ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 10 فبراير 2021

121 المشاطرة المرفوضة!

المشاطرة المرفوضة!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 7 مارس 1996م - 17 شوال 1416هـ


"المهدية قضت نحبها وجر عليها الزمان ذيل العفاء والفناء"، كان هذا هو تعليق الأهرام التي جرت على مقربة من أم درمان والتي عرفت بمعركة كررى يوم الجمعة 2 سبتمبر عام 1898.

تابعت الصحيفة تطورات هذه المعركة.. على الجانب المصرى "كانت الخيالة متوارية في الغبار والخمسة عشر مستعدة للوقوف موقف النزال والكفاح في لمحة عين، وأما المدفعيات فكانت سائرة في الجنب متفرقة والخيالة الإنكليزية وفرقة الهجانة سائرة في المقدمة"، على الجانب الآخر كان "الأعداء (الأنصار) يتقدمون مصطفين للحرب والقتال وكان طول مقدمة جيشهم 3 أو 4 أميال، وهذا الجيش مؤلف من مشاة وفرسان وهو رافع أعلام لا تحصى وجمع جنوده تنشد أناشيد الحرب".

تصف الأهرام بعد ذلك فتقول أن المدفعية المصرية بدأت بإطلاق النيران الساعة 6.40 صباحًا فجاوبها حملة البنادق من الدراويش ثم شرعوا يهاجمون قلب القوة المصرية "وحاول فرسانهم أن يقابلوا النار التي كانت تتدفق عليهم ولكن هذه النار طحنتهم طحنًا فنكص جيشهم كله على عقبيه تاركًا حومة الوغى مكسوة بجثث القتلى. ولا ينكر على الدراويش ما أظهروه من البسالة وشدة البأس.. وزحف جيشنا بعد ذلك وهو يفتك بألوف من الدراويش فتكًا ذريعًا حتى أصبحوا أمام أبواب أم درمان".

وتستطرد الجريدة في وصف محاولة الأنصار اخترق الجيش المتقدم في اتجاه المدينة، وأنهم لما فشلوا في ذلك "ركزوا أعلامهم في الأرض وقتلوا بجانبها، إذ لم يرضوا إلا بالموت والهلاك نصيبًا، وكان منظرهم في تلك الساعة مما لا تحتمل تأثيره أعصاب بنى البشر وتفرق الباقون منهم شذر مذر تاركين ساحة القتال مغطاة بالجثث المرتدية بالجبب والمرقعيات"!

ولم يكن حسم المعركة على هذ النحو المأسوى نهاية لقصة إسقاط أول دولة مستقلة في تاريخ السودان، الدولة المهدية، كما أنها لم تكن بدايتها، فقبل تسعة شهور بالتمام والكمال جاءت هذه البداية، وقد استقبلها الأهرام استقبالا سيئًا!

***

القرار بإرسال الحملة تم بالتشاور بين دار المعتمد البريطاني في القاهرة ودوائر الخارجية في لندن، وهو التشاور الذى لم تكن الحكومة المصرية طرفًا فيه، واقتصر الأمر بالنسبة لها على الإبلاغ!

عملت العاصمة المصرية بالقرار في يوم 10 يناير عام 1898 وكان من الطبيعى على ضوء التجربة مع الاحتلال البريطاني خلال العقدين السابقين أن يساور المسئولين فيها كل الشكوك والتوجسات فيما عبرت عنه الأهرام بعد سويعات قليلة من انتشار أخباره.

جاء هذا التعبير في مقال في الصفحة الأولى من العدد الصادر يوم 13 يناير تحت عنوان الحملة، وقد صيغ على شكل محاورة بين مكاتب العاصمة "وشخصية إنكليزية مسئولة"..

كان الرأي المصرى الذى عبرت عنه الجريدة أن إشراك جنود إنجلترا في الحملة إنما يتم "لمقاصد سياسية" تحت دعوى أن مصر تواجه خطر الهجوم من الدراويش" وهو هطر لا يعول عليه ما دمنا مدافعين متحصنين في بربر وفى سواها فعلام هذه المشاطرة"، وخلص كاتب المقال من هذه إلى التعبير عن التوجسات المصرية فيما جاء في قوله "نحن نفتح السودان أو معظمه لهم على ما يتكلفون إخفاؤه وتسير جنودنا وتبذر أموالنا وتسخر مراكبنا في خدمتهم.. أليست هذه مصيبة"!؟

انطلاقًا من هذا التوجس اتخذت الأهرام موقف الترصد، ليس من الحملة التي تعاملت معها من منطلق الكلمة الشهيرة التي كان قد أطلقها شريف باشا لدى إجبار الإنجليز على إخلائه.. "لئن تركنا السودان فهو لا يتركنا"، وهى الكلمة التي استمرت ترددها بامتداد متابعة أخبار الحملة، وإنما من السياسات التي استنتها الحكومة الإنجليزية والتي جرت روافدها إلى مصب واحد.. مصب المشاطرة، ليس في الحملة، وإنما فيما يترتب عليها، وكانت مشاطرة مرفوضة.

المعادلة الصعبة التي كان على صحيفتنا أن تحلها بدت في أنها، بينما كانت ترفض الإدارة الإنجليزية لشئون الحملة فإنه كان عليها من جانب آخر أن تنوه بكل إنجازاتها في ميدان القتال..

لعل تلك الصياغات الخبرية بالتحركات العسكرية تكشف عن الحلول التي حاول الأهرام أن يقدمها للمعادلة الصعبة.

فبعد النجاح الذى أحرزته قوات الحملة على قوات الأمير محمود في واقعة العطبرة (6 أبريل) كتبت الأهرام بعد تقديم وصفها التفصيلى تقول "لا يسعنا إلا أن نمتدح عساكرنا المصرية السودانية امتداحنا للعساكر الإنكليزية وقد قام لفيفهم بالواجب ودفاعًا أحسن قيام مما كان له ذلك الظفر". أعقبته بتعليق آخر بعد يومين تحت عنوان "إذا تركنا السودان فهى لا تتركا" كان مما جاء فيه "نحن لا نعجب من ظفر عساكرنا في الموقعة الأخيرة فإن المصريين هو وحدهم الذين فتحوا السودان".

تكشف هذه الصياغات عن أن الأهرام حاولت على قدر ما تستطيع أن تصور انتصارات الجيش المصرى بأنها غلبة "للتمدن المصرى على توحش السلطة المهدية التي أقامها الدراويش"، كما أنها سعت في كل وقت إلى أن تغزو تلك الانتصارات لدور المصريين في القتال، وكثيرًا ما كانت تتصدى في هذا المجال لبعض كتابات الصحف الإنجليزية التي كانت تقول بغير ذلك.

المقال الافتتاحى الذى صدَّر به بشارة تقلا عدد الأهرام الصادر يوم الجمعة 14 يناير عام 1898.. يقدم نموذجًا على هذا.

المقال جاء ردًا على الحملة التي شنتها الصحيفة الإنجليزية "المورننج بوست" على الجيش المصرى والتي ادعت فيها أن ثقة السردار ضعيفة في العسكرى الفلاح بعكس العبيد السود، وقد انبرى مدير التحرير الشهير إلى تفنيد هذا القول ورأى أنه يعرب "عن حقيقة ما يضمره الإنكليز نحو المصريين مع أن الذى عرفه البعيد والقريب هو أن الجيش المصرى قد قام بضروب الدفاع و الهجوم أحسن قيام بشهادة السردان نفسه، فهل يكون إذا من العدل حرمان مصر من أملاكها السودانية وأن تسترد هذه الأملاك بمال مصر ورجالها، ثم ينشر في حق المصرين مثل هذه الأهاجى الفاضحة!، إنا لله وإنا إليه راجعون"!

على الجانب الآخر بدا الموقف الوطنى الذى عبرت عنه الأهرام مستهجنًا لكل تلك الاستعدادات التي أجراها البريطانيون سواء بتقديم قوات من جانبهم أو بتدعيم الجيش المصرى بمزيد من ضبطا الإمبراطورية، وأن العدو لا يستحق كل هذا، وأن ما يفعله المحتلون إنما قصد منه تحقيق أغراض سياسية، سواء لإتاحة الفرصة لمزيد من أسباب التدخل، أو لإيهام المصريين بحيوية دورهم في الحملة..

عبرت الصحيفة عن ذلك الموقف في أكثر من مناسبة.

قالت في إحدى المناسبات "يخيل للناظر أن الهمة الغريبة والاستعداد العظيم مما تبذله نظرة الحربية في هذه الأيام في سبيل الحملة على السودان من تعبئة العساكر الإنكليزية وحشد الجيش المصرى مع زيادة عدده إلى أكثر مما هو مقرر له أننا ذاهبون لمحاربة دولة قوية والوقوف في وجه جيش منظم لأننا ذاهبون بثلاثون ألفا من الجنود المنظمة الكاملة العدة لمقاتلة قوم من الهمج"!

وحرصت الأهرام في مناسبات عديدة أخرى على إبراز وجوه القصور في الآلة الحربية المهدية، فهى تقول في إحدى المناسبات أن قنابل الدراويش التي تسقط على البوارج المصرية لا تنفجر ولا تحدث ضررًا يذكر، وتحرص في مناسبة أخرى على أن تورد قصة تبين عقلية الخليفة التي تؤمن بالخرافات وتسخر من أن يحرز صاحب هذه العقلية نصرًا على جيش حديث، ولعله من الطرافة بمكان أن نثبت هنا هذه الرواية بكلمات الأهرام، قالت إن التعايشى قد أخذ بعض رجاله عند ملتقى النيلين، الأزرق والأبيض في منطقة مكسوة بحجارة بيضاء ثم أخذ يروى نبوءة.

جاء في قول الخليفة أن النبوءة التي هبطت عليه أن "كل حجر من تلك الأحجار كناية عن جمجمة إنكليزى أو مصري أي أنه سوف يقتل من الإنكليز والمصريين في المعركة الآتية عدد يعدل عددها"، وكان واضحًا الهدف من القصة.

صحيح أن الأهرام لم تخترعها، فقد اعترفت بها تقارير مخابرات الجيش المصرى، غير أن هذه العناية الظاهر بنشرها بالتفصيل إنما ينم عن رغبة وطنية للتأكيد على ما سبق التنويه به.. أن المسألة لا تستحق كل هذا. وأن ما يحدث إنما لغرض في نفس ابن يعقوب، أو بالأحرى ابن جون بول هذه المرة!

ويمكن أن نقول باطمئنان أن هذا الموقف لم يقتصر على الأهرام بل كان موقفًا وطنيًا عبرت عنه بنفس القدر، بل وربما بنفس الأساليب الصحفية الأخرى الناطقة بلسان الحركة الوطنية وقتئذ، صحيفة المؤيد التي كان يملكها ويحررها الشيخ على يوسف.

الجانب الآخر من نفس الموقت بدا في اليقظة التي تعاملت بها الأهرام مع عدد من القضايا التي تفرعت عن الحملة.. على وجه التحديد حجم المشاركة الإنجليزية فيها، هذا من جانب، وتدبير النفقات اللازمة لبلوغ الحملة أهدافها النهائية من جانب آخر، والتي كانت في رأى جريدتنا روافد أساسية تصب في نهر المشاطرة المرفوضة!

الملاحظة التي نعتقد أنها لم تغب عن فطنة قارئ الأهرام خلال عام 1898 ذلك الإلحاح من جانب المسئولين عن الحملة على إبراز حجم الوجود البريطاني.. في القيادة فضلا عن بعض فرق جيش الاحتلال أو حتى فرق تم استجلابها من سائر أنحاء الإمبراطورية.

ويلفت النظر هنا أنه بينما حرص أولئك المسئولون على التعتيم بكل السبل على مكاتبى الصحافة المصرية فإنهم فتحوا الباب واسعً أمام المراسلين الإنجليز وعلى رأسهم مندوب وكالة الأنباء الإنجليزية الشهيرة "رويتر"، فضلا عن عدد من مراسلى الصحف اللندنية كان أشهرهم المستر ونستون تشرشل الذى جمع تقاريره الصحفية بعد ذلك في كتاب مشهور أسماه "حرب النهر The River War".

شكت الأهرام من هذا التعتيم وكان رأيها أنه ليس "من اللائق أن تكتم الحكومة عن الجرائد المصرية أخبار تجرى في السودان على أبواب مصر"، ولم يكن أمامها، هي وغيرها من الصحف المصرى سوى أن تستقى أخبارها من مظانها الإنجليزية، تعلق عليها أحيانًا وتسوقها على علاتها أحيانًا أخرى.

حفلات التوديع الباهرة، على حد تعبير الأهرام كانت تجرى للقوات الإنجليزية للسودان، سواء في محطات السكة الحديد أو على طول الطرقات المارين بها.. تقول الأهرام أنه في الساعة التاسعة من صباح يوم 2 مارس "سافرت أورطة سيفورث هيلندرس التي كانت نازلة في قصر النيل إلى السودان فودعها على المحطة جناب القائد هندرسون وجمهور من الإنكليز ويبلغ عددهم 800 عسكرى، وقد جرت لهم مظاهرة وداع في الفنادق التي مروا أمامها".

بالمقابل فإن حفلات التوديع للقوات المصرية كانت تجرى في العادة بمراسم عسكرية بعيدً عن أية جماهيرية، فالمطلوب كان التأكيد على الدور الإنجليزى وليس الدور المصرى.

أبرز المسئولون الاحتلاليون أيضًا مشاكرة بعض أبناء العائلات العريقة في القوات المشاركة في الحملة أو على حد تعبير الأهرام "كثيرون من أمراء وأعيان الإنكليز منهم أولاد حضرات اللوردات سالسبورى ودربى وربرتس".

ومع أن القاعدة أن يكتنف التحركات العسكرية قدر معقول من السرية لإنه قد تم التخلي عن هذه القاعدة الذهبية بالنسبة للقوات البريطانية المتجهة إلى السودان. طبعًا لاطمئنان القيادة الإنجليزية باستحالة أن تصل تلك الأخبار مهما بلغ من علانيتها إلى معسكر الخليفة بحكم عجز وسائل الاتصال الحديثة لديه، وكانت أسلاك البرق في ذلك العصر، ولأن الهدف النهائى كان أن يترسخ في أذهانا لجميع، وبخاصة المصريين، ضخامة الدور الذى تلعبه قوات الإمبراطورية، حتى ولو لم يكن كذلك!

تدبير نفقات الحملة كان الرافد الآخر الذى صب في نهر المشاطرة المرفوضة ولها قصة.

معلوم أن الحكومة المصرية قد اتخذت جملة إجراءات خلال عام 1898 لتدبير أقصى ما يمكن من نفقات الحملة.. بعرض أراضى الدائرة السنية للبيع، بيع بعض أراضى الأوقاف، بتجميد بعض المشروعات الخدمية مثل مشروع مجارى المحروسة، ورغم ذلك فقد تجاوزت نفقات لحملة بمبلغ وصل إلى 800 ألف جنيه، أو على وجه التحديد 798 ألفًا.

جرت العادة في مثل هذه الأحوال أن تستأذن حكومة القاهرة صندوق الدين ليسمح لها بالحصول على هذا المبلغ من احتياطييها الموضوع تحت تصرف هذا الصندوق، وهو ما وقفت كل من فرنسا وروسيا دونه.

ومع ما بدا وكأن هذا الموقف من الدولتين إنما كان يعنى عرقلة الخطط البريطانية في وادى النيل فإنه في محصلته النهائية قد عاون هذه الخطط وأوجد لها المبرر الاقتصادى الذى تذرعت به للمشاطرة!

ففي إجراء غير متوقع تقدمت وزارة المالية الإنجليزية إلى مجلس العموم في 27 يونيو باقتراح للتنازل لمصر عن المبلغ الذى أقرضته لها حكومة جلالة الملكة، وصادق المجلس على الطلب بأغلبية كبيرة (156 ضد 81).

ولم تحف الصحف الإنجليزية، فيما نقلته الأهرام، الهدف من هذا الكرم المفاجئ والذى يتناقض مع كل سوابق السياسات الإمبراطورية، التايمز ذكرت أن الهدف "توطيد مركزنا في أعالى النيل الذى تطمح إليه أنظار الدول المنافسة"، الديلى كرونيكل ارتأت أن المبلغ يساوى "ابتلاع سلطنة عظيمة لقمة واحدة"، الدايلى جراف كتبت تقول "أن التنازل عن هذا المقدار من المال لمصر كرم يؤيد مركزنا فيها"!

أما المصريين فقد تخوفوا من هذه الهبة أشد التخوف وكان رأيهم الذى عبرت عنه الأهرام أنها "أحبولة جميلة الشكلة مدت لصيد هذا العصفور الذى يسمونه مصر".

ويبدو أن ما ارتآه المصريون من العواقب الوخيمة التي سيجرها دفع الخزينة البريطانية لهذا المبلغ أخرج جريدتنا العتيدة عن تقاليدها مما أضفى عل تعليقها على هذا الموضوع حدة غير معهودة فيما بدا في استخدام مفردات لم تتعود على استخدامها، بدت في نفيها لوجود "العدل الحر المنزه عن الغايات السافلة التي تعرف بالغايات السياسية والمصالح الذاتية في آخر هذا لعصر الفاجر الفاسد"!

ورغم هذا الخروج عن التقاليد فإنه لم يمض وقت طويل حتى تحققت أسوأ المخاوف التي عبر عنها وطنيو هذا الزمان وفرضت المشاطرة!

***

بعد أربعة أيام فقط من موقعة كررى وصلت إلى القاهرة الأنباء بأن الرايتين المصرية والإنجليزية رفعتا على الخرطوم إحداهما بجانب الأخرى، وقامت الدنيا ولم تقعد، فقد تضاربت آراء الصحف في هذ العمل تضاربًا بينًا.

المقطم الصحيفة الناطقة بلسان الاحتلال وفى مقالة لا تخلو من مسحة إيعاز على حد تعبير الأهرام كتبت أن "محالفة مصر لإنكلترا إحدى وأفيد لها وأن معارضة فرنسا وروسي في مسألة الحملة المالية أكسبت إنكلترا حقوقًا في السودان".

المؤيد الناطقة بلسان الحركة الوطنية رأت أنه ليس لهذا العمل من معنى "غير إقامة شعائر تحية الرايتين المصرية والإنكليزية جريًا على القواعد العسكرية من أن كل جيش دخل بلدًا عنوة واقتدارًا له أن يرفع الراية فوق صروحها".

الأهرام رأت "أننا أمام مسألة جسيمة إن لم يكن رفع الرايتين قد جاء لسبب عارض. فالذى كنا نفهمه أن إنكلترا أقرضتنا المال إقراضًا ثم وهبتنا إياه هبة وأن جنودها أتوا بصفة مساعدين لجنودنا لا مشاركين لهم في الفتح ولا محالفين في المشاطرة"!

وحذرت الجريدة الحكومة المصرية من أن كل مساهلة منها في هذا الموضوع الآن تكون أعظم جناية يجنيها حاكم عل وطنه وإن كل المسائل يبحث فيها الناس بحثين ويتمثلون على شكلين إلا هذه المسألة فإنها فضيحة وسبة أبديتان للذى يأتيهما"!

ولم تكن الصحف وحدها المعنية، فمكاتب القاهرة الذى نزل إلى الشارع كتب يقول "تكاد العاصمة تهتز لشدة ما يتحدث به الناس على اختلاف طبقاتهم من أمر السودان وما يخشى أن يؤول إليه ولو جمعت الأقوال التي قيلت في هذا الشأن لكانت سيلا جارفًا أو بحرًا عجاجًا"!

وكانت الحجج التي ساقها هؤلاء ضد أن يكون لرفع الرايتين مدلول المشاركة أن "إنكلترا هي التي نادت بالحملة على السودان من تلقاء نفسها بعد أن سلخته عن مصر لأغراضها" وأنها "نادت بهذه الحملة للتخلص من مطالبة أوربا بالجلاء عن مصر".

والملاحظ أن المسئولين الاحتلاليين قد صمتوا في هذه المناسبة عن الإدلاء بأية تعليقات، فلم يكن الموقف الدولى يحتمل الإفصاح عن النية على تحويل المشاطرة المرفوضة إلى مشاركة مفروضة، وهو ما أدركه المصريون وعبروا عنه من خلال الأهرام.

تقول الجريد في أحد أعدادها الصادرة في أعقاب رفع الرايتين "أن إنكلترا إذا نسيت وعودها وعهودها فإن أوربا حاضرة لتذكيره إياها. ونعنى بأوربا فرنسا وروسيا لأن ألمانيا على ما هو معلوم ملتزمة خطة الحياد في المسألة المصرية".

وتقول في موقع آخر "أن الحق في امتلاك السودان إنما هو لمصر لا لإنكلترا وإذا كانت إنكلترا قوية فحزم أوربا أقوى ونحن في عصر نسخت فيه آلة الحق كلمة القوة فلتنتعش القلوب البائسة ولتحيى النفوس المائتة".

وتكشف هذه الأقوال عن أن المصريين كانوا يعولون أهمية كبير على ما أخذت الصحف تنشره وقتئذ من أخبار الوجود الفرنسي في فاشودة في أعالى النيل، وأن هذا الوجود سيحقق المستهدف منه بفتح باب المسألة المصرية مما أدى إلى شخوص الأبصار لتلك البقعة النائية، ومما شكل قصة أخرى تابعتها الأهرام باهتمام شديد!


صورة من المقال: