ads

Bookmark and Share

الاثنين، 8 فبراير 2021

120 "حضرة مكاتبنا الدمنهورى"!

 "حضرة مكاتبنا الدمنهورى"!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 29 فبراير 1996م - 10 شوال 1416هـ


شهد خريف عام 1896 معركة صحفية فتحت ملفًا من أهم ملفات تاريخ الأهرام، نعتقد أنه استمر الملف المهمل.. الملف خاص بمراسلى الجريدة في الأقاليم، أو فيمن كانت تسميهم الصحيفة المكاتبين أحيانًا والوكلاء العموميين أحيانًا أخرى، وإن كان هناك فرق!

فقد حرص أصحاب الأهرام منذ البداية، كما حرص غيرهم من أصحاب الصحف الكبيرة في ذلك العصر، على أن يبثوا مراسليهم في سائر عواصم المديريات، ومعلوم أن الأهرام مع نشأتها تعاقدت مع تسع من الشخصيات الشامية من المقيمين في عدد من المدن الإقليمية على أن يعملوا وكلاء لها حيث يقيمون، وكانوا كلهم من الوجه البحرى.

وبدت وظيفة هؤلاء من خلال كتابات الصحيفة ذات شقين، أولهما اقتصادى بالقيام بعملية توزيع الجريدة، التي كانت تقوم بالأساس آنئذ على الاشتراكات مما كان يتطلب شبكة واسعة من العلاقات الشخصية، والثانية مهنية ببعث ما يتوصلون إليه من أخبار المركز الذى يعيشون فيه ولم تحتل مساحة واسعة من الجريدة.

استمر هذا الوضع طالما بقيت الأهرام أسبوعية (أغسطس 1876 - يناير 1881)، ولأسباب أهمها أنه في جريدة تصدر كل سبعة أيام تكون المساحة المخصصة لسائر الموضوعات محدودة، ولأن الأهرام في في هذه المرحلة الأولى اختارت منطقة الحدود.. بين أن تكون صحيفة مصرية تعنى بالشئون الوطنية والمحلية، وبين أن تكون صحيفة شامية تهتم بما يجرى في القطر السورى وفى سائر أرجاء الدولة العثمانية، فقد كانت ما تحتله الأخبار المحلية محدودة.

تحول الأهرام إلى صحيفة يومية في 3 يناير عام 1881 كان يعنى في ذات الوقت أن أصحابها قد خرجوا من منطقة الحدود وقر رأيهم على أن تكون جريدتهم مصرية حتى ولو لم يكن أصحابها مصريين، وقد استتبع ذلك بالضرورة تغييرات في التبويب أهمها أن احتلت الأخبار الداخلية للقطر مساحة معتبرة كانت تصل في بعض الأحيان إلى ما يقارب نصف مساحة صفحة من صفحات الجريدة الأربع، وقد أعطى المسئولون عن التحرير هذه المساحة عنوان "رسائل داخلية".

ترتب على ذلك بالضرورة أيضًا، أن زاد حجم "الوجود الأهرامى" في الأقاليم المصرية، وهى زيادة بدت تدريجية، غير أنها كانت قد استقرت قرب أواخر القرن، مما بدا في أمرين..

أولهما: الانتشار الواسع لممثلى الجريدة في سائر أنحاء القطر، فوجود هؤلاء لم يقتصر على الدلتا دون الصعيد، كما كان الأمر من قبل، بل غطى كل أنحاء مصر.. من الإسكندرية شمالا حتى جرجا وأسوان جنوبًا، أكثر من ذلك فإنه كثيرًا ما تواجد للأهرام ممثلون في أكثر من بلدة من بلدان مديرية واحدة تبعًا لمقتضيات الحال، في الشرقية، تواجد هؤلاء في الزقازيق وفاقوس، في الغربية كانوا موجودين في طنطا وكفر الزيات، في أسيوط كان هناك مندوبان، أحدهما في أسيوط نفسها والثانى في ديروط، وهكذا..

ثانيهما: أنه قد حدث مع مرور الوقت فصل ظاهر بين من يقومون بأعمال التوزيع، ومن يتولون أعمال التحرير، فبينما تسمى الأولون "بالوكلاء" فقد تسمى الأخيرون "بالمكاتبين". وبالنسبة للأولين فقد كان لكل مديرية "وكيل عمومى" يقيم في حاضرتها فضلا عن عدد من الوكلاء الذين يقيمون في سائر بلدان المديرية، ونلاحظ أن الأول كثيرًا ما كان ينتحل لنفسه بعض صلاحيات التحرير، وإن اقتصرت في الغالب على بعض الأخبار التي كان يتحصل عليها وكانت أقل مما يقدمه المكاتب مما نلاحظه في الكم أو في الكيف، فلم تلك صياغتها في العادة بجودة ما يبعث به الأخير.

مع ذلك فقد استمر دور المكاتبين بالأساس يعتمد على ما يصلهم من أخبار المديرية التي يقيمون في العادة في عصمتها والإدلاء برأيهم بين الحين والآخر في بعض المسائل التي يعنى بها الأهالى والتعبير عن شكاواهم مهما بدت بسيطة.

وليس من شك أنه كان مستهدفًا من وراء هذا النهج أن تروج الجريدة عند وصول هؤلاء وهم يرونها تعنى بشئونهم، بيد أنها على جانب آخر قدمت صورة إنسانية مفصلة للحياة اليومية التي يكابدها أبناء الأقاليم والتي طالما عانت من إهمال القاهريين.

ونظن أن سببًا من أهم أسباب العناية طبيعة وسائل الاتصال آنئذ فقد اعتمد هؤلاء في اتصالهم بإدارة الجريدة بالإسكندرية على المراسلات البريدية كقاعدة، ولم يشذ عنها إلا مكاتب القاهرة الى كان يعتمد أحيانًا الاتصالات البرقية إذا ما دعت الحاجة، على أن تكون مُلِحة!

ولعل ذل ما دعا إلى أن تأتى كتابات هؤلاء في صورة تقارير مسهبة تعنى بتفاصيل التفاصيل، وتبر ملامح الصورة الإنسانية، بل وتشجع على الخوض في القضايا المتعلقة بالمديرية، استهجانًا أو استحسانًا، وإن لم يصل أيهم إلى درجة تجاوز الخط الفاصل بين كونه مكاتبًا للأهرام وبين أن يكون كاتبًا فيها إلا واحد لفت أنظارنا بشدة أثناء مراجعة أعداد الصحيفة العتيدة خلال النصف الثانى من التسعينات، لم يكن سوى "حضرة مكاتبنا الدمنهورى"، وله قصة تستحق التدوين.

***

"لفت النظر" حدث نتيجة للمعركة الصحفية التي خاضتها الأهرام خلال خريف ذلك العام مع المقطم.. الجريدة التي صدرت قبل ذلك بسبع سنوات، ومع أن أصحابها كانوا من الشوام أيضًا غير أنها احتلت موقعًا مناقضًا لموقع الأهرام، فبينما وقفت صحيفتنا بحدة ظاهرة ضد الاحتلال يدعمها في هذا صحيفة المؤيد التي صدرت في نفس عام صدور المقطم، فإن الثانية ظاهرت الانجليز بشكل سافر، حتى أن صحف العصر، والمؤرخين بعد ذلك أسموها بالصحيفة الاحتلالية، وكانوا محقين في ذلك.

ومع أن تلك المعركة كانت مجرد حلقة من سلسلة من المعارك بين الجريدتين، إلا أنها كانت ذات طابع مختلف هذه المرة، ففي كل المعارك السابقة كانت المبارزة تجرى بين مديرى التحرير، وإن لم يوقعا كثيرًا باسميهما، أما هذه المرة فقد جاء المبارز من جانب الأهرام من كاتبى المديريات.. من دمنهور عاصمة البحيرة، ورغم خروج ذلك عن المألوف في المعارك بين الصحيفتين إلا أنه كان له ما يبرره.

أهم المبررات فيما نستشفه من متابعة الصحيفة أن الرجل، الذى لا نعرف اسمه حتى هذه اللحظة، فلم يصفح عنه الأهرام البتة، حتى أواخر القرن على الأقل.. الرجل رفض أن يكون مكاتبًا عاديًا، فقد جاءت تقاريره مُعبرة وملتهبة في نفس الوقت، فصلا عن ذلك فقد عبرت عن إلمامات ثقافية واسعة لا تتوافر في العادة في مكاتبى الأقاليم، وفوق هذا وذاك فقد تخطى حاجز الاهتمامات الإقليمية وانطلق لا يلوى إلى آفاق كل ما يعنى الإنسان المصرى في أية بقعة من أرض القطر.

يتأكد ذلك من البرنامج الذى وضعه "حضرة مكاتبنا الدمنهورى" وأفصح عنه مقال له في صدر الصفحة الأولى من الأهرام الصادر يوم 24 يونيه عام 1897.

كما مما جاء في هذا البرنامج "خروج الإنكليز من مصر، حفظ الأمن في البلاد، إعطاء الوظائف بالاستحقاق، إزالة الرشوة من دوائر الحكومة، تخفيض ضرائب الأطيان، إلغاء مصلحة فك الزمام، تعديل مشروع الخفارة، إبطال الضريبة العسكرية، نجاة الفلاح من الديون الكثيرة، تحريم بيع ملابس الفقراء لوفاء الضرائب، ردع الخفراء عن اختطاف الآنية وفيها الطعام على النار لم يُطبخ بعد لتحصيل أجورهم الجائرة، انتباه الحكومة لأنصاف من يشكو موظفًا ظلمه في الأقاليم، إبطال نزع الأطيان من أصحابها وبيعها بنصف ثمنها قهريًا مما يلا يجوزه قانون ولا عدل، وصول الحكومة إلى معرفة كل جناية ومنع حدوث أمثالها، إنجاز الحكومة لوعدها باحتساب ضريبة الدخان من أموال الأطيان كلها".

ويُلاحظ المتأمل في هذا البرنامج أنه فضلا عن ملامحه الوطنية فقد تضمن قسمات اجتماعية واضحة، وكان رأى الرجل أن برنامجه قابل للتنفيذ، فيما أنهى به المقال من أن "كلها أمور نيلها سهل جدًا"!

ونظن أن وضوح الرؤية عند "حضرة مكاتبنا الدمنهورى" كان أهم ما قاده إلى التفرد بين مراسلى الأقاليم، وهو تفرد بدأت تتضح ملامحه منذ عام 1894 وبلغ ذروته بعد ذلك بعامين كانت قد جرت خلالهما مياه كثيرة على طريق دمنهور - الإسكندرية حيث كان مقر الصحيفة!

تُظهر متابعات مكاتبنا الرجل أنه حتى الشهور الأولى من عام 1894 لم يكن هناك ما يميزها عن غيره من مكاتبى الأقاليم.

في إحدى تلك المكاتبات أنباء عن نقل مأمور مركز العطف، واشتعال النيران في ثلاث عربات مشحونة قطنًا، وتقسيم مركز أبو حمص إلى قسمين، وفى مكاتبة أخرى عن لصوص هجموا على منزل امرأة بعزبة الجرادات، وعن تفتيش العزب للبحث عن أنفار للقرعة، وثالثة عنى فيها الرجل بإرسال مدير البحيرة لمندوب إلى واحة سيوة، التي كانت تتبع حتى ذلك الوقت مديريته لتحرى أسباب الخلاف الناشب بين المأمور والأهالى، في 19 فبراير نشرت الأهرام أحد تقارير مكاتبنا كما جاء فيه "اتصل بنا أن قسم الضبط سأل عما إذا كان أهالى دمنهور يرغبون الاشتراك بثمن مضخة لإطفاء ما يحدث من الحرائق ونحن نكتفى بذكر هذا الطلب بدون ملاحظة غير ما نظنه من أن هذه المضخة التي ثمنها ماية وخمسون جنيهًا ستكون من فابريقة إنكليزية"، ولم يكن التعليق الأخير بريئًا، فقد بدأ رجلنا في الكشف عن هويته!

فلم يمض وقت طويل إلا وكان قد دخل أول اشتباكاته مع رجال الرى في البحيرة، وكان كبارهم من الإنجليز، وكانت حول قضية المناوبة وما اتصل بها من عدم مراعاة العدالة في توزيع المياه، وقد جاءت ملاحظاته في هذا الصدد على غير هوى هؤلاء مما دعاهم إلى التعليق: "حمل بعض رجال الرى ملحوظاتى على المناوبة وسيرها على غير الوجه المقصود منها لأننى لم أقصد إلا تنبيه رجال الرى والإدارة إلى أوجه الخلل المُضر بالمزارعين فإذا كان ما جاء برسالتى المذكورة غير منطبق على الحقيقة فليأتوا ولو بشاهد واحد من المزارعين ينفى ما ذكرت وإذا كان ما جاء بالرسالة أقل من الواقع فمن الواجب قطع السبب".

في العام التالى، 1895، تقدم المكاتب الدمنهورى في طريقه خطوات نرصدها في التحول الذى حدث من الملاحظات النقدية التي كان يُبديها بين الحين والآخر على تصرفات رجال الإدارة من المحتلين في البحيرة إلى الانطلاق نحو القضايا العامة التي أخذت شكل الحملات المنتظمة.

أولى هذه الحملات نشرتها له الأهرام في أبريل، وكان موضوعها المجالس البلدية في المديريات التي ارتأى "أنها تقرر المفيد النافع فتنبذ قراراتها ولا يصدف عليه من نظارة الداخلية وهى إذا فازت بهذا التصديق لا تنفذ فلا يبقى مع هذه الحالة أدنى لزوم لتلك المجالس"!

قبل مضى ثلاثة شهور كان المكاتب المشاغب يشن حملة أخرى على ضعف الأمن في الأقاليم فيما قدمه في صورة فلمية تحدث فيها عن "القتلة الذين يتجمهرون عشرات مدججين بالأسلحة النارية ويهجمون على البلدة أو العزبة فيفتتحونها عنوة قاتلين لكل من تصدى لمقاومتهم ثم يغادرونها قاعًا صفصفًا تاركين وراءهم نساء تولول وتعول وأطفالا تصرخ وتبكى"، ويتساءل "أي بلاد ترى من بلاد الحكومات المتمدنة يحدث فيها مثل هذه الفظائع"!

ويأتي 1896، عام المعركة الصحفية، وقد بدأت نذرها ليست فقط في موضوع الحملات التي استمر مكاتبنا يشنها وإنما أيضًا في موقعها من الأهرام.

فالواضح أن تلك الحملات قد لفتت نظر بشارة تقلا باشا، الذى لا نشك أنها قد استمرت برعايته، مما بدا في أمور ثلاثة.. أولها أن كتابات الرجل، التي لم تعد مكاتبات مراسل إقليمى، قد أخرجت عن باب كتابات هؤلاء المراسلين.. باب "رسائل داخلية"، وكان لهذا الإخراج معناه.

الثانى: أن تلك الكتابات احتلت في العادة جانبًا من صفحة الجريدة الأولى، جنبًا إلى جنب مع أبرز كتاب الأهرام بمن فيهم مدير الصحفية نفسه، الثالث: أن سائر مكاتبات مراسلى الأقاليم كانت تأتى دون عناوين بحكم أنها كانت تتضمن في داخلها ما يصل إلى أي من هؤلاء من أخبار دون وحدة موضوعية، أما صاحبنا فلأنه كان يتبنى حملة في موضوع بعينه فقد جاءت كل منها بعنوان مختلف..

ولعل تقديم بعض تلك العناوين يكشف عن توجهات الرجل.. مشروعات الحكومة والمديرين، حق ضائع، مصلحة فك الزمام، حالة الوظائف في مصر، المحاكم الشرعية، بلديات المديريات، منكوبو الحريق، لا أبيع أبدًا، حالتنا الحاضرة..

أهم الملاحظات على تلك الحملات أنها عنيت أساسًا بقضايا  الفلاح، وهو بذلك قد الجانب المفتقد في كتابات كبار محررى الأهرام الذين كانوا يقيمون في المدينة، الإسكندرية أو القاهرة، ويعايشون أحداثها، ثم أنه من جانب آخر قد بدد الأسطورة التي استمر الاحتلال والصحف الناطقة باسمه يرددونها.. أسطورة أن سياسات الإنجليز كانت في صالح الفلاح المصرى، أو أصحاب الجلاليب الزرقاء، كما كان المعتمد البريطاني اللورد كرومر يردد دائمًا.

الملاحظة الأخرى أن الرجل انطلق من الحيز المحلى فيما كان يكتبه إلى الأفق الوطنى الواسع، فتناول أوضاع الموظفين، وتحدث عن أحوال المحاكم، وانتقد العلاقة بين الحكومة المركزية وبين المديرين، وطالب أعيان مديرية البحيرة أن يسارعوا إلى إنقاذ منكوبى حرائق مديرية الغربية، وما إلى ذلك من موضوعات..

غير أن أهم هذه الملاحظات اتصلت بموقفه من الإنجليز، وكان موقفًا مُعاديًا لسياستهم المصرية.. جوانب قصور مفتشى الرى منهم، حملة على الشركة الإنجليزية التي بدأت تعتدى على السكك الزراعية لتقيم الخطوط الحديدية الضيفة مما سجله في مقاله تحت عنوان "حق ضائع".

وأخيرًا في مشاركته في الحملة التي شنتها الصحيفة على بيع مصر تختار منها قوله في إحدى مقالاته أن "رجال ماليتنا يساومون شركات لندرا على بيع ما بقى لنا من الأملاك وتحكير ما بيدنا من الأشغال وهنيئًا للمشترى والمحتكر فالأرباح مضمونة والنجاح مكفول مرسوم، وكان هذا فوق ما يطيق المحتلون وأعوانهم الأمر الذى فجر المعركة!

***

إذا كان لكل معركة أدواتها فقد كان من الطبيعى أن تكون أداة محاربة "حضرة المكاتب الدمنهورى" الصحافة التي يعتبر أحد رجالها. ومن ثم جاء دور المقطم في هذه المعركة التي تقرر أن تتصدى للمكاتب. وكان لتصديها قصة..

بدأت بمحاولة استقطاب الرجل فيما كشف عنه "أحد القراء في دمنهور" في رسالة له إلى الأهرام كان مما جاء فيها أن السبب المهم لهجوم المقطم على "المكاتب الدمنهورى" أنه "أبى أن يدنس قلمه بمراسلتهم بالرغم من الوسائط الكثيرة التي استخدموها وحضرة صاحب الرائد المصرى الأغر يكذبهم لو أنكروا هذه الحقيقة ومكاتبهم يحسده الناس اليوم على ما ناله من الفخر والشرف بسبب أصحاب المقطم له ووقيعتهم له"، ويبدو أن القارئ الدمنهورى كان على علاقة حميمة مع مكاتبنا!

المهم أن المحاولة قد فشلت وحدثت المواجهة التي تشكل فصلا من تاريخ الأهرام الصحفى..

الفرصة التي انتهزتها المقطم لبدء المعركة كانت حملة "حضرة المكاتب الدمنهورى" على مصلحة كانت قد نشأت آنئذ تحت اسم "مصلحة فك الزمام" وهى مصلحة كانت تعيد عملية مسح الأراضى الزراعية فإذا ما ثبت أن مساحة أطيان أي مالك تزيد عما هو مثبت في الدفاتر يتم تقاضى ثمن الزيادة منه.

وقد أدى تنفيذ أعمال هذه المصلحة إلى تذمر واسع في الريف المصرى عبر عنه المكاتب بأنها مخالفة للقانون "الذى يعتبر وضع اليد مدة معلومة كافيًا لأن يصبح واضع اليد مالكًا"، ثم أن المصلحة تأخذ "ثمن الأرض البراح المقامة عليها منازل سكناهم وضريبة سنوية عن منازل السكنى يدفع صاحب العزبة عنها ما يدفعه صاحب منزل في شارع شريف باشا في قلب ثغركم الإسكندرى".

وبعد أن انتقد المكاتب أعمال المصلحة وكيف أنها "حركت الخواطر بين الزراع فأصبحوا يتكلمون في السر والجهر بلهجة لم نتعودها منهم، اتهم نظارة المالية بالابتزاز.

في يوم 27 أكتوبر عام 1896 طلعت المقطم وهى تهاجم مكاتب الأهرام الدمنهورى وترى أن القذف والطعن الذى جاء في كتاباته "يعاقب عليه القانون" ونزلت بعد ذلك مديحًا في مصلحة فك الزمام ورئيسها الإنجليزى وأبدى صاحبنا دهشته من هذ الهجوم وأنه في كل أخباره "يتحرى الصدق ووجهته الخدمة العمومية المجردة عن كل غاية فكيف تسمح ذمة أصحاب المقطم في هذه الحالة بقلب الحقائق ونقل كتاباته محرفة كما يريدون واستخدام كل ما في وسعهم ظنًا منهم أن الإرهاب والوعيد سيحولانه عن خطته.. وإنى أعد قراء الأهرام أننى لا أتحول عن الخطة التي يزيدنى رضاهم عنها تمسكًا بها وأن لا ألتفت بعد اليوم إلى ما يرمينى به أصحاب المقطم"!

رد المقطميون عل ذلك باتهام الرجل بأنه "يتطاول على المقامات العالية" مما دعا على المكاتب الدمنهورى إلى توسيع نطاق المواجهة طاعنًا في خطة أصحاب المقطم بمجملها فيما جاء في قوله "أنهم يتطاولون على كل من لا يشترك بجريدتهم ولا يخلو عدد من جريدتهم عن سب أصحاب الجرائد وكتبها بألفاظ تخجل منها صبيان الأزقة.. وهم في سعيهم لمحاكمة مكاتب الأهرام لم يبخلوا عليه بألفاظهم الرقيقة ونكاتهم اللطيفة"!

وقد أدى استمرار المقطم في الهجوم على المكاتب الدمنهورى إلى دخول مدير تحرير الأهرام في المعركة واتهم أصحاب الجريدة الاحتلالية بأنهم لما عجزوا عن الرد على "حضرة مكاتبنا الدمنهورى.. فأخذوا يماحكون بما لا طائل تحته مدعين على مكاتبنا بأنه لا يُحسن الكتابة وهى دعوة تكذبها شواهد الحال ومقالات حضرته الرنانة التي يقصر عن مثلها باع كل مكاتبى المقطم ومراسليه"!

وجاء أهم وآخر مقالات هذه الحملة تحت عنوان "مصيبة - مصر المقطم" نشرته الأهرام في الصفحة الأولى من عددها الصادر يوم الأربعاء 18 نوفمبر من ذات العام. وقد امتلأ بحث المصريين على مقاطعة المقطم.

النهج الذى درجت عليه المقطم كان أول ما هاجمه فقد "بلغوا من الكذب والاختلاق ونهش الأعراض درجة لم يسمع باسمها منذ وجدت الدنيا وقامت الجرائد" وخرج من ذلك إلى القول أن من سبه المقطم وهجاه "كان سبه وهجوه دليل على إخلاصه في الوطنية وحذقه في الخدمة" هاجم بعد ذلك ما درج عليه المقطميون من قول "بأن المصريين لا يليقون للمناصب ولا أهلية لهم لحكم أنفسهم" وخلص إلى القول بأنه لو كان للمقطم حسنة واحدة لعذر أولئك الذين يقرأونها ولكن كلها سيئات فيما أنهى به مقالة وأغلق بذلك ملف المعركة، ولكن بعد أن أصبح أول مراسل إقليمى كاتبًا أهراميًا مرموقًا!


صورة من المقال: