ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 26 يناير 2021

113 الإنجليز يبيعون مصر

الإنجليز يبيعون مصر

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 11 يناير 1996م - 20 شعبان 1416هـ


في يوم الخميس 18 فبراير 1898 وقف "حضرة الوجيه حسن بك مدكور" في الجمعية العمومية، أحد المجلسين الشوريين في مصر وقتئذ، يقترح "على رصفائه أن يكتب إلى الحكومة بأنها إذا راعت العدل والمصلحة العامة فعليها بعد الآن أن لا تبيع شيئًا من ممتلكاتها المنقولة وغير المنقولة إلا بطريقة المزايدة وبعد الإعلان عنها في الجريدة الرسمية".

علقت الأهرام على المناقشة التي جرت في الجمعية بعدئذ حين اعترض عدد من الممالئين للوزارة على الاقتراح بدعوى أنه يفضى إلى "تألم الحكومة" ودعمت موقف مدكور بك متسائلة "كيف يسوغ لحكومة أن تؤلم أمة كاملة بمسها اللطيف الشديد الثائر من عواطفها ولا يجوز للأمة أن تصبح صيحة الأسف وتقول للذين ساروا على طريق العسف أنهم أتوا نكرًا".

وناقشت الصحيفة الأسباب التي دعت عضو الجمعية العمومية إلى طرح القضية على هذا النحو الذى اعتبره معاصروه ساخنًا..

كان أول ما قدمته من أسباب أن من مهام المجالس الشورية "تقييد الحكومات معنويًا أو حسيًا عن إتيان بعض أمور لا توافق مصلحة الأمة. فهل أشارت الجمعية أنها مستاءة بالنيابة عن منتخبيها لتتبصر الحكومة في مثل هذا الأمر إذا بدا لها العود إليه فيما بعد!؟

السبب الثانى ما كان قد حدث في تفتيش بسنديلة ونترك الكلام مرة أخرى للأهرام التي قالت أنه "منح ذات يوم لشركة محببة إلى الحكومة وبعض أربابها من أولياء الأمر أنفسهم وكان ذلك بدعوى أن الشيطان أنسى في خلال جلسة النظار العضو العامل الناطق فيه أن يذكر زيادة جسيمة عرضتها شركة وطنية فكان البيع صفقة غبن لهذه البقرة الحلوب التي تدعى مصر"!

وكانت الجريدة قبل أربع سنوات بالضبط (1894) قد تابعت المعركة الكبيرة التي دارت حول هذا التفتيش والتي قدمت نموذجًا لبيع مصر فيما جرى على نطاق واسع بعد ذلك، وهى قصة تستحق المتابعة من خلال إعداد الصحيفة العتيدة.

***

"نهب مصر" عنوان اتخذه أكثر من مؤلف أوروبى توصيفًا للسياسات البريطانية في مصر خلال الفترة التي أعقبت الاحتلال (1882) وحتى قيام الحرب العالمية الأولى (1914)، وقد انصرفت تلك المؤلفات بالأساس إلى تتبع دور الشركات الإنجليزية في امتلاك الأراضى الزراعية والسيطرة على الجهاز المالى في البلاد، غير أنها في ذلك أغفلت أمرين..

الأول: أن عملية النهب لم تكن بتلك السهولة التي تصورها هذه الكتابات التي تعاملت معها من منظور اقتصادى دون أن تقترب كثيرًا من الجانب الإنسانى، وكان مفعمًا بأسباب الشد والجذب!

الثانى: أن تلك العملية قد امتدت إلى ما هو أبعد كثيرًا من الأراضى الزراعية أو الجهاز المالى الذى كان فعلا في أيد أجنبية حتى قبل الاحتلال، فقد كانت آلياتها تسعى إلى أن تطول المرافق العامة التي استمرت منذ نشأتها في قبضة الدولة الحديثة، ومنذ أوائل القرن ملكية حكومية بدءًا بالسكك الحديدية ووصولا إلى شركات البواخر.

ونبدأ بالأراضى الزراعية.. وبالجانب الاقتصادى الذى يفتقر إلى البعد الإنسانى، والذى يعلمه الدارسون.

فالمعلوم أن الأملاك الشخصية للخديو إسماعيل، والتي كانت تعرف بالدائرة السنية، وكانت تبلغ ما يقرب من نصف مليون فدان (434.975)، ثم رهنها ضمانًا لقرض يقترب من التسعة ملايين جنيه، وقد وضعت تلك الأطيان إدارة خاصة وفقًا لقانون التصفية الصادر عام 1880 لتتلوى سداد أقساط الدين من ريعها.

المعلوم أيضًا أن أراضى العائلة الخديوية والمعروفة باسم أطيان الدومين والبالغة أكثر من 400 ألف فدان قد رهنها إسماعيل بدوره ضمانًا لقرض من بيت روتشيلد قدره ثمانية ونصف مليون جنيه، وأسندت إدارة تلك الأراضى للجنة تتولى سداد أقساط الدين من ريعها، وأذنت لها الحكومة المصرية ببيع تلك الأطيان واستخدام إيرادات البيع في استهلاك جزء من القرض.

استمر الحال على ذلك حتى عام 1898 حين دعت الحاجة إلى المال والتي أوجدها تزايد النفقات المطلوبة لتمويل حملة استرداد السودان إلى البدء في بيع تلك الأطيان سواء في الدائرة السنة أو الدومين.

وبامتداد تلك الفترة بين عامي 1882 و1898 استمرت تجرى عمليات جس النبض من جانب رجال الاحتلال لردود الفعل المتوقعة عند المصريين لبيع تلك الأراضى لأصحاب المصالح الإنجليزية، كان أهمها ما جرى بين عامي 1892، 1894 حول "تفتيش بسنديلة" والذى تحول إلى معركة عنيفة سجلتها الأهرام باهتمام شديد.

بدأت المعركة بعد التقرير السنوي عن مصر الذى وضعه المعتمد البريطاني في القاهرة، وقد حفل بالانتقاد للجنة المسئولة عن أطيان الدومين، سواء بسبب عدم إقبال الفلاحين على تأجيرها أو بسبب عزوف القادرين عن شراء بعضها على نحو يمكن معه الوفاء بالتزاماتها تجاه "بيت روتشيلد".

وكأنما جاء هذا الانتقاد كإشارة بدء لتلبية المطالب الإنجليزية، فمع أن المسئولين عن الدومين فسروا هذا العزوف بالمغالاة في التقدير سواء للإيجار أو البيع، إلا أنهم لم يعالجوا الوجه الأول من وجوهها، فقد كان يستفيد بالتخفيض فيه المصريون، ولم يكونوا هم المقصودون، وجاء قرارهم فاضحًا للنوايا الجديدة "بتنزيل نحو أربعين في الماية من قيمة تثمين الأراضى الحالي"، وقد علقت الأهرام على ذلك بأنه من المرجح أن يقبل الخواجات روتشيلد بذلك التنزيل "إذ ليس من خسارة فيه عليهم"، وقبلوه فقد وفر لهم القسط السنوي البالغ ثلاثمائة ألف جنيه، غير أن المعركة لم تدر حول هذا النحو.

المعركة كانت حول أول التفاتيش التي عرضت للبيع بعد التخفيض.. تفتيش بسنديلة، وحدثت نتيجة لتدخل عنصر لم يكن يتوقعه المتواطئون على بيع مصر، فقد أغرى الثمن المنخفض عددًا من ملاك الأراضى الزراعية من المصريين على تكوين شركة ودخلوا في مزاد بسنديلة.

ويستفاد من جملة الأخبار والتعليقات التي ساقتها الصحيفة أنه بينما تشكلت شركة من الماليين الأجانب هي شركة رى البحيرة، فقد تكونت شركة "الوجهاء المصريين" اختارت عبده بك البابلى ناطقًا باسمها، ويبدو أنها لم تختر اسمًا على الفور حتى أن الأهرام كانت تسميها "الشركة البابلية"، وإن كنا قد عرفنا من رجالها حسن بك مدكور عضو الجمعية العمومية السابق الإشارة إليه في مستهل هذا الموضوع.

يستفاد أيضًا ان المستشار المالى الإنجليزى قد مارس ضغوطًا شديدة على البابلى بك تراوحت بين التهديد والإغراء، وقد خضع الرجل أخيرًا للإغراء وقبل باسم زملائه بالبديل فيما ورد في خبر للأهرام يوم 10 مايو عام 1894، وقد جاء فيه "وردنا من مصر أن الوساطة التي استخدمها المستشار المالى (السير بالمر) لدى عبده بك البابلى ليسحب طلبه عن بسنديلة ويرضى بتفتيش بلقاس التابع للدومين بدلا عنه قد أفلح وتعهد البابلى بك كتابة بذلك"!

يستفاد ثالثًا أن الحكومة المصرية على رأسها الخديو عباس الثانى نفسه كانت ميالة في المعركة إلى صف الشركة الوطنية، عبرت الأهرام عن ذلك بتعليق جاء فيه "يثنى الوطنيون على دولتلو نوبار باشا لأخذه بناصر رجالهم في المناضلات التي جرت بشأن تفتيش بسنديلة، وقد أجمعت الجرائد على ذكر هذا الفضل الذى أثبت أن دولته يفضل مصلحة البلاد على كل مصلحة".

ويمكن تقسيم موقف نوبار باشا على ضوء جملة من الحقائق.. منها اتجاه الخديو المؤيد للشركة البابلية ولم يكن ثمة سبب قوى أمام النظارة يدفعها إلى اتخاذ موقف مضاد من ذلك الاتجاه، ومنها أن الرجل نفسه كان ينتمى إلى القوى الاجتماعية ذاتها التي ينتمى لها رجال الشركة الوطنية، وجماعة الأعيان أو كبار ملاك الأراضى الزراعية حديثة التكوين، والتي ارتأت في دخول رأس المال الأجنبي ميدان ملكية الأطيان سيضعها أمام منافس قوى كانت تفضل لو تخلصت منها، ومنها أخيرًا ن الموقف الإنجليزى نفسه في هذه القضية لم يكن قويًا بدرجة كافية الأمر الذى دفع السير بالمر إلى تقديم الإغراءات للبابلى عن طلبه لتفتيش بسنديلة.

وتكشف الأهرام عن سبب ضعف موقف المحتلين في القضية من الأخبار التي كانت تنقلها عن الصحف الفرنسية التي تابعت تفاصيلها على نحو ملحوظ مختار منها ما نقلته عن جريدة الديبا..

وصف فيه مكاتب الصحيفة الفرنسية في العاصمة المصرية ما جرى بأنه "كاد أن ينتهى إلى أزمة وزارية" وامتدح "نهضة الرأي العام المصرى في هذه الفرصة على الإنكليز نهضة وجهت بتمامها نحوهم دون مس الوزارة ولا رئيسها في شيء لنزاهتها وحزمها في هذا الأمر" وخلص إلى القول أن "هذه المسألة الخطيرة تعد خطوة عظيمة في سبيل النهضة المصرية وشاهدًا جديدًا على أن البلاد هبت من رقدتها، فإن الفكرة بتأليف الشركات يمتد يومً عن يوم وقد تشكلت في القطر جمعيات خيرية ولجان لإنشاء المدارس وأنشئ ناد وطنى مما يدل على أن قوى البلاد تتجدد على غير سرور الإنجليز ورضاهم".

بيد أن حماس الجميع قد انطفأ بعد قبول البابلى بك بالتعويض في تفتيش بلقاس مما عرضه لانتقادات شديدة من الأهرام، فقد قرعته في تعليق لها ذكرت فيه أنه "لو لم يتنازل لكان للشركة الوطنية أعظم رجاء بالفوز في مطالبها العادلة"، ورفضت محاولته بالتنصل من التعبة "فهى ثابتة عليه" وارتأت أنه خذل المصريين جميعًا وليس أعضاء الشركة الذين اتخذوه مندوبًا لهم.

بالمقابل فإن جملة الأخبار التي قدمتها الصحيفة بعد ذلك تشير إلى أن شركة رى البحيرة قد اعتبرت انتصارها في معركة بسنديلة بمثابة إشارة البدء بالاستيلاء على ما تستطيع مع أطيان مصر..

خبر في 17 يونية أن "شركة بسنديلة عازمة على شراء تفتيش رأس الخليج من سعادتلو بوغوص باشا وتفتيش بلقاس من مصلحة الدومين وسواه من تفاتيش المصلحة"، خبر آخر بعد ذلك بأقل من شهر أن نفس الشركة اتفقت مع إدارة الأموال الأميرية الحرة "على أن تبيعها 160 ألف فدان بجهات البرلس وثمنها الفدان 12 قرشًا"(!)، وثالث بعد أسابيع قليلة أن الشركة إياها تنوى شراء الأراضى المجاورة في الكوم الأخضر وبلطيم وتوابعها بحيث تملك 400.000 فدان، بكل ما صحب ذلك من هجمة شرسة في وليمة "بيع مصر" لم تكن الأطيان فيها الضجة الوحيدة.

***

رغم كل ما جرى خلال النصف الأول من التسعينات فقد كان عام 1898 هو عام البيع الكبير، الأمر الذى دعا الأهرام إلى وصفه بأنه "عام شؤم وشقاء وبلاء عسكرت في فنائه جيوش المصائب وحلقت في سمائه قشاعم النواب"!

بدأ العام ببيع "شركة البواخر الخديوية"، وإذا كان المصريون قد استمروا ينظرون للأرض باعتبارها مرادفًا للعرض، فإن الشركة الخديوية فتئت رمزًا للسيادة المصرية، فهى التي حملت طوال الوقت الراية الوطنية إلى سائر أنحاء المعمورة، مما ظل يحسب للخديو الأشهر إسماعيل باعتبارهم من أهم منجزاته.

وفكرة بيع الشركة بدأت في سنة أولى احتلال، وعلى وجه التحديد عام 1883 ضمن مقترحات اللورد دفرين في تقريره المعروف، على اعتبار أن هذا البيع كفيل بتسديد بعض ديون مصر.

رغم ذلك تطلب الأمر خمسة عشر عامًا لوضع المقترح موضع التنفيذ تحسبًا للمعارضة الوطنية لهذا البيع، وهى المعارضة التي لم تخمد مع طول الزمن مما يتأكد من موقف الصحف المصرية من هذا البيع والذى عبرت عنه الأهرام.

ورد أول أخبار البيع الحزين في عدد الصحيفة الصادر في 24 يناير من عام "الشؤم والشقاء"، وجاء فيه "عملنا عن ثقة أن نظارة المالية تطلب 150 ألف جنيه عن ثمن البواخر الخديوية وتوابعها كلها وتشترط بنا حوض جديد لتنظيف البواخر يكلف 80 ألف جنيه"، وجاء تعليق الأهرام قصيرًا.. قالت "يعتبر هذا البيع غبنًا فاحشًا"، وكان مجرد بداية لحملة عنيفة كانت تتصاعد حدتها كلما مضى مستشار المالية قدمًا في بيع "رمز مصري"!

في اليوم التالى مباشرة لنشر الخبر، بدأت الحملة بتعليق طويل استعرضت فيه الأهرام آراء الجرائد التي تصدر في مصر على اختلاف لغاتها ونزعاتها التي أجمعت "على استهجان الأمر والتنديد بالحكومة التي تريد أن تحرم البلاد بواخرها وأحواضها لتنتفع بها شركة إنكليزية بل الحكومة الإنكليزية نفسها".

وتتنبأ الجريدة بأنها إذا أصبحت أحواض الموانئ المصرية إنجليزية فلن يبقى بين الشركة والحكومة كلفة وأى فرق بين أن تدخلها بواخر الشركة ومدرعات الحكومة الضخمة".

وانتهت الأهرام بمناشدة ذمة وضمير الحكومة بالنكوص عن هذا العمل "ولا فلتتق وخز الضمير وسخط الوطن"، ولكن الأمر كان فوق طاقة مصطفى فهمى، بل فوق طاقة أية حكومة قائمة، فقد كان القرار إنجليزيًا.

فلم يمض سوى يومين على الحملة الأهرامية إلا وصدرت الجريدة سودت عناوينها بالقول "قضى الأمر، فقد بيعت البواخر الخديوية لشركة زعيمها المستر الدرسون بالثمن الذى ذكرناه قبلا وقدره 150 ألف جنيه" وعلقت بالقول أن الثمن الذى به البواخر الخديوية "أبخس مما كان يتصوره الفكر"!

بعد نحو أسبوع وجهت الصحيفة ثلاثة أسئلة محددة للحكومة المصرية تدور كلها حول صفقة بيع البواخر.. الأول: هل تكون الشركة الجديدة شركة مصرية أم لا؟، الثانى: أي علم سيخفق على هذه البواخر ومحلات إدارتها وحوضها وسائر توابعها؟، الأخير هل من حق الشركة أن تتنازل لأية حكومة أجنبية عن البواخر وسائر ما اشترته من الحكومة؟

ومع أن الأهرام أنهت تساؤلاتها بالقول بأنه "لا يوجد في القطر وطنى ولا أجنبى إلا وهو يتساءل عن هذه الأمور"، إلا أنه كان عليها أن تنتظر طويلا الرد والذى لم يأت أبدًا، بالعكس الذى أتى مزيد من البيع انشغل به المصريون وانشغلت به الصحيفة.

ففي ذات وقت بيع البواخر الخديوية أعلنت المالية عن مزاد بيع تفتيش وادى الطميلات الذى كان قد أوقفه الخديو إسماعيل للاتفاق على "نظارة المعارف"، وكان معنى ذلك أن الخطة الاحتلالية لبيع مصر قد وصلت إلى أراضى الأوقاف فيما ارتأته الأهرام "مقدمة لبيع أوقاف غيره بدون التفات إلى الشرع الذى يجب احترامه".

وكان للصحيفة الحق في أن تفصح عن استرابتها أن تفتيش الوادى سيباع بما يقار الشروط المجحفة التي بيعت بها البواخر "وسيلحقنا منها غبن كبير وأشد ما تتأثر من غبنه المعارف" وأسباب عددها مكاتب الجريدة في العاصمة..

منها أن التفتيش لو أحسنت إدارته "لأتى بضعف إيراده الحالي على الأقل"، ومنها أنه رغم تعهد المالية بأن تؤدى لنظارة المعارف قيمة ما كان يردها من هذا التفتيش فإنها "تحرمها الزيادة التي كانت تنتظر لها من ذلك الإيراد"، ومنها أخيرا أنه لو استمرت الدواعى التي أدت إلى بيع التفتيش.. بإطالة حرب السودان فإن المالية لن تقوى على دفع العوض للمعارف" وهذه إحدى الخسائر التي نجمت عن الحملة السودانية".

وقبل أن يفيق المصريون من بيع البواخر الخديوية وتفيش الوادى فوجئوا بأن حمى البيع قد وصلت إلى أطيان الدائرة السنية التي كان ريعاه مخصصًا لسداد الدين، ففي عدد الأهرام الصادر يوم 3 مايو من العام إياه أشارت الصحيفة إلى اجتماع لمجلس النظار بوضع خطة لبيع أراضى الدائرة المذكورة "أطيانًا وعقارات أو معامل وغيرها إلى شركة فرنسوية إنكليزية مصرية وقد سافر جناب المسيو سوارس إلى أوروبا لمقابلة الممولين لشراء ثلثمائة وأربعة آلاف قدان أرض جيدة كلها في الصعيد وتسع فبريقات أنفق عليها أموال طائلة و160 وابورًا".

أضافت الأهرام إلى أن الثمن المعروض "يبلغ قيمة دين الدائرة تمامًا"، وأن العملية تسير على قدم وساق!

بقى بعد كل ذلك التفكير في بيع الموافق العامة على رأسها السكك الحديدية التي بقيت منذ نشأتها مشروعًا حكوميًا، وهو تفكير عبرت عنه الأهرام في عددها الصادر يوم 25 فبراير عام 1898 في مقال تحت عنوان "بيع الحكومة لشركة إنكليزية الخطوط الحديدية المصرية. وقد أسس صاحب المقال ما جاء فيه على ما تردد في بعض الدوائر العليا من أن "شركة إنكليزية جسيمة الأموال سوف تمنح التزام الخطوط الحديدية المصرية". غير أن الأهرام أعربت عن شكوكها حول الخبر لأن "الحكومة قد كفت عن أمثال هذه الصفقات الخاسرة مخافة أن يصح ما يقال من أنها تبيع القطر للممولين الإنكليز قطعة قطعة"، ولم يكن هذا هو السبب الحقيقى في النكوص عن المشروع.

فمن ناحية كان الإنجليز، وحتى قبل الاحتلال، القوة المهيمنة على المرفق الحيوى من خلال كبار الموظفين الذين بثوا في مختلف إداراته، ومن ناحية أخرى فقد استمرت السكك الحديدية تشكل عبئًا على الخزينة المصرية، لم تكن أية شكرة إنكليزية مستعدة ن تتحمله، ولعل ذلك ما دعا إلى اختفاء الأخبار عن بيع سكك حديد مصر بعد ذلك من صفحات الأهرام، وإن حل محلها مسعى محموم لبيع خط حديد قنا أسوان، ثم بعد ذلك خط حديد السودان الذى مدته حملة الاسترداد في المنطقة بين حلفا والخرطوم.

غير أن هذا المسعى اقترن أكثر بمشروع سيسل - رودس المشهور بمد شريط المستعمرات البريطانية في أفريقيا بطول القارة.. من القاهرة إلى الكاب، وهو ما فطنت إليه الأهرام وهى تسوق أخبار ذلك المسعى.. قالت: "ثبت أن المحتلين بما يسألونه من مبيع سكة حديد السودان ضاغطين على حكومة مصر لا يقصدون إلا إنفاذ غرضهم المعروف من الذهاب إلى أوغندا، كما شرع في ذلك المستر سيسل رودس صديق الوزير تشمبرلين الذى حضر منذ سنتين إلى مصر لهذه الغاية"، وكانت هذه الصفقة محل استغراب الصحيفة التي علقت عليها بقولها "ولكن كل غريب جائز حصوله الآن، وقد أصبحت البلاد غنيمة من يغتنم ويجزل العطاء"، ولم تكن على أي الأحوال نهاية الغرائب في بيع الإنجليز لمصر!


صورة من المقال: