ads

Bookmark and Share

الجمعة، 26 مارس 2021

132 مدرسة الحقوق الخديوية

مدرسة الحقوق الخديوية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 6 يونيو 1996م - 19 محرم 1417هـ


بينما استمر الأزهر وأبناؤه المعممون رمزًا للمثقف المصرى إبان العصر العثمانى، فإن خريجى المدارس الحربية، بما فيها الهندسخانة والطب والألسن، وإلى قرب نهاية القرن التاسع عشر، جسدوا هذا الرمز، بدءًا بعرابى ومرورًا بالبارودى ووصلا لعلى مبارك.

عصر إسماعيل عرف شحوب الطابع العسكرى الذى أضفته سياسة جده على الدولة المصرية وبداية بروز الطبيعة المدنية، وهى نقلة أثرت على المؤسسات القديمة.. الحكومية بانتقال مقر الخديوى من القلعة بكل ما تمثله من رمز عسكرى، إلى عابدين.. السراى المدنية، وتأسيس مجلس الوزراء ونشوء البرلمان، وفى التعليم بظهور المدارس العليا المدنية، وكان في طليعتها مدرسة الحقوق الخديوية بكل ما أفرزته من رموز جديدة للحياة العامة المصرية.. الأفندية المطربشين.. مصطفى كامل وأحمد لطفى السيد ومحمد فريد وقاسم أمين ومصطفى النحاس وآخرين، مما يمكن القول معه أن تلك المدرسة، مع دار العلوم ومدرسة اللسان القدين، قد أسهمت في إنهاء عسكرة الدولة المصرية واتجهت بها إلى آفاق الدولة المدنية الرحبة.

نشأت المدرسة أولا تحت اسم "مدرسة الإدارة والألسن" عام 1867، وفى إطار رغبة إسماعيل بالحد مما يتمتع به الأجانب من استقلال قضائى بإعداد "الهيئات القضائية المصرية التي يمطمئن إلى نزاهتها وخبرتها وإعداد التشريعات والقوانين لمواجهة الحاجات الجديدة للمصريين والنزلاء".

وولدت الحقوق ذات لكنة فرنسية، وقد تأثرت في هذا بغلبة الثقافة الفرنسية، وبالدور الفرنسي البارز في عالم القانون، فضلا عن أن إسماعيل اختار أول نظارها من القانونيين الفرنسيين.. المسيو فيكتور فيدال VIDAL، الذى بقى في هذا الموقع حتى عام 1889.

بدأت المدرسة في مبنى بالعباسية ثم نقلت إلى جناح بسراى درب الجماجيز، وكان تبعث ببعض خريجيها لاستكمال دراستهم القانونية بإكس بفرنسا ويعين الباقون في مجالس التجارة ودواوين المالية والداخلية والخارجية حتى أنشئ ديوان الحقانية في مطلع الثمانينات فصار يأخذ أكثر خريجى المدرسة.

ومع أن المدرسة لم تدع رسميًا بالحقوق إلا عام 1886 غير أنها كانت خلال العشرين عامًا السابقة، وعلى وجه التحديد عام 1874، قد أصطبغت بالصبغة القانونية وعزل راغبو دراسة الألسن (اللغات) في فرقة من ثمانية طلاب ألغيت بعد قليل!

في ظل الاحتلال استمر المسيو فيدال يدير المدرسة على نفس الأسس التي كانت تدار بها من قبل إلى أن ترك منصبه عام 1889، وعرفت المدرسة فترة مفصلية استمرت لعامين شهدت خلالهما تدهورًا سريعًا كانت الأهرام ترقب تطوراته وتسجلها..

بدأ التدهور أولا من التخبط في اختيار ناظر المدرسة الجديد، في البداية سرت الشائعة بالنية على تعيين مصري، هو حسين بك واصف المفتش بوزارة الداخلية، وهو الخبر الذى نشرته الأهرام بحماس غير كبير.. قالت "لا ننكر أهلية حضرة البك ولكن لا ينكر جنابه معنا وجوب إصلاح مبادئ التعليم في تلك المدرسة ولهذا نرى من أقدس واجباته أن يقدم فهرسًا (منهجًا) مستوفيًا وإلا فلا يمضى طويل زمن حتى يرتفع صوت جديد مناديًا بعدم نجاح المدرسة"!

لم يتوقف التخبط في هذا الجانب إلا بعد الاتفاق مع أستاذ القانون بجامعة جرينويل المسيو شارل تستو، على تولى المنصب، والذى رحبت الأهرام بوصوله بشكل ظاهر في عددها الصادر يوم 11 ديسمبر 1891، وهو ترحيب كان وراءه حماس الصحيفة لكل ما هو فرنسى ومخاوفها من أن يحتل أحد الإنجليز الموقع العتيد، وهى مخاوف أثبتت الأيام أنه كان لها ما يبررها.

وبدا التدهور ثانيًا من التخبط في تبعية المدرسة.. إلى نظارة المعارف التي كان أحد معاهدها منذ إنشائها، أم إلى نظارة الحقانية التي كانت توظف أغلب خريجيها، واستقر الرأي أخيرًا على الإبقاء على المدرسة تابعة للمعارف.

وبدا التدهور أخيرًا فيما أصاب مستوى طلاب المدرسة من انحطاط، على حد تعبير الأهرام، قالت في عددها الصادر يوم 26 يونية عام 1891: "تم إلغاء امتحان طلبة الحقوق في المدرسة الخديوية ورفعت لجنة الامتحان إلى حضرة النائب العمومى فى المحاكم الأهلية تقريرًا تقول فيه أن فهرس الدروس منحط جدًا وأن المدرسة في حاجة قصوى إلى إصلاحات كثيرة وتحسينات جمة"!

في تلك الظروف، وفى مطلع التسعينات وصل المسيو تستو، ليبدأ مع هذ العقد مرحلة جديدة في تاريخ المدرسة العتيدة، يكفى القول أنه قد تخرج من المدرسة خلاله جمهرة من أهم الزعماء الذين تولوا قيادة الحركة الوطنية بعدئذ.

***

أواخر عام 1891، وقبل وصول المسيو تستو طرحت مسألة إصلاح مدرسة الحقوق نفسها بإلحاح على الرأي العام المصرى فيما فرض نفسه على صفحات الأهرام.

رأت الصحيفة في مقال طويل لها يوم 11 نوفمبر عام 1891 أنه يجب تضافر أربعة أطراف للنهضة بالمدرسة من "انحطاطها"، الأول: نظارة المعارف التي يتوجب عليها أن ترسل للمدرسة "التلامذة الذين أتموا دراستهم الابتدائية والتجهيزية"، الثانى: ناظر المدرسة الذى كان يعول عليه المهتمون بالمدرسة كثيرًا، ورأت الأهرام أن دوره يتمحور حول إصلاح الإدارة، وشكلت نظارة الحقانية ثالث الأطراف بحكم دورها في كيفية استخدام الذين نالوا شهادة الحقوق، وكان التلامذة آخر الأطراف الذين يتوجب عليهم الاجتهاد، سواء في دروسهم الحقوقية أو في وظائفهم القضائية".

وفى تلك الأثناء كان المعنيون يبذلون الجهود للنظر في شأن الإصلاح.. اجتماع لأساتذة المدرسة "للنظر في التحويرات التي يجب إدخالها على فهرس الدروس"، زيارة من مستشار الحقانية ووكيل نظارة المعارف للمدرسة "للبحث في كيفية التعليم والخطة المتبعة في الدروس وامتحن بعض التلامذة في بعض المسائل الحقوقية وأشار ببعض الإجراءات النافعة". وبينما كانت الأطراف المختلفة مهمومة بما وصلت إليه المدرسة العتيدة.. أولى المدارس العليا المدنية التي كان عمرها قد ناهز وقتذاك ربع القرن، وصل المسيو تستو وانبرت سائر الأطراف في تقديم المقترحات اللازمة لإنهاض المدرسة من كبوتها..

مقترح قدمه أحد قراء الأهرام يتضمن أمرين "الأول: أن تكون المدرسة خصة بعلم القوانين المصرية إدارية كانت أو حقوقية لا ن تشغل معظم أوقات تلامذتها بدرس النحو واللغة كما هو جارى في الحالة الراهنة والثانى: أن يكلف بعض أساتذتها الوطنيين بتخصيص ساعتين أو أكثر من الليل لتدريس القوانين المذكورة بلغتنا العربية للراغبين في خدمة الحكومة وغيرهم بأجرة"!

بعد ذلك بأيام توسعت الصحافة في مقترحات قارئها وأضافت إليها المزيد من المطالب "بألا يتوقف التعليم عند حد واحد من المعرفة بحيث يكون علم الحقوق بها عيار من علم معرفة"، وعللت هذا المطلب بأنه لما كانت تلك الحرفة "مُنحصرة بين قاض ووكيل نيابة والعدد المحتاج إليه في هذا قليل جدًا.. فمن الواجب والحالة هذه أن يضاف علم القوانين الإدارية الأساسية المتضمنة سياسة البلاد الداخلية والخارجية التي هي عبارة عن النظامات الدولية كنظام أحكام العدلية الأساسى والداخلى ونظام الإدارة والمعاهدات الدولية السياسية والتجارية"!

ولم يكذب الناظر الجديد خبرًا وبدأ بالفعل في إجراء إصلاحاته، وجاءت لامتحانات التي تجرى في احتفالات يشهدها الكثيرون، فضلا عن حضور المسئولين، أفضل مناسبة على ما أصابه طلاب المدرسة من هذه الإصلاحات..

مكاتب الأهرام في العاصمة كان حاضرًا عام 1895، ووصف ما جرى فيه بأنه فوز عظيم "ولا سيما وأن حضرات الأدباء تلامذة السنة الثالثة قد قبلوا جميعًا وهنئوا التهنئات المكررة على اجتهادهم وما شوهد من دلائل براعتهم ونحن أيضًا نهنئهم ونهنئ أساتذتهم وحضرة مديرهم النشيط المسيو تستو وعزتلو وكيل المدرسة عمر بك لطفى"!

الأهم من مكاتب الأهرام كان السير سكوت، المستشار القضائى للحكومة المصرية الذى حضر امتحان عام 1896 كتب بعده تقريرًا طويلا عن المدرسة دفعه إل فخرى باشا ناظر المعارف، والذى يكتسب أهمية قصوى في مسيرتها التاريخية، بحكم ما تناوله من قضايا..

ذكر الرجل في مستهل تقريره بزيارة سابقة له للمدرسة، قبل عشرين عامًا، وكيف أن الشغل الشاغل لمديرها السابق، المسيو فيدال، كان العمل على تغليب ما أسماه بملكة الإدراك على ملكة الحفظ "وهى الملكة الفعالة في الشرق" وأن الرجل قد نجح في ذلك إلى حد بعيد.

انتقل السير سكوت بعد ذلك إلى تسجيل ما شهده من تقدم أحرزته المدرسة خلال السنوات القليلة السابقة على زيارته، وسجل في هذا الصدد جملة من الملاحظات..

1) أن الحاصلين على الشهادة التي تخول لهم الالتحاق بسلك القضاء أو الإدارة عشرون، وتوقف الرجل عند التوصيف الاجتماعى لهؤلاء فقال أن من بينهم "شبان من ذوى البيوت لا غاية لهم من تلقى الدروس إلا الترشح لحلول مكانة في الهيئة الاجتماعية تناسب حالتهم"، ونظن أن مدرسة الحقوق ظلت مصطبغة بهذه الصبغة الطبقية لوقت غير قصير الأمر الذى دفع أحد خريجها فيما بعد، هو الأستاذ محمد ذكى عبد القادر، أن يصفهما في مذكراته بأنها "مثوى الأرستقراطية" والأمر الذى شاعت معه فكرة أنها المدرسة التي تخرج الوزراء.

2) امتدح الرجل نظام التعليم واعترف بأن المدرسة أصبحت "تعد للمحاكم المصرية قضاة ذوى أهلية تامة ومن ثم ليس من داع إلى طلب قضاة من الخارج إلا في بعض الأحوال الاستثنائية التي تقضى باستخدام قضاة من المشاهير".

سجلت الأهرام هذا الاعتراف وأعربت عن أملها أن يستمر "نصب عينيه في المستقبل كما اتفق أن خالف سواه من تقاريره في ظروف كثيرة لمقتضيات سياسية غير حكيمة بالنظر إلى مصلحة القطر"!

3) قدم السير سكوت في نهاية تقريره نصيحتين لإتمام الفائدة من المدرسة، أولهما: حضور التلامذة مرة في الأسبوع جلسات المحكمة وتكليفهم بأن يقدموا لمعلميهم تقارير عن القضايا التي يسمعونها، وثانيهما: أن تغلب المواد العامة على التدريس خلال العامين الأولين والتحصيص خلال العامين الأخيرين.

4) كشف المستشار القضائى عن معلومة هامة، وهى أنه منذ ذلك الوقت المبكر بدأت العلاقة الحميمة بين المدرستين.. مدرسة الحقوق ومدرسة البوليس، وكان طلاب المدرسة الأخيرة يتلقون دروسً في قانون الجانيات والمرافعات الجنائية، وأنهم قد تزودوا بمعلومات وصفها بأنها عظيمة "ويكفينى مؤونة الإثبات على مزايا تعليم البوليس ما نراه في سائر الممالك المتمدنة من امتحان كل ضابط من ضباطه في قانون العقوبات وقانون تحقيق الجنايات وسؤالهم في وقائع الجنايات والجنح ومطالبتهم بإيضاحها في محضر إيضاح كافى"!

تأسيسًا على كل هذا التقدم صدر في يونية عام 1897 قرار نظارة المعارف بمنح "شهادة اليسانسيه الذين جازوا امتحان مدرسة الحقوق الخديوية وفازوا فيها"، وهى الشهادة التي استمر يحتفل يحصل عليها خريجو المدرسة بعدئذ!

بينما كان كل ذلك يحدث داخل المدرسة كانت هناك أمور تجرى خارجها أثرت فيها بدرجة أو بأخرى مما شكل الجانب الآخر من قصة الحقوقيين قبل قرن..

***

في 16 سبتمبر عام 1893 وضعت لائحة جديدة للمحامين كان من بين شروطها، ولأول مرة ضرورة حصول المتقدم المقيد بالجدول على شهادة الحقوق، سواء من مصر أو من الخارج، مما شكل عنصرًا جديدًا في العلاقة بين المدرسة ومن اشتغلوا بالمهنة دون أن تكون لديهم شهادتها!

علقت الأهرام على هذا الشرط بقولها أنه "لا يخفى ما يصيب المشتغلين اليوم بحرفة المحاماة أمام المحاكم الأهلية من التعطيل والخسارة فيما إذا حرموا حقوق المرافعة أمام محكمة الاستئناف"، وارتأت أنه ليس أمام هؤلاء سوى أحد حلين، إما "السفر إلى بلاد الأجانب لتقديم الامتحان وتحصيل الشهادة القانونية التي تتيح لهم الاندماج في سلك المحاميين"، وإما "تشكيل لجنة دائمة لامتحان الذين يمارسون علم الحقوق من تلقاء أنفسهم لما أن أشغالهم أو قوانين مدرسة الحقوق لا تبيح لهم درس هذا العلم بين صفوف التلامذة"، بمعنى آخر أن الصحيفة طالبت بأن يتقدم المحامون من غير أصحاب الشهادات للامتحان في المدرسة "من منازلهم"!

توسع أصحاب هذا الرأي في مطلبهم بزيادة قاعدة الراغبين في دراسة الحقوق بالمدرسة ليضم موظفي الحكومة الساعين على زيادة ثقافتهم القانونية ولأسباب قدموها.

منها أن مصالح الحكومة من كثرة من فيها من الموظفين "تحتاج إلى أن يكون معظمهم متنورين ولا سيما عارفين للحقوق لأنها ليست اليوم ضرورية فقط لمن يريدون الانتظام في سلك النيابات والمحاكم بل لكل من يختص به شأن الشؤون الإدارية الصرفة"، ومنه التخلص مما أسمته الصحيفة "بالنظام المنكر" السائد في المصالح الأميرية القائم على "إعداد الدفاتر والأوراق مكتوبة فيها كل البيانات التي يسترشد بها الحاسب والكاتب وسواهما بحيث لا ترى إلا أيادٍ تعمل وعقولا لا تعقل"!

ولم يمض وقت طويل حتى استجابت مدرسة الحقوق الخديوية لهذا المطلب وافتتحت قسمًا ليليًا آخر 1893 احتفى الملتحقون به فأقاموا "مأدبة فاخرة لحضرة المسيو تستو ناظر المدرسة ووكيله وأساتذتها اعترافًا بفضلهم وشكرًا على عنايتهم وأتعابهم".

غير أن التقرير الذى وضعه المستشار القضائى عام 1896 لم يكن في صالح هؤلاء، فقد قال بالحرف الواحد "أن التلامذة المتفرغين للدراسة اكتسبوا معارف أحكم وأتقن إخوانهم الذين لا يحضرون الدروس إلا ليلا"، مما مهد لإيقاف الدراسة الليلية، فيما تضمنه تقرير آخر للسير سكوت بعد ثلاث سنوات، أعرب فيه رضائه على ما أقدمت عليه المدرسة من إلغاء "القسم الليلى الذى كان قليل الفائدة"، بمعنى آخر أن هذا القسم لم يعمر أكثر من ست سنوات.

لعل أهم ما شجع إلغائه أنه قد نشأت في تلك السنوات مدرسة أهلية موازية هي مدرسة الحقوق الفرنسية مما يشكل الفصل الثانى من القصة.

الفكرة جاءت بعد الطعن في كفاءة القسم الليلى في تقرير سكوت السابق، ففي 23 أكتوبر من ذلك العام أعلنت الأهرام، وفى مكان بارز منها عن فتح أبواب قبول التسجيل بمدرسة الحقوق الفرنسية "للطلبة الذين يرومون الدخول فيها.. أما ابتداء إعطاء الدروس فيكون في النصف الأول من شهر نوفمبر القادم فتحث الشبان الذين يودون تعلم الحقوق بلا كلفة ولا عناء أن يقبلوا على هذه المدرسة التي اشتهر أساتذته ببراعتهم والتفاتهم"!

ونعتقد أنه كان وراء حماس صحيفتنا للحقوق الفرنسوية انحيازها للثقافة الفرنسية هذا من جانب، والمؤشرات التي أخذت تترى بنوايا احتلالية على وضع أيديهم على الحقوق الخديوية، من خلال المستشار القضائى للحكومة المصرية، من جانب آخر فضلا عن تعاطفها الذى عبرت عنه في مقالات عديدة مع الراغبين في استكمال دراستهم القانونية من العاملين في ميدان المحاماة ومن موظفي الحكومة.

ولم تكن الأهرام وحدها وراء المدرسة الجديدة، فقد ظاهرها كل المعنيين بالمصالح الفرنسية في مصر.. المسيو كوركودان المعتمد الفرنسي في العاصمة الذى كن يحضر مناسباتها ويوزع الجوائز على الطلاب المتفوقين، البرنس دار انبرج الذى كان يقدم لها كل أنواع الرعاية، وأخيرًا السلطات التعليمية في فرنسا نفسها مما ينم عنه هذا الخبر الذى نشرته الأهرام في يونيه عام 1897 وجاء فيه: "ختمت مدرسة الحقوق الفرنسوية في القاهرة سنتها المدرسية بامتحان طلبتها مدة ثلاثة أيام آخرها اليوم وهو الامتحان الاستعدادى الذى يذهب بعده من يفوز فيه إلى باريس لتقويم امتحانه فيها"!

بالمقابل تحققت مخاوف الأهرام فيما بدا من سعى رجال الاحتلال لوضع القدم الإنجليزية في الحقوق الخديوية والتي بدأت كإشاعة بإنشاء قسم للدراسة بالإنجليزية في المدرسة في يناير 1899، وإن حاول رجال الاحتلال تمرير الفكرة لأن التعليم في هذا القسم سيكون اختياريًا، وعلقت الصحيفة على ذلك بأسلوب ساخر بأن قالت "المعلوم أن الإنكليز لا قانون عندهم سوى السوابق والاصطلاحات وهذا علم واسع جدًا"!

أواخر العام تحولت الإشاعة إلى حقيقة، وتقرر أن تضم مدرسة الحقوق قسمين "قسمًا للعلم وهو الأصيل وقسم للسياسة وهو الدخيل وقد بلغنا أن سعاة الترغيب في الإقبال على القسم الإنجليزى قد أخذوا يطوفون بالناس"، وتمنيت لهم الصحيفة عدم التوفيق!

غير أن ليس كل ما تتمناه الأهرام تدركه الأمر الذى لم تملك معه سوى شن حملة من حملاتها المعهودة على سياسات الاحتلال جاءت على شكل مقل طويل تحت عنوان مدرسة الحقوق الخديوية..

أبدت الجريدة دهشتها من أن المرأة الصافية للحقوق الخديوية التي طالما نوه بها المحتلون أصابها فجأة الكدر لأن المدرسة "لا يتخطر في فنائها مدرسون حُمر لوجوه مرفوعو المعاطس سمناء الرقاب بيض البشرات زرق العيون يؤتى بهم من ضفاف التاميز لعلموا الحقوق الفرنسوية الأصل والفرع بلغة الإنكليز أفهذا صحيح أم نحن نحلم والساع الثانية بعد منتصف الليل"!

وكان الأمر بالنسبة لأبناء الثقافة الفرنسية أكثر من حلم ثقيل.. كان كابوسًا فيما عبرت عنه الأهرام بقولها أنه "بعد مدرسة الطب مدرسة الحقوق وبعد مدرسة الحقوق سائر المدارس الكبرى، إلى أن تتبدل لآلئ هذا العقد الساطعة للآلئ كاذبة خادعة"، وإن كان كابوسًا قصيرًا فمتابعة مسيرة المدرسة خلال القرن التالى تؤكد أن المحاولة الإنكليزية لم تعمر طويلا، مما يُشكل فصلا آخر في تاريخ مدرسة الحقوق الخديوية.


صورة من المقال: