ads

Bookmark and Share

الخميس، 28 يناير 2021

114 قومسيون البلاط

 قومسيون البلاط

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 18 يناير 1996م - 27 شعبان 1416هـ


البلديات التي انتشرت في مصر انتشارًا واسعًا خلال تسعينيات القرن الماضى جاءت البشائر بمولدها عام 1886، وفى نفس المدينة التي ولد بها الأهرام، ميناء الإسكندرية، وذلك عندما نشأ ما أسمى "بقومسيون البلاط" وهى هيئة تركزت مهمتها الأساسية في "فرش الطرق بالبلاط"!

ويبدو أن النجاح النسبى الذى أحرزته الهيئة الوليدة خلال الشهور القليلة التي أعقبت ظهورها قد "أغرى بعض أعيان الثغر على وضع لائحة لترتيب مجلس بلدى في الإسكندرية على نسق المجالس البلدية في أوروبا" فيما جاء في عدد الأهرام الصادر يوم 12 يوليو 1887 والذى كان بمثابة بداية لتاريخ البلديات في مصر، وبداية في نفس الوقت لقصة من أكثر القصص إثارة في التاريخ المصرى أواخر القرن التاسع عشر.

تبدوا الإثارة مما يكشفه هذا الخبر الأهرامى، فقد طالب هؤلاء الأعيان بأن يتشكل المجلس المقترح من 60 عضوًا، 15 من المصريين، و5 من العثمانيين (السوريين والأرمن وغيرهم) و40 من الأجانب فيهم 16 عضوًا "ينوبون عن الست عشرة دولة اللواتى لهن وكلاء سياسيون في القطر المصرى و24 عضوًا ينوب كل أربعة منهم عن أحد الست دول الأجنبية العظمى".

ولا شك أن قراء الأهرام في ذلك اليوم البعيد قد أدركوا من هذا الخبر أن "أعيان الثغر" الذين تقدموا بالاقتراح كانوا جمهرة من سكان الإسكندرية الأجانب، وكانوا كثرة في الميناء الكبير، والذين بدا طلبهم غريبًا.. أن ينشأ مجلس بدلى في مدينة مصرية لا يزيد عدد المصريين فيه على الربع، ويصل عدد الأوروبيين إلى الثلثين.

ونرى هذه البداية الغريبة هي التي أخرت قيام أول المجالس البلدية في مصر.. قومسيون بلدى الإسكندرية لنحو ثلاث سنوات حفلت بأسباب الصراع بين ممثلي الدول الأوروبية في القاهرة وبين الحكومة المصرية، فيما بدا أنه انتهاك آخر لاستقلال مصر، وهى قصة تابعها الأهرام كما لم تتابعها أية صحيفة مصرية أخرى، ولسبب بسيط ألا وهو هويته السكندرية، فقد كان من أبناء الثغر حتى ذلك الوقت!

ونعود لاقتراح أعيانة المدينة الذى تضمن المطالبة بمبلغ 38 ألف جنيه من الحكومة فضلا عن المبلغ الأصلى الذى كانت تدفعه من قبل "للتنوير والكنس والرش"، هذا غير ضريبة بلدية على السكان.

يكشف الاقتراح أيضًا عن وظيفة المجلس البلدى الجديد فيما ارتآه أعيان الثغر إياهم.. توزيع المياه والغاز وإنشاء الجنائن والطرق، والكنس والرش، إصلاح الشوارع والطرق تطهير المجارى والآبار.

في تلكؤ واضح استغرق أكثر من عامين وضعت الحكومة المصرية مشروعًا مضادًا لمشروع الجالية الأوروبية في الإسكندرية كان محل صراع شديد بينها وبين قناصل الدول في القاهرة في معركة دبلوماسية طريفة سجلها الأهرام خلال ربيع عام 1889.

مشروع الحكومة اختصر عدد أعضاء المجلس المقترح من ثمانين إلى ست وعشرين، ستة منهم بحكم مناصبهم من كبار موظفي المحافظة على رأسهم المحافظ نفسه، وستة تعينهم الحكومة، وثلاثة ينتخبهم أبناء الثغر، وثلاثة ينتخبهم تجار الصادرات ومثلهم لتجار الواردات، واثنان من أصحاب الأملاك.

في يوم 22 مارس، وفى دار القنصل العام الإيطالى، اجتمع حضرات القناصل الجنرالية وقرأوا مشروع الحكومة لبلدية الإسكندرية، وطلبوا عدة تعديلات، بعد ذلك بثلاث أيام تقدم القناصل الكبار، الإيطالى والفرنسى والإنجليزى والألمانى والنمسوى، إلى رياض باشا رئيس النظار بطلب التعديل الذى استهدف زيادة عدد الأجانب "لأن أصحاب الأملاك والمستحقين للانتخاب جلهم من أبناء البلاد ولا يكون للأجانب أغلبية إلا في أعضاء الصادرات والواردات".

جاءت تعديلات القناصل بوضع شروط محددة للناخبين، فيكون من أبناء المدينة دون النظر إلى "عنصرة"، الأهم من ذلك "اشتراط الحكومة على المنتخب ليحق له الانتخاب أن تكون أجرة أملاكه مقيدة في الدائرة البلدية بخمسة وسبعين جنيهًا على الأقل، وكان تعليق الأهرام على هذا الشرط معبرًا فقد قال أن هذه القيمة، يخرج بها كثيرون من أصحاب الأملاك لا سيما الوطنيون منهم عن دائرة الانتخاب".

وبعد اجتماعات متوالية بين القناصل وأعيان جالياتهم واتصالات محمومة بين الأولين وبين ممثلي الحكومة المصرية انتهى الأمر بالإذعان لمطالب ممثلي الدول الأمر الذى دعا الأهرام إلى أن يعرب عن أمانيه بتحديد قيمة أجر الأملاك المقيدة على الناخب بأربعين أو خمسين جنيهًا حتى يدخل الوطنيون دائرة الانتخاب، وإن كانت على الجانب الآخر قد عبرت عن رضائها مما تضمنه المشروع من قيود على أعضاء المجلس.. فقد حرموا من حق التقدم لمقاولات البلدية، ومنع إجراء أية أمور مهمة دون تصديق وزارة الداخلية "مما يضمن حقوق الخزينة وحقوق الأهالى".

مع ذلك فقد استمر المشروع محل أخذ ورد بين الحكومة المصرية وبين قناصل الدول حتى عرض على مجلس شورى القوانين في شكله النهائي في اليوم قبل الأخير من الثمانينيات 30 ديسمبر 1889 فصدق عليه بأغلبية الآراء، ومن أهم ما جاء فيه فضلا عن التشكيل، اختصاصات المجلس وكانت "النظر في مسائل فتح الشوارع وإقفالها أو صيانتها وحفظها وتحديد تعريفة أجر عربات النقل وأجر البهائم المعدة للركوب والحمل والنظر في مشروعات الطرق والتنظيم وجميع المصالح العمومية مثل التنوير والتبليط ونظافة الأسواق وأمر المدافن والسلخانات والحمامات والتياترات ومسائل الحريق والطلنبات وفى المسائل المتعلقة بمساعدة الفقراء والتكيات والمستشفيات والمكاتب وجميع المحلات البلدية الخيرية ثم النظر فيما يتعلق بصحة المدينة عمومًا وله حق الحكم في كل مشروع يختص ببناء مستجد".

في يوم 4 مارس نشر الاهرام إعلانًا إلى "أصحاب العقارات بثغر الإسكندرية وضواحيها المقيدين بالقائمة العمومية" أن يتوجهوا إلى البورصة الخديوية بعد يومين لانتخاب أعضاء "القومسيون البلدى تطبيقًا للمادة الثانية" من الأمر العالى.

لم يتوقف الأهرام في هذه المناسبة عن محاولاته فى توسيع قاعدة الناخبين، وبعد أن نفذ السهم ولم يعد أمام الصحيفة المطالبة بإنقاص النصاب المالى الذى يجب أن يتوفر لهؤلاء فإنه طالب بألا يقتصر هذ النصاب (75 جنيهًا) "على أجرة البيت الذى يقطنه بل يشكل المخزن والمعمل والحانوت إلخ فكثيرًا ما ترى أن زيدًا يدفع أجرة سكنه أقل من 7500 قرشًا ولكنه يدفع أجرة مخزن أو حانوت أو معمل أو مكان 100 جنيه أو 200 أو 300 فأكثر فكيف يحرم من أن يكون من هذا القبيل من حق الانتخاب"!

المهم انتهت الانتخابات على النحو الذى قرره الأمر العالى وبدأ أول "قومسيون بلدى" في تاريخ مصر الحديث أعماله، مما شكل صفحة فريدة ليس في تاريخ الإسكندرية فحسب بل في تاريخ البلديات في القطر، وهى صفحة تتبعها الأهرام بإمعان!

***

تكشف متابعة محاضر جلسات مجلس بلدى الإسكندرية خلال سنيه الأولى التي حرصت الصحيفة على أن تقدم ملخصًا وافيًا لها عن طبيعة الوظائف التي خولت لها أو خولها لنفسه، كما تكشف عن مدى الهيمنة الأوروبية عليه، وتكشف أخيرًا عن المحاولات المصرية للحد من هذه الهيمنة.

بالنسبة للوظائف فقد تنوعت بشكل واسع إلى حد تجاوزت معه كثيرًا منطوق "الدكريتو الخديوى"، وهو أمر منطقى، فعلى الطبيعة تختلف الأمور كثيرًا عما هو مكتوب على الورق.

شغلت لأحوال الصحية أغلب اهتمام المجلس، وكانت البداية طريقة فقد سارعت مصلحة لصحة، والتي كانت تتبع حتى ذلك الوقت وزارة الداخلية، بمحاولة نقل أغلب مؤسساتها "للقومسيون" الذى لم تتوافر لديه القدرة المالية على إدارتها، فبينما وافق على تسلم "مصلحة الكنس والرش" فإنه لم يقبل إدارة مستشفى الإسكندرية وإن كان قد وافق على الإشراف على "مكتب الكشف" التابع لها.

انصرف جانب كبير من اهتمام المجلس إلى تطيف الحوارى والشوارع ففضلا عن غسلها بالمياه مما كان يتم بشكل دورى فإنه قد أصدر لائحة نصت على ما يتوجب على السكان من التزام بشروط النظافة، وهى لائحة طريفة نشرها الأهرام في عدده الصادر يوم 18 ديسمبر 1891.

نصت اللائحة على وضع "جميع الأقذار والكناسة والأوساخ ما بين الفجر والساعة الثامنة صباحًا في أوعية لائقة بالقرب من التوترات (الأرصفة)"، منعت أيضًا "تنفيض السجاجيد أو الأبسطة والأغطية وغيرها من الأبواب والشبابيك أو البلكونات المطلة على الشارع العمومى"، وحظرت في نفس الوقت "سقى المزهريات وصناديق الزهور الموجودة على البلكونات والشبابيك فتصب منها على الشارع العمومى وممنوع أيضًا تصفية المياه المستعملة لغسل الشبابيك والبلكونات على الطرق والأرصفة"، وتضمنت المادة الأخيرة من اللائحة قدر الغرامة المفروضة على كل من يخالف تلك التعليمات، وكانت الغرامة من 5 إلى 25 قرشًا!

الاهتمام بالطرف احتل المكانة الثانية ضمن شواغل القومسيون ولعل هذه الفقرة من أحد محاضر المجلس تنم على حجم هذا الاهتمام.. جاء فيها "تقرر انفاق 800 جنيه لإصلاح الشارع المؤدى من الباب الشرقى إلى الرمل ورصه بالحصى و1036 جنيهًا لشراء هراس لإصلاح لطرقات و3600 جنيه لعمل شارع يصل بين القبارى والمجزر في المكس" ونظن أن بلدية الإسكندرية كانت أول من اشترى "هراسًا" لتسوية الطرق!

يأتي بعد ذلك في الدائرة اهتمام القومسيون الانشاءات الجديدة في المدينة.. مكتبة، متحف، حدائق.

ومكتبة بلدية الإسكندرية التي اكتسبت شهرة تضارع الكتبخانة الخديوية في العاصمة بدأ إنشاؤها خلال السنوات الأولى من عمر القومسيون مما تكشف عنه بعض أخبار الأهرام.. فهذا خبر تضمنه أحد أعداد عام 1891 جاء فيه أنه بناء على طلب المجلس ستجمع نظارة الأشغال بعض الآثار والكتب المتفرقة وترسلها إليه لإنشاء متحف ومكتبة وهذا خبر آخر في أحد أعداد عام 1895 جاء فيه أن المجلس قرر "شكر الذين أهدوا كتبًا إلى مكتبة الثغر" مما يعنى أن المكتبة كانت قد قامت على قدميها خلال تلك السنوات القليلة.

بيد أن الهيمنة الأوروبية على المجلس قد خلفت بصمة سلبية على مسيرته سواء فيما بدا في اعتماد الفرنسية باعتبارها لغته الأساسية أو بصرف أغلب اهتماماته إلى الأحياء التي تقطنها كثرة من الأوروبيين أو غلبة الأجانب بين موظفيه.

غلبة الفرنسية كانت مثار تبرم الأعضاء المصريين في المجلس الذين طالبوا في البداية بطبع محاضر الجلسات باللغة العربية وهو ما لم يتم رغم موافقة الأعضاء الأجانب الأمر الذى دعا إلى أن يطرحوا القضية في الأهرام التي طالبت في عددها الصادر في 11 بريل عام 1891 على لسان هؤلاء بن تتم "المذاكرة في المجلس باللغتين العربية والفرنسية" ولا يكتفى بمجرد الترجمة.

صرف اهتمام المجلس إلى الأحياء الأجنبية بدًا في تلك العناية الخاصة التي أولاها إلى الرمل وفى الإهمال الظاهر لإحياء الفقراء وكان غالبيتها من المصريين والذى سجله الأهرام بعد قيام المجلس بشهور حين أقدم المجلس على إجراء سد المحمودية في منطقة أدت "إلى تحمل الفقراء أثمان المياه ولا حنفيات في تلك الجهة"!

أما غلبة الأجانب فتبدو في ذلك الإعلان الطريف عن إحدى وظائف المجلس والذى اشترط أن يجيد المتقدم اللغة العربية، أما إذا عين في الوظيفة ولم يجيدها بعد فقد منح مهلة لإجادتها، ويدل هذا الإعلان على أن من أصدروه قد افترضوا أن يكون صاحب الوظيفة أجنبيًا وبشكل بديهى!

وقد أدت تلك الهيمنة إلى أزمة كبيرة عام 1895 عندما استقال الأعضاء الوطنيون في القومسيون الذين لم يزد عددهم على سبعة، واحد فقط من بين المنتخبين هو محمد بك العدل والستة الذين تقوم الحكومة بتعيينهم، الأمر الذى طرح القضية على صفحات الجرائد.

نبهت الأهرام إلى أسباب ذلك وكيف أن القانون الذى قضى بقصر حق الانتخاب على من يسكن منزلا يدفع أجرته 75 جنيهًا في السنة على الأقل قد أدى ألا يزيد عدد الناخبين من المصريين على 70 مع أن عددهم في الثغر يصل إلى ربع مليون وأن يصل عدد الناخبين الأوروبيين إلى 700 رغم أن عددهم لا يزيد على 60 ألفًا.

وقد احتدمت الأزمة فبينما رفع بعض الأعضاء المستقلين دعوى على المجلس سرت فكرة في بعض الدوائر الحكومية بإلغائه كلية غير أن الأمر انتهى إلى أن سارع بعض الوطنيين والسوريين إلى تسجيل أسمائهم في لائحة الناخبين وبلغ عددهم المائة فوق السبعين المقيدين أصلا وجرت الانتخابات لتشكيل المجلس الجديد في فبراير 1896 وقد آمل المصريون خيرًا غير أن النتائج جاءت مخيبة للآمال فقد فاز "الخواجات بناكى وبادوا وساردى وزورو وفروجيه وفردريك" وكان على المصريين الانتظار طويلا لتخليص القومسيون من هؤلاء "الخواجات".

***

بصرف النظر عن ذلك الصراع الذى ظل محتدمً بين المصريين والأجانب في مجلس بلدى الإسكندرية فالبادى أن الخدمات التي نجح في تقديمها لسكان الثغر قد أغرت أبناء سائر المدن المصرية الكبيرة على المطالبة بتعميم التجربة فيما بدا في تعليقات مكاتبى الأهرام في تلك المدن أو في كتابات مدير تحريره، وكان مكاتب دمنهور الأكثر إلحاحًا في هذا الميدان وإن كان أكثر ما عنى به هؤلاء ما سوف تقوم به المجالس المقترحة من "ردم البرك والمستنقعات والكنس والرش وإصلاح الشوارع".

بيد أن أول مجلس ظهر بعد الإسكندرية لم ينشأ في أي من المدن الإقليمية وإنما تأسس في الضاحية المصرية الشهيرة "حلوان" ويمكن أن يعزى ذلك إلى طبيعة سكانها الذين تشكلوا في الأساس من شريحة الأعيان، فضلا عن جمهرة من الأوروبيين.

ففي 24 مارس 1891 اجتمع أصحاب الأملاك في حلوان واقترعوا على تشكيل مجلس بلدى منهم وبعد توجيه الدعوة لملاك آخرين اجتمعوا بعد ثلاثة أيام ليكونوا "قومسيون مدينة حلوان" وقرروا أن ينوب عنهم سالم باشا سالم ومحمود باشا فهمى لإعداد خطاب يرفع إلى رئيس مجلس النظار يشتمل على الغرض المقصود من تشكيل القومسيون المذكور.

وبعد أن حصلوا على الموافقة المبدئية لرياض باشا وضعوا القانون النظامى للمجلس الجديد وساروا قدمًا في إتمام هيكلة، ومع وجود العنصر الأوروبى في قومسيون حلوان فإن الملاحظ أنه على غير الحال في الإسكندرية جاءت الغلبة للمصريين.

وعرفت بقية التسعينيات انتشار القومسيونات البلدية في سائر المدن المصرية حتى أنه لم ينته ذلك العقد إلا وكان هناك مجلس بلدى في كل مدينة كبيرة على خارجة القطر.

في الموانى كانت هناك دمياط والسويس، في الوجه البحرى انتشرت في طنطا ودمنهور وشبين الكوم وبنها والمنصورة وزفتى وميت غمر والزقازيق والمحلة، وفى الصعيد أقام أهالى بنى سويف والمنيا وقنا بلدياتهم.

أول ما يلاحظ في هذه المجالس أن المبادرة بمطالبتها والمثابرة عليها حتى تتم استجابة الأجهزة الحكومية كانت تأتى من أهالى المدينة وعلى وجه الخصوص وجهاءهم، وكانوا هم أنفسهم الذين شكلوا المجالس الجديدة التي نجحوا في إقامتها.

وقد اعتمد هؤلاء في طلباتهم على ما تحظى به مدنهم من أهمية فوجهاء طنطا يتحدثون عن "أهمية مركزها ووفرة سكانها"، وهو ما فعله الآخرون بالضبط في المنصورة والمحلة والمنيا.

الملاحظة الثانية: حفلت مجالس البلديات بأسماء أعيان البنادر حتى أنه يمكن التعرف على أغلب الأسر الكبيرة في الأقاليم من خلال استعراض تلك الأسماء.. في دمياط: السيد بك اللوزى وعبد السلام بك خفاجى وحسين بك البكرى وحسن بك الفوال، في بنى سويف: أحمد بك زعزوع وعريان بك برسوم وأحمد أفندى وهبة وشاكر أفندى القمراوى، في بنها الشيخ بيومى عصفور والخواجة إبراهيم فرحات وتكلة أفندى سليمان والشيخ أحمد حمزة، في قنا: السيد محمد محمد مصطفى سر تجار البندر والشيخ محمد عمر وشاحى وأحمد أغا عبده والخواجة بشاى عبيد.

الملاحظة الثالثة: خاصة بالشروط التي كان مطلوبًا توافرها في الناخبين والتي دلت على حالة الاملاق التي كان يعانى منها سكان الأقاليم مما دلت عليه تجربة دمياط وبنى سويف.. ففي الأولى عندما اشترط ألا يقل النصاب الذى يدفعه لناخب عن خمسة جنيهات كإيجار لسكنه لم يتوافر إلا سبعة أشخاص مما دعا إلى تخفيضه إلى جنيهين وهو ما أخذ به المجلس البلدى للثانية!

ملاحظة أخيرة أن نشاط تلك المجالس قد اقتصر على أمور النظافة والصحة وتبليط الشوارع وقلما جاء في أخبارها التي كانت تحرص الأهرام على نشرها أية مشروعات إنشائية مثل تلك التي كان يقوم بها القومسيون الأم.. مجلس بلدى الإسكندرية.

وحتى تلك الأعمال التي كان يشوبها فيما يبدو كثير من مظاهر القصور، والتي تعزى في تقديرنا إلى حداثة المصريين في أعمل الخدمة العامة، مما كان مثارًا لشكاوى عديدة وجدت طريقها إلى صفحات الأهرام.

مكاتب المحلة يحمل شكوى سكانها من أعمال مجلسها في فتح "شارع الحلقة المؤدى إلى سوق السلطان" ومكاتب بنها ينعى على المجلس إهمال "منس ورش الشوارع والحوارى خصوصًا الشارع الموصل إلى الكوبرى وإتمام مصابيح الشوارع"، وسكان المنيا يشكون على لسان الأهرام من "قذارة الحوارى وتراكم الأوساخ فيها وعدم كنسها ورشها ولم يصغ مجلسنا البلدى إلى ندائنا"(!) أما سكان قنا فقد أعربوا عن شكواهم بأنهم لا يرون "أهمية ولا مزية لتأليف مجلس بلدى في بندرنا، أما مجلس بلدى زفتى فقد تعرض أمينه لحملة عنيفة "لبخله بالنفقات وتفتيره بها كان الحكومة عينت هذه النفقات وأوعزت لحضرته أن يبخل بها جهده ولا يخرج منها درهمًا إلا على الرغم منه".

ولم تنصرف انتقادات الأهرام إلى أعمال المجلس فحسب بل طالت في أخبار كثيرة أعمال الأهالى يذكر منها انتقادهم لما ترتب على إقامة المجلس للأرصفة في طنطا من إسراع أرباب الحوانيت في "إقامة الدكك وقدور الفول وعربات الأحذية والفسيخ وغير ذلك من الأدوية الفارغة" مما يبدو معه وكأن لا جديد تحت شمس أرض الكنانة!


صورة من المقال: