ads

Bookmark and Share

السبت، 30 يناير 2021

115 السكك الزراعية

 السكك الزراعية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 25 يناير 1996م - 5 رمضان 1416هـ


عالم مجهول أو شبه مجهول جسدته "السكك الزراعية" التي تخترق الريف المصرى في أغلب أرجائه رغم كل ما تركته في الوجدان الشعبى العام حتى أنه انعكس على بعض الأهازيج كان من أشهرها الأهزوجة التي جاء في مطلعها "عالزراعية يا رب أقابل حبيبى"!

ذلك العالم المجهول الذى تعبر الأهزوجة عن كون ملتقى الأحباء، لم يكن بالطبع يؤدى هذا الدور فحسب، فقد احتل مساحة واسعة في الحياة الاجتماعية والسياسة والأهم الاقتصادية للفلاح المصرى.

اجتماعيًا وفرت هذه السكك اتصالات معقولة بين سكان القرى التي تقع على جنباتها وأصبحت متنفسًا رئيسيًا للعلاقات بينهم، مما خلق موقعًا آخر غير الموقع التقليدي القديم والشهير.. المططبة، يتلاقون فيه خاصة في أمسيات الصيف القائظة وينسجون معها علاقات إنسانية مطلوبة.

سياسيًا فقد جدت سلطات المديريات بتشجيع من الحكومة المركزية في العاصمة في بناء شبكة هذه السكك خاصة في الجهات التي لا تصلها الخطوط الحديدية أو تتوفر لها سبل الملاحة النهرية، بحكم أن تطور هذه الشبكة كان يحمل معه في نفس لوقت سبل الوصول السهلة لأيدى حكومة القاهرة لتطول تلك البقاع التي كانت تبدو بعيدة عنه.

أما من الناحية الاقتصادية فقد أدى التحول الواسع الذى عرفته مصر خلال القرن التاسع عشر نحو زراعة المحاصيل النقدية، وما استتبعه من حاجة ملحة لتسويق تلك المحاصيل، في طليعتها القطن بالطبع، إلى زيادة الحاجة إلى مزيد من السكك التي تتحرك عليها تلك المحاصيل، والتي كانت أقرب إلى الشرايين التي تمتد بالحياة لتغذى اقتصاديات الجهات النائية وتشدها إلى الاندماج في السوق الوطنى، ومن ثم في السوق العالمى.

وحول كافة هذه النواحى دارت أغلب جوانب ذلك العالم المجهول أو شبه المجهول الذى لم يحظ بما يستحقه حتى في الدراسات العلمية وإن كان حظى ببعض ما يستحق من الأهرام التي أماطت اللثام عن كثير من وجوهه حته أنه بعد مطالعة الصحيفة العتيدة يمكن القول أن عالم السكك الزراعية المجهول لم يعد مجهولا.

***

ثمة ملاحظات رئيسية يتوجب رصدها على السكك الزراعية قبل التعرض للانقلاب الذى عرفه عالمها خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر.. عقد التسعينات..

* فمع أن مصر كانت تعرف قبل ذلك تلك السكك إلا أنها كانت في أغلبها ضيقة متعرجة مترية، ثم أنها كانت على الأرجح محاذية لجسور النيل والترع والمصارف.. مثال على ذلك جسر الرقة في بنى سويف وجسور الطهنشاوى والقيسة والبرانقة في المنيا، وجسور أخرى في أسيوط وجرجا وقنا.

* كانت فائدة تلك السكك القديمة محدودة سواء لأنها تقع بمحاذاة المجارى المائية التي يمكن أن تقدم بديلا مناسبًا للنقل أو لأن حالتها كانت لا تسمح سوى باستخدام النقل بالدواب عليها، البغال والحمير والإيل والثيران، أو الإنسان الذى استمر يوظف قوته العضلية في تلك الأعمال، ولكنها لم تكن تسمح باستخدام العربات التي تحمل أثقالا أكبر ولمسافات أطول، فالمعلوم أن الجهد المطلوب لحمل طن واحد لمسافة كيلو متر واحد يكفى لنقل أربعة أطنان لمسافة أربعة كيلو مترات على عربات تسير على عجلات.

* على الرغم من أن مصر قد بدأت تتحول إلى نمط الإنتاج الرأسمالى منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر والذى لم تعد معه مثل تلك الطرق ذات فائدة تذكر في تلبية احتياجات التحولات الجديدة، فإنه كان عليه الانتظار لوقت غير قصير حتى تطولها يد التغيير.

العلامة الكبيرة الوحيدة في تاريخ السكك الزراعية إبان القرن صنعت في عهد سعيد (1854 - 1863)، فهذا العهد الذى عرف عناية ملحوظة بأوضاع الريف المصرى حتى أن بعض المؤرخين أثروا أن يصفوه بالعصر الذهبى للفلاح، شهد الاستعانة بالأتربة والرواسب التي تخلفت عن مجرى ترعة لمحمودية لإقامة طريق مواز للترعة عرضه نحو 10 أمتار لعب دورًا مباشرًا في تيسير الربط بين مختلف الجهات المطلة عليها، وكان أول السكك التي اصطلح على توصيفها بسكة الدرجة الأولى، ذلك أنه مع بناء وانتشار السكك الزراعية المتسعة ثم تصنيفها في هذه الدرجة الجديدة بينما بقيت السكك القديمة الضيقة المتعرجة المتربة ضمن الدرجة الثانية!

* يثير الاهتمام أنه على الرغم من الأعمال الناشئة الكبيرة التي عرفتها مصر خلال عصر إسماعيل أو إبان السنوات الأولى من عصر الاحتلال الذى انصرف أغلب جهده إلى الريف المصرى، فإن السكك الزراعية لم تحظ بنصيب يذكر من تلك الأعمال.

في اعتقادنا أن ما عرفته تلك الفترة من شق مزيد من الترع الكبيرة أو بناء الخطوط الحديدية التي ذرعت البلاد طولا وعرضًا كانا من أهم الأسباب وراء عدم الالتفات للسكك الزراعية التي لم يبدأ التنبه إليها إلا بعد استكمال شبكة النقل تلك، فقد ظهر مع هذا الاستكمال فجوات في ربط بعض المناطق المنتجة مما أثار الحاجة إل سد هذه لفجوت، وكانت السكك الزراعية السبيل لهذا السد.

تنبه مراسل الأهرام في القهرة إلى هذه لحقيقة فكتب في مقال طويل ظهر في عدد الصحيفة الصادر يوم 20 أكتوبر عام 1890 بأن "الجهات البحرية من السنبلاوين وبعض الجهات في الوجه القبلى التي تقع في نقطة بعيدة عن السكة الحديد وعن مجارى النيل الكبيرة أحوج إلى السكك الزراعية من سائر الجهات الأخرى لأن القطن الذى يباع في الجهات القريبة من محطات السكة الحديد والملاحة بثلاثمائة قرش مثلا يباع في تلك الجهات البعيدة بمائتين وستين قرشً فقط وذلك لصعوبة النقل وكثرة النفقات اللازمة له".

نفس المعنى جاء في طلب تقدم به "عمد وأعيان مديرية الدقهلية" رفعوه إلى نظارة الأشغال العمومية لإنشاء سكة زراعية بين ميت غمر والزقازيق "لأن مزارعى تلك الجهات بحاجة كلية إليها لبُعد مزروعاتهم عن محطات السكة الحديد".

بالمقابل فقد أثبت مجلس مديرية أسيوط في جلسته المنعقدة في 2 ديسمبر عام 1891 أن نفى النفى إثبات فيما جاء في قراره بعد استحسان "مد السكك الزراعية لعدم أهمية المشروع لقرب المواصلات الاعتيادية برا وبحرًا ما بين جهات المديرية"!

كان من الطبيعى مع الاستشعار بزيادة الحاجة "للسكك الزراعية" أن تبدأ المطالب ببنائها من "أعيان ووجهاء جهات الأرياف وأن ترى السلطات الحكومية المزايا الاقتصادية والسياسية التي تعود على القطر من ذلك البناء الذى اتسع نطاقه خلال عقد التسعينات حتى أنه يمكن القول معه أنه كان عقد السكك الزراعية.

كان أهل الفيوم، فيما تسجله الأهرام، أول من استشعر هذه لحاجة كما جاء في خبر للصحيفة في 10 مايو عام 1889 من أنهم وقبل عامين كاملين (1887) قد التمسوا "صدور الأمر بإنشاء سكك زراعية فى مديريتهم لتسهيل نقل المحاصيل وغيرها وتعهدوا بأنهم يقدمون ما يلزم لهذه السكك من الأرض بدون مقابل".

تبع ذلك أن عبر مكاتب تلا عما أسماه أشواق أهالى المنوفية بتنفيذ مد السكك الزراعية "ولا سيما المهمة منها مثل التي ستمد من تلا إلى طوخ لأهمية هذه البلدة وعظم تجارتها ولعل انتظارهم لا يطول فيروا من سعادة مديرهم اهتمامًا نافذًا في هذا الأمر المهم".

أهالى الدقهلية وجهوا التماسهم إلى نظارة الأشغال العمومية لإنشاء السكك الزراعية في مديريتهم خاصة "بعد أن تم التخطيط لها وتقدير نفقاتهم ولم يعد مانع يمنع من مباشرة العمل فيها".

في الشرقية لما جاءت الأخبار عن الشروع في بناء سكك زراعية جديدة استبشر أهالى الجهات التي تمر بها لما لها من الفائدة العظيمة وأخذوا في استعجالها "إذ الوقت مناسب الآن لأن الزراعة الشتوية قد تمت وقلعت من الأرض والقطن لم يبلغ الحد الذى يؤسف عليه لو قلع أو عبثت به أرجل الفعلة".

وأمام هذا السيل من المطالبات بدأت دوائر نظارة الأشغال تضع مخططًا لبناء السكك الجديدة، وهو المخطط الذى ارتبط باسم الكولونيل مونكريف وكيل الوزارة الإنجليزى والذى نشرت الأهرام خطوطه الأساسية.

تضمن التقرير الذى وضعه الرجل أن تبدأ تجربة السكك الجديدة في مديريتى الدقهلية والشرقية على أن يتعاون سائر الأطراف المستفيدين منها.. "يتبرع الموسرون بما يلزم لتلك السكك من أرضهم لجل المنافع الناتجة والتي ستعود على أملاكهم وعليهم ويتبرع غير الموسرين بأتعابهم في عمل تلك الأعمال ويكفى الحكومة ما تنفقه من النفقات لعمل البرابخ وإقامة القناطر اللازمة لتسهيل امتداد السكك المذكورة".

تضمن أيضًا عقوبات محددة على الفلاحين خشية عدم صيانة تلك السكك بسبب "إقدامهم على تخريبها وشقها لاستجرار المياه فيها وأخذ أتربتها لإصلاح الأطيان المجاورة لها كما يفعلون بجسور الترع وجسور السكة الحديد".

ويبدو أن المشروع قد أثار لغطًا عند أصحاب الأراضى في المديريتين الأمر الذى سجلته الأهرام وحذرت أولئك الذين "توغلوا في تقرير المضر والممتنع منها وتجاوزوا حدود الغاية التي تسعى إليها الحكومة والحال أن المراد من ذلك بسيط النتيجة غزير الفائدة لا يلجئ إلى وساوس واستغراب".

عرض المشروع على مجلسى المديريتين وكان من الطبيعى بحكم تشكيل أغلب هذه المجالس من الأعيان أن تكون مسألة الأراضى التي سوف التي سوف يتم استخدامها لإنشاء السكك الجديدة أكثر ما أثار اهتمام الأعضاء، فقد أوصى أعضاء مجلس مديرية الشرقية "أن تجعل قيمة الرسم على من يملك من الخمسة والعشرين فدانًا فما فوق قرشين ونصفًا وعلى من يملك من الخمسة والعشرين فدانًا فما دون قرشًا واحدًا فقط أما إذا اتفقت الآراء على أخذ الأرض من أربابها مجانًا فليكن ممن يملكون من الثلاثين أو من الأربعين فدانًا فما فوق".

في يوم 20 أكتوبر عام 1890 صدق مجلس شورى القوانين على مشروع قانون السكك الزراعية بعد أن أدخل عليه تعديلات محدودة جاء فيها إنشاء تلك السكك في "البلاد البعيدة عن محطات السكك الحديدية ومجارى لنيل الكبرى" كذا فيما يخص العقوبات التي تنزل عل من يقوم بتخريب السكك الزراعية أو فيما أسماه القانون بالقصاصات.

ويمكن التأريخ بهذا القانون كميلاد للسكك الزراعية التي أخذت في الانتشار على نطاق واسع في الريف المصرى مما حفلت بأخبارها الأهرام خلال السنوات التالية، ومما استمر يحتل مساحة غير قليلة من رسائل مكاتبى الصحيفة في الأقاليم.

كان من الطبيعى أن تحرز مديريتا الدقهلية والشرقية قصب السبق في هذا الميدان فيما أكده التقرير المنشور بالجريدة في 16 سبتمبر عام 1890 بإنشاء سبعة من السكك الزراعية.. لأول من أبو كبير إلى منيا القمح، والثانى: من أبو كبير إلى ميت غمر، الثالث من الزقازيق إلى ديرب نجم، الرابع من السنبلاوين إلى ميت سمنود، خامس من المنصورة إلى المنشية، سادس من محلة مشاق إلى دكرنس، أخيرً من الإبراهيمية إلى ههيا.

ومع القرار بشق تلك السكك صدرت التعليمات لسلطات المديريتين لاتخاذ التحوطات اللازمة بحث الأهالى بالتحفظ عليها "بعدم ردمها وإلا يزرعوا على جانبيها زرعًا إلا إذا كان الزرع في مسافة تبعد عن حدودها ثلاثة أمتار من كل جانب منها إما إذا زرع أحد زرعًا بجوار التخطيط وباشرت الحكومة بإنشاء السكك المنوه عنها فإنها لا تراعى المزروعات مطلقًا ولا يكون لأصحابها حق بمطالبة الحكومة بشئ مما يصيب مزروعاتهم من التلف"!

ورغم اللغط المبدئى فإنه مع دخول السكك في مرحلة التنفيذ تقرر الأهرام أن أهالى المديريتين راضون عنها "بل أنهم مسرورون منها غاية السرور"، وكانت بداية مشجعة ليس للشرقاوية أو الدقهلاوية فقط وإنما لسائر أبناء المديريات المصرية.

بدا ذلك في الطلبات التي أخذت تترى من هؤلاء والتي عبرت عنها الأهرام بطول ذلك العقد.

أهالى الفيوم الذين كانوا أول من طالب بتعميم تلك السكك في أنحاء مديريتهم ثابروا على هذه المطالبة حتى استجاب لهم المسئولون بالأشغال في صيف عام 1891، ومع أن الضريبة التي فرضت على كل فدن من الأراضى التي تمر بها تلك السكك وصلت إلى أربعة قروش، أي أكثر من ضعف ما كان قد تقرر في الدقهلية والشرقية، إلا أن المزارعين قد قدموها عن طيب خاطر.

ويبدو أن التجارب الأولى كانت مشجعة حتى أنه بعد عامين كان في الطريق إلى البناء في المناطق الفيومية 13 سكة أطلت على أغلب مراكزها: كيمان، فارس، سنورس، سرسنا، أبو كساه، أطسا وفلمشاه وغيرها.

في البحيرة نشط المدير بعد أن تقدم الأهالى بجملة من الطلبات وتم تحصيل "المصاريف بأكملها في شهور قليلة ولم يبق منها مليم واحد"، ويبدو أن نظارة الأشغال قد تلكأت في شق السكك المطلوبة الأمر الذى دعا أعضاء مجلس المديرية من الأهالى إلى اتخاذ موقف متشدد في الجلسة التي انعقدت في أول يونية عام 1896 "فأظهروا من الغيرة الوطنية ما هو جدير بكل مديح فقد أقروا على إنشاء ثلاث سكك ورفضوا الإقرار على تحصيل نفقاتها إلا في الموسم القادم"!

وتكررت نفس القصة مع اختلاف طفيف في السيناريوهات في القليوبية والغربية والمنوفية وقنا حتى أنه ليبدو لقارئ أهرام تسعينات القرن الماضى وكأنه لم تعد بقعة في الريف المصرى إلا واخترقتها السكك الجديدة التي احتفى بها المصريون أيما احتفاء، وإن كان قد بدا في نفس الوقت ما جعل كثيرين منهم يرددون قولتهم المشهورة "يا فرحة ما تمت".

***

تردد في منتصف عم 1896 أن الخواجات سوارس أصحاب سكك حديد حلوان ومن كبار الرأسماليين اليهود الذين دخلوا عالم المال في مصر في أواخر القرن الماضى، قد حصلوا على امتياز بإنشاء سكك حديدية زراعية في مديريتى الشرقية والدقهلية، وفى هذه المناسبة تكشف الأهرام عن أن مقاولا إنجليزيًا قد تقدم بطلب مماثل، بيد أنها لم تعلق على أي من الطلبين.

أواخر نفس العام جاءت الأخبار أن شركة للخطوط الحديدية الضيقة والتي كانت تسميها الجريدة بشركات خطوط الترامو أي قد تقدمت بطلبها لإنشاء خطوط جديدة على السكك الزراعية في مديرية البحيرة.

ومع أن الأهرام رحبت في بداية الأمر بالفكرة ارتأت أنها "ستفيد البحيرة كثيرًا"، إلا أن مكاتبها الدمنهورى كان له موقف آخر عبر أكثر عن موقف أهالى المديرية، وهو الموقف الذى حرصت الجريدة على أن تنشره للمكاتب المذكور في صدر صفحتها الأولى في العدد الصادر يوم 15 أكتوبر عام 1896 في مقال تحت عنوان "حق ضائع".

استهل الرجل الذى لم تكشف الصحيفة عن اسمه، والذى اتسمت أغلب مكاتباته بنغمة وطنية عالية النبرة، بالتذكير بأن الفلاح صاحب الحق الوحيد في السكك الزراعية فهو الذى دفع نفقاتها وثمن أطيانها فلا "يحق لأحد أن يزاحمه فيها لأنه اشتراها بماله والحكومة لم تساعده، ولو بدرهم واحد.. فمنفعة تلك السكك بحكم القانون وبحكم العدالة يجب ن تنحصر في الفلاح المالك دون سواه".

نبه بعد ذلك ما فعلته الحكومة من أنها منحت "لشركة إنجليزية مركزها لندرا امتيازًا بإنشاء ترامواى بخارى أو كهربائى كما تريد الشركة على السكك الزراعية من مديريتى البحيرة والغربية".

وادعى المراسل الوطنى أنه قد اطلع على صورة العقد الذى قدمته الشركة فلم يجد شرطًا واحدًا في مصلحة المصريين، ولم ينس أن يعبر في هذه المناسبة عن سخريته من أن الشرط الوحيد الذى وجده في المصلحة هو الشرط الأخير الذى يقضى بترك الشركة حق الامتياز للحكومة بعد سبعين سنة بالتمام والكمال "فهنيئًا لأولاد بلدنا بهذه الغنيمة"!

دلف من ذلك إلى بيت القصيد فيما نورده بكلماته.. قال "فالفلاح على ما ظهر لنا من مطالعة شروط الامتياز قد حرم حرمانًا تامًا من الانتفاع بالسكك الزراعية وأصبح يتعذر عليه أن يمر عليها بمواشيه ومحاصيله لأن خطوط الترامواى وعرباته ستحول دون مرور مواشيه وأطفاله عليها وبهذه الحالة يضطر إلى دفع نفقات هو في غنى عنها فضلا عن الخسارة التي لحقت به والأموال التي دفعها لإنشاء هذه السكك".

وقد أهابت الأهرام من خلال هذا المكاتب بسائر الجرائد الغيورة بأن تشاركها البحث في سبب ضياع هذا الحق وأن تلحق بها في الاحتجاج عليه على نحو "لا تعطل معه سير الزارع".

قبل مضى وقت طويل كان مكاتب طنطا يشارك باسم أهالى الغربية في الاحتجاج على المشروع الجديد "لما في ذلك من تعطيل الأشغال ومن إضرار بالزارع فنحن نرجو الحكومة أن تتروى قليلا في هذا المشروع"!

أهالى الشرقية كان لهم موقف مختلف فقد ارتأى بعض أعيانهم أن يأخذوا الأمر بأيديهم ما دام السهم سوف ينفذ على أي الأحوال.

بدا ذلك في الطلب الذى تقدم به هؤلاء في أوائل عام 1897 للترخيص لهم بإنشاء السكك الحديدية الضيقة على السكك الزراعية "لتسهيل سبل الأسفار وتوفير وسائل الاتصالات التجارية"، وقد زكت الأهرام هذا الطلب وناشدت الحكومة الاستجابة له مما يدل على أن معارضتها للمشاريع وناشدت الحكومة له مما يدل على أن معارضتها للمشاريع المقلة في البحيرة والغربية قد صدرت عن دافع وطنى.. دافع رفض أن تقوم به "شركة إنكليزية مركزها لندرا".

وبين مظاهر الاشفاق التي أبدتها الأهرام من الأضرار التي يمكن أن تلحق بالفلاح المصرى من جراء التعدى على السكك الزراعية الوليدة، وبين الإحساس بما يمكن أن يجديه سكان الريف من فوائد من انتشار السكك الجديدة الحديدية الضيقة. لم يكن من مناص من القبول بمنطق التجديد حين أخذت السكك الأخيرة تفرض نفسها. ولها قصة أخرى.


صورة من المقال: