ads

Bookmark and Share

الأحد، 18 أبريل 2021

139 جريدة الجرائد المصرية

جريدة الجرائد المصرية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 25 يوليو 1996م - 9 ربيع أول 1417هـ


في أحد تقاريره السنوية تباهى اللورد كرومر، المعتمد البريطاني في القاهرة، بأنه كانت تصدر في مصر في أواخر القرن الماضى، أي بعد نحو عقدين من الاحتلال البريطاني، 169 جريدة ومجلة، ودلل بذلك على ما تمتعت به البلاد من حرية، كانت كما قال ثمرة من ثمرات سياساته بإسقاط القيود على الصحافة.

وقد لهث الباحثون في الجرى وراء أسماء هذا العدد الضخم من الإصدارات الدورية، وكان أقصى ما تحصلوا عليه ما يزيد قليلا عن أصابع اليدين، الأمر الذى أصبح يُشكل لغزًا في تاريخ الصحافة المصرية.

الجانب الأكبر من هذا اللغز أمكن حله من خلال اللجوء إلى باب غريب في شأنه من أبواب الأهرام، ذلكم هو باب التنويهات بالجرائد والمجلات الجديدة، فقد استمرت جريدتنا حريصة على التمسك بهذا التقليد.. تقليد أن تنوه بكل إصدار دورى جديد، والذى أمكن من خلاله دخول هذا العالم المثير، عالم الـ 169 جريدة وجلة التي عرفها العقدان الأخيران من القرن الماضى!

وتبدو الإثارة من ذلك الخليط الهائل من الصحافة.. ناطقة بالعربية في أغلبها، وإلى جانبها صحف ناطقة بالفرنسية والإنجليزية والإيطالية واليونانية والألمانية.. صحف يحررها أغلبها الشوام وإلى جانبها أخرى يحررها المصريون الذين بدأوا يفرضون وجودهم بقوة على عالم الصحافة قرب أواخر القرن.. صحافة علمانية يقودها أشهر داعية علمانى عرفه القرن الماضى، شبلى شميل، وإلى جوارها صحافة دينية كان أشهرها المنار التي أصدرها الشيخ رشيد رضا، صحافة الأفندية الجدد، خاصة من خريجى مدرسة الحقوق على رأسهم مصطفى كامل وأحمد لطفى السيد وصحافة الشيوخ في مقدمتهم على يوسف صاحب المؤيد المشهورة، صحافة جادة غاية الجد وأخرى وصلت بالهزل إلى قمته، وإلى هذا العالم المثير ندخل!

***

صناعة هذا العالم تمت من خلال مجموعة من المعطيات التي عرفتها مصر خلال أواخر القرن التاسع عشر، ويمكن أن نرتبها، تبعًا لما نظنه من أهميتها، على النحو التالى..

1) اتساع هجرة الشوام إلى أرض الكنانة، وهى الهجرة التي بدأت بعد أحداث الستينات في جبل لبنان، ثم زاد نطاقها بعد عام 1882 وحتى قيام الحرب العظمى عام 1914، ولم تقتصر وقتئذ على أهل الجبل فقد ضمت آخرين من شتى أنحاء الأقطار السورية، على حد تمسية الأهرام.

وقد جاء أغلب هؤلاء ببضاعتهم، بمن فيهم أرباب القلم، فقد هاجر بعضهم إلى مصر بالصحف أو المجلات التي كانوا قد أصدروها ف بلادهم ولقيت رواجًا، ولكنه لم يكن الرواج الذى توقعوه لو جاءوا إلى القطر المصرى.

يقدم هذا الخبر الذ نشره الأهرام يوم 13 مارس عام 1885 نموذجًا على ذلك.. قال: "عول الفاضلان الأديبان يعقوب أفندى صروف وفارس أفندى نمر منشئ المقتطف الأغر على الإقامة بمحروستنا يُصدران منها مجلتنا الغراء العلمية الصناعية التي اشتهرت لدى الخاص والعام"، يصف بعد ذلك الوداع المؤثر الذى حظى به الرجلان من أهالى بيروت على رأسهم الدكتور فاند ليك، رجل الإرسالية الأمريكية المشهور، كما لا ينسى أن ينشر الخطابين اللذين وجههما أكبر شخصيتين سياسيتين في مصر آنئذ شريف باشا ورياض باشا، يشهدان فيهما "بما للجريدة المذكورة من الفضل وغزارة المادة ووفرة الفائدة"، وهما الكتابان اللذان صدرت بهما المقتطف أول أعدادها بعد الهجرة إلى القاهرة.

وتبدو أهمية هذا المُعطى من أن الصحفيين الشوام قد احتكروا تقريبًا عملية إصدار الصحف الناطقة بالعربية خلال الثمانينات، كما ظل لهم نصيب كبير في الإصدارات الجديدة بعد ذلك فيما سجلته تنويهات الأهرام.

سليم أفندى فارس يصدر القاهرة نصف أسبوعية في نوفمبر عام 1885، جورجى أفندى غزوزى يحرر الصفاء في أبريل عام 1887، التقدم التي صدرت بعد عامين صاحبها إسكندر طاسو، الراوى أصدرها خليل زينيه في سبتمبر عام 1889، أما نقولا أفندى زكا فقد كان يحرر "فواكه الأرواح" الصادرة في نوفمبر من ذلك العام، آل حداد، نجيب وأمين، أصدروا لسان العرب في أغسطس عام 1894، سبقهما جرجى زيدان بعامين بإصدار الهلال، كما أصدر نقولا شحادة "الرائد المصرى" بعد عامين.

وإذا كان ثمة ملاحظة هنا على دور الشوام فهو أن المصريين بدأوا يشاركونهم بقوة خلال التسعينات.

2) نتج عن ذلك نمو شرائح المثقفين المصريين ممن اندفعوا في سعيهم إلى المشاركة في الحياة العامة، وكان الصحافة أداة رئيسية من أدواتهم في هذا السعي، وقد جاء هؤلاء المثقفون من رافدين أساسيين.

رافد أبناء الأزهر الذين استمروا يحتلون مكانة خاصة في الصحافة المصرية منذ نشأتها، ولعل دراسة لمحررى الوقائع المصرية تؤكد أن هؤلاء قد شغلوا مساحة واسعة بينهم، ويُجسد الشيخ على يوسف النموذج لهؤلاء.

كان أو ظهور للشيخ الشهير في التنويهات الأهرامية في العدد الصادر يوم 7 فبراير عام 1887، والمناسبة كانت صدور "جريدة أدبية علمية تاريخية فكاهية وسُميت بالآداب لحضرة صاحب امتيازها ومحررها البارع الشيخ على يوسف وهى تصدر فى القاهرة مرة واحدة كل أسبوع".

ويبدو أن الآداب قد تعثرت بعد فترة قصيرة من صدورها مما يكشف عنه الخبر المنشور في أواخر نفس العام بعودتها إلى الصدور بعد أن "احتجبت عنا مدة من الزمن اختياريًا فتلقيناها مستبشرين بعودتها"!

كان ذلك تمهيدًا لإصدار المؤيد التي استمر لفترة غير قصيرة من كبرى صحف العصر، وقد حظيت بتنويهين من الأهرام، أولهما في 20 نوفمبر عام 1889 عن حصول الشيخ على الترخيص بإصدار جريدة سياسية تجارية يومية بعنوان "المؤيد" والثانى عن صدورها بعد ذلك بأسبوعين ووجدتها الأهرام "وقد حوت أدق المباحث وأرق المواضيع مما دل على أنها وطنية مصرية وأن ما نعهده في حضرة صاحب امتيازها من سعة الاطلاع وغزارة المادة وصحة العلم والمبادئ نؤمل معه سرعة انتشارها".

الشريحة الثانية تشكلت من خريجى المدارس المدنية، وعلى وجه الخصوص مدرسة الحقوق الخديوية، وتحفل هذه الشريحة بالنماذج التي نختار منها شخصيات انحدرت من رافدين اجتماعيين أساسيين.

أحمد لطفى السيد أحد أبناء واحد من كبار المُلاك بالدقهلية والذى اشتهر اسمه فيما بعد كرئيس لتحرير كبريات الصحف التي ظهرت خلال العقد الأول من القرن التالى، صحيفة الجريدة، كانت له في ميدان الصحافة محاولات مبكرة خلال تسعينات القرن التاسع عشر نوهت بها الأهرام.. جاء في هذا التنويه:

"وردنا العدد الأول من مجلة الشرائع لحضرة صاحبها ومحرريها الأديبين أحمد أفندى لطفى السيد وإسماعيل أفندى الحكيم وهى قضائية إدارية اقتصادية ذات فصول مفيدة وكثيرة"، غير أن الأكثر تجسيدًا لتلك الطبقة خلال تلك الحقبة كانت الأهلى التي أصدر إسماعيل بك أباظة عددها الأول في أول سبتمبر عام 1894 سبقه إعلان طريف من صاحبها جاء فيه أن "العدد الأول والثانى والثالث سيصير نشرهم وتوزيعهم مجانًا دون أدنى مقابل سواء كان بالعاصمة أو بالثغور والأرياف"، ونظن أن هذا الإعلان ليس في حاجة إلى تعليق من حيث دلالته على الواقع الطبقى للبك الذى أصدرها!

يُقدم مصطفى كامل النموذج الثانى من هذه الشريحة والذى كان ابنًا لموظف متوسط، وقد تتبعته تنويهات الأهرام في أكثر من موقع بامتداد تحركاته الصحفية.

في 20 فبراير عام 1893 تنوه بالمدرسة "وهى جريدة شبه تهذيبية تصدر مرة في كل شهر"، وفى أوائل أغسطس عام 1899 تنوه بالكوكب المصرى "وهى جريدة أدبية أسبوعية لحضرة صاحبها ومحررها مصطفى أفندى كامل"، حتى تصل إلى التنويه بجريدته الكبرى اللواء في 3 يناير عام 1900 وقد رحبت بها ترحيبًا حارًا لما في منهج الجريدة من بيان "طرق خدمة الأمة وغير ذلك مما عرفناه من حضرته خطيبًا على المنابر وكاتبًا على صدور الصُحف"!

3) تعاظم شأن الجاليات الأجنبية خلال نفس الحقبة، وقد سعت كل منها أن يكون لها لسانها، أو بكلمات أخرى صحيفتها، وقد تعددت الألسن وفقًا لحجم الجالية وتبعًا لانتشار ثقافتها.

فمع أن حجم الجالية الفرنسية احتل المكانة الرابعة بين الجاليات، فإن عدد صحفها قد فاق أية جالية أخرى، بحكم اللغة الأجنبية الأولى التي كانت تشيع وقتئذ بين المثقفين المصريين كانت الفرنسية، بل أنها كانت في نفس الوقت تشيع بين غيرهم من أبناء جاليات البحر المتوسط الذين وفدوا إلى مصر، ومرة أخرى نستعين بتنويهات الأهرام.

أهرام يوم 27 يناير عام 1893 تنوه بظهور "جريدة أدبية فكاهية فرنساوية يونانية" عنوانها "موستيك" أي البعوضة، وهى "تصدر في بورسعيد مرة كل أسبوع بإدارة المسيو داود دى جورجى فنرجو لها الإقبال"!

وبينما يبين هذا الخبر أن بعضًا من أبناء الجالية اليونانية حرصوا عند إصدار إحدى صحفهم أن يكتبوا جزءًا منها بالفرنسية لتضمن إقبال المصريين من أصحاب هذه الثقافة أو الفرنسيين، خاصة أنها قد صدرت في بورسعيد حيث كثرة من موظفي شركة القناة من هؤلاء، فإن خبر آخر يؤكد أن بعضًا من المصريين قد آثروا إصدار صحف بنفس اللغة ضمانًا لرواجها بين نفس القاعدة من القراء.

ففي العد الصادر يوم 16 فبراير عام 1894 تقول الصحيفة: "تلقينا العدد الأول من جريدة سياسية فرنسية العبارة تصدر بالعاصمة مرة كل أسبوع لحضرة صاحبها الأديب محمد أفندى مسعود وهى وطنية النزعة مخلصة في خدمة الوطن العزيز".. إلخ..

الصحافة الإنجليزية، على رأسها الإجبشيان جازيت، التي كانت تلقى دعمًا من سلطات الاحتلال، جاءت في المرتبة الثانية، "التايمز أوف إيجبت" التي صدرت في أول عام 1895، ومن الطريف أن قسمًا منها كان يحرر بالفرنسية، الشرق والغرب، الذى حرر صاحبها إعلانًا في الأهرام خلال صيف عام 1891 عن نيته في إصدارها أسبوعية بعد أن كانت يومية، قبل ذلك شهور تنوه الجريدة عن زيارة صاحب جريدة "نيويورك هيرالد" إلى الإسكندرية وعن نيته إصدار صحيفة إنجليزية بها.

وإذا كان ثمة ملاحظة فهى افتقار لغة الأهرام في التنويه عن الصحف الإنجليزية للترحيب الذى كانت تحظى به الصحف الفرنسية، حتى أننا عرفنا بتلك الصحف من الإعلانات التي كانت تنشرها أكثر من التنويهات التي كانت تتطوع بها الجريدة لسائر الصحف الجديدة.

ومثل هذا الموقف مفهوم على ضوء انحياز الأهرام للثقافة الفرنسية، وعلى ضوء أن أغلب معاركها التي خاضتها خلال التسعينات كانت مع إحدى صحيفتين.. "المقطم" الناطقة بالعربية والتي آثر أصحابها الدفاع عن الإنجليز، و "الإجبشيان جازيت" باعتبارها لسان الجالية الإنجليزية في القطر المصرى، والمدافعة عن سياسات الاحتلال فيه.

جاءت الصحافة الإيطالية في المرتبة الرابعة من اهتمامات التنويهات الأهرامية، فبامتداد هذه الفترة لم نعثر سوى على تنويه واحد عن صحيفة إيطالية ظهرت في 5 أبريل عام 1889 وجاء فيه: "تلقينا العدد الأول من جريدة إيطالية تطبع في الثغر تحت عنوان "أوبرايو" وهى تبحث في كثير من المواضيع السياسية والعلمية والأدبية، فنسأل لها كل نجاح وتوفيق"!

الذيل احتلته الصحافة الألمانية التي ورد خبر يتيم عنها في أبريل عام 1887 جاء فيه: "بلغنا أنه سيصدر في العاصمة عما قريب جرنال باللغة الألمانية عنوانه "لاجرمانيا" ينشر مرتين في الأسبوع"، ولا نظن أن هذا "الجرنال" قد صدر أبدًا، سواء لقلة عدد الألمان في مصر، أو لقلة قراء الألمانية بين المثقفين المصريين، هذا رغم الإعجاب الذى ظلت تحظى به ألمانيا بين هؤلاء!

وكان من الطبيعى أن يحدث هذا الفيض من الصحف مناخًا جديدًا صنع سطورًا من تاريخ الصحافة المصرية شاركت الأهرام في كتابتها.

***

التنوع شكل أول عناصر هذا المناخ، وهو تنوع تراوح بين الصحافة التي تختص بمهنة بعينها، وصحافة أخرى تهنى بوجه بذاته من وجوه النشاط الاقتصادى.

أهم أنواع الصحف المهنية كانت تلك التي تخصصت في الطب أو في القانون أو في الاقتصاد مما جاء رصده في أكثر من تنويه.

حظيت المجلات الطبية بنصيب ملحوظ من هذا النوع من الإصدارات، ففي أغسطس عام 1887 نوهت الأهرام بأنها قد تلقت العدد الأول من مجلة الصحة التي قام على إصدارها نخبة من أشهر الأطباء المصريين وقتئذ: عيسى باشا حمدى، محمود بك صدقى، حسن أفندى خورشيد، فضلا عن الدكتور جرين باشا، "وهى فريدة.. حسنة التأليف.. متينة العبارة.. جزيلة الفوائد.. تبحث عن أوضاع الطب وفنونه وما استجد فيه مما يكون غنية للطالب ومنية للراغب"!

تنبه في الوقت نفسه تقريبًا بصدور مجلة "الشفاء" "لمنشئها حضرة العالم الفاضل الدكتور شبلى شميل.. محررها الذى يتخير أدق الأبحاث بالفائدة والنفع في عبارة فصيحة الألفاظ حاوية أجل ما يحفى به الإنسان ألا وهو علم صحة الأبدان"! هذا فضلا عما شهده عام 1894 من صدور مجلة "طبيب العائلة" التي ارتأت الأهرام أنها تشتمل "على كثير من الفوائد الطبية والصحية".

احتلت الصحافة القانونية المكانة الثانية، ففضلا عن مجلة الشرائع السابق الإشارة إليها، رصدت الأهرام مجلتين على الأقل.. الأحكام التي صدر أول أعدادها ف نوفمبر عام 1887 وكان يتولى تحريرها نقولا توما وهى "جريدة قضائية جمعت خير الأبحاث في القضاء بعبارة حسنة ونسق مأثور وتصدر مرة كل شهر على شكل كراسة تشمل على 64 صفحة"، والقضاء التي صدرت في الإسكندرية في فبراير عام 1894 "بإدارة حضرة الأديب المسيو أميدة شرباتى النائب في أقلام قضايا الحكومة، وهى تتضمن أهم أحكام المحاكم الأهلية وخلاصة الأحكام الصادرة من المحاكم المختلطة، مع انتقاد وملاحظات على الأحكام"، وكانت تصدر مرتين شهريًا، وقيمة اشتراكها مائة قرش سنويًا، وكان مبلغًا كبيرًا، فالأهرام اليومية لم تزد فيمة اشتراكها عن 195 قرشًا سنويًا!

"الإعلان" وكان يصدرها مصريان هما جميل ومصوبع، وكانت مجلة غريبة في شأنها، ونترك للأهرام تقديم أسباب الغرابة في تنويهها عنها.. تقول: "إنها مفيدة.. حاوية كل ما يهم من الإعلانات وأخبار التجارة، وأسعارها وشئون المحصولات وأنواعها، مزينة برواية أدبية تصدر في كل عدد منها تباعًا، ومختومة بسؤال يأخذ من يحله جائزة ثمينة من مال أو غيره، وهى ترسل مجانًا لأصحاب الإعلانات والدوائر والمراسح والبيوت التجارية وجميع من يطلبها، وتصدر مرة كل أسبوع وهو مشروع جليل مفيد".

"المراسلات الجديدة" تجارية صناعية علمية فنية.. صاحبها ومديرها فرنسى هو المسيو لا جرين، يتبعها (اليانصيب)، وكانت فيما وصفتها به الأهرام "مالية اقتصادية تجارية أدبية لمنشئها الأديب الخواجا ديفيد فارحى، وهى أول جريدة ظهرت في مصر على هذا المنوال، وليس غريبًا أن يكون صاحبها يهوديًا بحكم الدور الاقتصادى لأبناء طائفته.

ومع هذا التنوع وتعدد الصحف احتلت الجريدة مكانًا حيويًا في الحياة اليومية للمصريين، وما أصبح عادة في السنوات الأخيرة أن يفتح الإنسان عينيه في الصباح على صحيفته المفضلة كان قد بدأ يضرب بجذوره منذ ذلك الوقت، مما تكشف عنه تلك الواقعة التي روتها الأهرام في عددها الصادر في 26 يوليو عام 1894 بقولها "من أكبر الأدلة على المركز الخطير الذى بلغت إليه الجرائد في بلادنا ما شهدناه أمس من اهتمام القراء وانشغال خواطرهم بتأخير جريدتنا ساعة عن صدورها"!

على جانب آخر أدى إلى اتساع قاعدة الصحفيين في مصر ونشوء هذه الشريحة الجديدة من أصحاب المهن الحرة، ووصل الأمر وقتئذ إلى التفكير في إقامة نقابة تضمهم كانت الاهرام أول من دعا إليها عام 1895 فعددت فوائدها عليهم، غير أنه يبدو أن المسألة كانت تتطلب بعض الوقت مما كان مثار شكوى بشارة تقلا الذى قال بأسى: "لم يجب حضراتهم دعوتنا على اننا لا نيأس من الوصول إلى هذه النتيجة في المستقبل لأن الحاجة إليها تزيد في كل يوم وضوحًا بحيث سيأتى يوم نرى فيه أنه لا مناص منها"، وهو اليوم الذى لم يأت من حياة الرجل على أي الأحوال!

على جانب ثالث بدأت منذ ذلك الوقت علاقة مريبة بين بعض الصحف وبين عدد من الإدارات الحكومية التي وضعت تقليد "المصاريف السرية" تقدمها لصحفيين بعينهم فيما سجلته الأهرام في عددها الصادر في 13 أبريل عام 1894، وإن تحرزت فساقته على شكل شائعة.. قالت: يشيعون أن نظارة الخارجية استحصلت على ثمانمائة جنيه لمصاريفها السرية لإسكات بعض الجرائد عنها".

ولعل ذلك ما أثار جدلا حول دور الصحفى وما "ينبغي عليه من فروض الاستقامة غير متعرض لتنديد أو لتقريع"، وهو الجدل الذى اشترك فيه مدير تحرير الأهرام بمقال طويل يشى مطلعه بما جاء فيها قال: "شُلَت يد كل كاتب مارق ومُدلَس ومُخَادع وقُطِع لسان كل كذوب يحتال على تلبيس العسف والظلم بلباس الصلاح والعدل وبئس الرجل الناضب ماء الوجه الذى يشرب من البئر ويرمى فيه حجرًا"!

ولم يقتصر هذا الجدل على الصحفيين، بل شارك فيه القراء مما يتضح من رسائل هؤلاء التي استمرت الأهرام تنشرها، كان منها ما جاء من قارئ أسيوطى يحتج على انتقال الجرائد "من دور المناظرة في كشف الحقائق إلى دور الطعن الشخصى المبهم في الأسماء والمعانى ولا يخفى ما في ذلك من انحطاط قيمة الجرائد".

حل مثل هذا الموقف في رأى الصحيفة باستيراد ذلك الاختراع العجيب من روسيا.. إصدار الجريدة "على ورق من ورق السيكارة حتى يقرأها قارئها ثم ينتفع بورقها للتدخين"، وهو بذلك يحرق ما لا يريد الاحتفاظ به من كتابات. وهو الاختراع الذى لم يدخل أبدًا حيز التنفيذ.. الذى حدث أن احتفظ الناس بصحفهم لسنوات طويلة، فقد كانت في الأغلب الأعم مصدر فائدة كبيرة!


صورة من المقال: