ads

Bookmark and Share

الأحد، 24 يناير 2021

111 تمصير العربان

 تمصير العربان

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 28 ديسمبر 1995م - 6 شعبان 1416هـ


في العمل الموسوعى الشهير الذى قدمه المفكر المصرى الراحل الدكتور جمال حمدان تحت عنوان "شخصية مصر - عبقرية المكان"، قدم الرجل من الأدلة على قدرة الوطن المصرى على امتصاص الوافدين وعدم السماح بنتوءات في البنية البشرية الوطنية لوقت طويل ل يحتاج إلى مزيد.

لعل النتوء الرئيسى الذى عرفته مصر خلال عصورها الحديثة بدا في القبائل العربية التي زحفت إليها من المناطق الصحراوية شرقًا وغربًا واستمر يسبب آلامًا مبرحة للجسد المصرى لفترة غير قصيرة..

جانب من هذه الآلام نتج عن استمرار غارات هؤلاء على مناطق الزراعة على أطراف الدلتا، خصوصًا في الشرقية والبحيرة، أو في أنحاء الصعيد، خاصة الفيوم وبنى سويف والمنيا، الأمر الذى دعا الدولة العثمانية إلى أن تخصص إحدى الفرقة العسكرية السبع المسئولة عن حماية مصر، وهى فرقة "العربان" لحماية مناطق الريف المصرى من تلك الغارات.

الجانب الآخر بدا فيما أحدثه هؤلاء من شرخ عميق في قدرة السلطة المركزية المصرية على مد أيديها لسائر أنحاء البلاد، وهو ما يتناقض مع تاريخ هذه السلطة، ومع إفرازات عبقرية المكان.

وقد وصل الأمر في هذا الجانب إلى حد أن نجح بعض شيوخ تلك القبائل في إقامة كيانات شبه مستقلة عن تلك السلطة فيما فعله شيخ الهوارة هوارة الفرشوطى في الصعيد خلال القرن الثامن عشر، مستغلا في ذلك حالة السلطة المركزية لمهترئة في القاهرة من جراء الصراع بين العثمانيين والمماليك، مما خلق نوعًا من العلاقة الجدلية بين قوة العربان وقوة الدولة، وكانت علاقة عكسية على وجه اليقين.

يؤكد ذلك أنه مع بداية بناء الدولة الحديثة في مطلع القرن التالى، التاسع عشر، وتنامى قوة السلطة المركزية، أخذ هذا النتوء في التآكل، ولأسباب عديدة.. الاحتكام إلى القوة إذا وجب السماح بتملك الأراضى، تولية المشايخ البارزين للمناصب الكبيرة فيما حدث لعديدين: منهم العايدية في الشرقية، ويقدم الأباظية الذيم كانوا أشهر أسرها نموذجًا لذلك، ويجسد سليمان باشا أباظة هذا النموذج، فقد تولى عددًا من المناصب الكبرى كان آخرها منصب مدير المديرية، وهو المنصب الذى كان مقصورًا على أبناء الارستقراطية التركية المتحلقين حول الوالى.

بيد أن القوة والسياسات وحدها لم تكن كافية لاختفاء النتوء، مما بدا من مظاهر عديدة.. فحتى أولئك الذين استقروا من العربان بقوا يشكلون مجتمعًا منفصلا له تقاليده المتميزة، ولعل هذه الرواية التي بعث بها مكاتب الأهرام في أبو كبير تقدم الدلالة على ذلك.. قال:

"أرادت إمرة من قبيلة السماعنة أن تتزوج رجلا من قبيلة المساعيد فأبى أخوها أن يزوجها به فتركته وذهبت مع خطيبها ترتاد منتجع عدل وإنصاف من دهر سلط عليها شقيقًا حرمها خطابًا عديدين حتى لقيت حضرة الشيخ عليوة الطحاوى فتثبت من أمر طلاقها وأذن لها أن تتزوج من أحبها فقامت قيامة قبيلة السماعنة وبعثت عرائض الشكوى إلى جميع جهات الحكومة تزعم فيه أن المرأة غير مسرحة سراحًا جميلا من زوجها الأول فأخذ حضرة مأمورنا هذه المسألة بالحزم وأرسل المرأة مع زوجها إلى حضرة قاضينا الشرعى يصحبها إلى جمهور غفير من رجال قبيلتى السماعنة والمساعيد فكم حضرته حكمًا فاصلا وانقضت المسألة على خير وسلام".

وبالطبع فإن معنى أن تقوم قيامة قبيلة من العربان على زواج امرأة منها من أحد أبناء قبيلة أخرى ينم عما كان يمكن أن يحدث لو كانت سعت إلى أن تتزوج برجل من غير العربان أصلا!

ونرى أن من الأسباب التي أدت إلى هذه النزعة الاستعلائية من جانب هؤلاء واستمرار النتوء في الجسد المصرى.. أن محاولة إزالته قد تمت من خلال سياسات حكومية أكثر مما تمت نتيجة لتطورات اقتصادية واجتماعية، وهى أمور لا يصنعها إلا الزمن وحركة التاريخ، هذا من جانب، ومن جانب آخر فإنه حتى ذلك الوقت لم تكن حدود الوطن المصرى قد تعينت بشكل صارم يجرم عبورها الأمر الذى سمح لهذه القبائل المتجولة أن تبقى كذلك في إطار أراضى الدولة العثمانية، مما تكشف عنه قصة أخرى روتها الأهرام..

القصة بعث بها مراسل الأهرام في الشرقية وجاء فيها أن "محمد أفندى سلطان وكيل عمدة قبيلة عرب الهنادى المقيمين بأراضى الأسدية"، ذهب في شكواه من بعض القوانين التي تصمم الحكومة على تطبيقها على أبناء القبيلة إلى حد التهديد ببيع أملاكهم ومقتنياتهم والارتحال إلى "ربوع الديار السورية ليعيشوا آمنين في ظل جلالة أمير المؤمنين"!

وتشير قراءة الأهرام إلى أن أواخر القرن قد عرف قدرًا لا بأس به من تآكل النتوء مما تضافرت عليه عوامل عديدة كان من أهمها، فيما نستنبطه من قراءة الصحيفة، ما أخذ يصيب "الوحدة القبلية" من تفكك صنعته التطورات التاريخية.

فقد أدت سياسة الحكومة في منح الأراضى لمشايخ القبائل، وما تبع ذلك من استقرارهم إلى تغير في العلاقة بين هؤلاء وبين سائر أفراد القبيلة الذين تحولوا في الغالب إلى مزارعين مما أثر كثيرًا في وحدة هذه القبائل" هذه واحدة.

التطور الثانى تمخض عن تولى المشايخ للمناصب وما نبع ذلك من الالتزام بتنفيذ السياسات الحكومية، الأمر الذى قلل من هيبتهم وأدى إلى خروج العديد من أبناء القبيلة عن طاعتهم، خاصة وقد وجد هؤلاء في مناطق الريف المجاورة مصادر للرزق أو للنهب مما كان مثارًا للشكوى من الطرفين.. المشايخ والحكومة، ولنبدأ بالنهب!

***

لم يكد يمر شهر خلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر دون أن تنشر الأهرام حادثة أو حادثتين من أعمال الإخلال بالأمن يقوم بها أبناء العربان، وإذا كانت ثمة ملاحظات على تلك الأعمال فإنها كانت من ناحية ذات طابع فردى، وليس قبليًا، مما ينم عما أصاب القبيلة من تفتت، ثم انها كانت من ناحية ثانية تكشف عن قوة الحكومة التي كانت تجبر المشايخ على البحث عن الجناة وتسليمهم بكل ما ينتج عن ذلك من مزيد من أسباب إسقاط هيبة هؤلاء في عيون أتباعهم، فضلا عن ذلك فإنه عند حدوث عراك قبلى، وكثيرًا ما كان يحدث، فإن من كان يحسمه تدخل رجال الأمن وليس حكمة المشايخ، أخيرًا، وهو الأمر الذى يثير الدهشة، أنه عندما يحدث أن يكون طرف من أطراف العراك من العربان والطرف الآخر من الفلاحين، فقد كان عادة ينتهى بانتصار الأخيرين، وهو أمر إن دل على شيء فهو يدل على أن قوة العصبية القبلية أخذت في الضعف مما أخل بطابع الغلبة التقليدي الذى كان للعربان من قبل ووفر لهؤلاء الظروف التي مهدت لاندماجهم في مجتمع بقية المصريين.. في الريف وعلى هوامش المدن ومع الصيادين على السواحل.

لعل هذا الخبر الذى نشرته الأهرام في 16 أبريل عام 1891 يكشف عن أكثر من دلالة من تلك الدلالات الآنف الإشارة إليها.. الخبر من الفيوم وجاء فيه "كثرت الشائعات بإلقاء القبض على جارد عبد الله اللص المشهور.. ولكن وحدنا أن هذه شائعة جرت على ألسن العامة، وقد أوقفت المديرية مشايخ عربان البراعصة لأنهم لم يلقوا القبض على جارد عبد الله ولم يخبروا عن محل وجوده لأنه من قبيلتهم وعينت غيرهم"!

وإذا كانت حالة جارد قد وصلت إلى عزل المشايخ فإنها في حالات تحولت إلى مكافأة المشايخ الذين أبدوا همة في القبض على اللصوص فيما رواه مكاتب بنى زار من أن سمو الخديو المعظم أنعم على لملوم بك السعدى "شيخ عربان الفوائد برتبة بك وخمسة عشر جنيهًا كل شهر مكافأة له على مساعدة رجال الحكومة في القبض على اللصوص"، وكيف أن آخر مشايخ القبائل هو على عمار المصرى خرج مع رجاله وتربصوا بلص من أبناء القبيلة، وهو على حيدر، حتى أمسكوه وسلموه للسلطات، ويبدو أن عمار لم ينل المكافأة التي كان يتوقعها مما دعا الأهرام إلى التنبيه "بوجوب مكافأته بما يستحق تشجيعًا له وترغيبًا لغيره".

استعرضت الصحيفة مع ذلك أخبار المعارك التي كانت تنشب بين العربان.. في يوم 16 نوفمبر عام 1891 ساق مكاتبها في المنيا أخبار المعركة بين عربان البرج وعربان العدائين التي "أطلق فيها الرصاص وكثر استعمال السلاح"، ولم يكن يحسمها إلا تدخل عمدة المطاهرة ووصول "حضرة الحكمدار وجماعة من جنده لعمل المحضر اللازم" خبر آخر من بنى سويف جاء فيه أن جامعة من عرب المعازة تشاجروا مع جماعة من بنى سليمان شرقية "وقد انجلت المشاجرة عن جرح اثنين وضبط الفاعلين والتحقيق جار"، خبر ثالث من الزقازيق عن انعقاد المحكمة الأهلية للنظر في قضية قتل "حدث في أثناء خصام عنيف بين فريق من قبيلة عربان الهنادى وفريق آخر من عربان أولاد موسى".

ومع طرافة الواقعة التي بعث بها مكاتب الأهرام في دمنهور في 3 يونيو عام 1893، فإنها تقدم دلالات على ما أصاب العلاقات بين العربان والفلاحين من تغيرات.. جاء في هذه الواقعة:

"حدث بناحية نديبة أن إعرابيًا وفلاحًا كانا يتباحثان أيهما أفضل العرب أم الفلاحون واشتد اللجاج بينهما فاتصل للمُشَاتمة فالمُلاكَمة إلى أن انتصر الفلاح على خصمه فقتله وقام البوليس لضبط الواقعة".

لعل أهم الدلالات المستخرجة من تلك الواقعة قبول فكرة المساواة بين الفلاحين والعربان إلى حد المقارنة، ثم من جانب آخر أن يحدث نزال ينتصر فيه الفلح، ولا يكون ثمة حل إلا تدخل السلطات للبحث عن هذا الفلاح دونما تدخل من القبيلة التي ينتمى إلها الأعرابى، إنما يدل على ما أصاب العصبية من وهن، ولم تكن على أي الأحوال الواقعة الوحيدة التي تقدم هذه الدلالات، فقد حفلت الأهرام بأخبار المعارك بين الجانبين..

مكاتب دمنهور بعث في 17 أكتوبر عام 1893 بخبر عن حصول مشاجرة "بين الأهالى والعربان بناحية مريوط على سرقة بهائم وأن الحكومة أرسلت شرذمة من العساكر لمنع الخصام".

رسالة أخرى من كفر الدوار في 22 أبريل عام 1895 عن حدوث "مشاجرة عنيفة بين فريق من أهالى العكريشة وفريق من العرب دار فيها بينهما ضرب النبابيت والعصى فأصيب كثيرون بجرح بعضها ذات خطر وقد ضبط الواقعة حضرات مأمور المركز وعضو النيابة وأرسل المُصابون إلى مستشفى البلدة لمعالجتهم"، ورسائل أخرى عديدة تنم عما دخل على العلاقات بين الطرفين من تكافؤ مما نعتبره تمهيدًا لانتهاء عصر الاستعلاء العربانى على الفلاحين، وتوطئة لاندماج هؤلاء العربان في المجتمع الريفى بكل ما ترتب على ذلك من استكمال أسباب التمصير فيما نوه به الدكتور جمال حمدان.

فضلا عن ذلك فإن بعض ما عرفته مصر من تطورات اقتصادية قد أثر أيما تأثير في عملية تمصير العربان، ويقدم عربان شرقى الدلتا نموذجًا لذلك..

فقد عرف النصف الأخير من القرن التاسع عشر متغيرين مهمين في هذه المنطقة، أولهما: إتمام حفر قناة السويس وفتحها للملاحة عام 1869 وما نتج عن ذلك من وجود هذا الحاجز المائى الذى قيد حرية الحركة وبين سائر العربان في سيناء، أو في شبه الجزيرة مما وفر عاملا جبريًا لهم على الاستقرار، الثانى: نتج عن اختراق السكك الحديدية لتلك المناطق، خاصة الخط الممتد عبر الزقازيق والتل الكبير والإسماعيلية إلى بورسعيد، فقد أوجد هذا الخط درجة عالية من التواصل بين مناطق هؤلاء العربان وبين بقية الجسد المصرى، مما لم يكن معه بد، ومع مرور الوقت، من الاندماج في بقية هذا الجسد!

وكان لكل هذه المتغيرات تأثيراتها على العلاقة القديمة بين السلطة المركزية وبين العربان مما شكل خطوة أخرى في اتجاه تمصيرهم.

***

بينما كانت سياسات حكومة القاهرة هي العامل المؤثر الرئيسى في أوضاع العربان المصريين خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، فإن المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال الربع الأخير من ذلك القرن والتي تركت بصماتها على أوضاع هؤلاء هي التي صاغت سياسات هذه الحكومة حيلهم مما تشهد به الأهرام.

من هذه السياسات ما ترتب على قيام الحكومة في العاصمة بواجباتها بحماية البلاد والعباد مما مس بشكل ظاهر توجهاتها حيال العربان..

حماية البلاد تبدت في تكوين الجيش الوطنى وما صحبه من سياسة تجنيد طالت بأيديها من خلال نظام القرعة المصريين في جميع أنحاء البلاد، ومعلوم أن العربان قد تمتعوا طوال الوقت بالإعفاء منها فيما سجله الأمر العالى الصادر في 13 مارس عام 1882 والذى جاء فيه "أنه مراعاة للامتيازات الممنوحة للعربان من القدم رغبة في توطنهم وتشويقًا لهم في رفاهية معيشتهم تبقى الامتيازات الممنوحة لهم على حالتها بأن يُعافوا من القرعة العسكرية".

أما حماية العباد فقد تجسدت في السياسات التي كانت تتبعها الحكومة لصيانة الأراضى الزراعية من اعتداءات "فيضان النيل المبارك"، ومن احتمالات انهيار جسور النهر والترع، وهى صيانة كان يتولاها أبناء الريف المصرى من خلال نظام سُخرة عرف بالعونة، وكان العربان بعيدين عن يده، بحكم أنهم استمروا يعيشون على هامش الأراضى الزراعية، ثم أنهم حتى بعد ما استقروا وتملكوا مساحات من تلك الأراضى، فقد كان أغلبها بعيدًا عن النهر، خاصة في الأراضى المستصلحة التي عُرفت بالأبعاديات.

وقد استمر العربان المصريون ينظرون إلى تلك الإعفاءات باعتبارها امتيازات مقررة لا ينبغي المساس بها، وهو ما ظلت تعترف به حكومة القاهرة، حتى أواخر القرن، فقد ارتأت أنه مع تغير الأوضاع يمكن سحبها، فيما حاولته إدارة القرعة العسكرية، وكانت الأهرام شاهدة عليه!

تذرعت السلطة المركزية في العاصمة في سعيها إلى إلغاء امتيازات العربان بأكثر من حجة، منها أن كثيرين من "الأهالى يدفعون بعض دريهمات للشيخ فيثبت للحكومة أنه من العربان وبهذه الطريقة يتخلص من القرعة العسكرية وخفارة النيل وغيرها مما أعفى منه العربان"، ومنها تجرؤ "الرعاع من العربان على عدم الاكتراث بسلطة الحكومة وبلغت الوقاحة من بعضهم مبلغًا أضحوا معه يحتقرون كل عظيم ويسيئون الأدب مع كل إنسان"، وكان وجه المؤاخذة للمشايخ هنا أنهم قد عجزوا عن الإمساك بشكيمة هؤلاء "العربان الرعاع"!

فإذا كانت ثمة دلالة يمكن أن تستخرج من الذرائع الآنفة فهى أن عربان مصر قد انخرطوا في المجتمع، ريفى أو حضرى، إلى الحد الذى تراءى معه لحكومة القاهرة أنهم يمكن أن يخضعوا لما يخضع له بقية المصريين.

لعل الخبر الذى نشرته الجريدة يوم 25 يوليو عام 1893 والذى يفيد بأن حكمدار المديرية قد توجه إلى الفيوم لحضور اللجنة المُشكلة من عُمد ومشايخ العربان " للنظر في إلحاق أنفار كل قبيلة للمشيخة التابعين لها وجمعهم في نقطة"، يكشف عما أصاب هذه القبائل من تبعثر وما رأته السلطات شرود أمن أبنائها، وفيما نراه اندماجًا في بقية الجسد المصرى.

نأتى بعد ذلك إلى الشكوى التي تقدم بها العربان المقيمون في جوار بورسعيد عن منع السلطات لهم من الدخول إلى المدينة لمزاولة تجارة البلح التي اعتادوها فيها، ومع أن المحافظ وافق على دخولهم إلا أن ما يعنينا هنا تلك الصلة الجديدة مع أبناء المدن التي تحولت مع مرور الوقت إلى استقرار واندماج وانفصال عن بقية القبيلة.

ونصل أخيرًا إلى الظلامة التي رفعها مشايخ العربان في المطرية عن العراقيل التي تبثها وزارة المالية أمام أعمالهم في مصايد بحيرة المنزلة والذين ختموها بقولهم أنه "لابد أن يجرى الإنصاف في مجراه وإلا فليصدر مظلوم باشا منشورًا يعلم فيه القطر المصرى أنه ما دام ناظرًا للمالية فلا عمل لها إلا جباية أموال عبد الله وهضم حقوقهم وسلب فقيرهم وضعيفهم والسلام"، الأمر الذى يقدم دلالة أخرى على مزيد من الاندماج في المجتمع المصرى، وكان مجتمع الصيادين هذه المرة!

ونرى أن هذا الانخراط قد حدا بالحكومة المركزية إلى إعادة صياغة سياساتها تجاه العُربان، في جانب منه بحرمانهم من امتيازاتهم ليصبح شأنهم شأن بقية المصريين، وفى الجانب الآخر بتطبيق النظم الإدارية التي تطبق على سائر المصريين عليهم، وهو ما قاومه العربان بشدة، ومع نجاح القاهرة في تنفيذ جانب من سياساتها الجديدة فإن تلك المقاومة قد أدت إلى إرجاء التنفيذ في جانب آخر.

الإرجاء حدث بالنسبة للإعفاء من التجنيد وأعمال خفارة النيل..

النجاح بدأ في جملة من الإجراءات نفذتها نظارة الداخلية، كان منها "ضبط عدد العربان وتعيين محلات إقامتهم"، مما كلف به مشايخهم، وما كان يترتب على تقاعس أي منهم من فقدانه لمنصبه، وكان منها انتهاء النظام القديم لاختيار مشايخ العربان الذين أصبح انتخابهم يتم من خلال "جمعية مؤلفة من عُمد ومشايخ العربان يجتمعون في سراى المديرية برئاسة سعادة المدير"، يتبعها أن يلقى هذا "التنبيهات والأوامر المشددة عليهم لحفظ الأمن في البلاد وملاحظة لائحة المتشردين وأصحاب السوابق والإسراع بإخبار الحكومة في كل ما يحدث في جهة اختصاصهم"، ومنها تشكيل اللجان للنظر في "إلحاق أنفار كل قبيلة للمشيخة التابعين لها وجمعهم ف نقطة واحدة".

الأهم من ذلك من سياسات حكومة القاهرة العملية التنظيمية الواسعة التي أجرتها في شتاء عام 1895 والتي ساقتها الأهرام بالتفصيل في عددها الصادر في 2 ديسمبر وجاء فيه أن الحكومة "حورت نظام مشيخة العربان وعقدت جمعيات فى المديريات انتخب فيها عُمدة أو أكثر لكل قبيلة وتقرر أن يكون تحت رئاسته مشايخ فرق وقد نفذ هذا المشروع في المديريات كلها غير أن قبيلة أولاد على النازلة بالبحيرة لم يرض مشايخها أن يكونوا مشايخ فرق بعد أن كانوا مشايخ قبائل"، ولم يكن رضاؤهم أو عدمه له تأثير كبير!

في نفس الوقت عملت نظارة الداخلية على تطبيق لائحة خفارة العزب والكفور المطبقة على سائر أنحاء الريف المصرى على العربان الذيم رأوا أنهم بمثابة "خفراء للقطر على بعض حدوده فكيف تقيم الحكومة منهم عليهم الخفراء". وقد دعا ذلك الأهرام إلى تقديم النصيحة بأن تقوم الحكومة باستكمال أسباب توطين العربان "في البيوت الثابتة وتمليكهم العقارات فيجوز عليهم ما يجوز على سائر سكان القطر".

ونطن أن تطورات التاريخ وسياسات حكومة القاهرة قد أفلحت أخيرًا في ضرب النتوء إلى حد يمكن القول معه أنه قد أخذ في الاختفاء، ولعل أظهر الأدلة على ذلك أن عديدًا من أسر المشايخ التي استقرت ووليت وظائف حكومية خلال تلك الفترة التي انخرطت في العمل الوطنى سواء قبل الحرب الأولى أو في ثورة 1919، لملوم السعدى رئيس قبيلة الفوايد في مغاغة، حمد الباسل عمدة قبيلة الرماح في الفيوم، الأباظية في الشرقية، وكان هؤلاء في طليعة الأحزاب، الوفد، الوطنى والأحرار الدستوريين، ونعتقد أن هذا الانخراط قد الإثبات الذى لا يقبل الجدل على تمصير العربان!


صورة من المقال: