ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 26 يناير 2021

112 الجنسية: مصرى

الجنسية: مصرى
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 4 يناير 1996م - 13 شعبان 1426هـ

لا يشك أحد في أن مصر وطن شريف إن لم نقل أنها أشرف الأمكنة.. واسعة الرقعة طيبة البقعة كأن محاسن الدنيا عليها مفروشة وصورة الجنة فيها منقوشة.. موصوفة عند الجميع بالشجاعة، والحماسة والكياسة والرئاسة فضلا عن الذكاء والفطنة ولطافة العوائد والأخلاق..
كان هذا قليلا من كثير مما جاء في الباب الرابع لمؤلف رفاعة الطهطاوى الأخير، المرشد الأمين للبنات والبنين، الأمر الذى دعا الكثيرون إلى اعتبار الرجل صاحب المبادرة في إزالة الركام عن الوطنية المصرية، وهو الركام الذى ارتفع خلال القرون الثلاثة السابقة.. قرون انخراط مصر في عالم العثمنلى. ومعلوم أن المرشد الأمين صدر في نفس عام ظهور الأهرام.. عقد السبعينيات.
ولم تأت هذه المبادرة من فراغ، فمصر كانت قد اكتسبت خلال القرن التاسع عشر وضعًا سياسيًا متميزًا داخل العالم العثمنلى بعد الحروب التي خاضتها مع الباب العالى في ثلاثينياته، وهو الوضع الذى أقرته معاهدات دولية. معاهدة لندن عام 1840، وفرمانات سلطانية أشهرها الفرمان الصادر لمحمد على عام 1841، والفرمان الصادر لحفيده إسماعيل عام 1873.
وقد مر أكثر من نصف قرن - قليلا - بين هذه المبادرة وبين صدور قانون الجنسية عام 1929 والذى حدد بشكل قاطع ماهية المصرى، وهى فترة توقف خلالها قطار "الجامعة الوطنية Pan Nationalism" على محطات عديدة.
أشهر هذه المحطات التي يعرفها مؤرخو الحركة الوطنية ما يمكن أن نوصفه بمحطة أستاذ الجيل، أو محطة أحمد لطفى السيد، وهى المحطة التي وقف القطار فيها لنحو خمس سنوات (1907 - 1912) وأخرجت الرجل في نهاية الأمر من مكاه في رئاسة صحيفة من أشهر صحف العصر هي "الجريدة"، وإن كانت قد أدخلته التاريخ.
بدأت دعوة الرجل لتجسيد "الجامعة الوطنية" في واقع محسوس عندما طالب في العام الأول، 1907، في الجريدة بالاستقلال التام لمصر، ولما هاجمته الصحف ذات الهوية العثمانية وتراجع عن ذلك متعللا بأن ما طالب به هو "الأوتونومى Autonomy"، وليس "الإندبندانس Independence"، وأن الأول يعنى الاستقلال عن الأستانة ويبدو أن الأستاذ قد ندم على تراجعه فيما عبر عنه في مذكراته فيما بعد، ولعل ذلك ما دعاه إلى أن يخلع ثياب التهيب بعد أكثر من عامين قليلا، حدث خلالهما الانقلاب الدستورى في تركيا عام 1908، وكان في الوقت نفسه انقلابًا من جانب من قاموا على فكرة الجامعة العثمانية وانحيازًا للفكرة القومية، ولم يكن متوقعًا بعد أن فعلها الأتراك ألا يفعلها المصريون، وهو ما عبر عنه الرجل.
في هذه الظروف قام لطفى السيد بمحاولة مبكرة لتحديد ماهية الجامعة الوطنية بأنها "تتألف من المصريين الأصليين ومن عناصر أخرى جديدة من الأجانب الذين حلوا مصر على سبيل القرار وجعلوها موضع سعيهم فصارت محل ثروتهم وموطن حياتهم في الحال والاستقبال فأصبحوا بذلك مصريين، وأن يكون كل من على أرض مصر من العثمانيين والأجانب، أرباب الامتيازات، مصريين متساوين في الحقوق".
ومع الدهشة التي أخذت بتلابيب الباحثين من هذا الموقف من جانب الأستاذ بإدخال الحابل والنابل في إطار الجامعة المصرية، فإن تلاميذه الذين خلفوه في "الجريدة" بعد أن ترك رئاسة تحريره تقدموا عام 1914 بتعريف محدد "للجنسية المصرية"، وضعوا به من ينتمون إلى أصول تركية أو عربية أو قبطية على قد واحد، وذكرو أن التفريق بين هؤلاء "أضر ما يكون على القومية المصرية وأنه لو ظللنا نقول تركى وفلاح أو مصري عربى أو مصري قبطى لساعدنا الزمان على النيل منا"، ونبذ هذا التعريف العناصر الأوروبية أو الأجانب أرباب الامتيازات.
غير أنه مع هاتين المحطتين المعلومتين كنت هناك واحدة مجهولة توقف عندها قطار الجامعة الوطنية وإن لم يتوقف عندها الباحثون، وهى المحطة التي كشف عنها الأهرام عام 1898، وتكتسب في رأينا أهمية بالغة حسبما كشفت الجريدة مما يتطلب قراءة متأنية.
***
قبل القراءة ينبغي التذكير بالأصول الشامية لأصحاب الجريدة، سليم وبشارة تقلا، وهم مع حصولهم على امتياز الرعوية الفرنسية إلا أنهم اعتبروا أن ذلك لا يقلل من وطنيتهم ولا من عثمانيتهم، وأنهم لم يستخدموا هذا الامتياز إلا لصد "غوائل الاستبداد"، على حد تعبيرهم في مناسبات عديدة، ولم يتوقف الرجلان أو بشارة بعد وفاة أخيه عان 1891 عن اتخاذ المواقف المعادية لسياسات الاحتلال والهجوم على أنصاره حتى لو كانوا شوامًا مثلهم، فيما استمر ناشبًا من معارك صحفية بينهم وبين أصحاب جريدة المقطم الذين اختاروا الوقوف فى صف المحتلين.
ينبغي التذكير أيضًا أنهم كانوا وثيقى الصلة بالمجتمع الشامى في مصر، خاصة أولئكم الذين استوطنوا وتشابكت مصالحهم مع أهليها على نحو تقطعت معه أغلب الصلات بينهم وبين أوطانهم الأصلية، وكان على هؤلاء أن يبحثوا عن صيغة جديدة تكفل لهم الاستقرار النهائي في أرض الكنانة دونما تهديد.
ينبغي التذكير أخيرًا أن الشوام المهاجرين قد اشتغلوا بالتجارة وبالمهن الحرة.. محامين وأطباء وصحفيين، وأن نسبة منهم قد عملت في الوظائف لحكومية، وقد بدت بشائر المحطة من تضرر أبناء هذه الفئة الأخيرة، فيما جرى في مطلع التسعينيات.
بدأ ذلك في القضية التي تفجرت عام 1890 حول شروط "لجنة الامتحان المصرية"، التي كانت قد تشكلت لتعيين عدد من الموظفين في بعض الإدارات المصرية، وكان من بين هذه الشروط أن يكون المتقدم مصريًا مولودًا في مصر وألا يكون أجنبيًا أو يتمتع بحماية أجنبية، وكان معنى ذلك ببساطة فيما ارتأته شريحة المتطلعين إلى العمل بالحكومة من الشوام استبعادهم من التقدم للجنة، ولم تسكت الأهرام على ذلك.
وإذا كانت هذه القضية قد شدت اهتمام الأهرام فإنها قد جذبت في الوقت نفسه اهتمام صحف "دار السعادة (الأستانة) وسورية" على حد ما جاء في الجريدة، وكان الأمر مفهومًا من الصحف التركية لما يعنيه ذلك من مزيد من أسباب التمييز المصرى عن الدولة وهو ما كان ينفر منه طبعًا الباب العالى، ومفهومًا من الصحف السورية لما يحدثه هذا التمييز من إخراج الشوام الموجودين في مصر من زمرة أصحاب جنسيتها.
ومن ثم جاء هجوم الأهرام الشديد على ما قررته "لجنة الامتحان المصرية"، والذى تجسد في مقال كامل بعث به مكاتب العاصمة ونشرته الصحيفة في عددها الصادر يوم 28 أبريل عام 1890.
بعد أن استهجنت الأهرام على لسان مكاتبها شروط اللجنة اعتبرتها تفريقًا بين العناصر العثمانية وأن فعل ذلك "خيانة للوطن وخيانة للخلافة العظمى.. وأن ما كتبناه ضد الإجراءات المعلومة إن هو إلا صدى ما يكرره كل مصري صادق الوطنية العثمانية فالمصريون براء من أمثال هذه الإجراءات"!
ويثير الانتباه أن الحملة التي قادتها الأهرام ضد الشروط التي وضعتها "لجنة الامتحان المصرية"، وقد اتفقت وفى مرة من المرات القليلة جدًا، مع ممثل بريطانيا في مصر، السير ايفلين بيرنج، "الذى تداخل في هذه المسألة وقال بمعارضة تلك اللجنة"، مما رحبت به الجريدة.
لعل ذلك يدعو إلى محاولة إجلاء الموقف الاحتلالى من السعي المصرى للتميز عن الدولة العلية، وكان موقفًا ثابتًا منذ عام 1840، ويقوم على تشجيع هذا السعي في الحدود التي تحجم تدخل الباب العالى في الشئون المصرية حتى لا يعطل السياسات البريطانية حيالها، وإن كان لا يذهب في ذلك إلى حد الفصل.
وغير أنه يمكن هنا إضافة سبب آخر وهو أن السلطة الاستعمارية في مصر كانت تميل، وفى إدارات بعينها إلى توظيف غير المصريين من أبناء الدولة، وهى الإدارات التي كان الاحتلاليون يتوخون في اختياراتهم لها شروطًا من بينها ألا يكون من "أهل البلد" لأسباب ارتأهوها!
وذهبت الأهرام في حملتها على إخراج السوريين من الجنسية المصرية إلى حد القول أن "كل عثمانى له ما للمصرى والمصرى يتبع العثمانى والجزء يتبع الكل"، وحاولت في هذه المناسبة أن تضع شروطً لمن يحمل هذه الجنسية..
في هذا الصدد نبه الكاتب إلى أن الدولة "قد جعلت حدود الوطنية العثمانية عن كل غريب إقامة خمس سنوات فقط فالإنجليزى والفرنساوى والروسى والإيطالى وغيرهم يصير عثمانيًا (إذا راد) بتوطنه خمس سنوات كاملة في بلاد الدولة العثمانية"، بينما جاء تعريف المصرى أنه "العثمانى المولود في مصر والمتمصر هو العثمانى الذى يتخذ مصر موطنًا مدة خمسة عشر على ألا يكون في حماية دولة أجنبية".
وخلصت من هذا التنبيه الذى حمل في طياته مقارنة بين شروط التجنس المصرية والعثمانية إلى القول بأن حقوق البلدين السياسية والقضائية واحدة "لا يجزئها قرار الحكومة المصرية المحكى عنه.. وأن هذا القرار مخالف لقوانين الأمم عمومًا ولقوانين الدولة العثمانية خصوصًا" وأسست على هذا القول مطالبتها بأن تجعل حدود الوطنية المصرية خمس سنوات فقط "لتأليف القلوب وإجراء سنن العدل"!
ويبدو أن القضية استمرت مطروحة، تسخن أحيانًا وتبرد أحيانًا أخرى، بامتداد التسعينات، وقد بدت سخونتها فيما عمدت إليه الصحيفة بين الحين والآخر من تخصيص مقالها الافتتاحى لها، فيما حدث مرات عديدة نختار منها مقال العدد الصادر في 28 مايو عام 1892، والذى جاء تحت عنوان "الخدمة الوطنية".
بذل كاتب المقال أقصى جهد لإثبات العلاقة الحمية بين "المصرية" و"العثمانية" فهو يحاول في موقع طرح ما يسمى "بالشعور الوطنى المصرى العثمانى"، وأنها لدى المصرى "مواجب مقدسة ومطالب مشرفة"، ثم أنه في موقع آخر يكشف عما أسماه "سر مطالبة المصرى العثمانى للمحتل بالجلاء، لأن اعتقاد الأول بسعة علم الثانى في حقوق الوطنية تقوده إلى مطالبته على قدرة منها"، في موقع ثالث بعد ذلك يرى أن خطورة المسألة المصرية لا تنحصر على المصريين بل تعم جميع العثمانيين، ويخلص من كل ذلك إلى القول "أن خديوية مصر الجليلة قسم غير منفصل من جسم السلطنة السنية العثمانية والمصريون بمقتضى صلابتهم الدينية والجامعة الملية شديدو التعلق والاعتصام بمقام الخلافة العظمى".
ولم تزل الأهرام تتناول الموضوع من نفس المنطلق بين الحين والآخر إلى أن تحول إلى قضية في المحكمة لا يعرف عنها الكثيرون شيئًا وإن كان الأهرام قد سجل تفاصيلها بدقة بالغة.
***
جاء أو خبر عن هذه القضية في العدد الصادر يوم 21 مارس عام 1898.. قال "قام أديبان من المحامين في هذه الأيام والتمسا من محافظة القاهرة أن تدخلهما في عداد المنتخبين على كونهما من السوريين فلم تجبهما إلى ما سألاه بشئ فرفعا عرضهما إلى محكمة الاستئناف ووليا حضرة الأصولى الفاضل نقولا أفندى توما المحامى الشهير أن يتكلم عنهما".
انتهزت الأهرام المناسبة لتتناول موقف السوريين (العثمانيين) من قضية الجنسية المصرية، وقد رأت أنهما قسمان الأول أبى التجنس بالجنسية "وهو الذى يدفع ضريبة الدم في بلاد الدولة العلية وبالتالي لا يُجند في هذا القطر ولا يؤدى بدلا عسكريًا وحُكم هذا القسم حُكم الطارئة من كل جنس"، أما القسم الآخر، فهو الذى رضى بالتجنيد وأدى ضريبة الدم أو دفع البدلية وهم الذين ولدوا في مصر أو قضوا خمس عشرة سنة فيها "وهؤلاء يحق لهم الانتخاب بدون ريب"!
خلال الشهور الأربعة التالية وحتى صدور حكم محكمة الاستئناف في القضية يوم 9 يونية من نفس العام شاركت الصحف المصرية والأوروبية التي تصدر في مصر في مناقشة الموضوع.. موضوع من الذى ينطبق عليه شروط الجنسية المصرية وبالتالي يحق لها الانتخاب، وكانت الأهرام في جانب المدعين.
وقد بدا هذا الانحياز الأهرامى ليس فحسب في الدفاع عن وجهة نظر "الأديبين الفاضلين نجيب أفندى شقرا وإلياس أفندى رطل"، وإنما أيضًا في مهاجمة وجهة نظر الآخرين، إذ كانوا من الصحفيين أو إهمالها إذا من رجال المحكمة.
الهجوم حدث على جريدة "الريفورم" التي كتبت أن دفع البدل العسكرى وحده لا يخول صاحبه حق الانتخاب واعتبر هذا القول خطأ "لأننا إذا نظرنا إلى جميع قوانين الدنيا نجد أن من يقوم بدفع ضريبة الدم يعد من أهل البلد بلا شبهة"!
يبدو أن أهم الجلسات التي عقدتها المحكمة لنظر القضية كانت تلك التي انعقدت يوم 2 يوينة والتي تحدث فيها "الفاضل نيقولا أفندى توما، ممثل للمدعين، ووكيل النيابة عبد الله سميكة.
استهل نيقولا أفندى مرافعته بمحاولة تحديد وضع مصر داخل الدولة العثمانية وأن الامتيازات التي حصل عليها هذا القطر كانت للولاه، محمد على وإسماعيل "أما أهالى مصر فما برحوا عثمانيين بالمعنى السياسى".
دلف بعد ذلك إلى تحديد طبيعة الناخبين في المجالي النيابية وقال أنهم من المصريين "المؤلفين من عناصر مختلفة تجتمع باجتماعها الكلمة ويتم باتحادها العمران"!
وأنهى الرجل المرافعة بتحديد ماهية المصرى في رأيه فذكر أنه كل من كان قاطنًا في مصر تابعًا للحكومة المصرية بالنظر إلى كونه تابعًا للحكومة العثمانية وأيد هذا التعريف بستة أسباب علمية وعملية وقانونية، وكان تعليق الأهرام متعاطفًا مع مرافعة نيقولا أفندى وأنه "كان لخطابه تأثير جميل"!
بالمقابل تعترف الصحيفة أنها لم تقدم مرافعة وكيل النيابة كاملة وأنها اقتصرت على ما ذكره فيما يخص "الجنسية المصرية وهى ما يخص المسألة المتنازع عليها"، وهى المسألة التي تهمنا هنا.
عرف عبد الله سميكة أفندى ماهية الأمة المصرية بأنها "مجموع المسلمين والأقباط والأجناس الشرقية التي توطنت بمصر قبل قيام دولة المرحوم محمد على باشا أو مع هذه الدولة".
فند بعد ذلك ما جاء في عريضة المدعين بأنهم يخضعون للقرعة العسكرية وأبرز خطابًا لنظارة الحربية تنفى فيه ذلك "أما أداؤهم للضرائب وخضوعهم للأحكام الأهلية ولسلطة جناب الخديوى فهو أمر واجب لأنهم ليسوا تابعين لدولة أجنبية منحتها الدولة العلية امتيازات".
وانتهى إلى القول أن كل مصري عثمانى وليس العكس "لأن المصرى عضو في أمة خاضعة لحكومة العائلة الخديوية المُنعمة بالحقوق والامتيازات الممنوحة لهذه العائلة بمقتضى الفرمانات الشهانية".
ولم يعجب موقف وكيل النيابة الأهرام، فقد رأت أنه أخذ هذا الموقف انصياعًا لسلطات الاحتلال "لأن مصلحة الانجليز إنما تقوم بأن تعتبر مصر مستقلة عن الدولة العلية فعلا وإن لم تكن مستقلة بالاسم وبمقتضى القانون الدولى وبأن يكون بين السوريين والمصريين شبه تنافس لأسباب من هذا القبيل".
وفى محاولة واضحة من الصحيفة للتأثير على هيئة المحكمة أعلنت أنها تنتظر الحكم "لنبسط رأينا في هذه المسألة من وجهها السياسى ومن حيث الصلات التي ينبغي أن تكون بين المصرى والسورى".
ولم يتأثر قضاة محكمة الاستئناف بهذه المحاولة وأصدروا حكمهم الذى نشرته الأهرام فيما لا يزيد عن ثلاثة سطور، فالمحكمة "قررت اختصاصها بالنظر في القضية ورفضت دعوى المطالبين"!
وجاء هذا الحكم الذى نشرته الأهرام على صفحتين في عددها الصادر يوم الخميس 16 يونية عام 1898 جامعًا مانعًا، فقد جاء في جزئين: الأول عن "الجنسية المصرية" والثانى عن "من هو المصرى"، ونعتقد أنه أول محاولة قانونية في التاريخ المصرى الحديث للاقتراب من مثل هذه الموضوعات التي كانت تتمتع بدرجة كبيرة من الحساسية وقتئذ.
بالنسبة للجزء الأول استهلته المحكمة بتعريف الجنسية المدنية والسياسية بأنها "الرابطة التي تكون بين أفراد جماعة وحكومتها وقد اتفق عليها علماء القوانين على أن كل جماعة لها حكومة مستقلة تعتبر أمة وتكون لأفرادها جنسية".
دلف قاضى المحكمة "سعادة محمد عفيفى بك" من هذا التعريف إلى تقديم حيثياته: "حيث أن الفرمانات التي صدرت من الدولة العلية جعلت مصر إمارة مستقلة في إدارتها الداخلية، وحيث أنه لم يبق للدولة العلية على مصر إلا حق السيادة ودفع الخراج (الويركو)، وحيث أنه ثبت أن مصر أمة لها حكومة مستقلة قوانينها ونظام ومحاكمها تخالف قوانين ونظام ومحاكم الدولة العلية التي لا يعمل بها في مصر فيكون للأمة المصرية جنسية مدنية سياسية خاصة بها لا يشاركها غيرها فيها أم كون المصرى عثمانيًا فإنما هو بالنظر لحق السيادة الذى هو للدولة العليا لا لاتحاد في الجنسية".
أما فيما يخص الجزء الثانى من الحُكم فقد عرف المصرى بأنه "كل من كان مستوطنً مصر حينما أعطيت لها الامتيازات والحقوق التي سبق ذكره من غير نظر إلى ديانته وجنسيته سواء كان من الأهالى الأصليين أو الذين أتوا إليها مع ساكن الجنان المرحوم محمد على باشا لأن مصر لم تكن لها قبل منح هذه الامتيازات والحقوق جنسية خاصة بها غير الجنسية العثمانية".
وبعد أن ساق الحكم القواعد المتعامل بها في اكتساب الجنسية في دول العالم خلص إلى القول "إن إقامة الشخص ببلد غير بلده وإن طالت لا تُكسبه جنسية هذه البلدة التي أقام بها ما لم يطلبها وتمنحها الحكومة أو تقررها له".
ومع أن الأهرام في تعليق طويل وأخير على الحكم أبدت امتعاضها منه غير أنه جاء في تعليقها عليه أنه على "علاته بما حدد وفصل لا ينبغي أن تنشأ عنه حزازة أو نفرة إذ أن جل ما كان مقصودًا من قضية الانتخابات أن يجتمع المصريون والسوريون ليكونوا أمة واحدة.. والسوريون أعقل من أن يفتحوا بينهم وبين إخوانهم بابًا يدخل منه الأجنبي". وأغلقت الجريدة بذلك ملف المحطة المجهولة التي غادرها قطار الوطنية المصرية إلى محطة لطفى السيد.

صورة من المقال: