ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 7 أبريل 2021

137 المصرى التائه!

المصرى التائه!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 11 يوليو 1996م - 25 صفر 1417هـ


في عدد الأهرام الصادر يوم 5 أكتوبر عام 1891 روى الوكيل العام للجريدة في طنطا قصة نهاية الشتات الداخلى لواحد من أشهر زعماء الثورة العرابية.. عبد الله نديم وليس النديم، وهو الشتات الذى استمر لأكثر من تسع سنوات متتالية.

القصة تبدأ بمعلومات تلقاها مدير الغربية، فيضى باشا، بوجود اثنين من الغرباء في قرية قريبة من السنطة، هي قرية الجميزة، الأمر الذى دعا إلى إصدار تعليماته لوكيل الحكمدارية، حضرة فريد افندى، للتوجه إلى القرية والوقوف على الحقيقة.

بعد التحريات تأكد للرجل أن الغريبين هما "عبد الله نديم وتابعه" مم دفعه إلى إجراء استعدادات خاصة بقوة من العساكر المشاة والخيالة "واحتاطت العساكر بالبلدة من جهاتها الأربع وأوقف عسكريًا على تل عال ليُراقب إذا كان أحد يطلع على السطوح فرأى شخصًا واقفًا على أحد سطوح البلدة يقصد الاختفاء بالحطب، فقصد فريد أفندى مع المعاون والعساكر المحل الذى أخبر عنه النفر ولما قربوا منه وعاينهم عبد الله نديم رغب الفرار إلى سطح آخر ولكن فريد أفندى قبض عليه بيده وسأله من أنت فأجابه وأنت لأى شيء أتيت إذا كنت لم تعلم من أنا، فقال له فريد أفندى إنما سألتك لأتأكد منك، فأجابه عبد الله نديم قائلا أننى عبد الله نديم".

تبع ذلك البحث عن الشخص الآخر فوجد مختبئًا في إحدى العشش بالبلدة فقبضوا عليه واقتيدا إلى مركز المديرية حيث أودعا سجنًا خاصًا "ورفعت واقعة الحال إلى المعية السنية".

من الناحية الواقعية انتهت بذلك فترة الشتات الداخلى لنديم، وهى فترة عالجتها دراسات عديدة، غير أنه على الجانب الآخر بدأت فترة أخرى من الشتات، وكان خارجيًا هذه المرة، وهى فترة لم تخضع للدراسة بالقدر الذى خضعت به الفترة السابقة عليها، على الأقل على النحو الإنسانى الذى قدمتها به الأهرم.

فقد كان الرجل بامتداد الفترة أقرب إلى المصرى التائه حيث طرد من وطنه ليلقى به وابور البحر الذى استقله في أول ميناء دخله من موانى الشام، وقد تسارعت الأحداث في هذا الصدد..

بعد ثمانية أيام من القبض على نديم صدر الأمر العالى بنفيه إلى سوريا وإطلاق سراح السجناء الذين قبض عليهم معه، وقد أرسل بقطار الركاب إلى الإسكندرية يوم 13 أكتوبر.

بعد ذلك بيومين كانت الباخرة الخديوية في انتظار الرجل لتنقله "إلى ثغور سوريه، وهو مخير أن ينزل في أي ثغر شاء، أما المبلغ الذى سيُعطى له عند وصوله إلى محل إقامته مساعدة على تعيشه فقيمته خمسون جنيهًا".

واعتبرت الأهرام ذلك العمل مكرمة كبيرة من جانب ولى النعم فيما عبرت عنه بقولها ".. هكذا شئون الأمراء، وهكذا.. حلم العظماء فإليك أبا العباس ثناء يُعطِر كل ناد ومقام ودعاء يصل الليل بالنهار مع حفظ ذاتك وصوت الأنجال الكرام"!

ونرى أن ما لقيه خطيب الثورة العرابية من حُسن معاملة اختلف تمامًا عما كان يمكن أن يلقاه لو قدر وتم القبض عليه أعقاب فشل الثورة، فالأمور كانت قد استقرت وروح الانتقام كانت قد تآكلت ولم يكن هناك بالتالى ثمة حاجة لنكأ جراح قديمة.. العكس كان صحيحًا فقد ساد وقتئذ قدر من روح التسامح والرغبة في النسيان، وكسب نديم من وراء ذلك هذا الحل الهين.. الإبعاد إلى سوريا حيث نزل بيافا مع معونة يبدأ بها حياته!

وبغض النظر عن قسوة الحل أو رحمته، فقد بدأت به مرحلة الشتات الثانية للخطيب والصحفى الشهير.. عبد الله نديم.

***

لم يكن قد مضى شهر على استقرار الرجل في يافا حين كتبت الأهرام أنها قد شرع في فتح مدرسة بالبلدة، وهو الأمر الذى لم يعجب نديم..

لم يعجبه بحكم دلالته بأنه قد نوى الاستقرار في المنفى الأمر الذى دعاه إلى أن يكتب للأهرام بنه لا يريد أن يشتغل "بأى عمل كسبى مدة غيابى عن وطنى لعلمى أنى تحت تفضلات وإحسان الحضرة الخديوية الفخيمة ولا أحب أن أخرج عن دائرة تعطفاته العلية كما أنى لم أيأس من عفوه الكريم ومراحمه التي فطر عليه فما يمر يوم إلا والأمل معلق بحصول العفو فيما يليه ومن كانت هذه آماله وأحواله لا يتخذ وسيلة تقطع عنه المدد الخديوى وتصل يام الغربة بعضها ببعض معاذ الله تعالى. ومن تأمل في رفق الحضرة الخديوية بى ومعاملتى معاملة التكريم والعفو عن الانتقام منى بعد استحقاقى ما يستحقه أهل الجرائم السياسية علم أن إبعادى الآن إبعاد تأديب لا طرد وتغريب"!

وتبدو في هذا الخطاب لواعج الغربة التي أخذت بتلابيب الرجل ودفعته إلى الأمل بأن تكون فترة الشتات الثانية محدودة.. يعبر عن بعض من هذه اللواعج بوصفه لأيام الشتات الأول.. فترة هروبه في داخل مصر بأن عدها يومًا يومًا، وكانت 3327 بحسابه، تحدث عن حاله خلالها بأنه كان "لا تمر على ساعة إلا وأنا أرقب ما يعقبها وما تفجونى به حوادث الاضطرار والضرورات"، ودلف من ذلك إلى تقديم تفسير غريب للأمر العالى بنفيه إلى الشام، غلبت عليه روح التفاؤل غير المبرر!

قال "إن إرسالى إلى الأرض المقدسة حكمة حكيم وفضل كريم (يقصد الخديو طبعًا) إذ بتغيير الهواء تعتدل الصحة وبخروجى من مضايق الاختفاء إلى بحابح الظهور يمكن عرض نفسى على الأطباء ومعالجتى بما عساه أن يزيل تلك الأمراض العديدة"!

باختصار تصور نديم أنه في رحلة استشفاء قصيرة في يافا لا يلبث أن يعود بعدها إلى الوطن وتصرف من هذا المنطلق..

نزل أولا ببيت السيد على أفندى أبو المواهب "مفتى أفندى قضاء يافا فأنزلنى منزل التكريم وأحلنى محل الأخ الشقيق وزارتى عنده علماء وأمراء ووجهاء الثغر على اختلاف مذاهبهم ثم تبادلت الزيارة معهم ردًا واستدعاء"!

انتقل بعد ذلك إلى دار خاصة حيث كان يعقد في كل ليلة "مجلسًا ممتلئًا بأهل الفضل والاعتبار نتبادل فيه المذاكرة في العقلية والنقلية"، ويضيف بأنه وضيوفه لم يكونوا يخرجون من هذه المذاكرة إلا إلى "الثناء على الحضرة الخديوية الجليلة"، وكان مفهومًا ما يقصده النديم بذلك، فيما أكده في توقيعه على رسالته الطويلة.. عبد الله نديم الإسكندرى بيافا!

ولم يخب ظن الرجل بعد أن تدخلت الإرادة الإلهية وانتقل الخديو توفيق إلى العالم الآخر بعد أقل من شهرين من هذا الخطاب وسارت الأمور في أعقاب ذلك في طريق تحقيق آمال المصرى التائه!

فمعلوم أن الخديو الشاب عباس حلمى الثانى قد قاد انقلابًا على كثير من سياسات أبيه، وكان من بين ما طاله هذا الانقلاب بعض من العرابيين المنفيين، وكان نديم من بينهم.

ففي يوم 4 فبراير عام 1892 نشرت الأهرام، وعلى غير توقع من القراء، نصًا لأمر عال ورد إلى نظارة الداخلية، كان نقطة تحول في سياسات القصر وفى حياة المصرى التائه..

جاء في مستهل هذا الامر "أنه بناء على ما جبلت عليه سجايانا من الشفقة والرحمة قد اقتضت إرادتنا العفو عن بقية مدة النفى عن الخمسة أشخاص الآتية أسماؤهم السابق صدور أحكام عليهم بالنفى خارج القطر المصرى للاشتراك في الثورة العرابية".

اثنان من هؤلاء كانا من الأسماء المغمورة.. جاميخان غورى المحكوم عليه بالنفى المؤبد والتجريد، وعلى قبودان المحكوم عليه بالنفى إلى مصوع.

الثلاثة الباقون كانوا من قيادات الثورة.. حسن موسى العقاد المحكوم عليه بالتجريد والنفى مدة عشرين سنة في مصوع، ومحمد عبيد من ضباط الجهادية والمحكوم عليه بالنفى المؤبد والتجريد، وأخيرًا عبد الله نديم المحكوم عليه بالإبعاد عن الأقطار المصرية.

وتتعدد الملاحظات حول هذا الأمر العالى:

(1) أنه قد شمل مجموعة متنوعة من الشخصيات.. حسن موسى العقاد التاجر الثرى الذى ناصر الثورة وهرب في أعقاب الاحتلال إلى كريت غير أن السلطات الخديوية تمكنت من إرجاعه وإصدار القرار بنفيه، ولم يعلم عنه أي نشاط معاد خلال فترة النفى، بعده محمد عبيد الذى قاد القوة التي أفشلت الخطة الشركسية في حادثة قصر النيل الشهيرة وقد فر في أعقاب الثورة ولم يعثر له على أثر حتى صدور العفو عنه، وأخيرًا رجلنا عبد الله نديم، ولم يكن واحد من هؤلاء من المنفيين في جنة آدم.. سيلان أو سرنديب كما كانت تسمى وقتئذ!

(2) أن أغلب هؤلاء، خاصة عبيد ونديم، لم يتعرضوا للمحاكمة، بل تم نفيهم بأوامر عالية مما كان يسهل إعادته بأوامر أخرى مضادة، ثم إن قرار نديم لم يكن نفيًا إنما كان إبعادًا مما سهل المهمة أكثر!

(3) أنه كان للرجال الثلاثة شعبية جارفة في صفوف المصريين.. العقاد الذى أنفق أموالا طائلة في دعم الثورة، عبيد الذى اقترن اسمه بالعمل الشجاع في ثكنات قصر النيل، وأخيرًا نديم بكل ما ظل يمثله في الوجدان الوطنى من كونه أحد رموز الثورة المهمة، ومن ثم فلابد أن عباسًا، أو المحيطين به، قد اعتقدوا أن الإقدام على مثل هذه الخطوة سيكون له مردوده..

مردوده تجاه رجال توفيق الذين كانوا لا يزالون ممسكين بشئون عابدين، وقد اتجهت نية الخديو الشاب إلى التخلص منهم، ومردودها تجاه دار المعتمد البريطاني التي كان يصعب عليها الاعتراض على إلغاء الخديوية لأمر عال كانت قد أصدرته من قبل، ولو في عهد توفيق!

غير أنه مما يثير الدهشة أن الأمر العالى "بالعفو الكريم" عن نديم الذى صدر يوم 2 فبراير 1892 لم يوضع موضع لتنفيذ إلا بعد أكثر من ثلاثة أشهر.. يوم 9 مايو حين دخلت السفينة التي كانت تقله إلى مياه الإسكندرية.

ومن غير المعلوم بالضبط الأسباب التي دعت إلى تأخر الرجل المتلهف على العودة، وإن كنا نعتقد أنها قد صدرت عن غيره.. إما السلطات العثمانية في سورية، وإما التعقيدات الإدارية بوضع القرار الخديوى موضع التنفيذ، وإما محاولات احتلالية لعرقلة هذا القرار.

على أي الأحوال ومهما كانت أسباب التأخير فقد عاد المصرى التائه إلى أرض الوطن، وفيه فعل كل شيء يؤدى إلى نفيه ثانية مما حدث قبل مرور وقت طويل ومما يشكل الفصل الأخير من القصة الإنسانية لنديم، وكنت الأهرام طرفًا فيها.

***

نظن أن قارئ الجريدة صباح يوم 27 أغسطس عام 1892 قد فوجئ بما نشرته تحت عنوان "الأستاذ" عن صدور مجلة علمية تهذيبية نبشر بها قراء اللغة العربية لصاحبها الفاضل عبد الفتاح أفندى نديم ويشاركه في تحريرها حضرة شقيقه المحرر البليغ عبد الله أفندى نديم وهما لا نزيدهما وصفًا من خيرة كتاب هذا القطر في هذا العصر.

ونعتقد أن المفاجأة تحولت إلى دهشة من المديح الذى كالته الأهرام للعدد الأول من المجلة "المدبجة أحسن تدبيج بقلم الكاتبين المشار إليهما وفيها من بدائع الأبحاث ولطائف المواضيع ما لا نستكبره على مثل هذه القريحة السيالة والقلم الفياض وما لا نشك معه بإقبال العموم على هذه المجلة المصرية الوطنية وتسارعهم إلى مدها بالاشتراك ونفثات الأقلام في كل فن ومطلب..

مصدر المفاجأة والدهشة فيما نراه تلك العداوة التي كانت ناشبة بين الأهرام وبين نديم خلال فترة الثورة العرابية، حين سلط الرجل الجريدة التي كان يحررها، المفيد على الأهرام حتى اضطر صاحباها إلى مغادرة مصر قافلين إلى سوريا ليعودوا بعدئذ إلى الإسكندرية بدعوة من الخديو توفيق بعد احتلال الإنجليز إلى الإسكندرية.

غير أن سنوات عشر كانت كفيلة بتغيير المواقف وأن يصبح أعداء الأمس أصدقاء اليوم، فقد كان مفهومًا أن المجلة الجديدة سوف تنخرط في صفوف المعسكر المعادى للاحتلال الذى كان يتزعمه الخديوى الشاب والذى اختارت الأهرام بدورها أن تكون في داخله.

وكان نديم قد قدم عربون الصداقة لأصحاب الأهرام في العدد الأول من الأستاذ حين أفرد أكثر من صفحة لرثاء سليم بك تقلا، الذى توفى قبل أسبوعين ووصفه "بالمحرر المنشئ الفاضل البليغ الذى أمضى عمره في خدمة الشرق وأهله"!

وقد تعهد المصرى التائه بعد أن استقر في وطنه أن يطلق السياسة بالثلاثة فيما جاء في العدد الأول من الأستاذ بقوله "إحنا مالنا ومال السياسة اللى توجع الراس وتلخبط العقل. السياسة لها ناس بالعينة وإحنا ناس بتوع نكت وتفريح وشبرقة وتسالى"، غير أن الرجل لم يستطع الوفاء بتعهده إلا شهور قليلة، فقد عاد لينغمس مرة أخرى في المعارك الوطنية، وثبت أن الطبع يغلب التطبع!

في البداية انبرى للدفاع عن أسرة محمد على بعد أن أخذت الصحف الموالية للاحتلال، على رأسه المقطم، في غمز ولمز هذه الأسرة، من قبيل الطعن غير المباشر في الجالس على العرش، عباس الثانى، بسبب مواقفه التي اتضحت من مناوئة الاحتلال.

ففي مقال طويل صدر في 28 فبراير 1893 في "الأستاذ" تحت عنوان "حالنا أمس واليوم" أو نتيجة أتعاب المرحوم محمد على باشا وأبنائه ورجاله"، انتقد ما تقوم به "جرائد الأجراء من تحويل الأفكار بما تنسبه لغير المصريين (يقصد الإنجليز) من الأعمال وما تدعيه من الإصلاح.. فإن مدنية مصر تنادى بأنها أثر من آثار العائلة المحمدية العلوية.. والآن نأتى على أعمال هذه العائلة عملا عملا بالتفصيل والبيان"، وهو ما شغل به بقية المقال.

نبهت الأهرام في عددها الصادر يوم 6 مارس قراءها إلى هذا "المقال الغراء التي جادت بها قريحة الفاضل النديم في صدر أستاذه الوضاء.. من حيث أنها مقالة تاريخية مفيدة جمعت فأوعت من تاريخ مصر في عهد أسرته المحمدية العلوية وما يصبو إليه كل مُطالِع ويهم الوقوف عليه كل عربى يشاركنا في امتداح حضرة النديم الفاضل الذى ملأ بمقالته الأسماع والأبصار"!

وإذا كانت دوائر عابدين قد رحبت بهذا المقال فلا شك أنه لم يلق نفس الترحيب في قصر الدوبارة حيث المعتمد البريطاني الذى سكت على مضض ولكن إلى حين، وهو الأمر الذى لم يتأخر كثيرًا!

فبعد أقل من ثلاثة شهور خصص عبد الله النديم جل العدد الصادر من الأستاذ يوم 23 مايو للهجوم على جريدة المقطم استهله بطلب من الله أن يجعل كلامه سُمًا بلا ترياق وجمرًا قوى الإحراق"(!)، وتبع ذلك بأن وصف الجريدة الاحتلالية بكل موبقة..

فأصحابها أعداء الله وأنبيائه.. لما يرتكبون من نواهى ويضلون به الناس" وهم "أعداء السلطان الأعظم.. لالتزام جريدتهم بتقبيح أعمال دولتنا العلية وذكر عمالها بالنقائض ونسبتهم إلى الظلم والجهل والعدوان"، وهم "أعداء الحضرة الفخيمة الخديوية لما ساروا على نهجه بتنفير الأمة وتحسين الاعتراف بسلطة الغير والتلويح بما يشف عن سوء مقاصدهم في الجانب الخديوى"، ثم أنهم أعداء وزراء مصر وحكامها وأعداء السوريين وأعداء أنفسهم، ولم تكن سلطات الاحتلال لتطيق الرجل أكثر من ذلك.

بدا ذلك بعد أقل من شهر من هذا المقال العنيف، فتحت ضغوط مكثفة من دار المعتمد البريطاني أذعنت لها الحكومة المصرية، فيما عبرت عنه الأهرام في عددها الصادر يوم 21 مايو في خبر جاء به "أخبرنا الثقاة أن قررت الحكومة أن تقفل جريدة الأستاذ ويغادر صاحبها القطر المصرى ولا يتعرض عنه للكتابة مطلقًا وأن يُعطى له قبل ذلك 400 جنيه مكافأة و25 جنيهًا شهريًا يصله حيث يُقيم".

وقد أعربت الصحيفة عن دهشتها لما في هذا القرار من "غوامض السياسة لأنه إذا كان صاحب الأستاذ مهيجًا ثورويًا مُضرًا كما ادعت بذلك الحكومة الإنكليزية فمن الواجب أن يكون هذا النفى مزودًا بالإهانة والإساءة وليس الإكرام والمكافآت"، ويقينًا فإن الأهرام كانت تعلم السبب في تلك الازدواجية رغم ما أبدته من دهشة، خاصة وأنها قد أنهت تعليقها بالقول "أن هذا الإبعاد مما يفتخر به لا مما يزاد عنه"!

واستأنف نديم شتاته يوم 26 يونية عام 189 مرتحلا إلى يافا، ولم ينس قبل أن يُغادر الإسكندرية أن يطلب عن طريق الأهرام "من كل أصدقائه أن لا يراسلوه في المسائل السياسية إذ لن يجيب منه إلا على الودية الصرفة"، وقد عبر بذلك عن أمله أن يكون الشتات الجديد مؤقتًا.

بعد ثلاثة أشهر شهدت الإسكندرية أكثر فصول حياة المصرى التائه مأسوية، فقد دخلت الميناء يوم 31 أكتوبر سفينة تقل الرجل الذى قصد المحافظة مباشرة ملتمسًا "العفو الخديوى عن بقائه في القطر بالنظر إلى صدور إرادة سلطانية تقضى بعدم إقامته في البلاد العثمانية".

خلال الأربعة أيام التالية جرت اتصالات متعددة من جانب الحكومة المصرية مع سلطات الاحتلال التي أصرت على موقفها بنفى الرجل، ومع القوميسيير العثمانى بالعاصمة المصرية مختار باشا، الذى مجح في اقناع الأستانة بقبوله في أراضيها، وبقى نديم طوال تلك الأيام ينتظر الإذن بدخول وطنه، وهو ما لم يحصل عليه أبدًا!

في يوم 4 نوفمبر، وعلى متن أول باخرة غادرت الإسكندرية متجهة إلى الأستانة، وكانت الباخرة الفرنسوية، كان المصرى التائه ينظر إلى المدينة التي عاش فيها جل حياته وهى تبتعد عنها بالتدريج، وقد امتلأ قلبه بكل أسباب الحسرة.

في الأعوام الثلاثة التالية دخل نديم قفص السلطان عبد الحميد الثانى بعد أن عينه "مفتشًا للمطبوعات العربية في دار السعادة"، وكنت سلواه الوحيدة في القفص صحبة الشيخ جمال الدين الأفغانى..

ولأن الأقفاص، مهما كانت ذهبية، لا تُناسب طائرًا حرًا مثل نديم، فإن الرجل لم يُعمِر طويلا، فقد توفى في الأستانة يوم 13 أكتوبر عام 1896 غريبًا عن بلاده تائهًا في أرض الله!


صورة من المقال: