ads

Bookmark and Share

الأحد، 24 يناير 2021

110 الإرساليات العلمية الأهلية!

 الإرساليات العلمية الأهلية!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 21 ديسمبر 1995م - 28 رجب 1416هـ


البعثات العلمية المصرية إلى أوربا، والتي كانت تسمى بلغة القرن التاسع عشر "الإرساليات"، قصتها معروفة، وهى القصة التي تم تسجيلها في دراسات عديدة نال بعض أصحابها درجات علمية رفيعة عنها، غير أن المعلوم هو جانب واحد من القصة.

نقصد بهذا الجانب الإرساليات الأميرية التي بدأت الحكومة المصرية في إرسالها في عهد محمد على، في عام 1813 على وجه التحديد، ثم توقفت خلال الفترة المفصلية بين نهاية عصر هذا الباشا وبداية عصر حفيده إسماعيل وإن أخذت في الشحوب خلال أواخر عصر الخديو من جراء الأزمة المالية التي عانت منها مصر، ثم بدأت تواجه حملة مُنظمة بهدف تجميدها تمامًا في عصر الاحتلال.

وثمة ملاحظة أبداها الدارسون لهذه الإرساليات:

منها أنها كانت حكومية بالكامل في الإعداد والتوجيه والدراسة، وكان الهدف الأساسى من ورائها تلبية احتياجات الدولة الحديثة التي توافر محمد على على تأسيسها، وتبعه إسماعيل ليستكمل مناحى هذا التأسيس.. تلبية احتياجاتها من الكوادر الفنية التي غلب عليها الطابع العسكرى في عهد الأول والطابع المدنى في عهد الأخير.

لعل ذلك ما يقود للملاحظة الثانية، وهى أنه بينما غلبت الدراسات العلمية على إرساليات عهد محمد على، العلوم العسكرية، الرياضيات، الطبيعة، الطب، الهندسة، علوم البحار وبناء السفن، فإنه قد غلب طابع العلوم الإنسانية على الإرساليات التي بعث بها إسماعيل، خاصة في الإدارة العليا والقانون.

الملاحظة الثالثة، متصلة بتأثير الهدف من تلك الإرساليات على طبيعتها، فإرساليات عصر محمد على، شأنها شأن التعليم الذى أقامه في البلاد، فكانت ذات طابع عسكرى بالأساس، من حيث نظام الحياة ورُتب التلاميذ وإعمال الضبط والربط بينهم، وهو ما لم يعد قائمًا في عصر إسماعيل.

ملاحظة رابعة، أن غالبية تلك الإرساليات، خاصة في عصر محمد على كانت من أبناء الطبقة التركية الحاكم، وإن كان أبناء الفلاحين منهم هم الذين نالوا الشهرة الأكبر، على رأسهم رفاعة الطهطاوى، محمد بيومى، وعلى مبارك، وأن عددًا غير قليل من هؤلاء الأعضاء كانوا من أبناء الأسرة الحاكمة حتى أنهم غلبوا على إحدى تلك البعثات مما دعا إلى تسميتها بإرسالية الأنجال، وكانت كُبرى البعثات التي أُرسلت إلى أوربا، وعلى وجه التحديد فرنسا.

يسلمنا هذا إلى الملاحظة الأخيرة، وهى أن فرنسا قد استمرت المقصد الأساسى لتلك البعوث، ونرى أن الخبراء الفرنسيين الذين استقدمتهم مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر، كانوا وراء هذا التوجه الذى قاد أخيرًا إلى غلبة الفرنسية على المثقفين المصريين، مع أسباب أخرى.

الجانب الآخر من القصة، هو الجانب غير المعلوم والذى جاءت عنه إشارات طفيفة هنا وهناك، وقد قدمت الأهرام عديدًا من تلك الإشارات يمكن مع تجميعها واستقرائها أن تحول غير المعلوم إلى معلوم، وهو ما نحاول في السطور التالية!

***

صنع هذا الجانب من القصة مجموعة من المتغيرات التي جرت في عدة ميادين في الحياة المصرية.. السياسية والاجتماعية والفكرية، وهى المتغيرات التي عرفتها تلك الحياة بامتداد نحو سبعين عامًا تمتد بين عامي 1813 و1885..

العام الأول يعرفه سائر الباحثين في تاريخ "الإرساليات العلمية"، فهو العام الذى أرسلت خلاله الحكومة المصرية أولى بعثاتها إلى أوربا.. البعثة إلى إيطاليا لدراسة الفنون العسكرية والهندسية وتقنية الطباعة.

العام الأخير الذى قد لا يعرف عنه الكثيرون شيئًا، يذكر في ميدان التعليم، غير أن أهميته كعلامة فارقة أنها العام الذى كانت قد بدأت تولد خلاله سياسات الاحتلال البريطاني نحو التعليم في مصر، وهى السياسات التي ارتكزت على فلسفة تقوم في جانب منها على الإلغاء التدريجى للمجانية التي ظل معمولا بها في مصر منذ نشأة النظام التعليمي الحديث، وإن كان اللورد كرومر قد ادعى في أحد تقاريره أن هذا الإلغاء كان قد عرف طريقه إلى البلاد منذ عام 1874 على أيدى حكومة رياض ونتيجة للأزمة المالية التي أخذت تمسك بتلابيب مصر منذئذ، على أي الأحوال، فإن يد هذا الإلغاء قد طالت في ذلك العام الفارق "الإرساليات العلمية الحكومية".

الجانب لآخر من الفلسفة التعليمية لسلطات الاحتلال بدا في رغبتها في تحجيم التعليم الثانوى والعالى والاكتفاء بالتعليم الأولى، ولعل تلك السياسة التي ارتبطت باسم دوجلاس دنلوب مستشار نظارة المعارف المصرية هي التي تبلورت في معركة الكتاتيب والجامعة التي عرفتها مصر خلال العقد الأول من القرن العشرين، فبينما سعى المصريون إلى إنشاء الجامعة المصرية بدت الرغبة الاحتلالية في توسيع قاعدة الكتاتيب انطلاقا من أن أصحابها في حاجة إلى الوظائف التي لن تعد سلطات الاحتلال راغبة في توفيرها لهم، فضلا عن أنهم استمروا يشكلون الزاد الرئيسى للحركة الوطنية النامية، وكان من الطبيعى أن تؤثر هذه السياسة على "البعوث الحكومية" باعتبارها المرحلة اللاحقة للتعليم العالى الذى تم تضييقه!

الجانب الأخير، تجسد في رغبة احتلالية جارفة في ترجيح النفوذ الثقافي الإنجليزى على النفوذ الثقافي الفرنسي الذى استمر غالًا طوال القرن التاسع عشر، وكان من أهم عوامل هذه الغلبة توجيه أغلب الإرساليات العلمية المصري إلى فرنسا.

لعل الرواية التي قدمته الأهرام في جملة من أعدادها في ذلك العام الفارق، 1885، إنما تكشف عن مولد هذه السياسة..

الرواية بدأت في أغسطس من ذلك العام واستمرت حتى أواخره، وكانت البداية بخبر جاء فيه أن "الحكومة السنية عولت على أن تمنع صرف الإسعاف الذى كانت تخصصه لتعليم بعض الشبان المصريين في باريز وتستبدله بمبلغ أقل منه لتنفقه في سبيل تعليم هؤلاء الشبان في عواصم أوربا"، وكان من الطبيعى ن تعرب الأهرام المُنحازة للثقافة الفرنسية عن أملها أن "ما يقال في هذا السبيل غير قرين الصحة"!

في 19 من نفس الشهر قدمت الأهرام تحقيقًا طويلا حول المبلغ المخصص سنويًا "لتهذيب التلامذة المصريين في فرنسا"، وقد صورت الحكومة القضية وكأن الهدف الأساسى منها توفير الأموال، وهذا صحيح، غير أنه لم يكن الهدف الوحيد..

توفير مبلغ 67 ألف فرنك سنويًا، وهو المبلغ الذى كان يُدفع "بصفة راتب للنائب عنها في باريز بخصوص الرسالة وتدفع مبلغًا آخر له مقابل إدارة الرسالة" أمكن تحقيقه بالاستغناء عن النائب المذكور!

الأهداف الأخرى بدت في سائر القرارات، وكان بعضها فاضحًا في كشف السياسات الجديدة..

قرار بأن يرسل المبلغ المخصص لكل مبعوث، وقدره 25 ألف فرنك، إلى رئيس المدرسة الموجود فيها، وكان معنى ذلك ببساطة تفكيك الإرسالية كهيئة دائمة، وتحويل دور الحكومة إلى الإنفاق على مجموعة من التلاميذ بشكل فردى، لينتهى هذا الانفاق بانتهاء تعليم هؤلاء.

أكدت حكومة نوبار هذا الاتجاه بما جاء في نفس القرار بألا "يجتمع التلاميذ في مدرسة واحدة بل يفترقون إلى مدارس عديدة"!

قرار آخر وكان مضحكًا "بأن لا يزيد سن التلميذ المرسل منذ الآن فصاعدًا عن 12 سنة"، ونظن أنه كان مقصودًا من وراء هذا القرار وقف الإرساليات العلمية إلى باريز على ضوء متوسط أعمار المبعوثين ممن كانوا يُرسلون من قبل..

وإذا لم يكن لدينا إحصاء دقيق عن هذا المتوسط فيكفى أن نشير في هذا الصدد إلى قمتين من قمم أبناء "الإرساليات العلمية" في القرن التاسع عشر.. رفاعة رافع الطهطاوى الذى ذهب في بعثته عام 1826 وكان قد تجاوز الخامسة والعشرين، وعلى مبارك الذى كان عضوًا في إرسالية عام 1844 وكان قد بلغ الواحد والعشرين.

القرار الثالث بأن "لا يسوغ إرسال أولاد الأغنياء على حساب الحكومة بل أولاد الفقراء الذين برهنوا على نجابة وهمة"، ومع ما يبدو من ظاهر هذا القرار من اتجاه حكومي على إرساء مبادئ العدل الاجتماعى فإنها، في تقديرنا، كانت بداية لتملص نظارة المعارف من إرسال أي من التلاميذ "على حساب الحكومة".

وقد حاول مجلس النظار الذى اتخذ هذه القرارات أن يموه على الرأي العام المصرى بقرار بإرسال "خمسة تلامذة سنويًا إلى فرنسا، علاوة على هذا العدد المعين حاليًا ليشتغلوا بدرس الطب البيطرى"، وقد صدقت الأهرام ذلك، مع كل ما يحمله من تناقض مع سائر القرارات، وعبرت عن تصديقها بالقول أن الحكومة لم تلغ "رسالة باريز بل زادت في أعداده والتفتت إلى تحسين حالتها وإننا نصدق على آراء دولتلو نوبار باش هذه، المبرهنة على اهتمامه بتحسين حالة الرسالة ونشكر التفاته إلى النظر في أمرها"، وهو شكر لم يكن في محله فيما أثبتته الأيام.

فقد أعقبت الحكومة المصرية قراراتها بإرسال أحد موظفيها الفرنسيين هو موجيل بك، رئيس مدرسة المعلمين، إلى باريس ليكون "مندوبًا لها لدى نظارة المعارف الفرنسية: وقد بدا أن الرجل مرسل لمهمة محددة.. تصفية كبرى الإرساليات العلمية المصرية في أوربا.. إرسالية فرنسا.

بالمقابل ظهرت نظارة المعارف وكأنها تشجع توجيه الإرساليات إلى إنجلترا، فيما بدا في إعلان لها في أكتوبر عام 1889 بأنها انتقت مدرسة (جرامار سكول) في بورتسموث لإرسال التلامذة "فمن شاء إدخال أولاده في هذه المدرسة فليخابرها في هذا الشأن على شرط دفع 150 جنيهًا عن أجرة التعليم مدى السنة ما عدا مصاريف السفر"، مما يكشف بدوره عن تخلى النظارة عن دورها في الإنفاق على الإرساليات.

وبينما كانت الاعتبارات السياسية تدفع الحكومة إلى المضي قُدمًا في إنهاء وجود "الإرساليات العلمية" الحكومية في الخارج، فإن الاعتبارات الاجتماعية قد لعبت دورًا آخر.. وهو الدور الذى سار في اتجاه معاكس.. اتجاه استمرار هذه الإرساليات، ولكن بأيد مختلفة.. أيدى الأهالى!

من هذه الاعتبارات، أن أكثر من سبعين عامًا من التعليم الحديث كانت قد صنعت قاعدة بشرية مؤمنة بقيمة هذا التعليم في صناعة مكانة خاصة لمن انخرطوا في سلكه، وهو ما أثبتته تلك الأعوام حين تولى أبناء هذا التعليم أغلب المناصب القيادية في الإدارة الحكومية وفى العمل العام، وكان على رأس هؤلاء أبناء الإرساليات العلمية.

منها أيضًا، أنه كانت قد نشأت خلال تلك الحقبة طبقة قادرة على الإنفاق على بنيها، وإرسالهم في بعوث على حسابها.. طبقة كبار ومتوسطى ملاك الأراضى الزراعية.

فقد ارتأى هؤلاء في سعيهم لعقد الزواج بين الثروة والسلطة، بأن الطريق الأقرب لهذا العقد أن ينال أبناؤهم نصيبًا متميزًا من التعليم يدفعهم إلى سلك الإدارة العليا، وهو سلك بدأ يدخله المصريون على نطاق ضيق منذ عصر سعيد وذاقوا حلاوته!

لعل تلك الأخبار الأربعة التي نشرته الأهرام فيما يزيد قليلا عن شهر، بين 23 أغسطس و30 سبتمبر عام 1887، تؤكد هذه الحقيقة..

الخبر الأول، جاء فيه "أن حضرة الشاب النبيه هارون أفندى نجل عزتلو سليمان بك موسى قدم امتحانه في مدرسة باريز عن درسه في الحقوق فنال الشهادة المشيرة إلى نباغته وفوزه في علومه"!

الخبر الثانى، يشير إلى سفر "حضرة الذكى الأديب محمد بك نشأت نجل سعادتلو أحمد باشا قاصدًا جنيف من أعمال سويسرا للدخول في مدرستها المعروفة بمدرسة هاكيوس لتلقى العلوم فيها"!

الثالث، جاء فيه "أن حضرة محمد حلمى بك نجل المرحوم حسن باش الطوبجى وحضرة يوسف بك صديق نجل المرحوم إسماعيل باشا صديق قد نالا الشهادة الثانوية.. وفى عزمهما أن يتوجها إلى أوربا ليدخلا مدرسة مونبلييه ويدرسا فيها الحقوق".

الخبر الأخير، جاء فيه أن "حضرة حبيب أفندى خياط أحد أبناء عائلة خياط الشهيرة في أسيوط قدم إلى العاصمة بقصد السفر لوندرة لإتمام علوم الطب"!

بيد أن التحول من الإرساليات الأميرية إلى الإرساليات الأهلية قد ترك بصمة على أبنائها رصدتها الأهرام..

***

خط أول في هذه البصمة بدا من دخول قوى جديدة في ميدان إرسال البعوث إلى أوربا بعد أن تخلت نظارة المعارف عن دورها الذى كان قد انتهى تقريبًا عام 1895، حتى أن أحد المراجع يشير إلى أنه كان لهذه النظارة في ذلك العام مبعوث واحد في فرنسا، مما كشف عن أن الإرساليات الأميرية كانت قد انتهت تقريبًا وقتئذ.

من تلك القوى الخديوى عباس حلمى الثانى، الذى كان يرمى إلى تدعيم نفوذه في أوساط الأفندية واستخدامهم في العمل السياسى ضد الاحتلال، من ثم لم يقع الخبر الذى نشرته الأهرام في 20 يونية عام 1894 موقع الاستغراب، والذى جاء فيه "اعتزام الخديو إرسال إثنين من أبرع تلامذة المدارس الزراعية إلى فرنسا لإتمام دروسهما على نفقة سموه الخاصة"، منها أيضًا الجمعيات الأهلية التي تأسست على نطاق واسع خلال تسعينات لقرن وكانت معنية بالتعليم في جانب من نشاطاتها، مثل الجمعية الخيرية الإسلامية وجمعية التوفيق القبطية وغيرها، منها ثالثًا بعض المؤسسات الحكومية التي كان يحتاج سير العمل فيها إلى خبرة خاصة، مما يكشف عنه خبر في الأهرام أعربت فيه مصلحة السكك الحديد عن نيتها على إرسال خمسة من أمهر التلامذة "إلى مدرسة موننج في سويسرا لصرف سنة فيها.. ثم يصرفوا سنة في فرنسا وسنة في إنجلترا وبهذه الواسطة يكونون درسوا حالة السكك في فرنسا وإنجلترا وألمانيا لأن مبادئ سويسرا ألمانية ثم يرجعون إلى مصر وتستخدمهم المصلحة".

الخط الثانى من البصمة بدا في ذهاب عدد من المهنيين إلى الخارج وقضائهم فترات يسعون من ورائها إلى ترسيخ أقدامهم في حقل المنافسة المهنية، الأمر الذى فعله عديدون كان على رأسهم الزعيم المصرى المشهور سعد زغلول الذى التحق بجامعة باريس في أوائل عام 1896 لينال شهادتها وكان قد اقترب من الأربعين، ولم يكن وحيدًا في هذا الميدان.

تقدم الأهرام أخبارًا عديدة عن هؤلاء نختار منها خبرين لدلالتهما..

خبر نشرته الصحيفة في 6 مارس عام 1891، جاء فيه أن "حضرة الطبيب النطاسى الفاضل الدكتور أسعد أفندى سامح الذى صرف مدة 15 سنة في خدمات الحكومة الطبية ذهب إلى باريز فدرس فيها طب العيون بأنواعه منها أربع سنوات نال فيها أعظم الشهادات الناطقة بمهارته وحذقه"!

خبر آخر بعد ذلك بخمسة شهور، فقد بشرت الصحيفة برجوع الأديب الذكى الدكتور شافعى بك من فرنسا "بعد أن درس علم الحقوق ونال الشهادة الدالة على أهليته.. وأنه مع معرفته التامة بصناعة الطب ومعاطاته هذه الحرفة زمنًا طويلا وحصوله على ثقة العموم فيها قد قصد باريز ووقف موقف أولاد المدارس طلبًا لعلم الحقوق إلى أن نبغ فيه ونال الشهادة الناطقة بفضله"!

الخط الثالث، وكان خطًا سياسيًا ظهر في نشاط حكومي لإبطال وجود التلامذة المصريين في فرنسا على وجه الخصوص، وهو النشاط الذى جاء في مجموعة من الأخبار منها توقف الجهات الإدارية عن تعيين هؤلاء، مما أحبط تطلعاتهم إلى المكانة الاجتماعية من خلال السلطة الحكومية، وكان منها استدعاء بعضهم قبل أن يتموا بعثاتهم وإغرائهم بوظائف فيها، مما أشارت إليه الأهرام في العدد الصادر في 26 ديسمبر عام 1894 بأن نظارة الداخلية استدعت عشرة من طلبة الحقوق الدارسين في فرنسا ووعدتهم بوظائف فيها(!)، وكان منها أخيرًا سعى نظارة الحقانية لوقف "الإرسالية المصرية إلى فرنسا لتعليم الحقوق"، وكان واضحًا أن هذا النشاط لم يكن موجهًا فحسب إلى الإرساليات الأهلية في فرنسا، وإنما كان موجهًا على وجه التحديد لطلاب الحقوق بها، لأنهم كانوا يُشكلون الكتلة الأهم من ناحية، ولأنهم بدأوا نشاطهم السياسى المعادى للاحتلال البريطاني منذ وقت مبكر من ناحية أخرى، مما صنع الخط الأخير من البصمة وأشدها غورًا، فيما شهدته أحداث عام 1895.

كانت المناسبة انتخاب المسيو فلكس فور رئيسًا لفرنسا، وكان معروفًا بصداقته لمصر، فرفع الطلاب المصريون خطابًا له وكان ذا طابع سياسى، فقد جاء فيه أن "المسألة المصرية معروضة في معرض البحث وهى مسألة نتشوق بلهفة إلى حلها حلا سريعًا.. ونرى كل العيون في مصر ملتفتة إلى الأمة العظيمة الصديقة (فرنسا) آملة أن ترى في الختام مجيئ ساعة الخلاص والفرج"، تبع ذلك أن استقبل الرجل في الإليزيه وفدًا من هؤلاء الطلبة صباح يوم 4 فبراير مما فتح على الجميع أبواب جهنم، وكانت الأهرام هناك!

فقد احتفت الجريدة احتفاء ظاهرًا بتلك الأخبار ونشرتها في مكان بارز على صفحاتها، ففضلا عن الدفاع عن الطلبة المصريين في فرنسا في تعليقها على تلك الأخبار، فقد نشرت مقالا طويلا شغل أغلب الصفحة الأولى من العدد الصادر يوم السبت 23 فبراير.. العنوان "التهديد بالباطل" والكاتب مصطفى كامل الذى كان يوقع باسم "المصرى الأمين".

رد الشاب المصرى الواعد أولا على جرائد الاحتلال التي نسبت للشبان المصريين "الغرور والجنون ولأعمالهم الطيش والخفة"، وأبدى دهشته على من يعجبون "لأن آمالنا موجهة إلى فرنسا وهى التي برهنت المرة بعد الأخرى على أنها ظهيرة الحرية ونصيرة الاستقلال"، وهتم مقاله بإنذار للمحتلين بأن شدة "حنقهم على المتظاهرين في فرنسا ستزيد التظاهرات ضدهم وتكثر المتظلمين لأوربا منهم".

لم يمض وقت طويل حتى وضع الرجل إنذاره موضع التطبيق عندما توجه في يونية من نفس العام إلى مجلس النواب الفرنسي وسلم رئيسه رسمًا "يُمثل الشعب المصرى طالبًا إسعاف فرنسا محررة الأمم والشعوب"، وقد أسهبت الأهرام في وصف هذا الرسم الذى تبدو فرنسا فيه "منكسرة الجفون إشفاقًا وحنانًا ومدت يدها لتناول عريضة ترفعها إليها الأمة المصرية الممثلة بجماعة من المصريين على اختلاف هيئاتهم، وقد رفعوا العلم الوطنى وتقدم واحد منهم ورفع العريضة باحترام، وفى أسفل أسد رابض وعيناه تقدحان شررًا وبجواره رجل لابس قبعة إنكليزية عار إلى نصفه وبين يديه سيف مرهف"، ويرى كثيرون أن هذا العمل بمثابة البداية "للحركة الوطنية الجديدة في مصر"، والتي انطلقت بالأساس من أبناء "الإرساليات العلمية الأهلية"!