ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 3 فبراير 2021

118 معركة البرنسات

 معركة البرنسات

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 15 فبراير 1996م - 26 رمضان 1416هـ


".. في نحو السابعة والدقيقة 20 من مساء يوم 7 مايو عام 1898 اجتمع في الكلوب الخديوى بقرب البنك العقارى دولة البرنس فؤاد باشا عم الجناب الخديو والبرنس أحمد سيف الدين بك نجل المرحوم إبراهيم باشا. وبالنظر إلى ما بينهما من التضاغن والتباغض لأسباب أهلية (شخصية) اعتدى البرنس سيف الدين على صهره المشار إليه بالقول ثم أخرج غدارة سداسية من جيبه وأطلق عليه منها ثلاث رصاصات واحدة في كم قميصه والثانية في فخده والثالثة في أسفل البطن مرت تحت الكبد وانتهت إلى قرب القلب وهذه التي يخشى خطرها أما الأمير القاتل فخرج من الكلوب مسرعًا يحاول الفرار غير أنه قبض عليه ونقل إلى تمن (قسم) عابدين لأخذ أقواله وأتى في خلال ذلك جمهور من الأطباء لمعالجة الجريح.

وبعد هينهة حضر المحافظ ورئيس النيابة إلى محل الواقعة وسيق البرنس المتهم إلى مخفر تمن عابدين فسجن فيه احتياطيًا.

ثم طير الخبر إلى الجناب الخديوى في الإسكندرية كما طير الخبر إلى صاحبى الدولة البرنس حسين كامل باشا (السلطان فيما بعد) والبرنس إبراهيم باشا حلمى أخوى الجريح فحضرا مسرعين وقدم بعدهما جمهور أعضاء العائلة الخديوية الكريمة ولا يوصف ما بهم من الأسف الشديد لوقوع هذه الحادثة الفظيعة.

وقد تفشى الخبر في المدينة فوقع وقع الصاعقة والله مسئول أن يلطف بالأمير المجروح ويخفف آلامه...".

كان هذا بعضًا من رسالة طيرها مراسل الأهرام في العاصمة إلى الصحيفة التي نشرتها في مكان بارز في عددها يوم 9 مايو عم 1898، مما شكل بداية لقصة أكثر القصص أهمية وإثارة في التاريخ المصرى الحديث..

الأهمية بدت من مضاعفات القصة على هذا التاريخ فيما بعد..

فهى من ناحية قد أفرزت أكثر ملوك مصر تجهمًا.. البرنس فؤاد بعينه الذى أصبح سلطانًا على البلاد بعد وفاة أخيه حسين كامل عام 1917، ثم توج كأول ملوك أسرة محمد على بعد إعلان استقلال مصر في أعقاب صدور تصريح 28 فبراير عام 1922 تحت اسم "جلالة الملك فؤاد الأول"، وقد عزا كثير من المعاصرين سر جهامة الملك مفتول الشوارب بالأثر الذى تركته عليه الحادثة خاصة وأنها قد خلفت بدرجة ملحوظة من الحشرجة في صوته زادت من الجهامة!

من ناحية أخرى تركت الحادثة شرخًا عميقًا في الأسرة الحاكمة والتي كانت مليئة بالشروخ من قبل..

يعبر عن هذه الحقيقة تعليق البرنس حسين عند تلقيه الخبر بقوله "لقد رأينا بين أعضاء أسرتنا المقامر والسكير ولم يكن ينقصنا سوى القاتل"، كما يُعبر عنه أيضًا مذكرات رجل القصر أحمد شفيق باشا التي جاء فيها قوله: "أما سلوك البرنس حسين وشقيقه الثانى البرنس إبراهيم بعد وقوع الجناية فقد كان يبعث على الإعجاب، وقد برهن الأخوة الثلاثة على أن ما كان بينهم من الجفاء لاختلافهم في وصية والدهم. قد زال على أثر هذه الحادثة".

عمق الشرخ الجديد بدا فيما استتبع الحادثة من طلاق البرنس فؤاد لزوجته الأميرة شويكار أخت البرنس القاتل ومن صدور الحكم على سيف الدين نفسه انتهى في يناير عام 1900 إلى كتابة تقرير طبى بعدم سلامة قواه العقلية أرسل بعده للعلاج في أحد مستشفيات إنجلترا، وانتقلت أملاكه من قيم إلى آخر، واستمر البرنس في المصحة حتى تمكن من الهروب منه عام 1927، أي بحو نحو ثلاثين عامًا، ليتبع ذلك واقعة تاريخية أخرى، كانت من المضاعفات البعيدة للحادثة.

ففي يوم 22 يونية عام 1928 خرجت الصحف الموالية للقصر والمعادية للوفد وعلى صدرها وثيقة لاتفاق عقد بين مكتب المحاماة الذى يملكه كل من ويصا وجعفر فخرى ومصطفى النحاس الذى كان رئيسًا للوزراء وقتذاك لاتخاذ الإجراءات القضائية لرفع الحجر عن الأمير وإعادة أملاكه إليه، مما اعتبر منافيًا لشرف المهنة على أساس أن وجود النحاس على رأس الحكومة خول لمكتبه فرصة الحصول على هذه القضية الباهظة الأتعاب.

وعلى الرغم مما ثبت من تحريف الوثيقة، وأن تاريخ العقد كان سابقًا على تولى رئيس الوفد للحكومة، فإنها قد اتخذت تكأة لإقالة الوزارة النحاسية الأولى، مما يشير إلى استمرار أهمية معركة البرنسات لنحو ثلاثة عقود.

أما الإثارة فنتركها لدقائق الحادثة التي كشفت عنها الأهرام..

***

مثل هذه الحوادث يكون لها في العادة قصة أولى تحكمها اعتبارات السبق الصحفى الذى يجعلها تفتقر في الغالب لبعض الجوانب التي تكون الصحيفة لم تتبينها بعد، ومع مرور الوقت تظهر طبعات خرى في القصة سوء بإضافة معلومات جديدة أو تصحيح معلومات قديمة أو متابعة ما يستجد من تطورات على أطراف القضية.. أو أطراف المعركة هنا، ولم يكونوا أطرافًا عاديين، فقد كانوا جميعًا برنسات، ونبدأ بالقصة الأولى.. قالت الأهرام:

"قرر البرنس أحمد سيف الدين في التحقيق أنه حمل عصر أمس غدارته وخرج فذهب إلى منزل خطيبته وأدى لدى أحد الخدم كتابًا منه إليها ثم ركب مركبة أجرة وسافر قليلا ثم فكر أن إيداع ذلك الكتاب لدى خادم ليس بصواب فعاد واسترده وذه ليودع النيل وبعد ذلك قصد صانع أحذية في المدينة وفى خلال الطريق خطر له أنه لا حاجة له لمقابلة الرجل في تلك الساعة فسير مركبته يقصد أحد باعة الحلوى ولكن خطر له أيضًا أن لا حاجة به إلى ذلك فسار إلى الكلوب الخديوى بالإسماعيلية ووصل إليه في نحو الساعة السابعة والدقيقة العسرين فسأل البواب هل البرنس فؤاد هنا فأجابه بنعم فصعد إلى الغرفة العليا. قال وكان البرنس فؤاد يلعب البلياردو مع أناس لا أعرفهم فلما رآنى البرنس قطب وجهه فقلت له يا برنس خذ حذرك فقد أتيت لأنتقم منك لإساءتك معاملة أختى. وأخرجت غدارتى وأطلقت عليه العيار الأول فتوارى وراء عبانى باشا ناظر الحربية وكان هناك ولما رأى سعادته أن أحمد سيف الدين سيكرر إطلاق النار وربما أصابته قذيفة تخلى عن البرنس فؤاد فأطلق أحمد سيف الدين عيارين آخرين على صهره نفذ فيه، قال وهممت أن أخرج فوجت الباب مقفلا".

وأنهى البرنس اعترافاته بأنه عند فتح الباب قبض عليه أحد رجال الشرطة وأنه ذهب معه طواعية إلى "التمن"، ولم تكن هذه هي الحقيقة..

فقد ذكر بعض شهود الواقعة أنه لما قبض العسكرى المصرى على البرنس "هم بإطلاق غدارته للتخلص منه وكان قد حضر عسكرى إنجليزى من خفراء منزل الجنرال غرانفل قائد جيش الاحتلال فصوب إليه بندقيته تحذيرًا له من محاولة الفرار وارتكاب جنايات أخرى وعلى هذه الصورة سيق البرنس إلى المخفر"، وكان مكاتب الأهرام في الانتظار..

قال إن دفاع البرنس قام على أنه لم يكن ينوى قتل فؤاد وإنما جرحه فقط "لأن البرنسيس شقيقته استجارت منه في كتاب مؤثر أرسلته إليه"، ونقل المكاتب أيضًا ما سمعه من أحمد سيف الدين كان قد أفرغ قبل يومين "جميع عيارات غدارته على أحد خدمة لأنه أغضبه بمر طفيف وإذ لم يصبه بها ضربه بهراوة".

ومن "تمن عابدين" جرى المكاتب إلى "الكلوب الخديوى" ليتابع آخر أخبار البرنس المصاب، وهناك علم أنه قد حضر جمهور من الأطباء، مصري هو محمود باشا صدقى، وأربعة أجانب: ملتن، هس، ولد وكومانوس وأنهم بعد أن أخرجوا الرصاصة التي في فخده قرروا أن لا ضرورة لإخراج الرصاصة "التي في جوفه مخافة أن تحدث التهابًا أو نزيف دم وهما لم يحصلا إلى الآن بحمد الله".

في الكلوب أيضًا شهد المكاتب "كل ذي حيثية ووجاهة يكتب اسمه في سجل وضع للزائرين وهم يقومون بواجب السؤال عنه وتلطيف خاطر صاحبى الدولة أخوية البرنس حسين باشا والبرنس إبراهيم باش حلمى اللذين وردت إليهما رسائل برقية من الجناب الخديوى المعظم وجمهور كبير من أعيان البلاد وزادهما النظار وقناصل الدول".

ويبدو أن الأهرام قد قضى ليلته في الكلوب أو في مكان قريب منه لأنه رصده والدة البرنس في الصباح الباكر لليوم التالى وهى تزوره لتشجعه بقولها "انت عسكرى باسل فلا تجزع ثم خرجت وأغمى عليها"!

شهد أيضًا المحقق الذى أتى في نفس الصباح ليستنطق الأمير المصاب الذى لم يمكنه سوى تقديم شهادة قصيرة جاء فيها: كنت واقفً أمام مائدة البلياردو فأطلق على النار ولا عداوة بيننا".

وإذا كان الأمير الجانى وهو يدلى بأقواله في أعقاب الحادثة حاول أن يخفف من أثر فعلته بأنه لم يقصد سوى جرح صهره، فإنه في أقواله صباح اليوم التالى قدم شكلا آخر للدفاع عن نفسه جاء فيه: "كان قصدى مقابلة عمى البرنس أحمد باشا كمال والبرنس فؤاد باشا لأطالب عمى بدين متأخر عليه وأسأله سبب قضية الحجر على وأعاتب البرنس فؤاد عن شدة معاملته أختى فإذا اعتدى أحدهما على وكلاهما أقوى منى دافعتهما بالسلاح لأجرحهم لا لأقتلهما وقد ذهبت إلى درب الجماميز فلم أجد عمى فسرت حينئذ إلى الكلوب.." وانتهت بتلك الأقوال القصة الأولى للحادثة ولكنها لم تكن القصة الأخيرة!

القصة الثانية، أو الوجه الآخر من الحادثة، قدمها الشهود مما ساقته الأهرام بعد أربعة أيام من الحادثة، وكانت هناك أولا شهادة أعضاء الكلوب الذين حضروا الواقعة.. أرتين باشا وكيل نظارة المعارف، عبانى باشا ناظر الحربية، دى لاسالا باشا، ونقولا صباغ بك، ولا نستغرب أن يكون هؤلاء من حملة ألقاب الباشوية والبكوية، فقد كان الكلوب الخديوى مقرًا للأرستقراطية.

شهادة أرتين جاء فيها أنه كان يهم بالخروج عندما سمع أصوات الطلقات النارية في الطابق الأعلى وأحد الأعضاء يهرول نازلا وهو يصيح "قتل البرنس فؤاد"، فأمر بإقفال الباب وشارك في القبض على الجانى.

دى لاسالا كان خارج القاعة عندما سمع صوت العيارات النارية، ولما دخل وجد الباشوات مظلوم وعبانى محيطين بالبرنس وهو مضرج بدمائه فساعد في فك أزراره وإجلاسه على مقعد ونزل مسرعًا للمسعدة في القبض على الجانى.

صباغ بك كان في شرفة القاعة التي جرت فيها الحادثة وكان أول من دخلها ليجد فؤاد يقول قتلنى، ثم قال أمى أمى، وأخيرًا وقبل أن يضيع في غيبوبة قال "وافونى بالأطباء"!

أهم الشهود عبانى باشا الذى كان بصحبة البرنس المعتدى عليه، ويتسم بقدر كبير من الطرافة لما حملته من أسباب التناقض، فيتفق الرواة على أن فؤاد عندما شاهد سيف الدين داخلا وقد شهر غدارته، فقد جرى متخذًا من عبانى باشا درعًا بشريًا، غير أن مالم يتفقوا عليه ما جرى بعد ذلك، فبينما يذكر المراسلون أن أزاح الأمير الذى احتمى به خوفًا من أن يطلق سيف الدين النار عليه فإن فؤاد قد ذكر أنه لما رأى الجانى مُصِرًا على ارتكاب فعلته فقد ابتعد هو بنفسه عن عبانى حتى لا يكون سببًا في إصابته، وتبدو القصة الأولى أكثر معقولية تحكيمًا للمثل القائل "يا روح ما بعدك روح"!

على الجانب الآخر كان هناك جملة من الشهود استحضرتهم النيابة ممن كانت لهم بالحادث علاقة ما..

عثمان على سائق العربة التي أقلت الأمير سيف الدين إلى الأزبكية فمحل بايوكى بائع الأسلحة ومنه إلى الكلوب الخديوى، الخواجه بايوكى الذى شهد بأن البرنس قد جاء إليه وحشًا غدارته بالخرطوش، ميخائيل عطار بواب الكلوب الذى طلب من الأمير الجانى الانتظار في قاعة الاستقبال لحين إبلاغ البرنس فلم يأبه له "وصعد مسرعًا إلى فوق"!

غير أنه إلى جنب الدماء الساخنة كانت هناك رائحة العواطف الملتهبة.. بالبغض والحب!

البغض كان سبب الجريمة، فقد نشأ بالأساس نتيجة لتدهور العلاقات بين البرنس فؤاد وزوجته شيوكار (وليس شويكار)، مما روته الأهرام في سياق متابعتها للقضية، فمنذ اللحظة الأولى وبعد إلقاء القبض على البرنس الجانى ردد قولته "انتقمت لشقيقتى.. انتقمت لشقيقتى"!، بيد أن رد فعل شويكار جاء مختلفًا فأنكرت أنها كتبت لأخيها "بالشكوى من دولة زوجها إلا في خلال الخلاف الذى وقع سابقًا بينها وأنها لا تستحسن عمله ولم تحثه عليه"، أكثر من ذلك فإنه لما بلغها أن البرنس فؤاد ينوى على طلاقها "سألت بإلحاح أن يعدل دولته عن الطلاق ووسطت في ذلك بعض الأميرات"، ولكن كما تقول الأهرام "كان السهم قد نفذ"، وطلق البرنس زوجته البرنسيسة بعد أن أقره أخواه على رغبته، وتم ذلك في 21 مايو وأودع البرنس مؤخر الصداق وقدره ثلاثة آلاف جنيه لدى أخيه البرنس إبراهيم حلمى باشا.

الحب بدأ فيما عبر عنه الأمير الجانى تجاه خطيبته البرنسس نعمت هانم، إذ تكشف الأهرام في أحد أعدادها أن البرنس فؤاد كان يمانع في زواجها به، وتكشف في عدد آخر أنه قبل أن يقدم على فعلته أرسل إلى خطيبته صندوقًا ضمن صندوق آخر صغير يتضمن كل ما له قيمة لديه من حجج ومستندات ونقود يستحفظها إياها، ثم تكشف أخيرًا أنه بعد إلقاء القبض عليه "كتب من محبسه كتابًا إلى خطيبته سألها فيها أن ترسل إليه أحد مناديلها يتعزى به ووعد أحد العساكر بعشرة جنيهات أن أوصله إلى بيتها فأخذ الجندى الكتاب ورفعه إلى المحافظ والمحافظ إلى النائب العام".

ولم يبق بعد كشف كل الجوانب إلا تقديم سيف الدين للمحاكمة.

***

صفحات وصفحات خصصتها الجريدة لمتابعة محاكمة ربما تكون من أهم المحاكمات الجنائية التي عرفتها مصر خلال القرن الماضى، الأمر الذى لا يُتاح معه هنا سوى تقديم أهم اللقطات.

اللقطة الأولى متصلة بالتقدم من صحة الضحية، فنجاته أثرت على سير القضية، ومن هنا جاء الاهتمام الشديد بصحة البرنس، ولمدة أسبوع بقيت مشكلة الرصاصة المستقرة في صدر فؤاد محور اهتمام الجميع إلى أن قرر الأطباء إمكانية إخراجها فيما ساقته الأهرام في خبر مؤداه أن الأطباء اجتمعوا في "الكلوب الخيدوى وقرروا إخراج الرصاصة من جوف دولة البرنس فؤاد وكانوا قد نصحوا لها صباحًا بقبول ذلك فأجابهم إليه فقاموا بهذه العملية أحسن قيام وصحة دولة البرنس إلى هذه الساعة على ما يرام وتبع ذلك صدور البيانات التي أكدت التقدم المطرد في صحة فؤاد، وإن كان ذلك قد كلفه كثيرًا مما ينقلنا إلى اللقطة التالية.

فقد طالب الأطباء الذين عالجوا البرنس بثلاثة آلاف جنيه أجرًا لهم منها ألف جنيه "لحضرة الدكتور ملتن الذى أجرى له العملية الجراحية لإخراج الرصاصة من جنبه"، ويبدو أن هذه المُطالبة كان مبالغًا فيها، فقد كانت قيمتها 75 فدانًا بأسعار العصر. ولعل ذلك ما دعا إلى التفاوض بشأنها وانتهى الأمر بالاتفاق على أتعاب مختلفة.

أكد ذلك المحامى الذى وكله فؤاد للمطالبة بالحق المدنى، إلياس أفندى جيعة أعلن في المحكمة أن البرنس المعتدى عليه لا يطلب سوى أتعاب الأطباء وقدرها بـ 1845 جنيهًا.

اللقطة الثالثة متصلة بالدفاع عن البرنس سيف الدين، والذى تولاه اثنان من أشهر محامى العصر، خليل بك إبراهيم، ومرقص أفندى فهمى.

أسس الأول دفاعه على محاولة إثبات أن البرنس سيف الدين معتوه، على اعتبار أن المادة 63 من قانون العقوبات تعفى المعاتبة من الجزاء.

وبعد تعريفات مختلفة للعته، طبية وقانونية، وتطبيقها على المتهم وجدها موافقة فهو يخاف كل إنسان بدليل أنه خاف من مربيه أن يقتله وأن لا يأتمن أحدًا كما شهد بذلك عمه في قضية الحجر وأنه مُصاب بداء العظمة كما شهد بذلك شهود وأنه مُصاب بالصرع كما شهد حمدى بك طبيبه وهو صغير. وأنه مدمن على الخمر وهو إحدى علامات الداء وأن تركيبه وسيره يدلان على اختباله!

الركيزة التي أقام عليها حضرة المحامى البارع مرقص أفندى فهمى دفاعه هي إثبات "عدم وجود سبق الإصرار عند البرنس قبل الشروع في جريمته" وأن القتل لم يخطر له إلا عندما "لمح البرنس فؤاد في شرفة النادى" وأنه لم يكن ينوى إلا التخويف أو الجرح.

ولم ينس المحاميان الكبيران التذكير بأن المتهم ابن البرنس إبراهيم "حفيد محمد على الكبير الذى شهد عشرين موقعة وأنقذ مصر وأحياها بالعدالة والعُمران"!

وقد جاءت مهمة رئيس النيابة هينة بعد أن ساق أحداث الواقعة ونفى من خلالها العته كما أكد سبق الإصرار والترصد مما بينته تصرفات سيف الدين بك مع خطيبته وتار السلاح، وهو ما أخذت به المحكمة في حكمها الذى أصدرته يوم 29 يونيه عام 1898.

ففي منتصف الساعة الحادية عشرة من صباح ذلك اليوم فتحت جلسة الجنايات في محكمة مصر الابتدائية برئاسة أحمد فتحى زغلول بك وعضوية كل من المستر التن وفؤاد بك جريس وأعلن افتتاح الجلسة "وكان الحضور مضغين كأن على رءوسهم الطير لا يبدى أحد منهم حراكًا" وفى هذا الجو تلا فتحى بك الحكم إلى آخره.

أوردت المحكمة الحيثيات "فأثبت العمد في الجناية وسبق الإصرار وأثبتت أن ما عزاه المحامون إلى المتهم ليس بالجنون ولا العته فلا نص عليه في القانون وأن المقصود إنما كان القتل لا التخويف ولا الجرح وأن المتهم غير مضطرب قوى العقل بدليل أقواله في التحقيق وأفعاله قبل الجناية وأنه حسن التدبير لشئونه الذاتية.. لهذه الأسباب حكمت المحكمة على المتهم بالسجن سبع سنين وتأدية الحق المدنى وتأدية المصاريف"!

لم تنته القضية عند ذلك فقد استأنف المتهم الحكم أمام "محكمة النقض والإبرام"، وبعد مدافعات ومرافعات صدر لحكم الثانى في 14 ديسمبر من نفس السنة وقد قضى هذه المرة بتخفيض الحكم من سبع إلى خمس سنوات مع الحجر على المتهم في جميع تصرفاته.

في عام 1900 رفع البرنس عريضة استرحام للخديو فأمر بفحص حالة السجين وقرر مدير مستشفى الأمراض العقلية أنه مصاب في قواه العقلية ونصح بعلاجات في أحد مستشفيات إنجلترا، وتم التنفيذ حيث بقى سيف الدين في المصح الإنجليزى لنحو ثلاثين عامًا، ولنقرأ الموضوع من أوله!


صورة من المقال: