ads

Bookmark and Share

الجمعة، 2 أبريل 2021

135 الهجرة إلى المحروسة!

الهجرة إلى المحروسة!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 27 يونيو 1996م - 11 صفر 1417هـ


العدد 6575 من الأهرام الصادر يوم الجمعة 3 نوفمبر عام 1899 يُشكل علامة هامة في تاريخ الصحافة، فمنذ ذلك العدد بدأ صدور الأهرام من القاهرة... مصر المحروسة، بعد أن قضى في الإسكندرية نحو ربع قرن... ثلاثة وعشرين عامًا وثلاثة شهور على وجه التحديد، تعدد خلالها علامات هامة أخرى في تاريخ الصحيفة.

بعض هذه العلامات متصلة بالعلاقة بالسلطة التي كادت تودى بالأهرام ثلاث مرات على الأقل... الأولى خلال مرحلة الصدور الأسبوعى للجريدة في عصر إسماعيل حين عطلت لعددين، أول و8 مايو عام 1879، بسبب اشتغالها في "البولوتيكا" مما كانت تحرمه شروط الرخصة التي حصل عليها سليم تقلا، الثانية بعد أن أصبحت الصحيفة يومية حين امتنعت عن الصدور لنحو شهرين، بين 5 يونيه وأول أغسطس عام 1882، من جراء تتابع أحداث الثورة العرابية وما نشأ من حالة عدم الوفاق بينها وبين الثوار، الثالثة نتجت عن صدان بين الأهرام وسلطات الاحتلال التي ترتب عليها توقف صدور الصحيفة لما يزيد قليلا عن شهر (20 أغسطس - 22 سبتمبر عام 1884).

علامات أخرى متصلة بالتحولات الكبرى في تريخ الصحيفة... التحول من صحيفة أسبوعية إلى صحيفة يومية، في مستهل عام 1881، بالعدد رقم 1003، والتحول الثانى موضوع هذه الحلقة من الديوان..

ولأن ثمة علاقة بين العلامتين نتوقف قليلا عند العلامة الأولى، ولو على سبيل التذكرة.

فقد ظلت الجريدة، وبعد شهرين فحسب من صدورها الأول في 5 أغسطس عام 1876، تصدر مع الصحيفة الأم، الأهرام، ملحقًا، أو ما كان يُسمى "تلحيقًا" بلغة العصر، والغريب، أنه بينما كانت الصحيفة أسبوعية فقد كان التلحيق يوميًا... اتخذ أولا اسم صدى الأهرام، ثم بعد أزمة الصحيفة مع إسماعيل عام 1879 تم التوقف عن استخدام اسم الصدى واستبدل ب "الوقت" التي استمرت في الصدور جنبًا إلى جنب مع الأهرام الأسبوعى حتى توقفت عقب الصدور اليومى في 3 يناير عام 1881، بعد أن أخذت الأهرام مسلسل الوقت، وتخلت الصحيفة منذئذ عن إصدار "التلحيق" بعد أن استنفذ الغرض منه. ووضع هذا التقليد على الرف من جانب الأهرم لمدة تربو عن الثمانية عشر عامًا، وحتى هجرة الجريدة للمحروسة، فسُحِبَ من على الرف!

نتوقف أيضًا لنبدى ملاحظة أخرى حول هذه الهجرة مؤداها أن ما جاء عنها في الجريدة كان محدودًا...

ونظن أن أستاذ الصحافة الراحل، الدكتور إبراهيم عبده، في كتابه الكبير الذى وضعه تحت عنوان "جريدة الأهرام.. تاريخ مصر في خمس وسبعين سنة"، والصادر عام 1951، قد واجه مأزق ندرة المعلومات عن هذا الانتقال، رغم أهميته  كعلامة في تاريخ الجريدة، الأمر الذى لم يتمكن معه أن يخصه إلا بما يزيد قليلا عن صفحة من عمله الضخم، لم يقدن فيها أكثر من خبرين قصيرين نشرتهما الأهرام عن هجرتها إلى القاهرة.

تجنبًا لهذا المأزق الذى واجه المؤرخ السابق للأهرام، نلجأ هنا إلى المنهج الاستقرائى، بمحاولة قراءة ما بين السطور خلال الشهر السابق على الهجرة الذى يكشف عن نية صاحبها عليها، وإن بدا بشارة تقلا مُتكتمًا في البداية!

أول ما يكشف عنه هذا الاستقراء أن عديدًا من كتابات صاحب الجريدة كانت تأتى من القاهرة، فقد كانت الأهرام تخصص الجانب الأكبر من صفحتها الثانية لباب تحت عنوان العاصمة، وكان أهم أبواب صفحاتها الأربعة، وكان هذا الباب يضم فضلا عن الأخبار العديدة من المحروسة تعليقات ومقالات عما يجرى فيها، وكان مفروضًا أن للصحيفة مكاتبًا من أهم مكاتبيها في القاهرة هو المسئول عن تحرير الباب، غير أنه مع تتبعه خلال عام 1899، يلاحظ القارئ أنه بدلا من أن يكون عنوان الباب المذكور "العاصمة" لمكاتبنا كثيرًا ما كان يتحول إلى "العاصمة" لمدير الجريدة، مما يعنى أن الزيارات المنتظمة من جانب بشارة إلى القاهرة تحولت إلى إقامة شبه منتظمة ومع أنه ليس لدينا ما يؤكد أن الرجل قد نقل إقامته خلال ذلك العام إلى العاصمة، إلا أن كثرة كتاباته منها تشير إلى أنه لم يعد مجرد زائر، يقضى مهمته الصحفية ثم يقفل راجعًا إلى مقر الجريدة في الثغر، فالزوار لا يطيلون المقام على هذا النحو الملحوظ!

يكشف هذا الاستقراء ثانيًا عن انحسار المساحة التي كانت مُخصصة لأخبار الثغر خلال عام الهجرة، وكانت هذه الأخبار تأتى إما تحت عنوان الإسكندرية في الصفحة الأولى وإما من باب الحوادث المحلية، وكان يضم فصلا عن أنباء الميناء وأخبار من الدولة العلية، وأخرى عن مواعيد وصول وقيام سفن الركاب.

ونظن أن القائمين على تحرير الأهرام، وبعد أن تحولت إلى صحيفة تذرع مصر شمالا وجنوبًا وشمالا وجنوبًا، وقد ارتأوا أن الأخبار السكندرية تتسم بقدر من المحلية لا تشد اهتمام بقية المصريين بالقدر الذى تعنى به أبناءها، مما كان وراء هذا الانحسار، على عكس نبض الحياة في المحروسة الذى يؤثر بدرجة أو بأخرى على بقية المصريين.

نأخذ نموذجًا لذلك عدد الصحيفة الصادر قبل شهر من انتقالها إلى العاصمة... "باب حوادث محلية" في العدد الصادر يوم 5 أكتوبر عام 1899 احتلت فيه أخبار الإسكندرية حيزًا محدودًا لم يتضمن أكثر من ثلاثة أخبار... عن الجو وكيف خيم السحاب وأسود وجه السماء والثانى عن حكم أصدرته في اليوم السابق محكمة الجنح في المنشية، والأخير على شكل بشرى بأنه "لم تحدث في الـ 24 ساعة الأخيرة إصابات بالطاعون"!

بالمقابل يحفل باب العاصمة في نفس العدد الذى حرره مدير الجريدة بقسم غير هيم يناقش قضية خارجية كانت مشتعلة وقتئذ عن دور ألمانيا الاستعمارى والذى أخذ بتلابيب الناس بعد أن دخلت الإمبراطورية الفتية ميدان الاستعمار الأفريقي الذى لم يعد مقصورًا على الجارتين اللدودتين، إنجلترا وفرنسا، يتبع ذلك أخبار عن بعض مشاريع نظارة الأشغال والتي كانت تهم القاصى والدانى، على حد تعبير الصحيفة، وأخيرًا تعليق عن "شركة مالية لتولى الأعمال النافعة"، فقد أرخت تلك السنة لنشوء المؤسسات المالية الكبيرة بعد أن ظهر البنك الأهلى إلى الوجود.

يبقى من الصحيفة بعد ذلك ثلاثة أبواب كبيرة.. المقالات التي كانت تدبجها أقلام محرريها، وكان سيفعلون ذلك سواء بالإسكندرية أو بغيرها، رسائل مكاتبى الأقاليم وكان الموقع المتوسط للمحروسة أيسر في استقبالها، وأخيرًا الإعلانات التي كانت تغطى الصفحة الأخيرة بأكملها فضلا عن بعض من الصفحة الثالثة، وتؤكد مراجعتها أنها لم تعد سكندرية الطابع كما كان الحال من قبل، مما كان ترجمة لانتقال الثقل الاقتصادى للمحروسة!

وفى هذا السياق بدا وكأن أمام الأهرام خيارًا لابد وأن تبت فيه... إما البقاء في موطن المولد بكل المصاعب المحيطة والمساحة المحلية، وإما بشد الرحال إلى العاصمة والوقوف كتفًا بكتف مع كبرى الجرائد التي كانت تصدر فيها، المؤيد والمقطم اللتان قد صدرتا قبل أكثر من عقد (1889)، واللواء التي كان معروفًا أن مصطفى كامل يعد لإصدارها بدعم من الخديوى، والتي صدرت فعلا بعد شهرين فحسب من انتقال الأهرام إلى العاصمة... وقرر بشارة تقلا أن يختار!

***

على صدر الصفحة الأولى من عدد الأهرام الصادر يوم 24 أكتوبر عام 1899 كتب صاحب الجريدة مقالا طويلا تحت عنوان "الأهرام في القاهرة والإسكندرية"، علم منه القراء ولأول مرة عن النية على الهجرة!

استهل الرجل مقاله بالتنويه بالدور الذى قامت به الأهرام خلال ربع قرن من صدروها في تقديم "يد طولى في نهضة الأمة المصرية، فقد قامت خطيبة في القوم منذ أعوام طويلة تستنهض الهمم وتستلفت الأبصار إلى ما حل بمصر والحمد لله أن كلامها لقى أذانًا صاغية"!!

يسوق بشارة تقلا بعد ذلك خبر الهجرة بشكل مخفف، فهو لا يتحدث عن النية على انتقال الإدارة ومركز الصحيفة إلى القاهرة وإنما يشير إلى أن الأهرام لن تكتفى بطبعة الإسكندرية ولكنها ستصدر معها طبعتين "إحداهما بحجمها الحالي وهى تصدر في العاصمة والثانية بحجم أصغر وهى تصدر في الإسكندرية، ولم يكن هذا القول صحيحًا تمامًا فالمسألة لم تكن مسألة طبعتين بل كانت هجرة من الثغر مما أكده بقية ما جاء في المقال خاصًا بكل من الطبعتين...

طبعة القاهرة أو ما أسمى بطبعة مصر "ستصدر بصبغتها الحالية السياسية والتجارية والأدبية وبحجمها المألوف وشروط اشتراكها وثمنها المعروفة ولكن مع زيادة في التحسين وغزارة في الأخبار لأننا ونحن في العاصمة ستكون أقرب إلى مصادر الحوادث وموارد الأنباء... وهى مع ذلك ستتضمن الأخبار التجارية الوافية لأننا خصصنا لها مراسلة تلغرافية خاصة تضمن لنا الوقوف على جميع حركات ميناء البصل وبورصة الإسكندرية صباح مساء".

بالمقابل يعترف تقلا أن طبعة الإسكندرية ستكون أصغر حجمًا من طبعة القاهرة "غير أنها لا تقل عنها فائدة في غزارة المادة ولا سيما في التجارة إذ خصصن كثرها لذلك بقصد التوسع في هذا الموضوع توسعًا عظيمًا فيقف قراؤها منها على جميع أخبار القطن والغلال وحركات السوق المالية والصناعية سواء في الإسكندرية أو معظم محال أوربا التجارية".

ولم يكن هذا الاعتراف الدليل الوحيد على أن القضية لم تكن إصدار طبعتين بقدر ما كانت هجرة حقيقية للأهرام إلى المحروسة، فقد تعددت المؤشرات على هذه الهجرة، جاء بعضها في ذات المقال وجاء البعض الآخر من أخبار أخرى تضمنتها أعداد متنوعة من الصحيفة.

نقل الإدارة والمطبعة كان يشى بهذه الحقيقة والذى جاء في أكثر من خبر.. أحدها عن اختيار "محل الإدارة والمطبعة بشارع المناخ بالإسمعيلية وقد أعددنا فيها جميع ما يلزم بطبع الكتب والأوراق من جميع الأجناس والأصناف".

خبر آخر تعترف فيه الأهرام بنقل المعدات الطباعية إلى العاصمة وتعتذر لقرائها أن هذا النقل الذى سوف يستغرق مدة من الزمن سيؤدى إلى إصدار طبعة الإسكندرية "بحجم جرائد القطر لفترة قصيرة لتظهر بعدها في حجمها الجديد".

ويشهد أحد المعاصرين بأنه قبل أن يمضى وقت طويل رأى في مبنى الأهرام في العاصمة "اثنتى عشرة مطبعة مختلفة الحجم متناسقة في قاعة رحيبة بقصر شاهق يدار أغلبها بالغاز المحترق تعمل فيها أدق المطبوعات وأجملها ويكون الصناع فيها نحو الستين من ذوى العيال الذين يرتزقون"!

عدم التكافؤ بين الطبعتين يقدم الدليل الآخر، ففضلا عن أن حجم طبعة القاهرة كان أكبر فإن محتوياتها، فيما تكشف عنه مقال بشارة سوف تكون أشمل، وقد تجسدت هذه الحقيقة بشكل أكبر فيما تقرر بالنسبة للثمن وقيمة الاشتراك.. تحدد ثمن طبعة القاهرة بخمسة مليمات، بينما تحدد ثمن طبعة الإسكندرية بثلاثة فقط، وتحددت قيمة الاشتراك في طبعة الثغر بجنيه سنويًا "تنقص إلى خمسين قرشًا للمشتركين بالأهرام الكبرى وهذه القيمة ليست إلا الورق والبوسطة"، والاعتراف بأن هناك أهرام كبرى وأهرام صغرى ينفى فكرة الطبعتين ويؤكد محلها فكرة أن الجريدة التي هاجرت فعلا إلى القاهرة سوف تصدر مجرد ملحق من الإسكندرية.

وتتأكد هذه الحقيقة تمامًا بما أنهى به بشارة تقلا مقاله من تقديم الأسباب التي دفعته إلى الاستمرار في إصدار طبعة الجريدة من الإسكندرية بأنها ليست نابعة فقط "من أهمية مركزها التجارى بل اعترافنا بفضل هذا الثغر الذى نشأت فيه الأهرام وشبت وانتشرت انتشارها المعروف فهو والحالة هذه مسقط رأسها والمهد الذى ترعرعت فيه فالاعتراف بجميلة واجب"، بعبارة أخرى جاء هذا الاستمرار لأسباب عاطفية، وهى حالة قد تصحب الفترة الأولى من الهجرة ولكنها لا تستمر طويلا فالذى يبقى أخيرًا لغة المصالح لا لغة العواطف، وهو ما أثبتتها الأيام!

ويزداد الأمر تأكيدًا عندما تضن الأهرام على طبعة الإسكندرية بالاسم فبدلا من أن تظهر تحت اسم الأهرام "طبعة الإسكندرية" مقابل اسم الأهرام طبعة مصر الذى ظهرت تحته الجريدة في موطنها الجديد ظهرت تحت اسم الملحق القديم الذى كانت تصدره الجريدة في أيامها الأولى.. "صدى الأهرام" بكل ما كشفته العودة إلى استخدام تلك التسمية من تبعية طبعة الإسكندرية للجريدة الأم في العاصمة.

حمل مقال بشارة تقلا مفاجأة أخيرة وهى أن الأهرام تنوى إصدار "جريدة فرنسوية LES PYRAMIDES يعرف منها أهل أورب حقيقة أحوالنا وعواطفنا وأفكارنا فيزداد منهم عدد أنصارنا على مطالبنا ونحن شارعون في إتمام المعدات اللازمة لإنقاذ هذا المشروع".

مصدر المفاجأة في تقديرنا أن مصر كانت تعرف في ذلك الوقت عددًا من الجرائد التي يصدرها أجانب.. الإجبشيان جازيت بالإنجليزية وأكثر من صحيفة فرنسية أشهرها الفار ألكسندرى والريفورم، أما أن تصدر جريدة عربية طبعة يومية بلغة أوربية، فقد كان تقليدًا جديدًا استنته الأهرام.

ولم يبق بعد كل ذلك سوى حزم الأمتعة وركوب قطار التاريخ..

***

في كلمة مؤثرة صدرت بها الأهرام آخر أعدادها الصادرة من الإسكندرية يوم الثلاثاء 31 أكتوبر عام 1899 أعلنت الجريدة أنها تغادر الثغر بعد "أن قضت في ظله 25 عامًا متقلبة في نعمته متمتعة بحمايته فهى تبرحه مرتلة على أهله الكرام آيات الثناء داعية لهم بدوام التقدم في مدارج العمران ومراتب العلاء".

ومع أن بشارة تقلا قد وعد في هذه الكلمة الوداعية أن تصدر الأهرام من المحروسة في اليوم التالى مباشرة إلى أن أول أعداد القاهرة لم يصدر إلا بعد ثلاثة أيام يبدو أن ترتيب البيت قد اقتضاها!

عدد يوم الجمعة 3 نوفمبر شغل صفحتها الأولى مقالان طويلان عن تطورات الانتقال.. أولهما لتقلا بشا، والثانى لمكاتب الصحيفة بالإسكندرية..

لم يضف الباشا صاحب الجريدة في هذا المقال كثيرًا لما سبق له قوله عن الهجرة في مقالاته السابقة أكثر من أنه انتهى إلى القول "هذا أول أعداد الأهرام التي تصدر في العاصمة نزفه إلى حضرات المشتركين والقراء الكرام بحلته من الصدق وحليته من الإخلاص وفيه صحيح الأخبار ونزيه النقد والبحث في المسائل السياسية والتجارية والصناعية وسائر ما تشتمل عليه الصحف السيارة ما نتوخى به مزيد النفع بعملنا والإقبال عليه".

مكاتب الإسكندرية، خليل أفندى الجاويش، جاءت مهمته ثقيلة، فهو ليس مكاتبًا مثل سائر المكاتبين الذين انبثوا في سائر أنحاء مصر وخارجها، بل كان عليه أن يحل محل كل طاقم التحرير الذى كان موجودًا في الثغر وانتقال إلى العاصمة، فضلا عن دوره "كمساعد لقلم تحرير صدى الأهرام" الأمر الذى دعاه إلى مخاطبة قراء الجريدة موضحًا لهم الخطة..

رأى أولا أن "لا يكون مبتلى بمرض الاستحسان ولا مُصابًا بداء الاستهجان لئلا يكون مثله مثل الدجاجة العوراء التي إما تأكل القمح وإما تأكل الزوان. فإن الاعتدال في القول أفضل خطة ينتهجها أصحاب الأقلام".

شكا بعد ذلك من صعوبة العمل في الإسكندرية فهى "مدينة تجارية يطوف فيها المراسل طوال نهاره ويعود في خاتمة مكانه غالب الأحيان خالى الوفاض بادى الأنقاض لا يجد في جرابه خبرًا جديدًا ولا حدثًا مفيدًا"!

وتنم المقارنة التي عقدها الرجل بين عمل المكاتب في القاهرة وعمله في الإسكندرية عن أنه كان يعمل من قبل مكاتبًا للأهرام في العاصمة إذ يقول "فهو من جهة يسمع في الميناء صفير بحار يصم الآذان وإذ دخل دوائر الحكومة وهى المحافظة والحكمدارية والجمارك والمجلس البلدى ومجالس الصحة البحرية خرج وليس بين يديه من الأخبار سوى وصل فلان وسافر فلان وقبض على فلان وضرب زيد عمرًا وسقطت بالة على حمال وتقرر تبليط هذا الشارع بالأسفلت أو بالزلط.. فأين الإسكندرية من العاصمة في هذا الباب"!

ونرى أن هذه الصورة القلمية التي قدمها الأستاذ الجاويش كانت نفسها السبب وراء قرار الأهرام بالهجرة، ثم السبب وراء عودة الرجل إلى القاهرة فيما أشار إليه الخبر المنشور في الأهرام يوم 26 ديسمبر وجاء فيه "عينا حضرة الكاتب الأديب خليل أفندى الجاويش مكاتب الأهرام في الإسكندرية مساعدًا لقلم التحرير في القاهرة ويخلفه مكاتبة الأهرام في الإسكندرية الكاتب الأديب فرح أفندى أنطون، ثم أنها كانت أخيرًا قصف عمر "صدى الأهرام" التي بدأت في الصدور بالإسكندرية والتي تشير الجريدة إلى أنها لم تعمر إلا أكثر من عام قليلا رغم كل محاولات إطالة العمر من خلال ترويج الأهرام لها..

جانب من هذ الترويج لاح في إغراء الثمن المنخفض فيما سبقت الإشارة إليه، جانب آخر ظهر في حرص بشارة تقلا على أن يكتب فيها بشكل شبه منتظم، حتى أن الأهرام كان ينقل بين الحين والآخر مقالات الرجل عن الصدى، جانب أخير بدا في نقل الأهرام بين لحين والآخر بعض الأخبار عن أهرام الإسكندرية دون أن ينسى الإشارة إلى أنها نقلت عن الصدى!

وأوضح أن كل تلك المقويات لم تنجح في استمرار الصدى الأمر الذى لابد وأن يكون بشرة باشا قد تبينه من أرقام التوزيع، مما استتبعه أن أخذت الأهرام في توسيع الرقعة المخصصة للشئون الاقتصادية المتروكة للصدى تمهيدًا لوقفها، مما حدث بدون حس ولا خبر!

الأهم كان صدور البيراميدز عن الأهرام، وكان تقلا قد وعد بأن تظهر في أول نوفمبر إلا أن أول أعدادها لم يظهر فعلا إلا يوم الجمعة 5 يناير 1900 فالمسألة لم تكن بالسهولة التي تصورها صاحب الأهرام في أول الأمر.

فقد تطلب هذا الإصدار اتصالات واسعة بكبار الصحفيين الفرنسيين، منهم المسيو برنو في البتي جورنال والمسيو كزافيه شارم من كبار محرري مجلة العالمين الذين رشحها له صحفى نابه هو المسيو جاك لورين الذى وصل إلى القاهرة وشرع في إصدار البيراميدز مع الباشا.

علقت الأهرام على صدور جريدتها الفرنسية بالقول "رأي القراء من مواضيعها ومقالاتها أننا نبذل الجهد في إتقانها وتمثيل حالة مصر بأوروبا وما تريده من إصلاح وما تأباه من اعتداء أحسن تمثيل، ولا نقصد من ذلك سوى خدمة هذه البلاد بكل ما نراه مفيدًا وقد خصصنا بابًا بالأدبيات وآخر بالتجارة وثالث لأقوال الجرائد لتكون جريدتنا هذه صحيفة للصحف تحيط بكل ما يهم القارئ من أحوال مصر"، ونرى أن هذا التقليد الذي أرساه ظهور البيراميدز قبل نحو قرن هو الذي عادت الأهرام لإحيائه خلال السنوات الأخيرة.. بالويكلى الجريدة الإنكليزية والإبدو الجريدة الفرنسية!


صورة من المقال: