ads

Bookmark and Share

الأحد، 14 فبراير 2021

124 عزل المدير الهمام

 عزل المدير الهمام

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 4 أبريل 1996م - 16 ذى القعدة 1416هـ


طالع قارئ الأهرام صباح يوم الأربعاء 26 أكتوبر عام 1898 في صفحتها الأولى تفاصيل زيارة عباس لمديرية البحيرة التي جاءت تحت عنوان "سياحة الجناب العالى الخديوى لمدينة دمنهور"، ونعتقد أنه لم يتوقف عندها كثيرًا بحكم ما يحفل به وصف هذه الزيارات من عبارات التعظيم والتمجيد، فلم يكن يعلم أن هذه الزيارة جاءت مقدمة لمعركة من أهم المعرك السياسية في التاريخ الحديث، وهى معركة لم تنل نصيبها من الشهرة.

يدعونا ذلك إلى متابعة التوصيف الذى قدمه "وكيلنا العام في البحيرة والمنوفية" لهذه الزيارة.. جاء في مستهله:

"ما بزغ صباح النهار حتى توافد أفواجًا إلى محطة السكة الحديد للقاء أميرهم المحبوب، فكانت مفروشة بالبسط والورد والريحان وقد اصطف فيها العمد والأعيان وموظفو الحكومة ورؤساء المصالح وفى مقدمتهم أصحاب السعادة أحمد خيرى باشا مديرنا ومحمود باشا صبرى مدير المنوفية وسعد الدين باشا مدير الغربية وعزتلو وكيل مديرية البحيرة، وقد اصطف العساكر على الرصيف وتلاميذ المدرسة الأميرية مع حضرات ناظرهم وأساتذتهم، وتلامذة المدارس الأهلية مع حضرات أساتذتهم أيضًا"، وانتظر الجميع وصول أفندينا فيما حدث في تمام الساعة الثامنة وعشرين دقيقة، ونتابع التوصيف..

"أقيم القطار المق لسموه فدخل يسير الهوينى حتى وقف تجاه الجمهور فتقدم أصحاب السعادة المديرون مع بعض الأعيان المدعوين من المديريات فقبلوا يده الشريفة وأطلقت المدافع إيذانًا بتشريف الأمير وصدحت الموسيقى العسكرية والأهلية بالسلام الخديوى وكرر الحضور الدعاء بحفظ أمير البلاد".

وحتى هنا فالأمر عادى، غير أن ما جرى بعد ذلك كان في تقديرنا ما أدى إلى الانزلاق نحو المعركة.. ما جرى في استقبال الخديوى، ثم في زياراته وأخيرًا في توديعه، ونبدأ بالاستقبال وتعود لقراءة التقرير الأهرامى.. قال:

"ركب سموه المركبة المعدة لتشريفه وعلى يساره سعادة مديرنا خيرى باشا وركب حضرت النظار وكبار رجال المعية السنية كل منهم في مركبة خصوصية وساروا بين هتاف الجماهير حتى وصل إلى السرادق المعد لنزوله، وهنا لا يمكن أن أصف عظيم المشهد فاقتصر على القول أنه ما لم تره عين ولم تسمع به أذن في مديريتنا قبل اليوم"، وينم هذا التعبير عن أن الاستقبال لم يكن مألوفًا بهذا الشكل، على الأقل في المديريات.

يستطرد وكيل الأهرام العام في وصف الاستقبال فيتحدث عن التشريفات التي جرت "فدخلت على سموه العلماء الأعلام فموظفو المديرية فرؤساء النيابة العمومية وحضرات القضاة يتقدمهم مفتش الصحة فموظفو البوليس يتقدمهم حضرة الحكمدار فموظفو الأوقاف يتقدمهم حضرة المفتش.. ثم تشرف عمد وأعيان الغربية المدعوون يتقدمهم عزتلو إبراهيم بك سعيد عضو الشورى النائب عن المديرية وعزتلو متولى بك رجب سر تجار البندر فعمد وأعيان مديرية المنوفية يتقدمهم صاحب السعادة المدير ثم عمد مركز النجيلة يتقدمهم أحمد بك الصوفانى وكيل مجلس شورى القوانين والأعيان والعمد ومشايخ العربان".

تحول بعد ذلك برنامج الرحلة إلى الزيارات التي اتسمت بكثير من أسباب العظمة "فابتدأ سموه بزيارة سراى المديرية وتفقد غرفها فالنيابة والمحكمة الأهلية والمحكمة الشرعية ثم زار المستشفى الأميرى وتفقد غرفه وشاهد ما شاهده من الانتظام فيه وكانت المدرسة الأميرية آخر مكان زاره سموه فقوبل بالحفاوة والإعظام وألقى بعض الأساتذة والتلامذة خطبًا في حضرته وكانت الموسيقى خلال ذلك تصدح بألحان شجية والتلامذة ينشدون الأناشيد المفرحة عن قدوم ولى النعم".

وانتهى الوكيل العام للأهرام إلى وصف حفل الوداع حيث سافر الجناب العالى الساعة الثانية و40 دقيقة "قاصدًا بندر المحمودية على قطار خاص أعدته شركة السكة الحديدة الضيقة فمر على كثير من البلاد المزينة بالأعلام والرايات حتى وصل بالسلامة إلى المحمودية حيث أقام الأهالى زينة عظيمة..".

خلص الرجل في آخر تقريره إلى القول أن ما لقيه الخديو في مدينة دمنهور والبحيرة "من الحفاوة والإعظام اللائقين بمقامه الرفيع مما تعجز عن وصفه الأقلام عجزها عن وصف زينة البحيرة الفائقة الحد".

ونعتقد أن خيرى باشا مدير البحيرة الذى دبر هذا الاستقبال الناجح قد انتظر المكافأة.. نيشان سامى أو منصب رفيع، ولكن كانت المفاجأة حين تم استدعاؤه لنظارة الداخلية للتحقيق معه، وكانت التهمة ما استخدمه من أساليب لإجبار أعيان المديرية على تحمل تكلفة "الاحتفالات الباهرة"، وهو أمر حرمته المنشورات التي كان قد سبق للنظارة توجيهها للمديرين، وكان عليه أن يركب أول قطار من دمنهور متجهًا إلى القاهرة ليواجه المحقق الإنجليزى، وكان حدثًا غير مسبوق، وقد فتح فصلا جديدًا في معركة قديمة!

***

المعركة القديمة بدأت فيما نوهنا عنه في مطلع هذا الموضوع.. معركة بين الطبقة التركية العتيدة التي استمرت تستأثر بمناصب الحكومة الكبرى في مصر، خاصة مناصب النظار ومديرى المديريات، وبين رجال الاحتلال الذين أرادوا أن يحكموا قبضتهم على البلاد.

وقد نوه اللورد كرومر، أطول المعتمدين البريطانيين في العاصمة المصرية عمرًا (1883 - 1907)، بموقف سلطات الاحتلال من هذه الطبقة فيما خصصه للحديث عنها في كتابيه اللذين أصدرهما عن مصر.. مصر الحديثة Modern Egypt الذى نشر عام 1908 في أعقاب تركه لمنصبه، وعباس الثانى Abba II الذى صدر عام 1905 في أعقاب عزل آخر الخديويين المصريين.

يتأكد من هذه الكتابات ومن متابعة التاريخ المصرى الحديث تعدد ميادين المعارك بين الطرفين، كذا تعدد أطرافها.. الخديو رأس هذه الطبقة، النظار الذين كانوا في الأغلب الأعم من أبنائها.. هذا في العاصمة، أما في الأقاليم فقد كان هناك مديرو المديريات.

المعركة مع الخديو عباس تعدد مواقعها، كان أشهرها الموقعتان اللتان خاضهما الرجل في مطلع عهده.. فما تصوره عباس عام 1893 من أنه يستطيع أن يشكل النظارة دون تدخل من دار المعتمد البريطاني قاد إلى أزمة شهيرة هي المعروفة بأزمة فخرى باشا والتي انتهت بنكوص عباس وحل الوزارة بعد سويعات قليلة من تشكيلها، ثم ما اعتقده الرجل من أنه القائد الأعلى للجيش المصرى قد قاده إلى الموقعة الثانية التي جرت على الحدود الجنوبية عام 1894 حين أبدى بعض الملاحظات على القوات المرابطة عندها، مما اعتبره السردار الإنجليزى، كتشنر باشا، حطا من قدره، وهى الموقعة التي لم تنته إلا باعتذار أفندينا للباشا الإنجليزى!

ورغم شهرة هاتين الموقعتين فإنهما لم تكونا الوحيدتين في هذا الميدان، فقد استمرت المواقع بين الطرفين تتفجر بين الحين والآخر وكانت آخرها قبل معركة خيرى باشا وبشهور قليلة، وهى الموقعة التي حدثت في أوائل عام 1898 عندما صدر القرار بتقدم الحملة المصرية - الإنجليزية إلى السودان دون استشارته فصمم على ألا يكون في وداع القوة المصرية المتجهة إلى الحرب إلا بعد تقديم الاعتذار المناسب من جانب اللورد كرومر، وقد حدث!

النظارة المصرية كانت الميدان الثانى للمعركة، والتي حسمت منذ وقت مبكر، عام 1884 على وجه التحديد، من خلال موقعتين كبيرتين، أولاهما مع شريف باشا وكان الشخصية التالية للخديو مباشرة على قمة هذه الطبقة، وثانيتهما مع ناظر الداخلية ثابت باشا.

الأولى، كان ميدانها قضية إخلاء السودان، وهى السياسة التي قررها الاحتلاليون واعترض عليها شريف، فدفع الثمن، وتقرر معها المبدأ المشهور فيما تضمنته برقية وزير الخارجية البريطاني للقاهرة، فحواها أنه على الوزير الذى لا يستمع إلى نصيحة حكومة جلالتها أن يترك منصبه ويرحل، فيما عرف "بتلغراف جرانفيل".

الثانية، جرت بعد شهور قليلة وكان ميدانها تنازع السلطات في وزارة الداخلية.. بين الناظر ثابت باشا وبين الوكيل الذى عينته سلطات الاحتلال كليفورد لويد والتي انتهت باستقالة الناظر مما تبعه أن أصبح كبار الموظفين الإنجليز في الوزارات المصرية هم النظار الحقيقيين، خاصة بعد تعميم منصب المستشار The Adviser.

ويلاحظ في هذا الجانب أن الاحتلاليين كانوا حريصين على الهيمنة على المناصب الحاكمة في الإدارات المصرية، في نظارات الداخلية فيما تشير إليه معركة ثابت باشا، وفى الأشغال لأن من يسيطر على إدارة الرى فيما يسيطر على الريف المصرى، وفى الحربية فلم يكتفوا بمنصب القائد العام للجيش (السردار) أو كبار الضباط المنبثين فيه، بل اتجهوا إلى منصب الوكيل الذى كان يشغله أحد أبناء تلك الطبقة، فيما جرى عام 1894.

كان يشغل هذا المنصب وقتئذ محمد ماهر باشا من أبناء أحد البيوت التركية العريقة وإن كان معروفًا بعلاقته الحميمة بدوائر قصر عابدين، في نفس الوقت تعددت ملاحظاته على نظام الجيش، الأمر الذى قصد به قياداته من الضباط الإنجليز، ولم يكن بالإمكان الصبر عليه طويلا.

وانتهت المعركة بتخلى الرجل عن منصبه، خاصة به أن ثبت أن لعب دورًا في تشجيع الخديوى على انتقاداته التي أدت إلى أزمة الحدود، واضطر الأخير إلى نقله إلى منصب محافظ القنال.

المعركة الأخيرة، كان ميدانها منصب حضرة "المدير الهمام" كام كانت الأهرام توصف مديرى المديريات، فقد استمر يتولى هذا المنصب وحتى أواخر التسعينات أبناء الطبقة التركية القديمة، حتى أنه كان يندر أن نجد فيه أحدًا من غيرهم.

كان لهذا المنصب مهابة خاصة في الريف المصرى. ففضلا عن الأمن الذى كان مسئولا عنه والإدارة التي كان رأسها، امتدت مسئولية إلى الرى والصحة، أو على حد تعبير القرارات الوزارية أن المديرين مسئولون عن "كليات وجزئيات مديريتهم".

وليس من شك أن أصحاب هذا المنصب استمروا بعيدين نوعًا عن الأيدى البريطانية، ولجملة من الأسباب جعلت صلتهم بالريف المصرى أقوى كثيرًا من الموظفين البريطانيين، فهم من ناحية كانوا يشكلون قطاعًا من أهم قطاعات كبار ملاك الأراضى الزراعية، وهم من ناحية أخرى كانوا أصحاب تاريخ طويل في إدارة المديريات بدأ مع تنظيم محمد على للإدارة المصرية وصدور قانون السياستنامة، وهم من ناحية أخيرة كانوا غير قابلين للاستبدال بعناصر إنجليزية، فلم يكن الفلاحون مستعدين أن يقبلوا على رأس مديرياتهم شخصية غير مسلمة ناهيك عن أن يكون أجنبيًا.

وكان مطلوبًا أن تصل الأيدى البريطانية لأصحاب هذا المنصب، وقد وفرت الزيارة الخديوية لدمنهور الفرصة لذلك، سواء بسبب الاحتفالات الكبيرة التي صاحبتها، أو بسبب التظاهرة التي جمعت بين الخديو وثلاثة من مديرى أكبر مديريات الوجه البحرى، البحيرة والمنوفية والغربية، خيرى وصبرى وسعد الدين، وكانوا جميعًا من رموز هذه الطبقة، وكان مطلوبًا رأس ذئب طائر، ولم يكن أفضل من رأس خيرى باشا!

***

كان قد انقضى 24 ساعة فقط على احتفال دمنهور حين حول أحمد خيرى باشا إلى مجلس تأديب في وزارة الداخلية بحجة أنه كلف "العمد والأعيان بالاشتراك في الزينة التي أقيمت إجلالا لسمو الأمير".

وقد انزعجت الأهرام من هذا الإجراء السريع وتساءلت "ألم يكن في استطاعة الداخلية تأخير المسألة إلى ما بعد عودة الخديوى إلى العاصمة بأيام احترامًا لذلك الأمير وإكرامًا للأمة المصرية القائمة بإكرام الخديوى أو على الأقل رعاية لمشاعرهم".

ويبدو أن نفس الفكرة راودت خيرى باشا بتأجيل موعد المحاكمة لمدة أسبوع، وتعلق الأهرام بأنها لا تدرى "لأى سبب رغب سعادته في هذا التأجيل ولكننا نستحسنه لأن الموعد الذى تعين قبلا كان يوافق تشريف الجناب الخديوى القاهرة وفى ذلك ما فيه مما لا يحتاج إلى وصف"، وإن كنا نعتقد أن الرجل وقد رأى إشارات المعركة مع المحتلين، فقد آثر أن يكسب بعض الوقت ليكتل حوله قوى التأييد، خاصة بعد أن تأكد أن إحالته للتأديب قد تمت بناء على تقرير من مفتش الداخلية الإنجليزى، وهو ما حدث فعلا خلال الأسبوع الممتد بين الخميس 27 أكتوبر والخميس 3 نوفمبر.

افتتحت الأهرام الحملة ضد المحاولة الاحتلالية بمحاكمة الرجل بالقول أنها قد علمت من مصادر خاصة "أن الأسانيد التي بيد الحكومة ضد مدير البحيرة أوهن من خيوط العنكبوت ولذلك نحن نعتقد أن المجلس التأديبى العالى سينصفه"، وبدأت بعد ذلك في تصعيد الحملة.

دارت هذه الحملة حول ثلاثة محاور.. أولها، أنه كثيرًا ما كانت تصدر التعليمات للمديرين لتشجيع الموظفين والأعيان على الاكتتاب في مناسبات بعينها، وثانيها، أن الاحتفال الذى رتبه خيرى باشا في دمنهور قد سبقه احتفالات عديدة ولنفس المناسبة في مديريات أخرى، وثالثها، عن التصرفات المشبوهة لكثير من المديرين التي تتغاضى عنها الحكومة مما لا يقاس بمخالفة مدير البحيرة، لو كانت قد حدثت.

ذكرت الأهرام في هذه المناسبة بتشجيع الحكومة على الاكتتاب لجرحى السودان وكيف أنها "أمرت الموظفين أن يكتتبوا، كما أمرت المديرين أن يجبروا العمد والأعيان على ذلك فلم تكن النتيجة شيئًا لأن المبلغ الذى جمع كان زهيدًا مما برهن لنا على أن المصر حر في فعاله مستقل في رغائبه".

نوهت الصحيفة بعد ذلك بما جرى في استقبالات الخديوى في جولة سابقة في مديريات الصعيد وفى الغربية والمنوفية، وقد قام الأهلون بتلك الحفلات من تلقاء أنفسهم على مشهد من السادة المحتلين والعمال الرسميين وهو عين ما أتوه اليوم من البحيرة والدقهلية والشرقية والمنوفية ودمياط ولكن بمظاهر أشد إخلاصًا وأكثر تمسكًا من السابق".

وانتهت الجريدة إلى تقريع المسئولين الذين يتغاضون عن استقبالات تدبر لمن هم أقل شأنًا من صاحب المقام السامى، وتتوقف عندما يحدث "إذا زار المفتش المديرية فيترك المدير أعماله ويخرج لاستقباله على المحطة ومسايرته إلى المنتزهات فلا بأس، وإذا أقام المدير الولائم واستدعى الراقصات وتخلع ما أمكن تقومًا وتعوجًا وتهادى ما شاء يمينًا وشمالا وأقسم بحياة الاحتلال وبحرارة فؤاده فلا بأس، وإذا جمع الضريبة للمغنيات التي لا يسمع ألحانها إلا حملة الأوراق فلا بأس، أما إذا اجترأ مدير أن يشرف على زينة تعد لسيد القطر فهنا الذنب الذى لا يغتفر"!

وبينما كانت الأهرام، وغيرها من الصحف المعادية للاحتلال تقوم بحملتها كان هناك آخرون يدعمون هذه الحملة فيما جرى من قيام وفد كبير من عمد البحيرة بالذهاب إلى القاهرة يوم 28 أكتوبر "للسعى لدى الحكومة بإبطال محاكمة سعادة لنزيه المفضال أحمد خيرى باشا بالنظر إلى كونه لم يكلف أحد منهم أن يشترك في الزينة التي أقيمت إجلالا لسمو الأمير وإلى كونهم لا يبقلون مطلقًا أن يوصموا بمثل هذه الوصمة لدى الأمة، إذ أنهم يعتقدون أن بذل الغالى قبل الرخيص من أقدس ما يجب عليهم، فضلا عن كونه أحب شيء إليهم في مثل الوقت المبارك الذى سمح لهم فيه ولى النعم أن يتلقوه رسميًا في مديريتهم"!

ويبدو أن الحملة أتت ثمارها، خاصة في دوائر مجلس النظار، فقد رأى بعض أعضاء هذا المجلس أن الحملة ضد مدير البحيرة مدبرة، فبينما تقدم البعض بشكاوى ضد مديرين آخرين، ولنفس السبب، فإن المفتشين الذين تعينوا للتحقيق معهم "قالوا أن الاحتفال كان من تلقاء خواطر الأهلين الذين اكتتبوا غير مكرهين، أما المفتش الذى تعين للبحيرة فأنفذ ما أمر به ولهذا حوكم خيرى ولم يحاكم الآخرون".

وتكشف الجريدة ما جرى من انشقاق بين النظار وكيف أن مظلوم باشا قد عارض أن ينظر الموضوع أصلا في المجلس ولكن بقية النظار انصاعوا للرغبات الاحتلالية.

والواضح أن الأهرام وغيره من الصحف، فضلا عن عمد وأعيان البحيرة لم ينتبهوا إلى طبيعة المعركة وأطرافها، فقد سارت دار المعتمد البريطاني قدمًا في طريقها وقُدِم المدير للمحاكمة وجاء نص الحكم بأنه "بناء على ما ثبت من مخالفتكم لأوامر ومنشورات الحكومة ورعاية لظروف الأحوال فقد اكتفى المجلس بالحكم عليكم بالإحالة على المعاش"، وكان في هذا الكفاية لصناعة رأس الذئب الطائر أو على حد تعبير الصحيفة، أنهم بذلك "يقذفون الخوف في صدور باقى الموظفين فيقتلون بذلك الأمانة التي في قلوبهم للسدة الخديوية العليا أو يلجئوهم على الأقل إلى إخفائها"!

كالعادة كانت المقطم الصحيفة الناطقة بلسان الاحتلال هي التي شذت عن الإجماع الوطنى العام بالإسهاب في إبراز الشكوى التي تقدم بها اثنان من عُمد المديرية والتي اتكأ عليها المحتلون في العصف بالباشا خيرى، مما جعل الأهرام تنتقد ذلك بقولها أنه "إذا جاز للمقطم أن يروج بضاعته ما استطاع فلا يجوز لصادق أن يفسد أقوال الناس للوصول إلى ذلك".

رد الخديو على الحكم بأن أنعم على خيرى باشا، وبعد سبعة عشر يومًا من صدور الحكم، بوسام من أرفع الأوسمة.. العثمانى الثالث، كما خصصت الصحف الوطنية وفى طليعتها الأهرام، كثيرًا من مساحاتها لرد اعتبار الرجل، كان من أطرفها ما بعث به أحد القراء من دمنهور ونشرته الجريدة في عددها الصادر في 8 نوفمبر تحت عنوان "حكم محكمة الرأي العام" وجاء فيه: "بناء على ما عرفه الناس من إخلاصكم ووطنيتكم وبناء على ما عرف من مبادئكم الشريفة وغيرتكم على مصالح العباد وبناء على أن الحكم عليكم لم يكن إلا لأنكم لم تكونوا آلة في أيدى المفتشين. وبما أنكم عرفتم قدر منصبكم فحافظتم عليه.. وبناء على أن السبب الذى حوكمتم بسببه وحرمت مديريتنا خدماتكم من أجله لم يكن إلا سببًا ظاهرًا والسبب الحقيقى كان إخلاصكم ووطنيتكم صدقكم ونزاهتكم. فبناء على هذه الأسباب ورعاية لظروف الأحوال تكتفى المحكمة بإعلانكم أن البحيرة تحفظ لكم إلى الأبد ذكرًا حميدًا نقش على أذهان أبنائها فلا يمحوه كرور الأيام وتوالى الأعوام".

وبالطبع لم يكن القارئ الوطنى المتحمس يدرك أن شخص خيرى باشا لم يكن هو المقصود، والدليل أن الرجل أصبح بعد ذلك من المقربين إلى عباس الذى كثيرًا ما كان يكلفه ببعض المهام الخديوية، وكان منها تمثيله له في النزاع الذى نشأ مع الدولة العثمانية عام 1902 حول جزيرة طاشوز، ولم يكن يعترض الإنجليز على ذلك.. المقصود كان منصب مدير المديرية الذى تم ترويضه، والمعنى كان الطبقة التركية القديمة التي أنزل بها في هذه القضية ضربة أخرى أضعفت من قبضتها على سدة الحكم، لصالح المحتلين طبعًا وليس لحساب المصريين!


صورة من المقال: