ads

Bookmark and Share

السبت، 6 مارس 2021

131 حريق في سرايا أفندينا!

 حريق في سرايا أفندينا!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 30 مايو 1996م - 12 محرم 1417هـ


صباح يوم 23 يوليو 1891 طير مكاتب الأهرام في القاهرة خبرًا طويلا إلى مركز الصحيفة بالإسكندرية عن الحريق الذى شب فجر نفس اليوم في سراى عابدين العامرة.. سراى أفندينا الذى كان يقضى وقتئذ، هو والأسرة الكريمة، الصيف في الإسكندرية، كشأنه كل عام.

لم يكن هذا الحريق مجرد حادثة عادية، ففضلا عن أهمية السراى كالمقر الرسمي لخديو مصر، فإنها قد فتحت ملف إطفاء الحرائق وكانت وراء الانتقال من عصر الاعتماد على السقايين والجهود الفردية في مواجهة النيران، إلى وجود مؤسسى للقائمين على عملية إطفاء الحرائق، مما كان بمثابة نقلة أخرى نحو الأخذ بالحداثة التي تعددت أسبابها في أواخر القرن الماضى.

وطالما شغل "حريق سراى أفندينا" الصفحة الأولى في هذا الملف فلا بأس من أن نبدأ بمتابعتها، فيما جاء في عدد الأهرام الصادر في اليوم التالى.. 24 يوليو 1891..

النار شبت "مبتدئة من غرفة في الجهة الشرقية مجاورة لأحد مطابخ الدائرة الخاصة، فأخطرت بذلك خدمة الدائرة والمعية فبادروا لإطفائها، إلا أنه قد اشتد لهيبها فأخطرت المحافظة وأرسلت الطلمبات وبذل جهد العناية في إخماد النار قبل امتدادها وفى أقل من ساعة أخمد لهيبها في الجهة التي بدأت فيها".

تأهب الرجال القائمون في الموقع لمغادرته بعد أن تصوروا أنهم قد نجحوا في مهمتهم، إلا أنه بعد هنيهة "ظهر لهيب في غرفة أخرى متصلة إليها من الغرفة الأولى فأصابت أنابيب الغاز فاشتد سعيرها وامتد لسانها وتعذر إطفاؤها"، وأدرك الجميع آنئذ أن المسألة أكبر كثيرًا من قدرة هؤلاء الرجال.. رجال السراى أو المحافظة، كان لابد أن تتدخل أطراف أخرى، ونعود مرة أخرى لرواية المكاتب الأهرامى..

"تقاطر إلى السراى ضباط العساكر الإنكليزية والمصرية مع مئات من عساكر القوتين وخيل الحمل وعربات المياه وعربات الرش والطلمبات والفعلة" وإذا كانت ثمة ملاحظة على هؤلاء فهى أنهم لم يشكلوا قوة إطفاء محترفة، مما يتأكد من الصورة القلمية التي قدمها المكاتب لعملية الإطفاء، وكانت تتسم بقدر من الطرافة رغم مأسوية الحدث..

قال: "جاء رجال الحكومة بين نظار ووكلاء نظارات ورؤساء مصالح وبشوات حتى من رجال الحكومة المتقاعدين وجعلوا يقاومون قوة النار بقوة وغيرة لا مزيد عليها حتى رأينا أصحاب السعادة عبد الرحمن باشا رشدى ناظر المالية وزكى باشا ناظر الأشغال وفخرى باشا ناظر الحقانية ويوسف بك شهدى ناظر الحربية وتكران باشا ناظر الخارجية وأحمد باشا شكرى وكيل الداخلية وكتشنر باشا ورجال المعية والخاصة، جميعًا يشتغلون كما تشتغل الفعلة تقريبًا ويدخلون الغرف المجاورة للمحلات المحترقة ويحثون العساكر على العمل والإقدام ويراقبون كل عمل من الأعمال"، ومع هزلية الصورة فقد كانت طبيعية، فالحريق يلتهم سراى أفندينا!

ومع انتشار النيران اجتمع الضباط الإنكليز والمصريون لوضع خطة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، واتفق أولا على إخراج المنقولات، فقد "اشتد الخوف والأسف على ما في السراى من الأمتعة الفاخرة والمفروشات الثمينة والثريات والمقاعد والأسرة، فصدر الأمر بنقلها إلى فسحة السراى الخارجية فنقل منها شيء على أيدى العساكر فتكسر بعضها وتعطل بعضها ورمى بأشياء كثيرة من النوافذ فتحطمت"!

في تلك الأثناء كانت النيران تتغذى بمزيد من البنايات حتى أتت "على جميع ما في الجبهة الشرقية إلى قرب باب المعية من الجهة الأمامية، وإلى قرب سراى الحريم من الجهة الخلفية" فاتفق المجتمعون على الخطوة الثانية، وكانت باستخدام الديناميت!

فقد قامت القوات بتفجير غرفتين كبيرتان ومكاتب الموظفين "للفصل بين المحلات المشتعلة وأول المعية فانحصرت النار في الجبهة الشرقية وحدها وصوبت عليها أفواه الطلمبات الكثيرة العدد من كل صوب وسلمت الجهات البحرية بتمامها وهى عبارة عن ثلثى السراى، وأنهت الأهرام هذا الوصف التفصيلى بالتضرع إلى الله "أن يعوض على الحكومة الخديوية أضعاف أضعاف هذه الخسارة والحمد لله على كل حال"، بيد أن الرواية لم تنته مع هذا الدعاء، بل بدأت..

بدأت بردود الفعل السريعة تجاه المشاركين في عملية إنقاذ القصر، الخديو وجه شكره إلى "قائد جيش الاحتلال على ما بذله من الهمة في إطفاء الحريق".

شكر آخر ناله ناظر الدائرة الخاصة الخديوية، شوقى باشا "على ما قد بذله من الهمة والعناية في إطفاء الحريق"، غير أن الشكر هذه المرة جاء من "جميعة النجاة الخيرية العليا" بمدينة نيس بفرنسا، فقد قرر مجلس إدارة الجمعية اختيار الرجل رئيسًا فخريًا، "وإهداءه نيشان شيفالييه سوفور من الصنف الأول وتدوين ذلك في المجلد الذهبى الذى تدون فيه أعمال الجمعية".

في ذات الوقت بعث الخديو بابنه، عباس باشا، لتفقد السراى، وقد تبين حجم التدمير الذى أصابها، وأنه من الصعب الإقامة فيها قبل إتمام إصلاحها، الأمر الذى سوف يستغرق ما لا يقل عن أربعة شهور، وكان تقديرًا متفائلا، فيما كشفت عنه الأهرام في خبر في عددها الصادر يوم 31 أغسطس.. جاء فيه:

"أن العمل في قصر عابدين جار بكل همة.. والمأمول أن يكون السلاملك الخديوى الخاص تامًا في أول أسبوع من شهر نوفمبر، أما الجناب الخاص بالحريم فلا يتم إلا في الشهر الأول من العام القابل وحينئذ تشرفه صاحبة السمو والعصمة الحرم المصون"، وتضيف الأهرام في خبر آخر في نفس العدد بأن من جملة الإصلاحات التي ستدخل على القصر بعد ترميمه "أن يُنار كله بالنور الكهربائى ولا يخفى ما في ذلك من منع الخطر وبهجة المنظر"!

بيد أن أطراف ما كشفت عنه ردود الفعل المبكرة أن السراى كان مؤمنًا عليها لدى إحدى شركات التأمين الأجنبية.. الخبر نشرته الأهرام وجاء فيه "سيتم العمل في ترميم قصر عابدين في أوائل شهر أكتوبر القادن حيث يكون معدًا لنزول جناب الخديوى المعظم، والشائع أن القصر مضمون بقيمة 300 ألف جنيه عند شركة التأمين الإنكليزية المسماة بالسفنكس".

وأهمية هذا الخبر أنه ينم عن أن فكرة التأمين كانت قد عرفتها مصر منذ ذلك الوقت المبكر، وكان من الطبيعى أن تبدأ لدى من يتوافر لديهم الوعى بها.. الطبقات العليا من المصريين، على رأسهم موظفي المعية السنية، فضلا عن الأوربيين، وكانوا هؤلاء وراء الإبقاء على فتح ملف الإطفاء، وعلى ألا يكون حريق سراى أفندينا مجرد حادثة وتعدى!

***

أول ما يلفت النظر في الملف بضعة أوراق قديمة..

ورقة أولى تشير إلى الأسباب القديمة للحرائق المصرية.. حرائق الزراعات المتعمدة، والحرائق التي تسببها بعض العادات الموروثة، خاصة ما اتصل منها باحتفاظ الريفين بالحطب فوق سقوف بيوتهم، هذا فضلا عن حرائق المناسبات، وكانت خسائرها عظيمة.

يقدم مراسل الأهرام في دمنهور في 18 يونية عام 1895 قصة الإحراق المتعمد لمزروعات عبد الله باشا عزت الأرناؤوطى بناحية التوفيقية، فقد أتلف محصول 100 فدان من القمح ودمر مساكن العزبة وذهبت بحياة امرأة بخسائر بلغ قدرها ألفى جنيه، وبحث العمدة عن الفاعلين فعرف أنهم "أربعة أشخاص من عملة العزبة فضبطهم واستنطقهم فاعترفوا بجنايتهم فكتب المحضر اللازم وحضر حضرة المأمور وساق المذنبين إلى المديرية فنلتمس من رجال الحكومة تشديد العقاب"!

حرائق الحطب كانت الأكثر انتشارًا، حريق في ميت غمر في مايو 1894 "تداركه رجال البوليس فاقتصر على التهام غرفتين، وفى اليوم التالى حصل مثله في منزل آخر"، في أبريل عام 1895 كان الخطب أكبر في قلوصنا، فقد استمر الحريق ست ساعات "ودمر نحو 20 منزلا واحترقت ست نساء وشيخ طوافة البلدة، وأن الأخير مات بسبب شهامته عندما حاول إنقاذ امرأة وهو يلقى بالأحطاب من على الأسطح فاختل توازنه وسقط في النار"! وأخبار أخرى كثيرة.

دعا ذلك الأهرام إلى المطالبة بالتشدد في منع هذه العادة واستلفات "أنظار ولاة الشأن إلى إصدار أوامر مشددة بمنع الأحطاب والأبواص على السطوح ومعاقبة كل من يخالف ذلك"، وهو ما استجاب إليه هؤلاء.

ففي 21 أغسطس عام 1895 أصدرت نظارة الداخلية جملة قرارات بمنع الأهالى في مديريات الجيزة والغربية والمنوفية وقنا من "وضع الأحطاب وما ماثلها من المواد القابلة للالتهاب على سطوح المنازل دفعًا للحرائق"، ويبدو أن القرار طال بقية المديريات مما يكشف عنه خبر في الأهرام بحضور أحد محضرى محكمة ايتاى البارود إلى بلدة المعيصرة "وسلم أهاليها إعلانات وأنذرهم بالمجيئ لحضور جلسة 28 أكتوبر 1895 لسماع الحكم عليهم بسبب المخالفة التي ارتكبوها بوضع الأحطاب على سطوح منازلهم"!

الورقة الثالثة عن حرائق المناسبات، وعلى وجه التحديد تلك التي تشتعل في الموالد، مما كانت تأتى الأهرام بأخباره بين الحين والآخر..

أشهر موالد مصر.. مولد السيد البدوى في طنطا تروى الصحيفة خبر أحد حرائقه فتقول: "شب النار شبوبًا هائلا في الساعة الواحدة بعد ظهر أمس في وكالة العطارة بجوار مقام السيد الأحمدى.. قدرت قيمة البضائع التي التهمتها النيران بنحو خمسة آلاف جنيه فنسأل لأصحابها العوض.. وبلغنا أن أصحاب هذه الحوانيت يكثرون من خزن صناديق الغاز والمواد الملتهبة ويعرضونها في أماكن معروضة لوقوع النار فيها".

إلى جانب مكاتب طنطا، يبعث مكاتب أسيوط بأخبار عن الحريق الذى شب في "قهوة بمولد سيد جلال السيوطى المعقود فيها منذ أيام فأصابت ناره أربعة أشخاص توفى اثنان والآخران في المستشفى وحالتهما ذات خطر".

السطور الجديدة في تلك الأوراق القديمة تذكر أنه إلى جانب الطرق التقليدية في إطفاء الحرائق، الاعتماد على السقايين والدلاء وجهود الأنفار في موقع الحريق، فقد عرفت تلك السنوات مشاركة السلطات الحكومية مع الأهالى لمواجهة النيران المشتعلة، وهى مشاركة بدأت محدودة، وكانت محل ملاحظات عديدة من الأهرام.

أخبار عديدة تشير إلى التوسع في هذه المشاركة..

خبر من بنى سويف عن الحريق الذى شب في "ونا القس فأسرع حضرة وكيل المديرية مصحوبًا بالمضخة وبأنفار المطافئ والسقايين ليلا في قطار البضاعة وبعد عناء شديد أمكن إخمادها بعد أن حرقت 20 منزلا و60 جرنًا عوض الله على المنكوبين"!

من شبين الكوم جاء الخبر بالنيران التي شبت في البندر "فخف حضرة حكمدار المديرية وملاحظ البوليس ورجال المطافئ مع مضختين وكثيرين من السقايين وبذلوا الهمة في حصر النار وإخمادها في فترة قصيرة".

من كشميش في المنوفية اشتعلت النيران فيما يزيد عن 300 منزل بما فيها "سراى حضرة السيد بك الفقى وقد أرسلت التلغرافات إلى جهات الاختصاص فحضر حضرة رجال بوليس المنوفية والغربية وطبيب مع ثلاث مضخات وعدد من السقايين وبهمتهم وبمساعدة حضرات عمد البلاد المجاورة أطفئت النيران، أما الذين ماتوا بهذا الحريق فستة عشر شخصًا والباقون لا يزالون مجهولين وأما الخسائر فتقدر بعشرين ألف جنيه".

إلا أن هذه المشاركة الحكومية تعرضت في كثير من الأوقات لملاحظات من جانب الصحيفة وصلت إلى حد الانتقادات الحادة..

من هذه الملاحظات حرص المكاتب الذى شهد حريق ميت غمر على أن يذكر الحكومة بأن "البندر لا توجد فيه مضخة لأن الموجودة فيه لا تأتى بفائدة إذ ترش في الساعة الواحدة عشرين مترًا، فضلا عن أنها لا تصعد الماء لعلو أربعة أمتار". منها أيضًا ما جاء في شكوى أهل منوف من "عدم وجود المطافئ بالمرة في البندر أو وجود مطفأة قديمة، وإذا كانت جديدة فهى لا تكفى لبلدة كبيرة".

وبينما كانت الحرائق تشتعل على هذا النحو في المديريات فقد كان لها في العواصم، القاهرة والإسكندرية، وضع آخر، خاصة بعد حريق عابدين الشهير..

***

في القاهرة والإسكندرية شبت أنواع جديدة من الحرائق نتجت من جراء التغييرات الاقتصادية التي شهدتها، كان أهمها ما تسبب عن الدور الذى بدأت تقوم به في تصدير القطن وانتشار المخابر والمكابس في أرجائها، مما أكدته أخبار عديدة للأهرام منها هذا الخبران المتتاليان المنشوران في ديسمبر عام 1896.

الأول، "شبت النار في شونة المستر كارفر في ميناء البصل فأطفئت بعد أن أحرقت بالتين من القطن"، والثانى، "حدث صباح اليوم حريق في مينا البصل في شون الخواجات نجار وجوهر وكان فيها 240 بالة قطن فاحترق منها 150 بالة تساوى 800 جنيه".

إلى جانب اختلاف الأسباب، فالملاحظ أنه بينما بقيت عملية الإطفاء في المديريات تختلط فيها دواعى القديم بأسباب الحديث فإنه في القاهرة والإسكندرية كان التحديث يسير بخطى سريعة.

منذ وقت مبكر وفى أعقاب حريق عابدين "عينت الحكومة بعض رجال المطافئ على مطفئتين في أطراف المنشية يأتونها في مساء كل يوم مستعدين للسير على مداركة الحريق حال شبوبها".

في نفس عام حريق عابدين، 1891، تقدم "الخوجا موكلير الشهير بتصميم جديد لطلمبة اخترعها لإطفاء النار"، وتشكلت لجنة برئاسة حكمدار الإسكندرية، المستر هارفى، لفحصها في أحد اسطبلات قشلاق البوليس! وبعد التجربة استحسنت اللجنة هذه الآلة لسهولة استخدامها"!

وتشير أخبار الأهرام إلى أن المسئولين ما فتئوا يجرون التجارب على الآلات الجديدة، خاصة في المناطق المعرضة للحرائق، فمن خبر نشرته الصحيفة في عددها الصادر يوم 24 سبتمبر عام 1896 أن حكمدار بوليس الثغر "ذهب إلى مخازن الدخان الجديدة في الجمرك فحضر تجربة المضخة الخاصة المقامة هناك لإطفاء الحريق حال شبوبه وقد نجحت التجربة نجاحًا تامًا"!

ويبدو أن تلك الجهود قد أتت ثمارها فيما تؤكده مواجهة الحريق الكبير الذى شب في الساعة السابعة من صباح يوم 18 فبراير عام 1898 في "شونة الخواجا كارفر الملاصقة لشادر الخشب خاصة الخواجا جوانى ستاتى في مينا البصل".

فبعد أن اندلعت ألسنة النيران "أسرع رجال المطافئ بمضخاتهم يتقدمهم حضرة النشيط عزتلو هارنكتون بك حكمدار بوليس الثغر والمستر لين وكيل المطافئ وشرعوا يجاهدون في إطفائها ولكنها لم تكن تزيد إلا قوة واشتدادًا بالرغم من اجتماع 11 مضخة بخارية عليها، أحاطت بالشونة من كل جانب وكانت اثنتان منها على وجه الماء في البحر وخشى أن يصل سعيرها إلى شونة شركة المكابس والمستودعات، الفاصلة بينها وبين شونة كارفر شارع عرضه 3 أمتار فقط، وشادر الخواجا ستاتى الملاصق للشونة المحترقة، فأمر حضرة الحكمدار حينئذ رجاله بحصر النار مخافة امتدادها إلى الأماكن المجاورة لها فصوبت خراطيم المضخات إلى شونة شركة المكابس وشادر الخواجا ستاتى وأعملت سائر المضخات في إطفاء الحريق".

ويقدم هذا الحريق الأخير نموذجًا لأسباب التحديث التي عرفها عقد التسعينات.. المضخات البخارية بديلا عن السقايين ثم بديلا عن المضخات اليدوية، مضخات متعددة، إدارة خاصة للمطافئ كان وكيلها حاضرًا، تكنيك جديد في الإطفاء يقوم على غمر المناطق المهددة بالمياه في ذات وقت مواجهة النيران المشتعلة.

وبينما كانت المدن الكبرى، خاصة الإسكندرية حيث يتعاظم عدد الأجانب، تشهد تلك التطورات في مجال الإطفاء، فقد كانت هناك حركة دائبة لمنع الحرائق والاستعداد لها ثم أخيرًا التخفيف من ويلاتها..

منع الحرائق بدا في مجموعة من القرارات، كان منها "منع وضع المواد السريعة الالتهاب في المخازن أو الأماكن الواقعة بين المساكن خوفًا من أضرارها عند حدوث حرائق"، وكان منها "العمل على إبعاد مخازن الغاز القائمة في الشوارع الرئيسية" لما ينجم عنها من أضرار الحريق فيما بعث به مكاتب الأهرام في فاقوس.

الاستعداد للحرائق تكشف عنه تقارير فرق المطافئ في العاصمتين، منها ما جاء في تقرير فرقة مطافئ الإسكندرية عن عام 1898 بأنها قد أنشأت عام 1898 "عشر حنفيات لإطفاء الحريق واشترت طلمبتين جديدتين إحداهما صغيرة والثانية كبيرة".

أما التخفيف من الويلات فقد بدا في جانبين أولهما، الأخذ بفكرة التأمين، وثانيهما، انتشار الاكتتابات أو إقامة الحفلات وتخصيص دخلها لإغاثة المذكورين.

فضلا عما سبقت الإشارة إليه في مستهل هذه الحلقة من التأمين على سراى عابدين، فإنه في مناسبات أخرى متعددة أشارت الأهرام إلى أن بعضًا ممن أصابت النيران ممتلكاتهم كانوا قد أمنوها، وكانوا من الأجانب في الغالب.. مخازن الخواجات نجار وجوهر كان مؤمنًا عليها لدى شركة تأمين إنجليزية، حريق الإسكندرية الكبير في مخازن الخواجات كارفر وستاتى والذى بلغ عدد بالات القطن التي احترقت فيه 15 ألف بالة "كلها مؤمن عليها من الحريق وتقدر خسائرها بنحو 200 ألف جنيه".

إغاثة المنكوبين كانت تتم باكتتابات الأهالى خاصة وأن الحكومة كانت تكتفى بتوزيع الخبز الجاف (البقسماط)، وكان هؤلاء يتطوعون لذلك في العادة لمواجهة الحرائق الكبرى.. ففي مايو عام 1895 شب حريق هائل في سنورس راح ضحيته 68 منزلا و12 حانوتًا "فحركت الغيرة بعض ذوى السخاء وفى مقدمتهم حضرة الوجيه فانوس أفندى حنا فجمعوا نقودًا وغلالا ووزعوها على أولئك المنكوبين".

في الشهر التالى، ولإغاثة ضحاي حريق بورسعيد ذهبت فرقة إسكندر افندى فرح المسرحية إلى المدينة حيث مثلت "الرواية التي خصص دخلها للمنكوبين بحريق حى العرب فضاق مرسح السير بالحضور"، مما شكل الورقة الأخيرة من هذا الملف المكتظ.. ملف الحرائق والمطافئ!


صورة من المقال: