ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 2 فبراير 2021

117 مجارى المحروسة

 مجارى المحروسة

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 8 فبراير 1996م - 19 رمضان 1416هـ


"سطح المعمور بالقاهرة 3880 فدانًا من الأرض وطول شوارعها 35324 كيلو مترً وعدد سكانها 374838 نفسًا منهم 21650 أجانب وأن في القسم الأكثر أهلا 1425 نفسًا للفدان الواحد وفى أقله أهلا 298 نفسًا فقط.. وفى القاهرة 55597 بيتًا و279 جامعًا".

كان هذا جانبًا من تقرير طويل وضعه وكيل نظارة الأشغال ونشرته الأهرام في عددها الصادر يوم 8 أبريل عام 1892، والمناسبة ما تقرر من وضع أول مشروع لجارى المحروسة، وكانت له قصة شديدة الإثارة..

قبل متابعة هذه القصة نلاحظ ما يكشف عنه هذا الجانب من التقرير فيما أصاب العاصمة المصرية من تضخم سريع حتى أن الإحصائيات تشير إلى أنها خلال الخمسة عشر عامًا التالية من الاحتلال (1882 - 1897) قد زادت بنسبة 52%، وهى زيادة ضخمة بمعايير نمو المدن، ثم أن هذه الزيادة لم تقتصر فحسب على الجانب الكمى وإنما امتدت إلى الجانب الكيفى أيضًا، وكانت الزيادة لأهم، فهى التي أثرت على المشاريع الخدمية الحديثة للمدينة المتنامية.

فقد عرفت هذه الفترة من جانب هجرة إعداد من كبار ومتوسطى ملاك الأراضى الزراعية الذين زادت قاعدتهم خلال النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وعرفت من جانب آخر وفود أعداد متزايدة من الأجانب وصلت إلى نحو 6% من مجموع سكان المحروسة، ويشير نفس التقرير إلى الانقسام الواضح بين الأحياء التي قطنها هؤلاء وبين الأخرى التي كان يعيش فيها بقية سكن المدينة.. قال:

"تنقسم القاهرة إلى قسمين مختلفين، الأول منها الأعلى حيث البناء قائم على مرتفعات من الأرض وابتداؤها عند أسافلها خط مفروض شرقى الخليج المصرى يمتد نحو الصحراء وخط حضيض القلعة وأكثر أهله وطنيون والثانى الأدنى حيث البناء قائم على سهل يمتد غربًا إلى النيل وهو أهل بالأجانب والموسرين من الوطنيين".

وأهمية هذا التغير النوعى أنه قد وفر القادرين على دفع ثمن الخدمة، ولم يكونوا كثرة، يدل على ذلك نفس التقرير الذى أشار إلى أنه من بين بيوت العاصمة لم تدخل المياه النقية إلا في 4297 بيتًا، وكانت في بيوت الأجانب والموسرين، بنسبة تقترب من 8%، وبملاحظة أن قومبانية المياه قد تأسست عام 1865 يبدو مدى الوقت الذى تطلبه طلب البيوت الجديدة لخدماتها، وهو ما كان واعيًا به المستر مونكريف وكيل نظارة الأشغال العمومية كاتب التقرير.. وجاء في قوله:

"لا تمضى سنتان حتى يكون الجزء الأكبر من المصارف قد أعد للاستعمال أما إيصالها بجميع منازل الوطنيين فلا يكون إلا بعد فوات سنين عديدة".

وعلى أي الأحوال فلم يكن من المتوقع من تلك الزيادة الكمية والنوعية أن تبقى لخدمات في المدينة العريقة على م هي عليه مما تبدى في دخول المياه النقية والكهرباء وتعبيد الطرق ووسائل الاتصال وكان حتميًا أن تصل إلى التخلص من الفضلات، مما شكل بداية القصة، وجاء فصلها الأول على شكل احتجاجات متوالية على نظام التخلص القديم لذى لم يعد موائمًا للمدينة الكبيرة، أو على الأقل لأحيائها الجديدة.

****

نزح أبار "الأدبخانات" في البيوت والجوامع والأماكن العامة استمر النظام التقليدي للتخلص من الفضلات، وكان هذا ممكنًا في ظل ظروف الأوضاع القديمة في المحروسة.. لبيوت المحدودة والبشر القليلون، وهو ما لم يعد كذلك بعد تغير الأحوال الأمر الذى عبرت عنه الأهرام في مناسبات متعددة..

في إحدى تلك المناسبات تنتقد الصحيفة ما يحدث من "نزح المراحيض ونشر ما يخرج منها على أرصفة الشوارع العامة وهذا ما رأيناه في شوارع الأزبكية فاستغربه الجميع"، ويسخر مكاتب العاصمة من ذلك ويصيغ سخريته على شكل تساؤل قال فيه: "رأى مرض يا ترى قد طرأ على صحة أهالى القاهرة من النظافة حتى تصرح بنشر هذه القاذورات فى هذا الشارع المتوسط من البلدة وتبخير مصر بهذه الروائح العطرية.. فإن كان في ذلك ما يفيد الصحة العمومية فلتصدر الأوامر إذن بفتح جميع مراحيض القاهرة"!

تنقل في مناسبا أخرى شكوى أهالى المحروسة من "نقل أوساخ المراحيض على عربات غير مقفلة حتى يضطر سكان الشوارع التي تمر منها العربات المذكورة إلى إقفال النوافذ وتبخير البيت من شدة الروائح المنتنة التي تملأ الفضاء".

تلفت النظر في مناسبة ثالثة إلى أصحاب عربات نقل القاذورات الذين "لا ينفذون الأوامر السابقة بعدم سيرهم إلا في ساعات محدودة من الليل ولكنهم يسيرون الآن في رابعة النهار".

وكان صوت الشكوى أكثر ارتفاعًا في الأقاليم حتى أن مراسل طنطا كتب ينبه إلى خطورة الطريقة المتبعة في النزح بالمدينة المشهورة وكيف أن الفضلات تنقل في براميل مكشوفة يمر بها بين المنازل بعد منتصف الليل.

دعا تكرر الشكاوى على هذا النحو مصلحة الصحة العمومية إلى إصدار "لائحة نزح المراحيض" والتي وضعت فيها شروطًا معينة لهذه العملية يراعى فيها تجنب تلك الشكاوى، كما أنها قضت فى نفس الوقت بإنزال غرامات كبيرة بمن يخالفون بنود اللائحة المذكورة.

وبدلا من أن يؤدى ذلك إلى إبطال تلك الشكاوى أدى إلى مزيد منها، الأمر الذى ضمنه مكاتب العاصمة في رسالة طريفة له كان مما جاء فيها أن القائمين على مراجعة عمليات النزح "لا يفتأون عن تكرار الطلبات والتنبيهات بنزحها لا بقصد تنفيذ بنود اللائحة بل بقصد المنافع الشخصية ويرسلون من قبلهم من ينبه عل صاحب الملك بالنزح ولو بعد مرور شهر واحد من نزح مرحاض منزله، حتى إذا خشى من نفوذ مأربهم ضده واضطراره لدفع مايتين أو ثلاثماية قرش أجرة نزح المرحاض المذكور دفع لهم عشرين أو ثلاثين قرشًا أجرة سكوتهم عنه إلى شهر آخر أو أكثر وإلا أخطروا مصلحة الصحة"!

أما فيما يتصل بعربات النزح فقد قضت أوامر مصلحة الصحة بأن تتوافر لها مواصفات خاصة "بتصفيحها من الداخل وإقفالها إقفالا محكمًا لكيلا يبقى فيها أثر لقذارة تتصاعد منها الروائح الكريهة المضرة بالصحة العمومية".

على الجانب الآخر تشير الأهرام إلى تكوين شركة أجنبية هي شركة "برى وبتنر" التي استقدمت آلة جديدة "لنزح المراحيض في مدة قليلة بدون أن تتصاعد منها الروائح الكريهة".، والواضح أن الأوروبيين من قاطنى المحروسة كانوا الأكثر استخدامًا لتلك الآلات.

ولم يكن النزح وحده محل الشكوى وإنما أدى تفشى شق مجار عامة تصب في الترع إلى مزيد من الشكوى الأمر الذى استتبعه تدخل السلطات الصحية لمنع ذلك خاصة بالنسبة لترعة الإسماعيلية والخليج المصرى اللذين عانيا كثيرًا من ذلك التفشى.

ففي يوليو عام 1887 قامت تلك السلطات بردم المجارى التي تصب في ترعة الإسماعيلية "منعًا للروائح الكريهة التي كانت تتصاعد منها وحفظًا للصحة العمومية".

بعد أسابيع قليلة قامت بنفس العمل في الخليج المصرى "واستعمال حفر خصوصية لكل من المنازل والمحلات العمومية لينزحها أصحابها عند الاقتضاء وتنبيه أرباب الأملاك بوجوب إبطال كل اتصال كائن الآن بين منازلهم والمجرى المذكور"!

غير أن الملاحظ أن تلك الشكاوى كانت من القلة بمكان بحكم قلة الترع في القاهرة على عكس الحال في الأقاليم التي زادت فيها والتي رصدتها الأهرام أيضًا..

في كفر الدوار ترصد الصحيفة أحد أرباب الأطيان "بناحية لوقين الذى أخذ في إنشاء بيوت على شاطئ ترعتها في الطريق العام وجعل مجارى مراحيضها تصب في تلك الترعة التي يشرب منها كثيرون"، وفى زفتى ترك متعهد نزح أحد المساجد "مراحيض المسجد تصب في الترعة التي يشرب منها السكان مما أدى إلى انتشار حمى الدنك"!

شيء شبيه بهذا رصدته الأهرام في موطنها.. في الإسكندرية وإن جاء التخلص من الفضلات في الميناء الشهير في البحر، الأمر الذى استمر بعد ذلك حتى أواخر القرن العشرين.

فقد تشكلت في الإسكندرية لجنة للبحث في الحالة الصحية وكتبت تقريرًا مفاده أن من أهم أسباب تردى هذه الحالة "سوء حالة المجارى واتصالها بآبار الكنف التي تتفرع بتجمعاتها بها فتنشر في جميع أطراف المدينة قبل أن تصب في البحر المالح ولا سيما أن المجارى المذكورة مفتوحة إلى البحر على مسافة من المياه لا تصل إليه قبل أن تنبعث عنها الروائح الكريهة الخبيثة".

ومع أن الإسكندرية، وبحكم تفرنجها المبكر، قد سبقت القاهرة، أو على أقل تقدير واكبتها، في تقديم الخدمات لسكانها، فإنها قد تأخرت عن المحروسة في أداء هذه الخدمة.. المجارى العمومية.

كل ما فعله المسئولون عن الثغر أن قدموا مزيدًا من الاحتياطات لتجنب مساوئ الطرق التقليدية في النزح مما ينم عنه هذا الإعلان الذى نشرته الأهرام يوم 26 نوفمبر عام 1896 والذى صدر عن "قومبانية نقل المواد البُرازية"، وقد بشرت فيه باستحضارها لمهمات حديثة لنقل هذه المواد "وهى صناديق حديد ممتازة تمكنها من النزح بكل سرعة وبأقل أجرة واتساعها 800 لتر والتي لا يصح أن تشبه بالعربات الموجودة عند الآخرين التي لا تنقل إلا من 500 إلى 600 فقط"!

أما في القاهرة فقد سارت الأمور بشكل مختلف وولد قبل نهاية القرن أول مشاريع المجارى العمومية في القطر المصرى والذى كانت تسميه الصحيفة أحيانًا "بالمجرور العام"!

****

كان من الغريب أن أول من أطلق إشارة البدء في المشروع الكبير مستشار نظار الداخلية الذى قدم مقترحًا بذلك إلى نظارته وقد علقت عليه الأهرام بقولها "لما كانت النفقات المقدرة لهذا المشروع فادحة يتعذر على الحكومة دفعها في الحالة الراهنة فستستدعى أحد أهل الخبرة من أوربا لكى يتفحص المشروع ويقدر النفقات اللازمة له" وجاء هذا الرأي بمثابة فتح باب التدخل الدولى في مشروع مجارى المحروسة مما حدث على نطاق واسع بعد ذلك.

جاءت أول أخبار هذا التدخل بعد نحو خمسة شهور من نشر المعلومات عن اقتراح مستشار الداخلية حين فوجئ المصريون العاملون في ميناء الإسكندرية بوصول مهندس إنجليزى في 18 نوفمبر عام 1889 وعلموا أن نظارة الأشغال قد استدعت الرجل "لوضع المقاسات اللازمة لمجارى العاصمة وقد عينت أجره على ذلك ثمانماية جنيه"!

في العاصمة التقى المهندس الانجليزى بالخديو وتعين له مندوب خاص لتفقد أنحاء المحروسة وتعلق الأهرام بقولها "ويؤكدون أن هذا المهندس من نخبة أرباب هذه الصناعة وهو رجل كثير الإقدام كبير الهمة يشتغل خمس عشرة ساعة في اليوم"!

وعلى خلاف ما دأبت عليه صحيفتنا من الهجوم على التدخل الإنجليزى في الشئون المصرية فإنها قد امتدحت بشكل ملحوظ الرجل، ويعزى ذلك فيما نراه، إلى حماسها للمشروع، الأمر الذى جعلها تتغاضى هذه المرة عن كونه يتم على أيد إنجليزية.

ويبدو أن المصاعب التي واجهت "حضرة المهندس الإنكليزى" كانت جسيمة نتيجة لفداحة المبلغ الذى قدره لتنفيذ المشروع "لأن هذه النفقات لا تنحصر في وضع المجارى فقط بل باتصالها بمراحيض المنازل أيضًا ولا يخفى ما هي عليه المراحيض المذكورة من الأوضاع المخلة بالقواعد الهندسية.. فضلا عن تعذر اتصالها بالمجارى العمومية وهى على حالتها الحاضرة ولا سيما ما كان منها في الأبنية القديمة والحوارى الضيقة والمنازل الحقيرة مما يحتاج إلى أتعاب كثيرة ونفقات طائلة".

وكالعادة فتحت الحاجة إلى الأموال باب التدخل الدولى، فلم يكن في مكنة الحكومة المصرية أن تبدأ مثل هذا المشروع المُكَلِف دون أن توافق الدول الدائنة على تخصيص جانب من الموارد المرهونة لديها للإنفاق عليه.

سجلت الأهرام بداية هذا التدخل نتيجة لطلب لحكومة الذى رفعته للدول الممثلة في صندوق لدين للحصول على جانب من المبلغ الذى يحصل عليه الصندوق من إيراداتها لِيُضاف إلى مبلغ "الخمسة ملايين وسبعة وعشرين ألف جنيه المعينة لها بصفة نهائية لنفقاتها الإدارية وذلك لكى تنفق اللازم للمجارى في كل عام من هذا الإيراد"، ولم يكن من المتوقع أن توافق الدول الدائنة بسهولة.

في 27 يوليو عام 1891 تقدم القنصل الفرنسي العام في القاهرة بطلب للحكومة المصرية بتشكيل "لجنة من المهندسين لفحص مشروع مجارى مصر" تبعه القنصل الروسى بمطلب مماثل في نفس اليوم وتعرب الأهرام عن رضائها عن الاستجابة الدولية لمطلب الحكومة المصرية، حتى ولو كانت مشروطة، فيما جاء في تعليقها بأن ذلك بمثابة "تنجيز أنفع المشروعات وأفيدها ونحن ننشر ذلك بسرور"!

تقرر أن تتشكل اللجنة من ثلاثة مهندسين، إنجليزى وفرنسى وألمانى، اشترط ألا يكون أي منهم من العاملين في مصر، غير أن المشكلة التي واجهها المصريون بدت في مخاوفهم ألا يتفق المهندسون فيما بينهم خاصة إذا تدخلت الأغراض السياسية، ومن ثم أجروا اتصالات مع المسيو ريفرسو القنصل العام الفرنسي انتهت إلى الاتفاق على أنه في مثل هذه الحالة تُحال المسألة إلى محكم من الخارج، وبعد التشاور عما إذا كان يختار من الدانمارك أو هولندا أو بلجيكا استقر الرأى على أن يكون من الدولة الأخيرة.

في أواخر نوفمبر عام 1891 نشرت نظارة الأشغال المصرية إعلانًا في الصحف الأوربية عن مسابقة التقدم بمشروع "لمجارى المحروسة" على أن يتقاضى الفائز مبلغ 200 جنيه مما كان محل انتقاد شديد من الأهرام التي أعربت عن دهشتها من "أن يترك مهندس بارع في أوربا أو في غيرها بلاده ويحضر إلى مصر ويدرس مشروع مجارى القاهرة ليُكافأ على ذلك بمئتى جنيه إذا قُبِل مشروعه.. ونرى أن من الواجب أن يُقدر مبلغ المكافأة بخمسماية جنيه لا بمئتين"!

وحذرت الأهرام من من أن مثل هذه المكافأة ستؤدى في النهاية إلى الاقتصار على ما سبق وتقدم بمشروع وهما المستر لاثام الذى كوفئ عليه بألف جنيه والمسيو ليونير الجاهز عنده منذ أمد بعيد، والرجلان من المهندسين العاملين بالحكومة المصرية.

رغم ذلك تلقت اللجنة ثلاثين مشروعًا، خمسة من مهندسين مصريين والباقى من مهندسين مختلفى الجنسية، وبعد أن فحصتها أعلنت النتيجة التي كانت بمثابة مفاجأة.

بدت المفاجأة في جانبين، أولاهما أن اللجنة قبلت ثلاثة من المشاريع دون أن تتمكن من المفاضلة بينها حيث رأت "أنها جميعًا متساوية في الأهمية"، والثانية أن أحد المهندسين الفائزين كان مصريًا هو "محمد أفندى فهمى المهندس التابع لوزارة الأشغال"، المشروع الآخر قدمه "الخواجات فيتو ودوان وكلاهما مقاولان فرنساويان مشهوران"، والأخير هو مشروع الإنجليزى "المستر جون برايس المهندس الصحى في إدارة مصلحة الصحة".

وقد اتفقت المشاريع الثلاثة على أن التربة المبنية عليها المدينة "لا يتعذر إقامة المصارف فيها لأنه لا تنفذ منها المياه كثيرًا"، وأن المطلوب مصارف اعتيادية "تسير فيها الأقذار بحكم التجاذب حتى تنتهى إلى نقطة واحدة تستقر فيها ثم ترفع بمضخات إلى علو مفروض وتدفع بقدر ما يمكن من السرعة في أنابيب من الحديد حتى تنتهى إلى أراضى الزراعة فترويها ريًا نافعًا، وهى ترى أن الصحراء إلى الجهة الشمالية الشرقية من المدينة ميسور جدًا جعلها حقلا يروى بمياه المصارف المذكورة". وقد اتفقت المشروعات الثلاثة فضلا عن اللجنة التي فحصتها على أن تكلفة المشروع لن تقل عن خمسمائة ألف من الجنيهات.

وكان فوز مصري في المسابقة محل ترحيب عام حتى أنه نال البكوية فضلا عن المائتى جنيهًا المقررة، بيد أن ذلك لم يكن نهاية المطاف فقد نشأ لدى البداية في تنفيذ المشروع مشاكل جديدة.

أه هذه المشاكل ما تقرر من إجبار أصحاب البيوت التي ستوصل إليها المجارى على "أن تستكمل المبادئ الصحية بوجود المياه الكافية لدفع المواد المتخزنة ولا يكون ذلك إلا إذا اشترك أصحابها بالمياه"، وتقرر أيضًا تخويل عمال الصحة حق تفقد المنازل ولكن القناصل عارضوا ذلك واشترطوا أن يرافق مندوب الحكومة مندوب قنصلى احترامًا للامتيازات الدولية وهو ما أبدت الأهرام امتعاضها منه بحكم ما يكشف عنه من عدم المساواة بين المصريين والأجانب.

مشكلة ثالثة نتجت عن حق الحكومة في نزع ملكية بعض العقارات الأمر الذى قد يتطلبه تنفيذ المشروع وقد عدلت الحكومة عن هذا الاتجاه بعد أن أبدى بعض ممثلي الدول اعتراضهم، وكان على واضعى المشروع أن يوائموا بين مخططاتهم وبين هذا العدول.

مشكلة أخيرة لها طابع مشابه وتدور عما إذا كان سكان المحروسة مخيرين أم مجبرين في وصل بيوتهم "بالمجرور العام" وكانت مناسبة أن تناشد الأهرام هؤلاء ألا يتقاعسوا في المشاركة فيما جاء في قولها أن أرباب الأملاك سوف "يستفيدون من ذلك سواء باقتصاد نفقات النزح السنوية أو تحسين حالة عقاراتهم والمأمول أن يقبلوا عليه من عند أنفسهم بما يغنى الحكومة عن الوسائل العنيفة".

ولما انصرفت جهود الحكومة المصرية وأموالها خلال عام 1898 إلى حملة استرداد السودان تأخرت العمليات التنفيذية لمشروع مجارى المحروسة، ونتيجة لموقف الأهرام المُعادى لهذه الحملة، والتي ارتأت أنها تتم أولا وأخيرًا لتحقيق المصالح الإنجليزية فقد هاجمت بشدة التأخير في إنفاذ المشروع بسببها وكتبت في عددها الصادر في 28 أبريل عام 1898 مقالا افتتاحيًا في صفحتها الأولى تحت عنوان "مجارى العاصمة" أنهته بقولها "إلى هذا الانحطاط آل أمر القاهرة وأهلها نيام سكوت صبر ولقد صمتوا ما شاء الله فإلى متى يكون انتظارهم لينالوا بقية الإصلاحات الضرورية لمدينتهم كضرورة الحياة"!

والواقع أنه لم يطل هذا الانتظار فقد بدأت حكومة مصر في العام التالى في تنفيذ مشروع "مجارى المحروسة" بعد تخطى العقبات وآخرها العقبة المالية.


صورة من المقال: