ads

Bookmark and Share

الخميس، 18 فبراير 2021

126 قصيدة السفهاء!

 قصيدة السفهاء!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 18 أبريل 1996م - 30 ذى القعدة 1416هـ


الزائر لمقر الصحفيين بالقاهرة يستقبله في المدخل تمثال نصفى للأستاذ أحمد حلمى صاحب جريدة القطر المصرى والذى صدر في حقه في 16 أبريل عام 1909 حكم بالحبس عشرة شهور وبإيقاف جريدته ستة شهور بتهمة العيب في الذات الخديوية، الأمر الذى ارتأى الصحفيون المصريون معه أن الرجل خليق بالتكريم لكونه من أوائل شهداء حرية الرأي فصنعوا له التمثال العتيد!

ما قد لا يعمله الكثيرون أنه قبل اثنتى عشرة سنة وفى عام 1897 على وجه التحديد صدر حكم أقسى، ولنفس التهمة، على صاحب جريدة الصاعقة أحمد أفندى فؤاد الذى جرجر معه الأديب المصرى الذى اكتسب صيتًا واسعًا بعد ذلك، الشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى.

ولا نعتقد أن المنوط بهم أمر النقابة في إغفالهم لأحمد فؤاد وتكريمهم لأحمد حلمى قد جهلوا أمر الأول، وإنما تأسس موقفهم على جملة من حقائق نقرهم عليها أهمها أن عباس الثانى المتحالف مع الاحتلال الذى هجمه صاحب القطر المصرى عام 1909 كان غير عباس الثانى المشتبك في صراع مع الانجليز الذى هاجمه صاحب الصاعقة عام 1897، ومنها أن أحمد حلمى كان من رجال الحزب الوطنى، ومن ثم جاء هجومه انطلاقًا من حركة سياسية عامة لقيت تأييدًا من جموع المصريين، بينما جاء هجوم أحمد فؤاد من خلال تآمر أحد خصوم الخديوى، بهدف الكيد لهذا الأخير، ولم يكن متوقعًا مع ذلك أن يحظى بأى عطف من المواطنين، حتى أن الأهرام استمرت تنعته بامتداد المحاكمة بالفتى المغرور، وعلى أي الأحوال فالقضية تستحق المتابعة، وهو ما فعلته صحيفتنا، وبتفاصيل مثيرة!

صباح يوم 3 نوفمبر عام 1897 وصل الخديو عباس حلمى إلى عاصمة ملكه بعد رحلة في الخارج ليجد في استقباله مفاجأة غير سارة فقد علم بعد وصوله بقليل أنه قد وزعت على سكان القاهرة قصيدة مطبوعة تهاجمه جاء في مطلعها:

عيدٌ ولكن لا أقول سعيد            ومُلكٌ وإن طال المدى سيُبيد

علقت الأهرام على ذلك بعد أسبوع تنتقد القصيدة التي توزع "علنًا ويتطوع الناس بقراءتها بلا مقابل فأسفنا كل الأسف لما وصل إليه رعاعنا من الانحطاط الذى ل قرار له والفوضى المعنوية المملوءة بالأخطاء، وطالبت بعقاب الأثيم على جرمه الكبير.

في اليوم التالى تبشر الأهرام قراءها بأن الحكومات نظرت في الأمر وقررت محاكمة المتطاول "ولعلها تعامله بما يكون رادعًا له وعبرة ولسواه من كل جرأهم من إطلاق حرية المطبوعات واحتماؤهم بدولة أجنبية على المساس بالمقام السامى جهرًا، وتعريضًا وكشفت في هذه المناسبة عن شخصية المتطاول وكان صاحب الصاعقة "الذى سينفضح أمره في المحاكم" وحدثت الفضيحة فعلا خلا أقل من أسبوع من بداية التحقيقات، وكان أطرافها أربعة ممن نعتوا منذئذ بالشفهاء، وتسمت منظومتهم بالتالى "قصيدة السفهاء".

أهم هؤلاء السيد محمد توفيق البكرى.. أكبر الشخصيات في المربع المتواطئ، وكانت له قصة طويلة مع عباس..

فمن بداية عهد هذا الخديو أسند للسيد البكرى، زميله في المدرسة العلية، مشيخة الطرق الصوفية مع ضم نقابة الأشراف إليه بعد أن كان بيت البكرى خاصة بمشيخة الطرق الصوفية فقط، تبع ذلك بشهور قليلة تعيينه عضوًا بمجلس شورى القوانين وتصور عباس أنه قد ضمن بهذا أحد الأعوان الأقوياء، في تلك المراكز الحساسة.

غير أن الأيام أثبتت أن عباس كان متفائلا أكثر مما يجب فالسيد توفيق بدأ يلعب لحساب نفسه دون أن يضع اعتبارًا "لولى النعم" الأمر الذى أدى إلى حرمان الرجل من رضاء الخديوى فيما بدت نذره خلال رحلة قام بها البكرى إلى الأستانة روت الأهرام قصتها.. جاء فيها أنه لما وصل إلى "دار السعادة"، حاول إيهام المسئولين أنه أتى مندوبًا من قبل الجناب العالى "فعجب القوم في المابين من هذه الدعوى وسئل الجناب كتخد أي مصري مصر (ممثل الخديوى) عما إذا كان له علم ببعثة السيد البكرى، فأجاب صلبًا فسئل الجناب العالى نفسه فأجاب نافيًا كل النفى لما ادعاه السيد البكرى وكان لتلك الحادثة دلالتها.. أفندينا يسحب ثقته من نقيب الأشراف!

تعاظم عدم رضاء عباس عن السيد البكرى إلى أن وصل في أبريل 1895 إلى إقالة السيد من نقابة الأشراف، وإن بقيت له مشيخة الطرق الصوفية، وهو ما لم يغفره توفيق البكرى فتربص للخديوى ساعيًا إلى انتهاز أول فرصة للإساءة إليه.

الأضلاع الثلاثة الأخرى من المربع أخذت الأهرام تكشف عنهم الحجاب في أخبارها المتلاحقة عن "القصيدة الهجائية" ففي تلغراف خصوصى للجريدة في 13 نوفمبر أعلنت أن ناظمها هو الشيخ مصطفى لطفى، ولم تكن تلقبه بعد بالمنفلوطى، وأن طابعها هو الشيخ محمد الخيامى قاضى جرجا سابقًا، وأن مروجها صاحب الصاعقة.. الفتى المغرور أحمد فؤاد!

وكان أول المقبوض عليهم وكان أول من أدلى بالاعترافات المثيرة من محضر التحقيقات الأولى الذى نشرته الأهرام..

سُئِل أحمد فؤاد عما إذا كان هو ناظم القصيدة فقال نعم، ثم سُئِل عمن أعانه بالرأى أو بالمال على نشرها فقال أنها من عندياته، ثم سُئِل في مطبعة من طُبِعت فأجاب في مطبعة الشيخ محمد الخيامى الذى كان قاضيًا شرعيًا في جرجا ثم عزل من منصبه لخلطه في الدين ثم سُئِل كيف يعيش فأجاب أنه يكسب رزقه من صناعته ويُساكن رجلا يدعى محمد توفيق الأزهرى في ذلك فأنكر أنه يُساكنه ودل على منشئ القصيدة وهو الشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى فسُئِل هذا الشيخ فأجاب أنه مُصلِح القصيدة فقط.

وتستطرد الأهرام في متابعة سير التحقيقات فتقول إن صاحب الصاعقة علل نظمه للقصيدة، وترويجها بغضبه من رجال المعية السنية وقص قصة محصلها أنه بعد أن أصدر العددين الأولين من جريدته جاء أحد رجال بوليس المعية واستصدر عددًا ثالثًا باسم أحمد فؤاد محشوًا طعنًا في أصحاب المقطم فغضب لهؤلاء عضبًا شديدًا، وقرر أن يثأر لنفسه وانت الجريدة متابعتها لتحقيق اليوم الأول بقولها إن صاحب المطبعة "الشيخ محمد الخيامى والشيخ مصطفى لطفى المنسوبة غليه أكثر الأبيات قد سُجِنُوا جميعًا منذ أمس" وانتظر قراء الأهرام ما ستأتى به الأخبار عن قضية القصيدة وأصحابها، ولم يطل انتظارهم وتتالت المفاجآت، فيما حمله عدد الجريدة الصادر يوم 16 نوفمبر 1897.

والمفاجأة الأولى جاءت في تقرير مكاتب العاصمة والذى كان عادة ما يبعث به في اليوم السابق فلأول مرة ينكشف دور السيد توفيق البكرى وأنه قد نظم أبياتًا من القصيدة "كما اعترف بذلك الشيخ مصطفى لطفى وأحمد فؤد وأنه نقدهما أربعة جنيهات مُقدمًا على أن ينقدهما ستة أخرى بعد طبع القصيدة ونشره..!"

وتأكدت هذه المفاجأة بعد استجواب البكرى فيما طيره المُكاتب في تلغراف "خصوصى" بعث به من القاهرة في الساعة الثانية عشرة والربع وكان نصه: "ثبت بالتحقيق أن للسيد البكرى علاقة متصلة بأحمد فؤاد ويعرفه بالشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى خلافًا لدعواه وأنه هو ناظم بعض أبيات القصيدة".

المفاجأة الثانية جاءت في تلغراف خصوصى آخر أرسله المُكاتب نسوق نصه لأهميته "يؤكدون ن الإنكليز ساعون في عرقلة التحقيق الجارى في أمر القصيدة الهجائية كى لا ينكشف الحجاب عن المشتركين في وضعها لأنهم كلهم من أعوان الاحتلال وخُدامه، ولكن الناس يؤملون أن تسلك الحكومة في هذه المرة طريق الثبت والحزم توصلا إلى كشف خبايا المارقين".

ومن خلال هاتين المفاجأتين تحولت القضية من مجرد "قصيدة شفهاء" إلى فصل جديد من فصول الصراع بين سراى عابدين وقصر الدوبارة، وهو الصراع الذى تعددت فصوله خلال تسعينات القرن الماضى.

"خبايا المارقين" كشفت عنها التحقيقات فينا تأكد من العلاقة بين السيد البكرى وكل من أحمد فؤاد والشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى...

بالنسبة للأول فقد اعترف أنه له معرفة قديمة بالسيد، وأن هذه المعرفة "أصبحت في الأيام الأخيرة متصلة ذات روابط مستمرة بخلاف ما قاله البكرى الذى يدعى أنه رأى أحمد فؤاد مرتين إحداهما منذ ستة أشهر، وأثبت أيضًا أن السيد استخدمه قبل هذه المرة في الطعن على ذوى المقامات".

بالنسبة للمنفلوطى الذى ادعى السيد البكرى أنه لا يعرفه، ولم يره قط فقد أثبت أنه كان لا يعرف البكرى فعل حتى نظم القصيدة حين اتصل به ودفع إليه شطرها الأول وأمره أن ينظم القصيدة على وزنه وقافيته، ونقده أربعة جنيهات مُقدم أجرة إلى أن تتم المنظومة وبعد أن قام بعمله وراجعها شيخ مشايخ الطرق الصوفية "أدخل فيها البيتين اللذين هما أغلظ ما في القصيدة"!

"عرقلة الإنجليز للتحقيق" بدأت بوادرها من خلال موقف المقطم، جريدة الاحتلال، فقد علمت بالقصيدة قبل ظهورها، وأبدت سرورها من انتشارها، وأعربت عن صداقتها لأحمد فؤاد "الذى استعمله السيد البكرى الة وتلقيبها له بالأفندى كلما ذُكِر اسمه في أعمالها ومن كتابة الشاب المغرور إليها على إثر أخذ أقواله الأولى وكأنه يستنصر بها"، وجاء الموقف المتعاطف من صحيفة الاحتلال مع "السفهاء" على حد تعبير الأهرام، بمثابة المؤشر الأول على دور رجاله في القضية، ولم يمض وقت طويل حتى بدت قسمت هذا الدور تتضح.

السير "جون سكوت" المستشار القضائى للحكومة المصرى، وأحد أعمدة الهيمنة الإنجليزية على البلاد كان البطل الأول في هذا الدور، فقد تذرع بأن المحقق المصرى في القضية "صالح بك" لم يتبع الإجراءات الأصولية" في تفتيش دار السيد البكرى وما حفظه من بعض الأوراق التي لا تتصل بالقضية الأمر الذى دفع الأهرام إلى التعليق "بأننا نعلم أن القاضي المحقق لا يحيد يمنة أو يسرة عن الواجب فلا نظن أن ما سمعناه في هذا القبيل إلا إشاعة أعداء الحق وإن كانت صحيحة فهى أول خطوة من المحتلين في سبيل طمس آثار القضية"!

الإشاعة تحولت إلى حقيقة قبل مضى ساعات قليلة، فبينما استدعى السير سكوت صالح بك لسؤاله عن نتيجة التحقيق عُزل النائب العمومى من منصبه، وكان لعزله قصة روتها الأهرام في عددها الصادر يوم 30 نوفمبر.. قالت:

استدعى السير جون سكوت النائب العمومى وسأله استبدال صالح بك قاضى التحقيق بقاضى آخر لإتمام التحقيق فأبى، فقال أأنت مقتنع بن التحقيق غير مخطئ قال نعم وأراه سائرًا سيرًا قانونيًا دقيقًا. فقال السير جون: إذن فلسنا على اتفاق.

"أبلغ اللورد كرومر النظر بما جرى بينهما ولما قابل سمو الخديو أخبره بأن السير جون سكوت يستقيل إذ لم يعزل النائب العمومى فقال سمو الخديو سأرى رأى النظار فلما حضروا قالوا أن الإنكليز يلحون بعزل حمد الله بك، فقال الجناب العالى أتعتقدون أن التحقيق مُخطئ قالوا نعم ونحن نوافق بالإجماع على طلب الإنكليز. وخرج النظار بوجوه ممتقعة وأرسلوا قرارهم بعزل حمد الله بك وتعيين المستر كوربيت في مكانه" وكانت خطوة أخرى في اتجاه السيطرة الاحتلالية على القضاء المصرى بشغل أحد رجالهم، فنسنت كوربت، القاضي بمحكمة الاستئناف، لمنصب النائب العام، وخطوة أيضًا في سير لتحقيق لصالح السيد البكرى.

عبرت الأهرام عن الجانب الأول بقولها "إن الحادثة التي جرت وأقلقت الرأي العام إقلاقًا شديدًا ليست إلا فرصة خلقها الإنكليز لتحقيق أمنية قديمة لهم وهى أن يجعلوا النيابة في قبضتهم بعد أن قبضوا على سائر فروع الحقانية المهمة بأيدى السير جون سكوت وجونسون باشا وأغلبية مواطنيهم في محكمة الاستئناف الأهلية"، أما عن التأثير على مجرى التحقيق فقد جاء تعليقها لاذعًا في حق السيد البكرى حين هنأته بأنه سيجرجر غدً أذياله فوق هامة القضاء والنيابة ويلتفت مبتسمًا تبسم الفاتح العزيز إلى الدمار الذى أحدثه في النيابة". وكان لكاتب التعليق الحق في أن يعرب عن توجساته في التغيير الأمر الذى أكدته الأيام التالية.

توقف التحقيق لمدة أربعة أيام، بين 21 نوفمبر يوم عزل النائب العام المصرى وتعيين المستر كوربت محله.. ففي اليوم التالى صدر الأمر العالى بهذا التعيين، وبعد ثلاثة أيام، وفى يوم 25 نوفمبر حلف اليمين أمام الخديوى، ليستأنف سير القضية بعد ذلك، ولكن في المسار الذى أراده لها المحتلون، وفى وسط احتجاجات قوية من الصحف الوطنية والفرنسية!

كان إخراج السيد توفيق البكرى من القضية الهدف الأول للنائب العام الجديد ولسبب إجرائى، وهو أن الحصول على أوراق الرجل لم تقتصر على تلك الخاصة بالقضية وإنما على أوراق أخرى ألمحت المقطم أن الخديو كان يتوق إلى الحصول عليها لمعرفة أسرر السيد، الأمر الذى وضع عباس في خندق الدفاع حتى أنه صرح للنظار بأنه لم يتأثر بالقصيدة "وإن كان عزمكم صحيحًا على تأديب الجانى بطريقة قانونية فأمل ألا تعتورها شائبة".

شكل النائب العام الجديد لجنة ثلاثية برئاسة وزير الحقانية وكان عضوًا فيها وبعد أن بحث سير التحقيق استندت على ما شاب إجراءات التفتيش مما اعتبرته خروجًا على القانون تبعه خروج البكرى من القضية مما طيره مكاتب العاصمة إلى الأهرام في تلغراف خصوصى يوم 29 نوفمبر جاء في ست كلمات: "تقرر إخراج السيد البكرى وسيُحاكم الآخرون"!

الصحف الوطنية علقت محتجة على قرار الحقانية وكتبت الأهرام تعرب عن دهشتها "من إخراج السيد البكرى من التهمة التي كانت لابسة له كل اللبس كأنها ثوب معدود لقوامه ولتقاطيع جسمه".

بعد الدهشة قدمت الصحيفة في اليوم التالى وفى مقال طويل تحت عنوان "القضية" الأسباب التي دعت إلى إخراج "السيد" من القضية، وكانت "الرغبة في إنقاذ البكرى من حكم أكيد يصدر عليه وذلك لأن ما رأته النظارة (إداريًا) لا يستوجب التهمة كان لابد أن تراه المحاكم (قضائيًا) مستوجبًا العقوبة.. إن نجاة السيد البكرى ليست بالأمر اليسير لدى كبار المحتلين"!

الصحف الفرنسية التي ارتأت أن ما يحدث يشكل مزيدًا من الهيمنة الإنجليزية على القضاء شاركت في الحملة.. جرائد الفار دى الكسندرى والكوربيه ديجبت والريفورم، وكانت الأولى صاحبة أكبر تعليق مما دعا الأهرام إلى الاحتفاء به بشكل ظاهر وإلى أن تفرد لترجمته مساحة معتبرة فيها.. جاء قولها:

"وضعت جريدة الفاردى الكسندرى في عددها الصادر أمس مقالة افتتاحية أظهرت فيها ما أظهرناه من قبل وهو أن الإنكليز أتوا ما أتوه في مسألة قصيدة السفهاء لتحقيق أغراضهم من قتل المحاكم الأهلية بإبعاد الوطنيين وتوظيف الإنكليز في مناصب القضاء وقد وصفت رصيفتنا عزل حضرة النزيه حمد الله بك أمين النائب العمومى الوطنى لاستبداله برجل إنكليزى بأنه عمل استبدادى محض ثم قالت أن الإنكليز ارتكبوا بذلك خطأ فاضحًا فإنهم يسعون في استبدال المحاكم المختلطة بالمحاكم الأهلية ولكن ليس بمثل هذه الضربات التي يوالونها على رأس المحاكم الأهلية يبلغون هذه الغاية البعيدة"!

وبعد أن خرجت "السمكة الكبيرة" من القضية لم يبق سوى "الأسماك الصغيرة" الثلاث في شبكة القضاء، ومع ذلك استمر اهتمام الرأي العام بالمحاكمة كبيرًا.

لم يتحقق ما توقعه القراء من أنهم سوف يطالعون يوم 6 نوفمبر عام 1897 أخبار المحاكمة الضافية التي عقدتها محكمة السيدة زينب الجزئية "في القضية المرفوعة على أحمد فؤاد وشريكيه"، فلم تحتل أخبار المحاكمة أكثر من نصف نهر من أنهر الصفحة الثانية من الجريدة.

يوسف بك سليمان رئيس نيابة مصر ترافع "مبتدئًا بذكر الاستقبال الإجلالى الودى العظيم الذى تم للجناب الخديوى عند عودته من الإسكندرية خلفًا لما جاء في مطلع القصيدة موفيًا منظميها حقهم من التقبيح مؤيدًا التهمة على المتهمين مُعرِضًا في خلال كلامه بذكر السيد البكرى المنفى عنه"!

أحمد فؤاد استرسل في سرد القصص عما أسماه مظالم ولاة مصر السابقين "ثم طلب أن يعفى عنه لأن أمثاله من الطاعنين على الملوك في أوروبا لا يعاقبون وقد استشهد في ذلك بذكر ما حدث في ايرلندة من تمثيل القوم الملكة ميتة وإقامتهم مشهدًا لها وإعلانات الشتائم التي نشرت المقذف فيها".

الشيخ المنفلوطى "وقف خجلا مصفر اللون يكاد يسقط على الأرض من الألم واكتفى بإعادة إقراره بأنه شريك في الجناية".

وصدر الحكم القاضي بحبس أحمد فؤاد عشرين شهرًا وغرامة ثلاثين جنيهًا مما اعتبرته الأهرام "شديدًا" وعلى المنفلوطى 12 شهرًا وغرامة عشرين جنيهًا اعتبرته "خفيف الوطأة" وبراءة الخيامى اعتمادًا على النص القانوني الذى يُبرئه طالما ظهر الفاعل الأصلى.

بعد نحو شهر ونصف جرت المحاكمة الثانية لأصحاب "قصيدة السفهاء" بعد أن استأنف الرجلان في الحكن الصادر ضدهما، وبينما طلب المنفلوطى التخفيف لأنه "نظم القصيدة القبيحة بإغراء أناس لا يريد أن يفضحهم وبمال نقده"، فإن أحمد فؤاد استمر في خطته الرامية إلى إدخال ما قام به في نطاق "قضايا الرأي"، فقد ألقى خطبه "كأنه حفظها عن ظهر قلبه أو لقنها تلقينًا.. ثم اختتم طالبًا البراءة لنفسه لدعواه أن لا طعن في القصيدة على الجانب الخديوى بل هنا انتقاد والانتقاد لا عقوبة عليه".

وصدر الحكم النهائي بالسنة ستة شهور لكل من الرجلين، وقد أعربت الأهرام عن رضائها على هذا الحكم "على ما فيه من لين"، وبدت الصحيفة متعاطفة مع الشيخ مصطفى لطفى المنفلوطى الذى اعتبرته "آلة استخدمها أناس نجوا من بين يدى القضاء"، وكانت تقصد السيد البكرى طبعًا، ناقدة لأحمد فؤاد "الشاب سيئ السمعة طريد بيت أبيه ولعله مطمع في خير يناله بعد الاعتقال ممن أوقعوه في الفخ"، ومرة أخرى كان توفيق البكرى هو المعنى!

وقبل أن تغلق الأهرام ملف "قضية السفهاء" لم تنس تحذير اللورد كرومر مما توهمه البعض من أن الحرية تعنى التطاول على "الحضرة الفخمية الخديوية"، لما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج وخيمة وأن عليه أن يدرك أنه "بقدر ما يصون كرامة أمير البلاد يصون كرامته الذاتية وكرامة جلالة الملكة التي ينوب عنها" ولا نظن أن المعتمد البريطاني قد أبه للنصيحة الأهرامية مما كشف عنه استمرار الصراع بين القصرين.. عابدين والدوبارة!


صورة من المقال: