ads

Bookmark and Share

الأحد، 21 فبراير 2021

130 الهلال الأحمر المصرى

الهلال الأحمر المصرى

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 23 مايو 1996م - 5 محرم 1417هـ


فلورنس نيتنجيل Nightingale أشهر ممرضة في التاريخ الحديث، بل ربما في التاريخ القديم والوسيط أيضًا!

قامت هذه السيدة الإنجليزية خلال حرب القرم (1854 - 1856) بتشكيل مجموعة من الممرضات نزلت بهم إلى شبه الجزيرة المشهورة إبان احتدام المعارك بين الجانبين، تركيا وانجلترا وفرنسا من جانب، وروسيا من جانب آخر، وكانت مهمتها التخفيف من ويلات الحرب على المتقاتلين.. كل المتقاتلين!

لقيت هذه الفكرة الإنسانية نجاحًا كبيرًا، ولم تنته مع وضع الحرب لأوزارها في صلح باريس، بل نشطت الدعوة لتقنينها حتى انتهت بعد ثمانية أعوام فحسب، 1864، بعقد معاهدة جنيف التي وقعتها جميع الدول الكبرى في ذلك العصر، والتي تعتبر بمثابة الميلاد لمنظمة من أشهر المنظمات الإنسانية في التاريخ حتى يومنا هذا.. منظمة الصليب الأحمر.

فقد نصت هذه الاتفاقية على كفالة سائر الأطراف المتحاربة لحماية عربات الإسعاف والمستشفيات والموظفين الصحيين وغيرهم ممن يعملون في خدمة المرضى والجرحى من ضحايا الحرب، وكان مطلوبًا لتمييز هؤلاء شريط يحمل صليب جنيف.. صليب أحمر على أرضية بيضاء، ولم تكن مصر بعيدة عن كل ذلك.

فالمعلوم أن قوة مصرية كبيرة شاركت في حرب القرم (12 ألفًا)، ومن المؤكد أن رجالها قد لقوا بعضًا من عانية نيتنجيل وزميلاتها ولعلهم كانوا بذلك أول حملة للفكرة عندما عادوا إلى أرض الوطن.

المعلوم أيضًا أن الجاليات الأوروبية الكبيرة التي تعاظم حجمها في البلاد خلال من بقى من القرن كانت مشدودة بدرجة أو بأخرى لأحداث الأوطان التي وفدوا منه، وكان من الطبيعى مع اشتباك تلك الأوطان في حرب أو أخرى، وما كان أكثر الحروب الأوربية في ذلك الزمان، أن ينغمسوا في أحداثها، وكان أهم مظاهر هذا الانغماس تقديم يد العون لبلادهم من خلال حملات الاكتتابات التي كانوا يقومون بها، وكان جانب من هذا العون يذهب إلى الصليب الأحمر.

المعلوم ثالثًا أن جمهرة غير قليلة من المصريين قد عاشت في أوربا بعيد الاحتلال، سواء لأسباب سياسية هربًا من الملاحقة الاحتلالية بعد سقوط القاهرة، أو لأسباب ثقافية باستكمال أسباب الدراسة، وكان لتلك المعايشة آثارها عل معينة هذا الجانب الإنسانى من الحياة الغربية، ونظن أنهم قد تمنوا أن يحاكوه في بلادهم، يؤكد ذلك أن أول مجموعة تصدت لوضع الفكرة موضع التنفيذ تصدرها بعض من هؤلاء.. الشيخ محمد عبده رئيس أولى اللجان التي دعت إلى جمعية "دار الهلال الأحمر"، والذى اختار النفى لباريس لبضعة سنوات في أعقاب الاحتلال، وأحمد فتحى زغلول، شقيق الزعيم المصرى المشهور سعد زغلول، والذى قضى بدوره في العاصمة الفرنسية دحًا من الزمن نال خلاله شهادة الحقوق.

ونظن أن من يعرف طرفا تاريخ "جمعية الهلال الأحمر المصرى" سوف يصاب بقدر من الدهشة بحكم ما يعلمه أنه لم تكن ثمة علاقة لهؤلاء بالجمعية فيما هو شائع، ولكن ليس كل شائع صحيح.

الشائع أن الهلال الأحمر المصرى قد تشكل في أواخر عام 1911، في شهر أكتوبر على وجه التحديد، وأنه قد ترأسه الشيخ على يوسف صاحب جريدة المؤيد المشهورة برعاية واضحة من الخديو عباس الثانى وعدد من أمراء الأسرة الحاكمة.

الشائع أيضًا أن الباعث لهذا التشكيل كان الحرب التي قامت على حدود مصر الغربية، في ليبيا، والمعروفة بالحرب الطرابلسية، والتي نتجت عن إرسال الإيطاليين لحملتهم الاستعمارية إلى تلك البلاد بهدف سلخها عن الدولة العثمانية، الأمر الذى أثار سخطًا عامًا في صفوف المصريين حاولوا أن يعبروا عنه أولا بحركة تطوع لدعم قوات الدولة العلية، غير أن سلطات الاحتلال أفسدت تلك المحاولة، ولم يجدوا أمامهم حيال ذلك إلا مد يد المعونة الإنسانية فجاء تكوين الجمعية.

الشائع أخيرًا أن الهلال الأحمر المصرى قد بعث بثلاث بعثات طبية إلى مناطق القتال، وقد دخلت تلك البعثات التاريخ حيث امتلأت دور الوثائق بأوراقها نتيجة للاتصالات التي جرت بين حكومتى لندن وروما للسماح لرجالها بدخول مناطق القتال.

كل هذ الشائع روج للفكرة بأن 1911 كان عام الميلاد للجمعية الشهيرة، غير أن الأهرام أثبت غير ذلك، فجمعية الهلال الأحمر المصرى قد وجدت قبل ذلك بنحو خمسة عشر عامًا فيما يمكن توصيف بالميلاد الأول حسبما سجلت شهادته جريدتنا العتيدة فيما نسوقه هنا..

***

شهادة الميلاد الأول للجمعية حررها أحمد فتحى زغلول وبعث بها للأهرام التي نشرتها في صدر صفحتها الأولى في عدد الصادر يوم 10 مايو عام 1896، نقدم بياناتها هنا بالنص، كما حررها الرجل.

"في يوم الثلاثاء 26 إبريل سنة 1869 اجتمع بمنزل صاحب السعادة أحمد سيوفى باشا بالعباسية حضرات أمين فكرى باشا ناظر الدائرة السنية ومحمد ماهر باشا محافظ مصر والأستاذ الشيخ محمد عبده القاضي بمحكمة الاستئناف ويوسف سليمان بك رئيس نيابة مصر والشيخ عبد الرحيم الدمرداش وسيدى الحاج محمد الحلو وكيل دولة المغرب الأقصى وعبد الرحيم بك حجازى من أعيان العاصمة والخواجا شمعون أربيب وأحمد فتحى زغلول بك رئيس محكمة مصر وشكلوا منهم لجنة للقيام بفتح اكتتاب لمساعدة جرحى الجيش وعيلات قتلاه وأيتامهم في الوقائع الأخيرة تحت رعاية الجناب العالى الخديوى وانتخبوا حضرة الأستاذ الشيخ محمد عبده رئيسًا وسعادة أحمد سيوفى باشا أمينًا للصندوق وحضرة أحمد فتحى زغلول بك كاتب سر اللجنة وقرروا إرسال منشور لأهل الخير وأولى البر والإحسان".

وتقدم بيانات هذه الشهادة جملة من الحقائق

1) تعدد الروافد التي جاء منها مؤسسو الجمعية، من الباشوات كبار ملاك الأراضى الزراعية مثل الرجل الذى انعقد في منزله الاجتماع، إلى كبار تجار مصر يمثلهم حجازى بك، إلى كبار موظفي الدولة يجسدهم محافظ العاصمة، فضلا عن بعض أصحاب المكانة الدينية، وأخيرًا المثقفين الذين تولوا بالفعل مسئولية إخراج الجمعية إلى حيز الوجود.

2) الرعاية التي نالتها الجمعية الوليدة من الخديوى، والتي بدت في وجود عدد من أكثر المقربين إليه.. ناظر الدائرة السنية ومحافظ مصر، والتي تأكدت من أنه بعد يومين من تشكيل اللجنة "تشرف أعضاؤها بمقابلة سمو الأمير المعظم وعرضوا ما قرروه على مسامعه الشريفة فلقوا من جنابه العالى كل رعاية وتلطف فكان أول المكتتبين".

3) غياب الوجود الأوربي عن عمل الجمعية الوليدة، وهو الوجود الذى قلما كان يغيب عن ميدان المؤسسات الأهلية، خاصة وأن جذور الفكرة أوربية، ويعزى ذلك في تقديرنا إلى أن الرمز الدينى الذى اتخذته الفكرة في طبعتها الأوربية وفقًا لمعاهدة جنيف، الصليب الأحمر، لم تكن لتنجح جمعية في مصر فيما لو أخذت بها.

يؤكد ذلك أولا أن الجمعية قد اتخذت الرمز الدينى الذى يلائم المصريين. الهلال حتى لو بقى أحمرًا(!)، ويؤكده ثانيًا أن أحد أعيان الإسكندرية، البارون فليكس دى منشة، كان قد سعى قبل أسابيع قليلة من تأسيس جمعيتنا إلى إقامة ما أسماه "جمعية الصليب الأحمر المصرية"، وهى الجمعية التي لم تلق إقبالا، واختفى ذكرها بعد قليل، ويؤكده ثالثًا أنه مع غياب العنصر الأوربي فقد حضر العنصر العربى.. وكيل دولة المغرب الأقصى وشمعون أربيب الذى يدل اسمه على شاميته.

4) ما جاء في الشهادة من أن الغرض من اللجنة "مساعدة جرحى الجيش وعيلات قتلاه وأيتامهم في الوقائع الأخيرة" إنما يشير إلى أن الحروب، بكل شرورها، كانت دائمًا الأرحام التي تنمو فيها مثل هذه الجمعيات، بكل خيرها.

فبينما كانت حرب القرم الرحم الذى خرج منه "الصليب الأحمر" فقد كانت الحملة المصرية - الإنجليزية على السودان الرحم الذى خرج منه الهلال الأحمر، وتشير الأهرام إلى أن مدة الحمل المصرى في الجمعية قد بلغت عامًا كاملا.

بدت علامات الحمل أولا في الأقاليم خلال الفترة المنقضية بين احتلال دنقلة عام 1896 وحملة الاستعادة عام 1898 مما رصدته الأهرام في حملة المديريات نختار منها خبرين..

الأول بعث به مكاتب المنصورة ونشرته الجريدة في عددها الصادر يوم 24 مايو عام 1897 وكان مما جاء فيه: "احتفل أول أمس بليلة الطرب الخيرية التي قرر حضرة الشيخ عوضين طه وبعض أعيان المديرية إحياءها لإعانة جمعية الهلال الأحمر وكان في مقدمة حضورها صاحبا السعادة مديرا الدقهلية والغربية وحضرات وكيل المديرية وحكمدارها وقضاة المحاكم وأبدع فيها المطرب الشهير عبده أفندى الحامولى في غنائه وتلحينه وخطب عزتلو إسماعيل بك عاصم خطبة تناسب المقام وانصرف القوم مسرورين ممتدحين همة الشيخ عوضين وغيرة المنصوريين"!

ويبدو أن الغيرة قد بدت في قلب مدير الغربية الذى حضر لحفل فقبل أقل من شهرين يبعث مكاتب الصحيفة في طنطا بالخبر الآخر عن قيام حفل مشابه في عاصمة وسط البلد وكان مما جاء فيه: "تم الاحتفال بالليلة المخصص دخلها لجمعية الهلال الأحمر فازدحم المكان بوجوه المديرية وأعيانها وكبار موظفيها في مقدمتهم سعادتلو مدير الغربية وكان قد دعى لحضور الحفل سعادتلو مدير الدقهلية فلبى الدعوة ولبث حضرة المطرب عبده الحامولى (نفس المطرب) يطرب الحضور بصوته الرخيم إلى الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، وقد ألقى بعد ذلك عزتلوا إسمعيل بك عاصم (نفس الخطيب) خطبة تناسب المقام وتلاه حضرة الشيخ على أبو سالم فلفظ خطابًا ضمنه أبياتًا من الشعر الرقيق".

وإذا كانت هذه الاحتفالات قد هيأت المناخ المناسب لإنشاء الجمعية في الأقاليم، فإن مقالات الصحف قد ساعدت على مزيد من أسباب التهيئة في مصر كلها..

نختار منها المقال الذى شغل جانبًا من الصفحة الثانية من الصفحة الثانية من الأهرام في عددها الصادر يوم 19 أبريل عام 1898 تحت عنوان "جمعية الهلال الأحمر" وبعد أن نوه كاتبه بمقالات سابقة عديدة للدعوة "لتأليف جميعة الهلال الأحمر في القطر لمساعدة جرحى الحرب السودانية وعيلات قتلاها" انتقل إلى التأكيد على تلك الدعوة بقوله:

"نحن لا نرى بدًا من تعضيد هذا المشروع الخيرى المفيد والعمل الإنسانى النافع لأن جريح الحرب أحق من كل إنسان سواه بالشفقة وأسرة قتيل الحرب أولى من أسرة بالحنان والمساعدة ولا شك أن الوطنيين سيفون حقوق المروءة والإنسانية من كل وجوهها بالإقبال على الاكتتاب المخصص لمساعدة جرحى الجيش المصرى بنوع خاص".

ويكشف ذلك المقال عن بعض ملامح الوليد الجديد.. الهلال الأحمر المصرى، وهى ملامح اختلفت في بعض جوانبها عن الصليب الأحمر..

من هذه الملامح أن فكرة المعونة الطبية في ميدان القتال لم تكن بنفس قوتها فيما فعلته فلورنس نيتنجيل ورفيقاتها، ففضلا عن عدم شيوع مهنة الممرضات في المحروسة في ذلك الزمان، فقد كان من الصعب تصور قيام بعض السيدات والأوانس المصريات بالسفر إلى السودان لتولى واجب التخفيف عن جرحى المعارك بعض ويلاتها.. فمصريات ذلك الزمان كن لازلن أسرى لبيوتهن وتقاليدهن.

لعل ذلك ما دفع الداعين لجمعية الهلال الأحمر إلى صرف جهودهم إلى العناية بأسر قتلى المعارك أكثر مما دفعهم إلى العمل على حمايتهم من القتل!

منها أيضًا أن اشتراك الإنجليز في الحملة قد وفر لهم لونًا من رعاية "الصليب الأحمر"، وربما يتمتع المصريون بنفس القدر من عناية هذه الجمعية، الأمر الذى احتاج معه الأخيرون إلى جمعية لهم فيما نستدل عليه من العبارة الأخيرة التي وردت في المقال "لمساعدة جرحى الجيش المصرى بنوع خاص"!

وقد تركت تطورات الحرب في السودان بصمتها الأخيرة على الميلاد الذى جاء في أعقاب موقعة العطبرة، كبرى المواقع قبل واقعة أم درمان التي أنهت وجود الدولة المهدية.

***

النصر الذى تم إحرازه في العطبرة، وقلة عدد القتلى (10) والجرحى (90)، فضلا عما كان يتوقع من احتدام المعارك بعدها مع قوات الأنصار.. كان كل ذلك بمثابة آلام المخاض الأخيرة التي ولدت في أعقابه جمعية الهلال الأحمر، فبعد عشرين يومًا بالضبط من هذه الموقعة (6 أبريل) انعقد اجتماع العباسية في دار سيوفى باشا وأعلن مولد الجمعية.

وقد لقى هذا الإعلان ترحيبًا ملحوظًا، استقبال الخديوى لأعضائها، مقابلة مع رئيس النظار، أعقبها تبرع كل ناظر بخمسة جنيهات بالتمام والكمال، وكان مبلغًا كبيرًا بمقاييس العصر، مما كان بمثابة افتتاح لحملة اكتتابات قدرت الأهرام حصيلتها بما يتراوح بين ألفين وثلاثة آلاف جنيه، وكان من الطبيعى أن يؤدى ذلك إلى أن يسير أصحاب المشروع قدمًا في بناء الجمعية الجديدة.

عقد المؤسسون اجتماعًا آخر في منزل السيوفى باشا أيضًا، ولكن في الغورية هذه المرة، وصاغوا منشورًا وقعه رئيسها الشيخ محمد عبده ونشرته الأهرام وسائر الصحف، وكان بمثابة أول خطة لجمعية الهلال الأحمر المصرى، مما يستحق معه قراءة فاحصة..

يبين هذه المنشور في جانبه الأكبر الدوافع من وراء تأسيس الجمعية. رعاية أسر القتلى الذين "تركوا أيتامًا وأهلا فيهم الضعفاء وذوو البأساء، والجرحى الذين قد يعجزون عن الكسب حتى لو تم شفاؤهم"، أي المعوقين بلغة العصر، "ومكان هؤلاء الشجعان من أهالى البلاد هو مكان الأخ الكريم من أخيه أو العضو الشريف من البدن السليم".

يستنهض بعد ذلك الهمم ووسيلته إليه أن يدعو كل مصري باقى الوطنيين "إلى هذا العمل المجيد والبادئ في الخير الداعى إليه هو في الحقيقة خادم لمن يستنهضه فإنه إنما يفتح سبيلا لظهور كرم السجية وسطوع ضوء الحمية"!

يخلص من كل ذلك إلى مناشدة "أهل الفضل وذوى الهمة والمروءة" بالتبرع لإخوانهم المصابين "والمعلوم أنه لا ينقص مالة من صدقة ولن تُخذل أمة كان التعاون من سجاياها"، وأن يعتبر المصريون أنفسهم ضمن رجال الجمعية فيقوموا بجمع التبرعات وإرسالها "إلى سعادة أمين الصندوق بمصر ويرسل إليكم الإيصال حسب العادة"!

وتؤكد الأخبار أن قضية تمويل الجمعية الناشئة كانت الشغل الشاغل لمؤسسيها والمعنيين بأمرها، ولعل ذلك ما دعا الأهرام إلى أن تعلق على المنشور بالإعراب عن رجائها "من المصريين أجمع أن يشتركوا فيه ويقبلوا عليه بما عودونا إياه من السخاء وكرم الأخلاق"!

لعل ذلك أيضًا ما دعا اللجنة إلى أن تستهل عملها بوضع تنظيم ييسر عملية التمويل بالانقسام إلى لجنتين اختصت إحداهما بجمع المال من الأعيان والوجهاء، بينما عنيت الثانية، وكانت تضم أمين فكرى وفتحى زغلول "بجمع النقود من دواوين الحكومة وقد اكتتب لديها كثيرون من الموظفين" وهو قول يحتاج إلى المراجعة!

قبل هذه المراجعة نرى التنبيه إلى أن جمعيات ذلك الزمان كان يتوجب عليها أن تدبر مواردها المالية من الألف إلى الياء، فلم تكن تتلقى أية معونات من الحكومة، سواء بسبب الهيمنة الحكومية التي خصص أغلبها لسد الديون، ولم يكن فيها بالتالى مكان لتعضيد أي أعمال خيرية، أو لأن الجمعية الشقية في أوربا، الصليب الأحمر، كانت تعتمد على التبرعات.

ومع الوضع في الحسبان، المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية على الجانب الآخر من البحر المتوسط والتي وفرت فوائض مالية كبيرة لدى الطبقة الرأسمالية، وخلقت معها تقاليدًا ثابتة في تمويل العمل الخيرى، فإنه يصعب وضع الجانبين على قدم المساواة.

على أي الأحوال فقد استمرت الأهرام توحى، ولفترة غير قصيرة أن الأمور تسير على خير ما يرام، وأن حملة التبرعات قائمة على قدم وساق حتى تدخل مكاتب الجريدة في دمنهور الذى كشف عن أن سفينة الهلال الأحمر لم تكن تبحر مع رياح مواتية.

إيحاءات الجريدة جاءت في أكثر من خبر كانت تحرص فيه على نشر أسماء المتبرعين واحدًا واحدًا.. افتتاح الحملة بتبرع "دولة البرنس حسين باشا كامل عم الجناب الخديوى بخمسة وعشرين جنيهًا ووعد بأن يجمع من بعض أعضاء الأسرة الخديوية الكريمة ما تسمح به نفسوهم من الأموال.. وأن كثيرون من موظفي الوزارات يكتتبون بإقبال يستحقون عليه مزيد الشكر".

خبر آخر من مكاتب الأهرام في فاقوس بأن المأمور دعا أعيان المركز إلى مكتبه "وحضهم على إسعاف إخوانهم المنكوبين في الحرب السودانية فلبوا دعوته وتبرع كل منهم بما سمحت به نفسه"، ويبدو أنه كان قليلا حتى أن الأهرام تقول أنه بعد افتتاح الحملة بنحو ثلاثة أسابيع كان كل ما تم جمعه 312 جنيهًا و750 مليمًا!

دفع ذلك مراسل الأهرام في دمنهور إلى أن يكتب مقالا ساخنًا يعتب فيه على الأغنياء إحجامهم على مد يد العون للجمعية الوليدة لأنه "لم تؤلف في مصر قبلها جمعية أحمد منها سعيًا وأنبل قصدًا وأعظم أجرًا، وأن مساعدتنا واجبة شرعًا لأن الشرع لا يجيز أن يؤلف جيش في البلاد من فئة من سكانها دون غيرها"، وينهى مقاله بالإعراب عن يقينه بأنه سيرى من الأعيان "غيرة مشكورة وأن يكون للجنة المركزية لجان فرعية في كل المديريات وهذه تقيم في كل المديريات وهذه تقيم لها وكلاء في المراكز والنجاح مضمون بإذن الله".

غير أن الملاحظ أن أخبار الجمعية أخذت تتضاءل مع الأيام على صفحات الأهرام الأمر الذى يمكن تفسيره بأحد سببين.. إما أنها لم تنجح في تجاوز عقبة التمويل، رغم الحملة الكبيرة التي واكبت إنشاءها، وإما لأنه لم يمض وقت طويل حتى انهارت الدولة المهدية في موقعة كررى في 2 سبتمبر عام 1898، أي بعد قيام الجمعية بنحو أربعة شهور، واختفى مع ذلك الحافز الذى استمر يشكل قوة الدفع لاستمرارية تنامى الهلال الأحمر المصرى.

وكان على المصريين أن ينتظروا الميلاد الثانى للجمعية بعد ثلاثة عشر عامًا كاملة وفى ظروف حرب أخرى شخصت إليها أبصارهم!


صورة من المقال: