ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 7 أبريل 2021

138 دار التحف والعاديات والآثار المصرية

دار التحف والعاديات والآثار المصرية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 18 يوليو 1996م - 2 ربيع أول 1417هـ


المشهد الدرامى الذى جرى في القلعة عام 1854 بيت عباس باشا الأول حاكم مصر، والأمير النمسوى الأرشيدق مكسمليان، لا نعتقد أنه قد تكرر كثيرًا في التاريخ المصرى، ولا في أي تاريخ!

فقد كانت الحملة الفرنسية أول من نبه لقيمة الآثار الفرعونية، تبعها محمد على الذى أمر بمنع خروجها من مصر وخصص جناحًا لها بمنزل الدفتردار بالأزبكية، وفى عهد عباس تم نقلها إلى القلعة وخصص لها القاعة التي دخلها الأمير النمسوى يشاعد ويبدى علامات الإعجاب، فما كان من الباشا عباس إلا أن أمر بإهداء كل الآثار المصرية التي كان قد تم اكتشافها حتى ذلك الحين إلى الأرشيدق مكسمليان الذى حمل الهدية عائدًا بها إلى بلاده وهو لا يُصدق نفسه!

بعد ذلك بأربع سنوات، وكان سعيد باشا الوثيق الصلة بالفرنسيين في سدة الحكم، صدر الأمر العالى بتعيين المسيو مارييت Mariette الأثرى الفرنسي "مأمورًا لأعمال العاديات في مصر"، بحكم النشاطات التي كان قد أبداها الرجل في الكشوف الأثرية خلال السنوات السابقة منذ قدومه إلى أرض الكنانة عام 1850، وتسس مع ذلك مخزن متواضع في بولاق لحفظ الآثار، كان النواة الأولى للأنتيكخانة المصرية.

غير أن الدفعة الأولى لاستزراع هذه النواة في التربة الثقافية المصرية تمت في عصر إسماعيل، شأن عديد من المؤسسات الثقافية، فما ن ولى الرجل الحُكم عام 1863 حتى أمر بإصلاح مخزن بولاق وتوسيعها وافتتحها في حفل رسمي يوم 18 أكتوبر من ذلك العام.

ونظن أن إسماعيل الذى قضى بضع سنوت في باريس ضمن أعضاء بعثة الأنجال التي أرسلت إلى فرنسا عام 1844 كان من بين ما شاهده فيها ما عاينه قبله رفاعة الطهطاوى ووصفه في تلخيص الإبريز بقوله "ومن الجمعيات جمعية حفظة أثار القدماء، وهى جمعية معدة لحفظ سائر ما يوجد من الآثار الباهرة عند القدماء كبعض مبانيهم ومومياهم وملبسهم ونحو ذلك والبحث عن ذلك ليتوصل به إلى دراسة عوائدهم ففي ذلك يوجد كثير من الأمور النفيسة المأخوذة من بلاد مصر"، ويقينًا فإنه تأثر بما شاهد.

وتتعدد الملاحظات على "دار التحف والعاديات" خلال تلك السنوات..

1) فقد احتكر الفرنسيون إدارتها.. مارييت مؤسسها الذى توفى عم 1881، وتبعه المسيو ماسبرو، ولم يسع الإنجليز، عقب احتلالهم لمصر للمساس بالإدارة الفرنسية، تجنبًا لإثارة باريس، خاصة وقد كان من الصعب إنكار دور الفرنسيين وتفوقهم على الإنجليز في هذا الميدان، وقصة حجر رشيد معروفة، فقد صادره الإنجليز من رجال الحملة الفرنسية عند خروجهم من البلاد إلا أن الذى حل طلاسمه كان شامبليون العالم الفرنسي!

2) منذ ذلك الوقت المبكر دخل المصريون دار التحف والعاديات إلى جوار الفرنسيين، ويتصدر قائمة هؤلاء حمد أفندى كمال أبو الأثريين المصريين والذى كان موضوع الحلقة 49 من الديوان والتي جاءت تحت عنوان "البارع سكرتير الانتكخانة الخديوية"!

3) مع الأخبار التي كان يسوقه الأهرام بين الحين والآخر عن الدار في مرحلتها البولاقية.. مثل أن يزورها الخديو لمشاهدة أثر بعينه، أو أن يضيف إليها أثر جديد، فإن الصحيفة لم تشر خلال هذه المرحلة إلى التصريح للأفراد العاديين.. سواء كانوا من السياح الأجانب أو من المصريين.. بزيارتها.

غير أن ما حدث بعد انتقال المتحف من بولاق إلى الجيزة في مطلع التسعينات، كان مختلفًا، وهى مرحلة تكاد تكون مجهولة في تاريخ الدار العريقة بكل ما تضمه من محتويات عتيقة.

***

معلومة خاطئة أجمعت عليها شتى المراجع، وهى أن دار التحف والآثار قد انتقلت من بولاق إلى الجيزة عام 1891، صححتها الأهرام في أحد أعدادها القديمة.. العدد الصادر يوم 31 يناير عام 1890، أي قبل سنة كاملة..

مكاتب الصحيفة في العاصمة كتب يقول: "قصدنا المتحف المصرى في سراى الجيزة وزرنا جميع القاعات ولا نكتب عن تلك السراى المحكمة الإتقان إلا عبار واحدة أن التفنن الحديث لم يترك أثرًا حسنًا إلا وقد أتمه فيها".

لم يسعه بعد ذلك إلا أن يمتدح نظام الدار وتقسيم الآثار وتوزيعها بحيث يخال لنا أننا في أعظم أنتيكخانة أوربية وقد قام في كل غرفة خفير مخصوص، بما يعنى أنه في هذا التاريخ كانت الدار الجديدة قائمة وقد تم ترتيبها على الشكل الأخير، مما يؤكد أن المرحلة الجيزاوية من عمر متحف الآثر، وإلى أن انتقل لموقعه الأخير عام 1902، وقد استمرت لإثنى عشر عامًا وليس أحد عشر.

في نفس التقرير الذى وضعه مكاتب الأهرام في العاصمة عن المتحف في موقعه الجديد أشار إلى أنه، وربما لأول مرة، يتم التصريح للزوار بدحول المتحف.. قال:

"عرفنا أن الزوار في كل يوم من أيام الدخول يبلغ عددهم خمسين شخصًا جلهم من السياح، أما رسم الدخول فقدره خمسة قروش صاغ، ولا ينسى في هذه المناسبة الإشارة إلى أن الإدارة قد خصصت أحد أيام الأسبوع، وهو يوم الثلاثاء، للدخول المجانى وأن عدد الزائرين في ذلك اليوم "لا ينقص عن ثلاثمائة شخص ثلثهم من الوطنيين والثلث من الأجانب أما الوطنيون فجميعهم من مديرية الجيزة ويندر وجود زائرة مصري من العاصمة"!

ومع أن المفهوم أن تخصيص يوم للدخول المجانى كان مقصودًا به تشجيع المصريين على زيارة الدار إلا أن الخبر الذى نشرته الأهرام يوم 2 ديسمبر عام 1893 بأن السياح انتظروا ذلك اليوم ليبلغ عدد من دخل منهم الدار نحو الألف والخمسمائة، دفع المسئولين إلى إعادة النظر في الحكمة من الزيارة المجانية، ويبدوا أن القروش الخمسة بمقاييس العصر، كانت مبلغًا كبيرًا حتى على الأجانب!

وقد استمرت هذه القضية (أحد الشواغل) إدارة المعرض في مرحلة وجوده بالجيزة مما كان محل أكثر من خبر في الأهرام، ففي أبريل طلبت لجنة الآثار من الحكومة أن تصدر أمرها بجعل أجرة الدخول قرشين فقط بدلا من خمسة "وذلك تسهيلا لراغبى الدخول وتعميمًا للفائدة".

في أبريل عام 1896 وتحت إلحاح الصحف على توسيع نطاق زوار المتحف تقرر، وللشهور الستة التالية تجربة الزيارة المجانية، على أن يفتح باب المتحف من الساعة الثامنة والنصف صباحًا إلى الظهر فقط ما عدا أيام الاثنين والأعياد"!

غير أنه يبدوا أن التجربة قد فشلت فيما عبر عنه الإعلان الذى أصدرته مصلحة الآثار بأن المعرض ابتداء من 16 أكتوبر عام 1896 "سيفتح أبوابه للمتفرجين كل يوم م عدا يوم الإثنين من الساعة 9 صباحًا إلى الساعة 4 ونصف مساء والدخول في هذه المدة باعتبار 5 قرش صاغ لكل شخص"!

من بين (الشواغل الأخرى) التي أخذت بتلابيت المسئولين عن دار التحف والعاديات والآثار مسألة تأمين الثروة النفسية التي تضمها.. بصيانة ما فيها وبتوقى السرقات والحرائق.

كانت صيانة المومياوات في الدار أهم ما شغل بال المعنيين بالآثار المصرية، مما تنم عنه هذه الرسالة الطريفة التي بعث بها أحد علماء الآثار الفرنسيين إلى السير مونكريف وكيل نظارة الأشغال، وكانت الوزارة التي تتبعها المصلحة.. جاء فيها "أن وجود الأجسام المحنطة في الأنتيكخانة المصرية على ما هي عليه قد يؤدى إلى انحلال تلك الأجسام بعد زمن قصير لأن تعرضها للهواء والرطوبة يفسد مادة التحنيط"، وخلص من ذلك إلى القول "ولما كانت جزيلة القيمة نادرة الوجود أرى أن تُلَف الأجسام المذكورة بلفائف من الحرير وتوضع ضمن صناديق من الزنك مقفلة قفلا محكمًا ثم تدفن في مدافن معلومة"!

تجنب السرقات شكلت الجانب الثانى من عملية تأمين متحف الجيزة، ويبدو أن محاولات قد جرت في هذا الشأن خلال الشهور الأولى من عمر المتحف، الأمر الذى دعا المسئولين عنه إلى زيادة عدد الحراس وفصل البناء الذى يضم موجودات الأنتيكخانة عن سائر أبنية السراى "وإزالة الأشجر الملتفة حول البناء المذكور وذلك لكى تتمكن الحراسة من حراسة المحل ويمتنع التسلق عليه".

في هذا الميدان أيضًا اهتم رجال المتحف بالآثار المسروقة عمومًا فيما أشارت إليه جملة من أخبار الأهرام.. خبر عن طلب "حضرة مدير الأنتيكخانة المصرية أن يسلم له الاثنتا عشرة قطعة الذهبية التي وجدها بعض الشرطة وسلمت إلى المحافظة"، وخبر آخر عن الصناديق الخمسة التي ضبطت وفيها خمسة مومياوات في شارع الشنوانى في حار العميان، وتم نقلها إلى الدار.

وفى تلك الظروف صدر في 11 يونية عم 1897 أول تنظيم يمنع الحفر في أراضى الحكومة بقصد استخراج الآثار منها، ويُعاقب من يُخالف ذلك بلسجن سبعة أيام، وبينم استحسنت الأهرام العقوبة إلا إنها لم تستحسن بنفس القدر قصر عمليات التنقيب عن الآثار على موظفي الحكومة لقلة الأيدى التي يمكن أن تشتغل بذلك في المصلحة.

الحريق مثل الجانب الثالث من هذا الشاغل، ففي ديسمبر عام 1892 شكل مجلس النظار لجنة على مستوى عل "للنظر في التحوطات لجعل محل الأنتيكخانة الحالي بسراى الجيزة بمأمن من الحريق"، وبعد بحث لأكثر من عام قرر المجلس فتح اعتماد مبلغ 60 ألف جنيه لهذا الغرض، وكان مبلغًا كبيرًا ينم على ما أصبح للدار من أهمية.

(الشاغل الثالث) نشأ عن الرغبة في توفير المتخصصين في العمل في الدار وقد عالج "حضرة مدير الأنتيكخانة الخديوية ذلك بوضع مشروع لتأسيس مدرسة بها ليعلم فيها بعض الشبان المصريين مجانًا على الآثار بقصد استخدامهم في الأعمال المذكورة والقيام بخدمة بلادهم"، وقد اشترط في الطلاب المقبولين أن يكون لهم إلمام باللغات اليونانية واللاتينية والفرنسية.

(رابع الشواغل) نتج عن الوجود الفرنسي القوى في إدارة المتحف، وهو وجود تبدى في جانب استمرار سلسلة المديرين، فبعد ماسبرو جاء غريبو، أعقبه دى مورجان، كما تبدى في حرص الفرنسيين على دفن مارييت في حديقة المتحف، حدث ذلك في المرحلة البولاقية، وانتقل بعدئذ بحديقة سراى الجيزة، مما كان بمثابة إشارة حرص عليها المسئولون في باريس للتأكيد على الدور الفرنسي في عالم المصريات.

والمُلاحظ أن عقد الثمانينات لم يشهد تحديًا يُذكر من جانب سلطات الاحتلال للوجود الفرنسي في الأنتيكخانة، غير أنه بعد النجاحات التي أحرزها الإنجليز خلال العقد التالى في التخلص من هذا الوجود من بعض المؤسسات الثقافية، مثل مدرسة الحقوق الخديوية، قد شجعهم على المحاولة في عالم الآثار مما نتج عنه أن شهد هذا الميدان معركة حول الأنتيكخانة خلال ذلك العقد، لكنها كانت معركة قصيرة!

دارت تلك المعركة خلال شتاء عام 1890 وبدأت بمجموعة من الرسائل لمراسل التايمز في القاهرة نشرتها الجريدة خلال شهر نوفمبر من ذلك العام تحدث فيها عن الهيمنة الفرنسية على الآثار الأمر الذى دعا على حد تعبير الأهرام إلى أن "أخذ السير بيرنج ووزراء مصريون في ترتيب جديد لها وفى عزمهم أن يفصلوا بين مصلحة حفظ الآثار ومصلحة اكتشافها والحفر عليها"، ويبدو أن النية كانت موجهة إلى إسناد المصلحة الأخيرة لشخصية إنجليزية.

انبرت الأهرام للرد على المحاولة، فاعترضت على فكرة التقسيم لما يترتب عليها من "عجز وضياع"، وذكرت بالمخابرات التي جرت أيام تحويل الديون بين حكومتى باريس ولندن والتي تعهدت فيها الأخيرة بأن لا تمس إدارة الآثار وأن تستمر بإدارة مدير فرنسى.

وكان الشاغل الأخير والأهم ما ارتآه الكثيرون، في طليعتهم الأهرام من عدم مناسبة سراى الجيزة كموقع للأنتيكخانة ولأسباب عددوها مما يشكل نهاية الحقبة الجيزاوية القصيرة، ولها قصة!

***

لم يكن قد مضى شهور قليلة على افتتاح دار التحف والآثار والعاديات بالجيزة حين كتبت الأهرام بأنه كان "يحسن أن يُعيَن لها مركز متوسط في العاصمة على نحو ما نرى في أوروبا فإن دور متاحفها إنما في وسط المدينة".

وفيما يبدو فإن دعوة النقل هذه تكررت على نحو دفع الحكومة إلى تشكيل لجنة ضمت وكلاء الخارجية والمعارف والأشغال فضلا عن مدير المتحف المسيو مورجان للنظر في "بناء محل جديد للأنتيكخانة في داخل المدينة ليسهل على الأهلين زيارتها والانتفاع بها". وتبع ذلك أن أصبحت المسألة محل جدل بين المعارضين والمؤيدين..

المعارضون رأوا أن تكاليف النقل لن تقل عن خمسة عشر ألف جنيه وإن ذلك سوف يستغرق ما لا يقل عن أربع سنوات، وأن أوضاع الحكومة المالية لن تساعدها على ذلك "هذا فضلا عن تعريض الآثار إلى الكسر لبُعد المسافة عن النيل وعن عدم فائدة سراى الجيزة لمصر بعد نقل الأنتيكخانة منها، وأخيرًا وهو الأهم أن الأوفق لما يخصص للنقل وبناء محل في مصر أن يُخصص للمعارف لتزداد المدارس وتعم العلوم فذلك ألزم وأفيد"!

المؤيدون عبر عنهم مكاتب الأهرام في القاهرة في تقرير طويل جاء في الصحيفة يوم 12 ديسمبر عام 1892، والذى استهله بالقول "إن البلاد في حاجة كلية إلى مثل هذه الكنوز العلمية على أثر نهضتها الوطنية وميل أبنائها إلى العلم لأنه إذا حال بين هذه الفوائد وبين طلاب العلم حائل من الصعوبات فيما يختص ببعدهم عنهم كما هي الحالة اليوم ألقى في سبيل تقديمهم حجر عثرة ليقعد من همهم ويقلل من اجتهادهم وعلمهم"!

خلص من ذلك الاستهلال إلى القول أن نقل المتحف إلى وسط المدينة سيحقق فائدتين: أولهما: مساعدة طلاب العلم على اقتباس العلوم والمعارف التي قد لا يتسنى لهم بلوغها، والثانى: "إيجاد محل أدبى عمومى يستغنى به أصحاب الأدب وحسنو التربية عن تضييع أوقاتهم في المقاهى ومحلات الملاهى ويكونون قدوة لغيرهم من الشبان الذين قادهم سوء الطالع إلى ضياع أوقاتهم وأموالهم بمحلات المقامرة وأمكن الخلاعة"!

بعد أيام قليلة جاءت الأخبار أن لجنة معينة من قِبل نظارة الأشغال قد وضعت تقريرًا عن محل الأنتيكخانة الجديد في المنطقة الواقعة بين قشلاق قصر النيل وترعة الإسماعيلية، وقد رأت تكاليفها سوف تصل إلى مائة ألف جنيه.

ولم يكن المطلب ليمر بسهولة فقد كان صندوق الدين واقعًا بالمرصاد الأمر الذى دفع بشارة تقلا أن يشن حملة شديدة على الصندوق في عدد الأهرام الصادر يوم 10 مارس عام 1894، وطالب النظار بأن ينهضوا "ضد أطماع الغريب واستبداد القريب".

عضدت الاكتشافات الأثرية الجديدة من موقف مؤيدى بناء الدار، فيما كشف عنه الخبر المنشور بعد ستة أيام من أن الاكتشافات الأخيرة في دهشور قد دفعت صندوق الدين إلى الموافقة على إنشاء متحف في العاصمة والانصراف عن فكرة إصلاح سراى الجيزة، مما دعا الأهرام إلى أن تشكر المسئولين لما يوفره قرارهم من فوائد "الأولى بحفظ آثار أجدادنا والثانية فيما ينفقه السياح في بلادنا، هذا فضلا عن أن مبلغ الماية وعشرين ألف جنيه المخصصة لهذه الغاية سينصرف أكثرها في مصر وعلى العملة المصريين".

وكالعادة في مثل هذه المناسبات تشكلت لجنة برئاسة ناظر الأشغال وأعلنت عن مسابقة لتقديم الرسوم الخاصة بالمتحف الجديد. وأقيم يوم 16 مارس عام 1895 معرض لتلك الرسوم وقد حجبت أسماء أصحابها وجنسياتهم حتى يُراعى في الاختيار الاتقان دون سواه.

وجاءت النتيجة غريبة فقد اختارت اللجنة المنوط بها الحكم أربعة مشروعات غير أن أصحابها لم ينالوا المكافأة المقررة "لأن رسومهم مع أنها متقنة الصنعة إلا أنها مخالفة للغايات والمطلوبات الاقتصادية التي قررها ديوان الأشغال ولذلك سيختار أقربها إلى مطلوب النظارة ويعطى الجائزة ويُرخص لصاحبه بإنشاء المتحف".

غير أن ما شهده عام 1896 من إرسال الحملة المصرية إلى دنقلة قد أُجل من بين ما أُجل، السير قدمًا في مشروع بناء المتحف الجديد، وقد اندهش مؤيدو المشروع من ذلك بحكم أن الأموال التي كان قد خصصها صندوق الدين له لا يجوز أن تصرف في غير ذلك، وأن المندوبين الفرنسي والروسى في الصندوق قد جهرا بهذا الرأي.

أثمرت الاحتجاجات الدولية وأجريت العطاءات على المشروع، ففاز به مهندس إيطالى، وقبل أن ينتهى ذلك العام، 1896، كانت الاستعدادات تتخذ للبدء في المشروع..

صندوق الدين أعطى موافقته على مشروع المهندس الإيطالى، السنيور مارسيل دورينيون، واعتمد عطاءه، فضلا عن أنه وافق على تخصيص الفرق بين مبلغ الاعتماد الأول وبين العطاء المقدم "لتحلية الأنتيكخانة"!

نظارة الأشغال أعدت ميدالية مخصوصة تدفن تحت حجر الأساس منقوش عليها بالفرنسية "في عهد الخديوى عباس حلمى باشا ومصطفى فهمى باشا رئيس مجلس النظار وفخرى باشا ناظر الأشغال والمسيو مارسيل دورينيون المهندس أقيم هذا البناء للتُحف المصرية سنة 1897 الموافق لسنة 1314"، وتقرر أن يُقام الاحتفال بوضع حجر الأساس في أول أبريل من ذلك العام.

وبالفعل، وفى اليوم المحدد، وبحضور الخديوى وقاضى مصر ومختار باشا الغازى والنظار وقناصل عموم الدول وكبار الموظفين ومكاتبى الصحف، وبعد أن تبادل ناظر الأشغال وعباس الثانى كلمتين مناسبتين، تناول سموه قلمًا من خشب الورد وغطه في دواة من خشب الورد أركانها من الفضة وأمضى محضر الاحتفال، ووضع الجميع.. الميدالية والمحضر تحت حجر الأساس أو حجر الزاوية على حد تسمية الأهرام.

وبينما تصور المصريون أن بناء المتحف الشهير، وبعد هذا الحفل المُهيب، وبعد موافقة الدول الكبرى، لن يستغرق سوى شهور قليلة، خاب آمالهم فقد استغرق ما يزيد عن الخمس سنوات بسبعة شهور، فالمتحف لم يفتتح إلا في بدايات القرن العشرين.. يوم 15 نوفمبر عام 1902 على وجه التحديد، ويُشكِل ما جرى خلال تلك الفترة قصة فريدة تستحق أن تشغل جلسة بأكملها من جلسات الديوان!


صورة من المقال: