هذه القرة قول إلى حالته الأولى أو أن تأمر بتعيين بعض رجالها في تلك الجهة وتستبدل شيخها برجل تدفعه همته لأن يخطر البوليس عند وقوع حادثة مثل هذه".

فضلا عن هذا الخروج الجماعى لهؤلاء من حواريهم فقد كان هناك الخروج في شراذم صغيرة إلى المناطق القريبة من حاراتهم مما كان مثار لشكاوى عديدة عبرت عنها الأهرام خاصة في المناطق القريبة من حديقة الأزبكية حيث كان يصب عدد من الحارات، وحيث كان يتحلق بالحديقة عديد من الفنادق والمحال التجارية الأوروبية.

جاء في إحدى تلك الشكاوى أن الحكومة قد عزمت على أن تصدر أمرًا لرجال البوليس في العاصمة بالقبض على جميع السفلة (توصيف جديد من الأهرام لأولاد الحارات) الذين يتجولون حول حديقة الأزبكية وسائر شوارع المدينة ويتعرضون إلى المارة بألفاظ قبيحة وأعمال منكرة وأن هؤلاء الأولاد العديمى التربية قد لجأوا في الأيام الأخيرة إلى جميع الحيل الدنيئة لتكدير المارة وإهانتهم"!.

الإسكندرية بعد القاهرة وبحكم ما شهدته من تغير في خريطتها العمرانية والاجتماعية والذى سبقت فيه العاصمة عرفت هذا التباين بين القديم والجديد.. بين أولاد الحارات وأولاد الإيه!.

فى 31 يناير عام 1894 يقبض بوليس الثغر على عدد عظيم من الصياع وأولاد الأزقة على حد تعبير الاهرام والمناسبة الاحتفال بأحد الأعياد التي يقيمها الأوروبيون.. وحول هؤلاء الآخرين.. أولاد الأزقة جاءت تعقيبات عديدة من جريدتنا.

في أعقاب هذه التعقيبات تتحدث الأهرام عن تجمع هؤلاء "عصبا بالعصى والقضبان لتدور بينهم رحى الحرب هجومًا ودفاعًا.. وكثيرًا ما تتجلى المعركة عن مشجوح رأس ومكسور ذراع" وتحدد عدة وقائع كان منها ما جرى في شارع الباب الشرقى بسبب مشاجرة بدأت بين يونانى ووطنى، وتعتب الأهرام أن الأولاد تحاربوا "وانتهت المسألة وتفرق المجتمعون دون أن تشرق أنوار الطلعة الشرطية"!

ترصد الصحيفة في مناسبة أخرى أماكن تجمع هؤلاء في حارة البقطرية وشارع الورشة والسكة الجديدة وشادر البطيخ القديم أمام القهوة التي على البحر "حيث يتضاربون ويتخاصمون ويرمون المساكن بالحجارة مما كثرت معه الشكاوى وضاق سكان تلك المناطق ذرعًا بهم"!

ويبدو أن منطقة حارة البقطرية وباب سدرة البرانى قد ظلت ميدانًا لنشاط أولاد الحارات مما كان مصدرًا لأخبار عديدة بامتداد صيف عام 1894.. في 22 يونية تتحدث الجريدة عن هجومهم على البيوت وأنهم أمسكوا في اليوم السابق "رجلا فأشبعوه ضربًا بالعصى وتركوه على ما يقال بين حى وميت" وفى يوم 16 يوليو "وقفوا بوجه موكب عرس فضربوا العريس ورفقاءه ضربًا مبرحًا" وحوادث أخرى عديدة.

وإذا كانت تلك الأحداث تدل على ما نتج عن التداخل بين القديم والجديد في إحدى مراحل الانتقال التاريخية للمجتمع المصرى فإنه على الجانب الآخر ونتيجة لتعاظم السلطة المركزية كأحد مظاهر هذا الجديد كان لابد أن تتدخل وبشكل مقنن لفض الاشتباك ولصالح الجديد طبعًا. مما يشكل صفحة هامة في قضية أولاد الحوارى..

***

في أوائل يونية عام 1891 تسربت أنباء عن نية مجلس النظار على إصدار ما أسماه "قانون المشردين" لمعاقبة الذين "لا حرفة ولا مأوى لهم بالحبس ثمانية أيام، وإذا ما ضبطوه مرة أخرى يعاقبون بالسجن من سنة إلى ثلاث سنوات".

ومن نص مشروع هذا القانون يتضح أنه قد سعى بالأساس إلى حماية مناطق العمران الجديدة في المدن الكبيرة من الوافدين إليها من خارجها، سواء من سائر أنحاء مصر أو حتى من الأوروبيين وعلى وجه التحديد من فقراء الوافدين من مناطق البحر المتوسط الذين جاؤوا على نطاق واسع، أو من داخل المدينة ذاتها.. من سكان الأحياء القديمة.. أولاد الحوارى وهم من نتعقبهم هنا!.

طالت لائحة المتشردين المشاغبين من أولاد الحوارى في عقر حواريهم بدخول البوليس منازلهم دون استئذان قاضى الأمور الوقتية وأن يكتفى بصبحة شيخ الحارة وأن يوضع مثيرو المشاكل منهم "تحت مراقبة الضبطية" لسنوات تصل إلى ثلاث على أن يدخلوا منازلهم قبل الغروب ولا يبرحونها قبل الشروق.

الأهم من ذلك تلك العقوبة الجماعية التي قررتها اللائحة خلافًا للمبدأ القانوني المستقر أن عقوبة الجريمة تقع على من يرتكبها، فقد جاء في الأحكام العمومية للائحة أنه إذا ما حدث ما يخل بالأمن بجهة ما "فلناظر الداخلية أن يصدروا قرارًا بازدياد عدد رجال البوليس مؤقتًا وذلك بناء على طلب المحافظ أو مفتش عموم البوليس وحينئذ تحتسب المصاريف غير العادية التي أوجبها هذا الأمر على أهالى الجهة التي وقع فيها الخلل"!

في يون 21 أغسطس عام 1892 صدرت اللائحة بشكلها النهائي التي استهدفت من "لا واسطة له للتعيش ولا يتعاطى صناعة أو حرفة أو كل من يسعى في كسب معاشه بتعاطى ألعاب القمار أو التنجيم" ونرى أن كثيرًا من أولاد الحوارى وقعوا تحت عجلات التطور فانخرطوا بين هؤلاء..

ففضلا عما سبقت الإشارة إليه من غزو السلع الأوروبية وانتشار القيم الاستهلاكية المستحدثة مما أخذ ينخر في أطماع أصحاب الطوائف الإنتاجية القديمة، فإن هذه العجلات قد طالت بدورها أصحاب الطوائف الخدمية.. السقايين بعد انتشار "قومبانيات المياه المقطرة" ووصول الأنابيب والصنابير إلى المنازل، المشعلجية والقندلجية والشماعين بعد أن أخذت الكهرباء في التسلل إلى المباني العامة فالمتاجر وأخيرًا المنازل، العربجية بعد أن أخذت خطوط "الترمواى الكهربائى" تذرع شوارع المدن الجديدة.. في القاهرة ثم الإسكندرية فبورسعيد.

تبينت الأهرام هذه الحقيقة مع تطبيق القانون فقد رأت أن أغلب ضحاياه من هؤلاء الذين بطلت حرفهم ورأت أنه ليس من العدل أن يكون السجن جزاء من لم يجد شغلا يقوم بأوده ولجأ إلى التسول والاحتيال ابتغاء تحصيل القوت الضرورى.. فأملنا من ولاة الحل والعقد وضع هذه المسألة موضع الحسبان".

قبل مضى وقت طويل كان أولاد الحوارى الذين تعرضوا للعقوبات التي تضمنتها اللائحة قد كيفوا أوضاعهم لتجنبها فأصحاب الحرف السهلة من هؤلاء.. الجائلين في الشوارع والمترددين على المنازل "أنابوا عنهم نساءهم وأولادهم فبدلا من أن نرى غير رجل منهم في اليوم مثلا كما كان جاريًا من قبل فقد لا نرى غير أربعين فقط والباقون أولاد صغار دون سن البلوغ ونساء يحملن أطفالا دون سن الرضاع".

ويبدو أن ذلك، فضلا عن أن رجال البوليس قد ركزوا جهودهم في تنفيذ القانون على امتدادات المدينة القريبة من الأحياء القديمة قد أدى إلى انتقال هؤلاء إلى الأطراف بمعنى آخر غادروا الأحياء التي قطنتها الطبقة الوسطى إلى تلك التي يعيش في جنباتها أبناء الأرستقراطية التي استوطنت في العاصمة مما كان مثار شكوى من أسمتهم الأهرام بالوجهاء!

فقد نعى هؤلاء على رجال البوليس عدم اقتفاءهم المتشردين الذين زادوا زيادة بالغة في "الجهات المتطرفة من المدينة التي يقطنها الوطنيون فأملنا معالجة الأمر وملاقاة الأضرار"!

ولا شك أن ارتفاع أصوات المحتجين من أبناء الأحياء الجديدة على استمرار وفود أبناء الحارات إلى شوارعهم ممن تنوعت الأوصاف التي أطلقوها عليهم وآخرها الأوباش قد دفع السلطات إلى إدخال بعض تعديلات على لائحة المتشردين كان أظهراه ما تقرر في أوائل عام 1894 بإلغاء الشرط القاضي بأن ينذر رجل البوليس من يشتبه فيهم من هؤلاء قبل القبض عليه ذلك لأنه قد تحقق أن إنذار المتشرد قد يكون سببًا لفراره من البلد الذى أنذر فيه.

دفع ذلك المسئولين إلى تشديد القبضة على شيوخ الحارات مما نمت عنه أخبار الأهرام العديدة خاصة ما اتصل منها بالتركيز على دور هؤلاء في الإرشاد عن المشاغبين من أولاد حواريهم.

يشير ذلك الاجتماع الذى عقده محافظ العاصمة مع شيوخ الحارات يوم 6 سبتمبر عام 1893 لذلك فقد أخبرهم بشكوى الناس من اقتتال أولاد الحوارى في الشوارع وتعديهم على المارة ونبه عليهم بالالتفات إلى ذلك وشدد عليهم بأن من لن يؤدى تلك المهمة على النحو المطلوب فقد يتعرض لفقدان منصبه.

وكالعادة في مثل هذه الأحوال فقد أساء بعض هؤلاء استخدام السلطة المخولة لهم الأمر الذى بدا في تلك الشكوى الطويلة من أهالى طنطا حتى أن مكاتب الصحيفة في عاصمة الغربية كتب عما يصيب "السكان من ظلم وإجحاف لتحايل المشايخ مع رجال الشرطة عليهم ونسأل أولى الأمر أن ينظروا في ذلك".

من جانب آخر فإن ما درج عليه التقليد من توارث هذه الوظيفة قد أدى في بعض الأحوال إلى مشاكل بين صاحبها وبين أولاد الحارة فكثيرًا ما حدث ألا يكون الابن على كفاءة أبيه أو نزاهته.

ونرى أن هذه الصورة الذميمة لأبناء الحارة التي قدمتها الأهرام بل وسائر الصحف المصرية في ذلك العصر، قد ظلت سائدة في الوجدان الوطنى العام.. ربما حتى منتصف القرن العشرين حين نجحت صناعة السينما المصرية في تقديم صورة مختلفة عن الحارة وأولادها كان المخرج الراحل صلاح أبو سيف فضل كبير في إشاعتها.


صورة من المقال: