ads

Bookmark and Share

الثلاثاء، 12 يناير 2021

108 محاكمة "عامل التلغراف"

 محاكمة "عامل التلغراف"

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 23 نوفمبر 1995م - 30 جمادى الآخرة 1416هـ


في ظهر يوم الثلاثاء 26 يوليو 1896 تلقى مكتب تلغراف الأزبكية برقية سرية من السردار كتشنر باشا، الذى كان يقود وقتئذ الحملة المصرية لفتح دنقلة.. البرقية كانت موجهة إلى "سعادة ناظر الحربية" وكانت حول أوضاع القوات العسكرية خلال تقدمها في أراضى المديرية السودانية.. جاءت البرقية في أكثر من صفحة قليلا (566 كلمة على وجه التحديد) وباللغة الفرنسية التي كانت لغة التخاطب وقتئذ بين المحتلين وكبار رجال الإدارة المصرية، بحكم أنها كانت اللغة الأوروبية التي استمر يجيدها الأخيرون!

كما هو الحال في تلك الظروف فقد تم إرسال البرقية، وعلى الفور، إلى نظارة الحربية حيث سلمت لأحد الجاويشية الإنجليز فأرسلها سريعًا إلى ناظر الحربية في بيته فتلاها بمفرده واحتفظ بها، وإلى هنا والأمر عادى، ولكن ما حدث بعد ذلك لم يجعله عاديًا..

فقد صدرت جريدة المؤيد المعادية للإنجليز، بعد يومين بالضبط، في صباح يوم 28 يوليو، وقد نشرت الترجمة العربية للبرقية السرية، التي لم تعد كذلك(!)، وقامت الدنيا ولم تقعد، على الأقل لمدة الشهور الأربعة التالية، فقد دخلت هذه البرقية التاريخ، وهو توصيف ليس فيه أية مبالغة!

نترك الشهادة على ذلك للزعيم المصرى الشهير مصطفى كامل الذى كتب بعد نحو عام، وفى 17 أغسطس عام 1897، مقالا في إحدى الجرائد الألمانية، برينرتا جبلاط، كان مما جاء فيه بالحرف الواحد وهو يتناول موقف الإنجليز من صحيفة "المؤيد" قوله أنهم رأوها تحارب الاحتلال بسلاح الحقيقة الساطعة فاضطهدوها وساقوا مديرها للمحاكمة بحجة أنه ساعد "على إذاعة تلغراف رسمي بنشره في جريدته، وقد أحدثت هذه القضية في مصر تأثيرًا كبيرًا وكانت المسألة الوحيدة حين ذاك لشاغلة لأفكار المصريين والأوروبيين عامة"!

يستدعى ذلك أن نتابع القصة من أولها، غير أنه قبل هذه المتابعة ينبغي التذكير بأمرين..

الأول: أن الخريطة الصحفية كانت قد تحددت خلال ذلك الوقت، فقبل سبع سنوات، وفى عام 1889 على وجه التحديد، كانت قد صدرت صحيفتان يوميتان، المقطم التي لم يمض وقت طويل حتى أسفرت عن وجهها كصحيفة ممالئة للاحتلال مائة في المائة، وكان يملكها ويديرها شاميان هما نمر ويعقوب صروف، والمؤيد التي نضحت منذ أعدادها الأولى باتجاهها كناطقة بلسان جماعة الوطنيين.

وفى خلال تلك السنوات السبع بدت الصاحفة المصرية الكبيرة، وكأنها قد انقسمت إلى معسكرين.. المعسكر الممالئ للاحتلال تمثله المقطم والوطمن وبعض الصحف الإنجليزية على رأسها الاجبشيان جازيت، والمعسكر المناهض للإنجليز تمثله المؤيد والأهرام وبعض الصحف الفرنسية على رأسها الفار دالكسندرى.

الثانى: وهو مترتب على الأمر الأول، فعلى الرغم من أن القضية من أن القضية كانت متعلقة بالأساس بالمؤيد التي أفردت لها الصفحات الطوال فإن الأهرام بحكم انحيازها، وبحكم أنها قد أصبحت قضية رأى عام، فيما تأكد خلال وقائع نظرها، قد أفسحت بدورها للقضية صفحاتها، وهو ما نتابع تطوراتها منها.

***

تبدأ القصة مع ما فرضه الإنجليز من قيود صارمة على أخبار الحملة المصرية المتقدمة نحو دنقل، في وقت كان جموع المصريين يتشممون أيًا من تلك الأخبار، وكانت الصحافة المصرية جائعة لها.

وتبدو درجة الصرامة في منع الأخبار من ذلك التعليق الذى بعث به مكاتب الأهرام في أسوان في 27 أبريل، والذى نشرته الجريدة على صدر صفحتها الأولى بعد ثلاثة أيام معتذرة للقراء عن تقصيرها في تقديم أخبار الحملة.. جاء فيه: "لقد احتكر العرابيون الأخبار وقيدوا حرية المواصلات ولكن ليس كما يجرى الآن في بلاد الحدود التي شهرت فيها الحكومة (الأحكام) العرفية فأولئك عينوا موظفين منهم في كل مكتب تلغرافى يراقب الصادر والوارد فيمنع ما فيه مساس بالأعمال العسكرية ويطلق سراح الباقى.. وعلى من يريد إرسال إشارة برقية الحصول على الإذن بإرسالها من حضرة كوكرن بك قومندان العرف في أصوان أو سعادة السردار في حلفا وفى خمس ساعات أو أكثر في بعض الأحيان يرد إليه الإذن المطلوب.. وكل ما لا يُرخص بإرساله يرفض"!

زاد من وطأة هذا المنع أنه بينما كان يطبق بكل شدة على الصحف الوطنية كانت تخف يده كثيرًا عن الصحافة الموالية للاحتلال، حتى أن المؤيد والأهرام كثيرًا ما اضطرتا أن تستقيا أخبار الجنود المصريين في الحملة من المقطم أحيانًا ومن الصحف الإنجليزية أحيانًا أخرى رغم وجود مراسلين لها في أسوان، ولابد أن هذا الوضع كان فوق ما يطيق المسئولون عن تلك الصحف الذين أخذوا في البحث عن ثقب في حائط المنع ووجده الشيخ على يوسف صاحب المؤيد.

باختصار شديد تابع الرجل رحلة التلغرافات الرسمية الصادرة من قيادة الحملة إلى القاهرة، فوجد أنها تصدر عن مكتب حلفا إلى مكتب الأزبكية الذى كان على المسئول فيه أن يرسل بها فورًا إلى نظارة الحربية، وعند (فورًا) هذه توقف الشيخ على يوسف الذى رأى أن تأخير البرقية ساعة أو بعض ساعة لن يؤثر فيها كثيرًا يتم خلالها نسخها، فلم تكن وسائل التصوير متوافرة عندئذ.

بقى بعد ذلك الوصول إلى أحد العاملين في مكتب الأزبكية وعثر عليه الشيخ على يوسف في شخص "توفيق كيرلس" عامل التلغراف" بالمكتب الذى توافرت له قدرة نقل "التلغرافات الفرنسية".

ولم تكشف المحاكمة أو المقالات التي كتبت حولها عن الطريقة التي تمكن بها الشيخ من تجنيد الأفندى.. بالمال أم باستثارة المشاعر الوطنية، أم بكليهما، وإن كان من المؤكد أن التجنيد قد تم!

كشف عن ذلك التحقيق الذى أجرته النيابة، ففي البداية ألقت مصلحة التلغرافات مسئولية إفشاء محتوى البرقية على نظارة الحربية الأمر الذى استفز ناظرها "فأرسل سعادته برقية عنيفة من الإسكندرية يقول فيها أن التلغراف بقى فيى جيبه يومين ولم ينظره أحد، وتعلق الأهرام بالقول أن التحقيق قد انقلب بذلك على مصلحة التلغرافات، خاصة مكتب الأزبكية، وقبض على عامل التلغراف الذى تلقى البرقية، توفيق كيرلس، وكان الدليل الذى توافر ضده أنه عثر في جيبه على صورة برقية مرسلة من مكاتب جريدة "الديلى نيوز" إلى جريدته، واتهم بأنه كان ينوى أن يبعث بها إلى المؤيد.

شمرت المؤيد ومعها الأهرام عن السواعد للدفاع عن كيرلس منذ اللحظة الأولى، وكانت الأخيرة الأكثر مصداقية بحكم أنها لم تكن طرفًا في القضية..

كتبت الأهرام خلال الأيام الأولى من التحقيق "راح الفتى القبطى ضحية وهو إنما كان ينسخ التلغرافات الأفرنجية على ما قاله في أثناء التحقيق ليتمرن على قراءتها إذ أن رئيسه رآه يغلط أحيانًا فكفه عن العمل وأجلس غيره يشتغل مكانه. وقال الفتى أنه لا يعرف صاحب المؤيد وبالتالي لم يره رسالة برقية قط"، ولم تكتف الأهرام بتقديم أخبار التحقيق بشكل ينفى عن عامل التلغراف التهمة وإنما تطوعت لتقديم دفاع مبكر عن "الفتى" كما كانت تصفه.

جانب من هذ الدفاع انصرف إلى التأكيد على عدم كفاية الأدلة لتقديم كيرلس إلى المحاكمة "فالقرائن التي قدمتها مصلحة التلغراف من مثل وجود رسالة برقية في جيب المتهم ما ل تقوم عليه دعوى بجنحة أو جناية".

جانب آخر أن عامل التلغراف لا يطبق عليه نص القانون والذى جاء فيه: "كل من أخفى من موظفي الحكومة أو البوسطة أو مأموريهما أو فتح مكتوبًا من المكاتيب المسلمة للبوسطة أو سهل ذلك لغيره يعاقب بالحبس من 3 أشهر إلى 3 سنين.. كذلك كل من أخفى من موظفي الحكومة أو مصلحة التلغرافات أو مأموريهما تلغرافًا من التلغرافات المسلمة إلى المصلحة المذكورة أو إفشاه أو سهل ذلك لغيره يعاقب بالعقوبة المذكورة".

كانت حجة الأهرام في أن الفتى "لا يعاقب لأنه غير موظف ولا مأمور ولا مشترك بل هو عامل باليومية لا يعين بقرر مكتوب ولا يتمتع بشئ من حقوق الموظفين وامتيازاتهم.. هذا لو قدرنا جدلا أن الفتى القبطى ركب الذنب المنصوص عنه في القانون"!

ولعل الأهرام في دفاعها عن "توفيق كيرلس" قد تبينت أن "عامل التلغراف" لم يكن مقصودًا لذاته، وإنما المقصود كان جريدة المؤيد ومعها كل الصحافة الوطنية، وأن هناك رائحة مؤامرة ممن أسمتهم الأهرام "أرباب إحدى الصحف الذميمة السوداء"، تقصد المقطم، وبين سلطات الاحتلال لضرب المؤيد مجسدًا للصحافة الوطنية.

وحذرت من الزج بالمؤيد في هذه القضية لأن من يفعل ذلك لن "يليه إلا أسف الجاهل على ما جهل من القانون"، فقد رأت أنه للوصول إلى هذا الهدف يجب أولا "أن تثبت التهمة على القبطى ويعتبر العامل باليومية كالموظف أو المأمور، ويم يقول المجرم أنه أفشى للمؤيد أسرارًا.. ثم يثبت أن تلغراف السردار لم يخرج من مصلحة التلغراف حين نشره في المؤيد ثم يثبت أن نشر الجريدة لخبر كهذا اشترك في إفشاء سر"!

كان هذا ما كتبته الأهرام في 11 سبتمبر ولكن ليس كل ما تمنته أدركته، فقد جرت الأمور خلال الشهر التالى على نحو قاد "عامل التلغراف" وجريدة المؤيد إلى ساحة المحكمة، واتهمت الأهرام جريدة المقطم ورجال الاحتلال بأنهم كانوا وراء ذلك..

جاء اتهام المقطم أولا تلميحًا حين قالت "إن هذا الشاب المسكين دعا إلى بعض المحلات، وكانت فيها محافل بعض المحلات، وكانت فيها محافل من أهل الدسائس، وأغرى ووعد وأوعد بأن يكتب شيئًا يستشف منه اتهام المؤيد فأبى وقال إنى برئ ولا أريد أن يقع معى في الاتهام برئ آخر"، وهو التلميح الذى انتهى إلى تصريح بعد ذلك.

ففي العدد الصادر في 24 أكتوبر قالت الأهرام إن "جماعة من أهل المفاسد احتالوا على توفيق كيرلس المتهم بسرقة التلغراف فاجتمعوا به في إدارة المقطم لحملة على إشراك صاحب المؤيد في التهمة وأن كل ضروب الإغراء بالوعد والوعيد استعملت في هذا السبيل"!

بالنسبة لرجال الاحتلال فقد أشارت الأهرام بأصابعها إلى أحد كبار رجالهم المدعو "سعادة جنسون باشا" واتهمته أنه كان الشخصية المحركة وراء المحاكمة.. قالت أنه بعد أن "كتبت نظارة الحقانية بناء على تقرير الأفوكتو العمومى كتابًا رسميًا أنه لا وجه لإقامة الدعوى على هذه الجريدة فإن سعادة جنسون باشا أكره الحقانية والنيابة على تخطئة نفسهم وفعل عكس ما قررناه"!

أكثر من ذلك أن المسئولين الإنجليز منعوا النائب العمومى من الاطلاع على أوراق القضية مما كان محلا لتعجب الأهرام، ولم يكن أمام الجميع إلا أن يذهبوا إلى محكمة عابدين الجزئية التي تقرر أن تنظر القضية يوم السبت 16 نوفمبر لتصبح المسألة الوحيدة الشاغلة لأفكار المصريين والأوروبيين معًا، على حد تعبير مصطفى كامل.

***

يقدم مكاتب الأهرام في العاصمة صورة قلمية لما حظيت به المحاكمة من أهمية، فيقول أنه وصل إلى المحكمة في الساعة السابعة صباحًا "فوجدت فيها زحامًا مع أن ميعاد الجلسة مضروب الساعة التاسعة، واستمر الزحام يزداد حتى أصبح فناء الدار يموج موجًا بالطرابيش والعمائم وبعض القبعات وكانت الشرفات العليا غاصة بالناس وكذلك ما خارج البيت حتى كان لا يظهر من الأرض للمشاهد إلا محلى خطى الترام في الشارع.. ومع أنى كنت من السعداء الذين استطاعوا الدخول من باب غير مفتوح للعامة فقد أصابتنى لطمة أحدثت عندى صداعًا شديدًا طول هذا النهار"!

وقد جرت المحاكمة على امتداد ست جلسات واستغرقت نحو 22 ساعة، رأس المحكمة القاضي محمد بك خيرت ومثل النيابة على أفندى توفيق، أن الدفاع فقد تولاه اثنان من أكبر المحامين المصريين في ذلك العصر، إبراهيم بك الهلباوى الذى وصفته الأهرام بأن لسانه كان "كالسيف الذرب للحق في رقبة الباطل"، وأحمد بك الحسينى الذى "أخذ يشنف المسامع بدر من لفظه الشائق ومعناه الرائق"!

اليوم الأول خصصته المحكمة لمرافعة النيابة وشهادات شهود الإثبات، ويبدو أن مهمة على أفندى توفيق كانت سهلة في إثبات التهمة على "عامل التلغراف" ولكنها لم تكن كذلك بالنسبة لصاحب المؤيد، وإن لم يكن ذلك رأى مكاتب الأهرام الذى استعرض أولا أقوال وكيل النيابة "لإثبات التهمة على كيرلس وسرد شيئًا من سوابق هذا الشاب ثم انتقل إلى إثبات مشاركة الشيخ على يوسف فنكر أن معرفته لكيرلس أكثر من معرفة بسيطة وأن نشر التلغراف بحرفه مترجمًا يدل على أنه لابد أخذه ولابد أن يكون معطيه إياه كيرلس"!

رأى مكاتب الأهرام أن مرافعة وكيل النيابة "مبنية على أدلة واهية شرفها حضرته بتلقيبها بالبسيطة وأن كل الاستنتاج فيها مبنى على (ولابد أن يكون كذا بالنتيجة من كذا) ويعلم كل جاهل أن مثل هذا لا تبنى عليه أحكام جنايات وجنح كبرى"!

وعلى نفس قدر محاولة الأهرام التهوين من قيمة مرافعة على أفندى توفيق جاء احتفاؤها بالغًا بمرافعات المحامين الشهيرين إبراهيم بك الهلباوى وأحمد بك الحسينى.

الأول استهل مرافعته بالإشارة إلى الضغوط التي تعرض لها توفيق افندى كيرلس من رؤسائه في مصلحة التلغراف، دلف من بعدها ليدلل على أن الوقت بين وصول البرقية من السردار وإرسالها إلى ناظر الحربية لم يزد عن 13 دقيقة، وهى مدة غير كافية بكل المقاييس لنقل هذه التلغراف الذى قاربت عدد كلماته ستمائة كلمة.

انتقد المحامى المعروف أيضًا ما لجأت إله السلطات من تفتيش منزل والدة المتهم كيرلس "غير محترمة للمخدرات فيه". وهو في هذت قد امتدح الفتى ورأى أن "عدم اشراكه صاحب المؤيد معه في التهمة مع كل ما وعد أو أوعد به وأنه حفظ بذلك على أخوة الأقباط والمسلمين رغمًا عن المقطم الذى يغرس الشر والشقاق أبدًا بين العائلتين اللتين تعايشتا قرونًا طويلة في مصر من قبل بكل صفاء وسلام"!

الأهم من كل ذلك أن الهلباوى عرض للجانب السياسى من القضية وأن المحتلين أنفسهم لو كانوا مكنا القاضي المصرى وسمعوا أقوال النيابة الواهية لحكموا ضد مصلحتهم ولا ريب"!

ويعلق مُكاتب الأهرام بأنه "بهذا المعنى ختمت مرافعة الهلباوى وكاد الجمهور يصفق لها ساعة من الطرب والسرور لولا حرمة المكان"!

المحامى الشهير الثانى اتخذ منحًا مختلفًا، فهو من ناحية قد ركز في دفاعه على موقف الشيخ على يوسف دون أن يحذوا حذو زميله في محاولة تبرئة الشيخ من خلال إبراء ذمة الأفندى، وهو من ناحية أخيرة اهتم بالضرر الذى يمكن أن يترتب على إذاعة مثل هذ التلغراف.

من الناحية الأولى فلم يكد أحمد بك الحسينى يشير إلى توفيق كيرلس في مرافعته الطويلة التي نشرها الأهرام إلا في المواقع التي يحتمها دفاعه عن الشيخ على يوسف.

من الناحية الثانية كان من رأيه أن التغراف لذى تنطبق عليه المادة التي جاءت في القانون هو "التلغراف المكتوب بعلامات سرية (يقصد تلغرافات الشفر ة) ويكون عنده علم بسر تلك العلامات فهذا الأمران وحدهما يعاقب القانون عليهما دون سواهما"!

أخيرًا فإن الحسينى بك رأى أن نشر تلغراف السردار لم يجلب "على الهيئة العامة (يقصد المجتمع) تكديرًا أو مضرة وأن صاحب المؤيد بنشره التلغراف أرضى الناس جميعًا على اختلاف طبقاتهم، والدليل على ذلك تجمهرهم في المحكمة لتنشيطه وإبداء سرورهم من عمله الذى يفتخر به".

والملاحظ أن مكاتب الأهرام لم يحتف بمرافعة أحمد بك الحسينى بقدر احتفائه بمرافعة الهلباوى بك فقد علق عليها بقوله "كان كلام هذا الفاضل مما أثار الشجون وحرك العواطف ودعا إلى الاقتناع التام بالبراءة"، وهو تعليق افتقد كثيرًا من أسباب الحماس!

بعد أن انتهى الجميع من مرافعاتهم وعند منتصف الساعة الخامسة من مساء يوم 19 نوفمبر عام 1896 أصدر محمود بك خيرت الحكم وكان نصه" "بناء على المادتين 171 و151يحكم حضوريًا على توفيق كيرلس المتهم الأصلى بالحبس 3 أشهر واغترام ربع نفقات القضية وتبرئة الشيخ على يوسف صاحب المؤيد"، وكان لهذا لحكم صداه.

الجمهور داخل وخارج المحكمة وعلى الشرفات هجموا على الشيخ يهنئونه وحمله "جماعة من السراة وخرجوا به مصفقًا له مشرفًا إلى أن وجدوا عربة فوضعوها بها وساروا أمامها وخلفها كأنهم في حفلة عرس عظيم".

ولم تنس الأهرام في هذه المناسبة الرد على المقطم التي استمرت تتهم هذا الجمهور بأنهم جماعة من الرعاع فعلقت بقوله أن "معظم الجمهور كان من وجوه الوجوه وعيون الأعيان، والآخرون من ذوى الحالة الطيبة بين عامة الناس لا من الرعاع على زعم الكاذبين"!

ومع ن الصحافة الوطنية قد أبدت أسفها على عدم تبرئة "عامل التلغراف" إلا أنه خفف من حدة الأسف أن القاضي قد حكم على الرجل بالحد الأدنى من العقوبة التي قرره القانون على مثل جريمته (3 أشهر إلى 3 سنوات) وأن هذا العامل البسيط قد دخل التاريخ نتيجة لموقفه.

غير أن القضية في جانبها العام كانت الأهم فإن الحكم ببراءة المؤيد كان بمثابة انتصارًا للصحافة الوطنية على سلطات الاحتلال، الأمر الذى دعا الأهرام إلى أن تكيل المديح "لحضرة القانونى الطاهر الذمة الفاضل محمود خيرت بك قاضى محكمة عابدين الجزئية"، ومصدر هذا المديح أن الرجل في رأى الدوائر الوطنية "أبدى من استقلال الضمير وشجاعة الرأي على رغم إنذارات المحتلين وتهديدات أبواقهم ما يخلد له الذكر الحميد ويرفع مكانته الأدبية إلى أعظم الدرجات".

واتجهت الأهرام في آخر مقالاتها لتغطية "محاكمة عامل التلغراف" إلى أن تطالب بأن يكون ما جرى في هذه المحاكمة بداية لمواجهة ضغوط الاحتلال ليثبت للمكابرين "أن مصر ليست على ما يقوله خصومها بفاقدة الرجال كنا هي فاقدة الجبال"، وكانت الصحيفة محقة في تفاؤلها، فقد عرف نفس العام مولد الحركة الوطنية الجديدة ضد الاحتلال.


صورة من المقال: