ads

Bookmark and Share

السبت، 20 فبراير 2021

127 تعداد الأنفس!

 تعداد الأنفس!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 2 مايو 1996م - 14 ذى الحجة 1416هـ


1897 عام فارق في الحياة المصرية، فمنذئذ دخلت البلاد عصر التعداد بكل مؤشراته على استخدام أدوات العصر، وقد ترك ذلك العام بصمته على تاريخ التعداد في مصر، ولسبعين سنة على الأقل، حين استمر العام السابع من كل عقد يشكل مناسبة قومية لإحصاء السكان، وحتى عام 1967 الذى انتهى فيه هذا التقليد من جراء حرب يونية المشئومة، وبدأ البحث عن عام آخر!

الطريق إلى تلك العلامة الفارقة لم يكن هينًا، رغم أن السير فيه كان إجباريًا، وقد استغرق "المشوار" المصرى لقطعه نحو مئة عام بدأت في مفتتح القرن التاسع عشر، يوم 11 يناير عام 1801 على وجه التحديد، وهى البداية التي سجلها لنا المؤرخ المصرى الشهير عبد الرحمن الجبرتى في حولياته المعروفة "عجائب الآثار في التراجم والأخبار"، ففي ذلك اليوم بعث سارى عسكر الفرنسيس عبد الله جاك منو، كتابًا إلى مشايخ الديوان قرأه عليهم الترجمان الكبير..

الكتاب طويل نقرأ منه ما جاء قر آخره "أيها المشايخ المكرمون والعلماء المحققون ومن هم بالعلم موصوفون لا يخفاكم أن أجمل ما في النظام في تدبير الدنيا بأسرها حسن تام، هو الاحتفال والميل إلى النظام، الذى هو  صادر ترتيبه عن حكمة الله تعالى بوجه تام"!

بعد هذه المقدمة ذكرهم بما أمر به بونابرت بتحرير "دفتر يكتب فيه أسماء كامل الميتين"، وأنهم طلبوا منه تحرير دفتر آخر للمواليد "ومن حيث ذلك فلابد أن أعتنى منذ الآن مع جزيل الاهتمام بهذين الأمرين. وهكذا أيضًا بتحرير دفتر الزواج، إذ كان ذلك أشد المهمات والحوادث الواجبات. ثم يتبع ذلك بتجديد نظام غير قابل التغيير في ضبط الأملاك والتمييز الكامل عمن ولد ومات من السكان وهذ يعرف من أهالى كل بيت".

يحاول سارى عسكر الفرنسيس بعد ذلك إقناع المصريين بأهمية مثل هذه الإجراءات الإحصائية وبمنطقهم، فيقول "على هذا الحال يتيسر للحاكم الشرعى للحكم بالعدل والإنصاف، وينقطع الخلف والخصام بين الورثة، وتقرر الولادة ومعرفة السلالة التي هي الشئ الأجل والأوفر استحقاقًا في الإرث، وهكذا إن شاء الله لابد من الفحص والتفتيش بالحرص والتدقيق وبذل الهمة للحصول لأقرب نوال إلى ما يلزم لإكمال ما قصدنا"!

غير أن هذه المحاولة لم تسفر عن شيء يذكر، فقد كان تنفيذها يحتاج لوقت طويل لم يتح للفرنسيس ولا كبيرهم الذين رحلوا تاركين البلاد بعد أقل من ستة شهور، وحتى الإحصاءات التي قدمها العلماء الفرنسيون في عملهم الموسوعى الشهير الذى أتموه في بلادهم.. وصف مصر، قد اعتمد بالأساس على أوراق الجمارك للموانئ البحرية والنهرية، فضلا عن محفوظات المحاكم الشرعية، ثم مشاهداتهم الشخصية.

ونتيجة لأن حركة التاريخ لم تتوقف بعد خروج الفرنسيس من أرض الكنانة فإن السير في الطريق الصعب.. طريق تعداد البشر والبقر والشجر والحجر، لم يكن ممكنًا أن يتجمد وإن كان قد امتلأ بالمطبات، وكان مطلوبًا تجاوزها.

موجبات السير في الطريق كانت هي ذاتها موجبات تشييد الدولة الحديثة التي وضع أساسها خلال النصف الأول من القرن وأخذ بنياتها في الارتفاع خلال نصفه الثانى، مما تبدى في عديد من الجوانب..

الانتقال من اقتصاد العصور الوسطى الإقطاعى إلى اقتصاد العصور الحديثة الوطنى شكل الجانب الأول، فلم يكن اقتصاد وحدات الاكتفاء الذاتي والتبادل السلعى يصنع حاجة ملحة للإحصاء، على عكس الحال بالنسبة لاقتصاد الإنتاج النقدى وبناء السوق الوطنى والولوج إلى السوق العالمية فقد كان يتطلب حسابًا لكل شيء.

لعل ذلك ما أدخل الأوربيين في مصر، قناصل ومبعوثين رسميين ورحالة في دائرة المهتمين بالتعداد، أشهره الدكتور بورنج الذى أرسلته حكومة لندن إلى مصر عام 1836 حيث كتب تقريرًا إضافيًا حشده بالإحصاءات اعترف في جانب منه أنه بينما تقدر حكومة القاهرة عدد السكان بـ 3.2 مليون فإن الواقفين على أصح المعلومات يقدرونهم بما يتراوح بين اثنين واثنين ونصف مليون، وهى أرقام متفاوتة إلى حد كبير، ولكنها تكشف عن سعى أوربى حثيث لتعداد أنفس المصريين!

بناء الجيش الوطنى شكل الجانب الثانى من الحاجة إلى "تعداد الأنفس" خاصة بعد أن فشلت المحاولات الأولى لإمداد هذا الجيش باحتياجاته البشرية من غير المصريين، وبعد أن كان يتم الحصول على هؤلاء بطريقة عشوائية تمثلت في كثير من الأحيان في القبض على شباب منطقة بعينها أو طائفة بذاتها وجرجرتهم إلى صفوف القوة العسكرية الحديثة عنوة، وبعد أن زادت أعداده، خصوصًا خلال حروب الشام في الثلاثينات، حتى وصلت إلى نحو نصف القوة المنتجة في البلاد مما أثر بشكل سلبى على تلبية الاحتياجات الاقتصادية للدولة الناشئة.. كل ذلك قوى الحاجة إلى إرضاء السبيل، ولم يكن هذا ليتم إلا بالتعداد.

رغم ذلك استمرت المعوقات تحول دون القيام بإحصاء دقيق لسكان أرض الكنانة، وهى معوقات تراوحت بين التقاليد، ومخاوف متأصلة من الحكومات، فضلا عما استجد من سياسات حكومات الدولة الحديثة من تجنيد الشباب المصريين.

"ممنوع الدخول" لافتة غير مكتوبة ظلت معلقة على بيوت المصريين، خاصة من أبناء المدن، فنظام الحريم الذى أخذوه عن الأتراك جعل لتلك البيوت حُرمة خاصة جدًا، ولم يكن في مكنة الداخلين، خاصة من الرجال، أن يعبروا الباب إلا بصبحة سيد الدار، وألا يتجاوز وجودهم الدور الأرضى المعروف بالسلاملك، وكانوا في العادة من أصحاب رب البيت ممن تجمعهم به علاقة حميمة.

استتبع ذلك أن أصبحت أية معلومات عن قاطنى البيت محرمة على غيرهم، ووصل الأمر في بعض الأحيان إلى أن يشكل تسرب بعض من تلك المعلومات طعنًا في شرف صاحبه وكشفًا لعواراته!

ولم يكن المصريون مستعدين، مع سيطرة هذا المفهوم، أن يتطوعوا لتقديم "المعلومات العورة" لرجال غرباء، خاصة لو كانوا من موظفي الحكومة، فالأمر بالنسبة لهؤلاء لا يقتصر على كشف العورات، مما رسخته خبرة تاريخية طويلة!

تؤكد قراءة تاريخ مصر بامتداد القرون السابقة، خاصة الثامن عشر، أن الإنسان المصرى ظل هدفًا لألوان متعددة من النهب الحكومى الذى تعدد أبطاله.. رجال الباشا العثمانى، فرسان البيوت المملوكية، جماعات الجند، هذا في المدن، أما في الريف فقد كان رجال الملتزم يقومون بالمهمة خير قيام(!)، فلم يتركوا للفلاح المصرى حتى السحتوت، وكان مفهومًا مع ذلك ما تضمنته تقارير القناصل الأوربيين من أن سكان مصر الذين وصل عددهم إلى ثمانية ملايين "في عصورهم السحيقة" على حد تعبيرهم، قد انخفض إلى ربع هذا العدد في أواخر العصر العثمانى، وأنه لولا انتشار تعدد الزوجات، "والخصوبة المعروفة عن المرأة المصرية"، فيما شهدوا به، لانخفض عن ذلك، ويسجل الدكتور بورنج معلومة طريفة في هذا الشأن وهى أن أقباط في بعض المناطق النائية كانوا يأخذون بهذا النظام.. تعدد الزوجات!

على ضوء تلك الحقائق لم يكن ثمة غرابة أن تفشل محاولة محمد على التي جرت خلال الثلاثينات "لتعداد الأنفس"، ويؤكد تقرير إنجليزى أن السبب وراء ذلك كان "التضامن في مقاومة السلطات الذى لم يقتصر على الطبقات الدنيا بل شمل أفرادًا من ذوى المكانة، حتى من أولئك الذين تربطهم بالباشا صلة مباشرة".

المعوق الأخير نشأ عن سياسات حكومة الدولة الحديثة في تجنيد المصريين، وهى سياسات خلقت كمًا كبيرًا من النفور بين المجندين وأهليهم، مما بدا في الهروب تارة، وفى تشويه بعض أجزاء البدن تارة ثانية، وفى التخفى عن دفاتر الحكومة، مهما كان كنهها تارة أخيرة.

وكان مطلوبًا على ضوء كل ذلك الواقع البحث عن بدائل..

***

شكل انصراف العناية إلى قيد المواليد والوفيات في دفاتر الحكومة، فيما سعى إليه الفرنسيون، أول تلك البدائل، وهو الأمر الذى أخذ في الترسخ مع اشتداد قبضة الحكومة على سائر أنحاء البلد من خلال السياسات التي اتبعت في عصر محمد على، فقد كانت دفاتر القيد جزءًا أصيلا من مظاهر الوجود الحكومى.

ومثل هذا البديل فيما ارتآه بعض المعاصرين "يساعد الحكومة على أن تعرف عدد سكان البلاد جميعًا وبطريق الحدث والتخمين معرفة تقارب الحقيقة".

بديل آخر تحدث عنه بإسهاب الرحالة الإنجليزى إدوارد وليم لين الذى زار مصر عام 1833 بإجراء تعداد الأنفس استنادًا إلى عدد المنازل القائمة، وإن تأسس هذا البديل على عدد من الفرضيات كان من الصعب إثبات صحتها.. منها فرضية أن كل بيت في العاصمة يضم حوالى ثمانية أشخص بينما لا يزيد عددهم عن أربعة في الريف.

بعد أن يسوق لين هذه الفرضية يؤكد أن تحرياته قد أثبتت أنها غير صحيحة تمامًا "فمنازل المدن كالإسكندرية وبولاق ومصر العتيقة تضم خمسة أشخاص على الأقل، بينما مدينة رشيد شبه مقفرة بالمقارنة مع مدينة دمياط المكتظة بالسكان حيث نحصى حوالى ستة أشخاص في المنزل الواحد".

البديل الثالث تمثل في إلزام شيوخ البلد في سائر أنحاء الريف المصرى بالاحتفاظ بدفاتر يسجلون فيها أسماء سكان القرية، فضلا عن المواليد والوفيات، وهى دفاتر تعرضت لقدر كبير من عدم الدقة ولأسباب عديدة بعضها عمدى..

انتشار الأمية حتى بين هؤلاء الشيوخ كان سببًا أول، وكثرة المواليد ووفيات الأطفال في نفس الوقت، مما لم تستقر معه خطوط خريطة التعداد صنع السبب الثانى، غير أن السبب الأهم كان تلاعب هؤلاء الشيوخ في تلك الدفاتر مما حولها إلى وسيلة لتحقيق المكاسب ودعم النفوذ أكثر منها مصدر حقيقى لتعداد الأنفس.

دعا ذلك إلى تغليظ عقوبة شيخ البلد على مثل هذا التلاعب، مما وصل إلى حد الحكم بالسجن عان كامل، وهو ما أيدته الأهرام بقولها "إن قصاص المشايخ لعدم تقديمهم أسماء الأنفار الذين هم في سن القرعة والتستر على بعضهم في غاية العدالة، لأن الأنفار تكون حينئذ في حصتهم ودفتر المواليد والوفيات بين أيديهم وليس من المحتمل أن يسقط اسم نفر من الأنفار المذكورين إلا تعمدًا منهم لغاية ما"!

ولكن ليس بالقسوة وحدها كان يمكن كفالة الضمانات المطلوبة لإجراء تعداد دقيق للنفوس، ولكن بإجراءات أخرى عرفها عقد التسعينات.. عقد أول تلك التعدادات في التاريخ المصرى..

***

شارك الأهرام في حملة صحفية في أوائل ذلك العقد استهدفت إقناع المصريين بأهمية تعداد الأنفس، سواء بالنسبة للحكومة أو بالنسبة للأهالى..

أهميته للحكومة فيما كتبته الأهرام "لتعريف حقيقة عدد دافعى الضرائب بأنواعها وليسهل عليها ضبط الثروة الأهلية وتحسين الأحوال الصحية، وتعديل وسائل الأمن، ولتعلم لأى الأسباب زاد عدد السكان عمومًا فتحسنه وتكثر الرعية بواسطة، وأى الأسباب زاد عدد السكان عمومًا فتحسنه وتكثر الرعية بواسطته، وأى الأسباب حول الناس من جهة إلى جهة في القطر فتصلح الخلل الذى ينفر الساكنين من الأولى وتوسع نطاق المكاسب في الثانية إلى ما شاكل كل هذه النتائج ذات الفوائد الكبرى".

أما الفوائد التي تعود على الأهالى فقد عددتها الصحيفة في "ألا يخبطوا خبط العشواء في صناعتهم وتجارتهم فيستوردون أو يصنعون ما يمكنهم إنفاقه ويمدون فروع أعمالهم إلى الجهات الكثيرة التي لا تزال بمثابة مجاهل في القطر، فهى لا تنتفع إلا بما قل من جديد المصنوعات والتجارب ولا ينتفع بها أحد".

ولا تنسى جريدتنا في مشاركتها في تلك الحملة حض المصريين على قبول فكرة التعداد "حتى تنتفى تهمة الأجانب حيث الأجانب حيث يعجبون كيف نعيش وحكومتنا في بلد لا نعرف عدد قاطنيه ولا تعد فيه إلا أحوال الضرائب والمغارم والمكوس والعوائد والرسوم"!

غير أن فائدة الحملات الصحفية تقتصر في العادة على القراء، وكانوا قلة في ذلك الزمان، ومن ثم مطلوبًا البحث عن أدوات جديدة ترقى إلى مرتبة نظام محكم لإنجاز أول التعدادات!

أصبح هذا النظام محل مناقشات عامة بعد أن شكلت الحكومة في أوائل عام 1892 لجنة "عهد إليها في اختيار أفضل الطرق المؤدية إلى تعداد الأنفس في القطر المصرى"، وبدا كل يدلى بدلوه في تلك الطرق وكان للأهرام دلاؤها!

رفضت الصحيفة أن يتم التعداد على مدة طويلة فيما كان يقترحه البعض لأن ذلك "قد يخل به خللا كليًا بسبب انتقال بعض السكان والخدم وغيرهم من بلدة إلى بلدة أخرى أو تغيبهم في أوقات إجراء التعداد أو بسبب المواليد والوفيات التي تحدث في مدة الاشتغال بالإحصاء".

اقترحت بعد ذلك أن تقسم كل مدينة أو قرية إلى عدة أقسام وبعين لكل قسم منها "ثلاثة أو أربعة مندوبين من قبل الحكومة للاعتناء في أمر هذا الإحصاء وتنفيذ أوامر القائمين به".

طالبت أخيرًا إعداد ورقة تتضمن البيانات المطلوبة ثم "توزع على عموم المنازل والفنادق والمحلات العامة والخصوصية ويطلب من أربابها بأن يكتبوا في تلك الورقة في يوم خصوصى يعين لهم جميعًا أسماء كل من يأتي تحت سقف منزله في ليلة ذلك اليوم وجنسيته وكل ما يراد معرفته سواء كان المذكورون من سكان البيت أو من الغرباء، وبعد ذلك يذهب المندوبون ويجمعون تلك الأوراق من المنازل الواقعة في أقسامهم ويرسلونها إلى لجنة الإحصاء".

وقد تحوط كاتب المقال من احتمال أن يكون صاحب المنزل ممن لا يعرفون الكتبة فنصحت أن يتولى المندوبون المهمة نيابة عنه "فيسألوه عمن أتى عنه ويكتبوا الورقة نيابة عنه".

في مناسبة أخرى حذرت الأهرام من الاعتماد على مشايخ الحارات في القيام بالتعداد "لأن هؤلاء المشايخ قد تعودوا في السابق ألا يطوقوا أبواب الناس إلا لمظلمة جديدة أو لأمر غير سار فلذا ترى الناس قلما يثقون بهم ويخبرونهم عند العدد الحقيقى للأنفس والعائلات، وفضلا عن ذلك فإن هؤلاء المشايخ لجهلهم أسباب الإحصاء وفوائده يهملون كثيرًا من الناس بلا عد حتى سمعت أن بعضًا منهم يكتفى بعدد الرجال دون النساء والأطفال ولهذا نشأ الغلط في أكثر الإحصاءات التي حصلت لغاية الآن"!

وفى مناسبة ثالثة، نبهت الأهرام إلى أهمية أن تترك الورقة المذكورة لصاحب الدار ليحررها بنفسه خشية من أنه إذا تولى المسئولون عن أمر الإحصاء هذه المهمة "فقد يتعذر على الحكومة أن تصيب منهم جوابً صادقًا تعتمد عليه في ضبط الإحصاء المراد إجراؤه لعدم ثقة العامة ببساطة هذا السؤل ومغزاه الحقيقى المقصود، وإذا لم يكن من داع لهم للإنكار غير الخوف من العسكرية فيه لكفاية".

على ضوء هذه الاقتراحات وغيرها مما تقدمت به سائر الصحف والأفراد اجتمعت أول لجنة للإحصاء في تاريخ مصر في نظارة الداخلية يوم 15 فبراير عام 1892 وكان من بين ما استحسنته آراء الأهرام في هذا الشأن، مما كان محل تباهى الصحيفة في اليوم التالى وإن قررت أن تضيف إلى تلك الاقتراحات "بعض الشروط المرغبة للأهلين على الصدق في البلاغ الذى يبلغونه لعمال هذا العمل المفيد الذى ليس من غاية فيه غير مجرد الإحصاء البسيط"!

وتحولت الفكرة إلى عمل مؤسسى بعد أن تقرر إنشاء قلم لأعمال الإحصاء في وزارة المالية "يعين له مستخدمون خصوصيون ومفتشون في جميع المديريات قد لا يقل عددهم عن المئة والخمسين مستخدمًا"، ويبدو أن هذه الخطوة قد استغرقت وقتًا طويلا، ثلاث سنوات على الأقل فيما أشارت إليه الأهرام، وإن ظلت لجنة الإحصاء تقوم ببعض الأعمال خلال تلك الفترة.

كان من أهم تلك الأعمال إجراء تجارب على عملية الإحصاء منها اختيار بلاد بعينها لعمل "بروفات" كان منها إحدى بلاد الجيزة وإحدى بلاد القليوبية.. بركة الخيام ووراق الحضر، وأصبح كل شيء معدًا للقيام بالعمل الكبير في أوائل عام 1897.

فقد صدرت تعليمات مديرى المديريات إلى مأمورى المراكز الذين أطلعوا "على النظامات الواجب اتباعها وهى إجراء التعداد في كشوفات يبين فيها أعداد الوطنيين والأجانب على اختلاف الأجناس والمذاهب ذكورًا وإناثًا وبأن يكونوا مراقبين على هذه الأعمال ومساعدين للعمد فيها".

تم في الوقت نفسه تعيين عدد من الضباط المستودعين مفتشين لأعمال الإحصاء على رأسهم "محمد بك نسيم" باشمفتشًا، ونال كل مديرية من مديريات القطر هؤلاء فضلا عن تعيين معاون من الضباط لكل منهم.

وفى يوم 2 يونيو عام 1897 انطلق مندوبو القلم الجديد إلى كل صوب وحدب في بلاد القطر يجمعون "أوراق تعداد الأنفس" أو يسألون أرباب البيوت وإن كانت الأهرام قد احتجت على التعليمات الصادرة لهؤلاء في العاصمة بالاكتفاء بسؤال البوابين الذين قد "لا يعرفون سوى واحد أو اثنين من سكان البيت وأن الأمر قد يصل إلى حد استخراج متوسط من الإجابات المتضاربة، وسوف تكون متوسطات مغلوطة فيما ارتأته الصحيفة.

في صباح 5 من الشهر نفسه بدأت بشائر أول "تعداد للأنفس" في الظهور "ويستبان من تعداد المدن الكبيرة أن الزيادة عظيمة جدًا ويعزوها العارفون إلى أنور أهمها اثنان. تعميم الوسائل الصحية من جهة، وإلزامية التعليم من جهة أخرى".

بعد ذلك بعشرة أيام وفى "تلغرافات خصوصية" طيرها مراسل الأهرام في العاصمة إلى مقر الجريدة بالإسكندرية جاء في أحدها "بلغ مجموع تعداد الأنفس في القطر المصرى 9.654.323 نفسًا، ومجموعة في المحافظات 1.017.741 وفى الوجه البحرى 4.641.197 وفى الوجه القبلى 3.995.385". وتضمن تلغراف آخر مزيدًا من التفاصيل عن عدد الأنفس في كل مديرية على حدة، وعن عدد الأجانب الذى وصل إلى 109.725.

لم تملك الأهرام إلا أن تعبر عن تلك النتيجة بالقول "قد زاد عدد سكان مصر أربعة أضعاف في مئة سنة وسيكون بعد مضى ثلاثين سنة ضعفى عدده الآن، فلا يمضى نصف قرن إلا وفى مصر من سواحل البحر الأبيض إلى وادى حلفا أمة عظيمة لا يقل عددها عن عدد أمة أوربية"، وهى النبوءة التي تحققت مضاعفة خلال قرن على نحو أصبحت تشكل معه كابوسًا للحكومات المصرية!


صورة من المقال: