ads

Bookmark and Share

الاثنين، 11 يناير 2021

107 حملة إنقاذ "كلب الحراسة"

 حملة إنقاذ "كلب الحراسة"

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 16 نوفمبر 1995م - 23 جمادى الآخرة 1416هـ


"كل شيء هادئ في الميدان الشرقى". هذا ما كان يعتقده رجال الإمبراطورية في لندن فيما يخص الوضع في شرق القارة الإفريقية حول أول مارس عام 1896، بعد أن كانوا قد رتبوا كافة أوراقهم الخاصة بالمنطقة من خلال مخطط محدد للسياسات الذى ترجمته إلى سلسلة من الاتفاقات.

ارتكزت هذه السياسات في جانب منها على ترك الدولة المهدية في السودان تأكل نفسها بنفسها مثل النيران، وذلك بعد أن ضعفت جذوة الحماس الدينى التي كان قد أشعلها مؤسسها "السيد محمد أحمد المهدى"، وبعد أن أدت سياسات خليفته "عبد الله التعايشى"، الذى انحاز لأبناء قبيلته من البقارة القادمين من غرب السودان، إلى اشتعال الخلافات والإحن القبلية.

وقامت في جانب آخر على تأمين السودان النيلى من خلال سلسلة من الاتفاقات مع القوى الإمبريالية سيطرت على مناطق الجوار تمكنت عن طريقها من الحصول على تعهدات تلك الدول بعدم الاقتراب من الحوض الذى يهمها.. حوض النيل.

كان من أهم تلك الدول الملكة الإيطالية التي تأخرت في الظهور إلى الوجود حتى عام 1870، والتي بدأت في بناء إمبراطوريتها في شرق القارة على أنقاض الإمبراطورية المصرية القديمة التي انهارت مع قيام الدولة المهدية، فحصلت على مصوع وشكلت منها ومن مناطقها الداخلية Hinterland ما عرف بعدئذ باسم أريتريا، فضلا عن مناطق الصومال التي كان قد انسحبت منها الجيش المصرى.

وقد تم كل ذلك برعاية إنجليزية واضحة، فقد عرفت تلك الفترة تحالفًا غير مكتوب بين حكومتى لندن وروما، عبر عن حاجة الأخيرة إلى حملة الأسطول البريطاني في البحر المتوسط باعتبارها إحدى دول هذا البحر، وعن قبول الأولى لبناء الإمبراطورية الإيطالية في شرق إفريقيا لتقوم بدور كانت تبحث عمن يقوم به.. دور الدولة المانعة للتوسع الفرنسي في شرق إفريقيا، وهو ما أدركته حكومة باريس التي ارتأت أن إيطاليا تقوم في تلك المنطقة بدور كلب الحراسة Chien de garde للأطماع البريطانية في "الميدان الشرقى"، وهى تسمية لم يحتج عليها أحد على أي الأحوال، خاصة بعد سمح الإنجليز للإيطاليين باحتلال قسم من شرق السودان حاضرته "كسلا" لتنفيذ سياساتهم بتطويق مملكة النجاشى منليك الثانى.. بلاد الحبشة أو الحبشان على حد تسمية صحف العصر، غير أن ما حدث في أول مارس 1896 قلب كل تلك الحسابات رأسًا على عقب.

ففي بلدة صغيرة من بلاد الحبشان دخلت تاريخ ذلك العصر من أوسع أبوابه، هي "عدوة" حدث الخروج من القاعدة التي استمرت سارية طوال سنوات التوسع الإمبريالى.. قاعدة انتصار القوات الأوروبية وانكسار القوات الوطنية، فقد حدث العكس لأول مرة حين انتصرت قوات النجاشى على قوات الجنرال براتيرى أشهر جنرالات الاستعمار الإيطالى، وقامت الدنيا ولم تقعد ليس في أوروبا وحدها وإنما في مصر أيضًا التي لم تكن بعيدة في أي وقت عن أحداث الميدان الشرقى مما يشكل صفحة فريدة في التاريخ المصرى وصفحات عديدة في جريدة الأهرام تكشف لأول مرة عن موقف خاص لما جرى من محاولة إرسال حملة مصرية لإنقاذ "كلب الحراسة"!

***

عادة ما يَنظر الباحثون في تاريخ العلاقات المصرية - السودانية إلى الحملات التي تقدمت من مصر عام 1896 لاحتلال المديرية السودانية المتاخمة للحدود المصرية.. مديرية دنقلة، في إطار ما حدث بعد ذلك بعامين من تطوير هذه الحملة فيما أدى إلى إسقاط الدولة المهدية واعتبروها بالتالى مقدمة لهذا الإسقاط، وهى النظرة التي لم تحكم المصريين المعاصرين لحملة دنقلة. والتي كشفت عنها الصحف الوطنية على رأسها المؤيد والأهرام التي نقرأ قصة هذه الحملة على صفحاتها.

في يوم الأحد 15 مارس 1896، وبعد أسبوعين بالضبط من "عدوة" طَيّر مكاتب الأهرام في العاصمة برقية كان نصها "حضرة الجناب العالى بعد ظهر أمس بصورة غير عادية إلى قصر عابدين واجتمع لديه النظار فتقرر نهائيًا ما علمناه من الثقاة أن يكون مسير الحملة المصرية إلى دنقلة ويقصر الفتح عليها فقط".

ومع أن المكاتب علق على الخبر بأن سأل الله "أن يمنح الظهر لجنودنا في ظل الحضرة الخديوية الفخيمة"، فإن مدير تحرير الأهرام وف تعليق طويل منفصل تحدث عن "التصميم الفجائى" لإنجلترا على تجنيد الحملة المصرية، ونعى على الوزارة المصرية موقفها المتخاذل من المطلب الإنجليزى، وأنهى تعليقه بترديد "ما يكرره المصريون حسبنا الله ونعم الوكيل"، وكان هذا التعليق بمثابة السطر الأول من حملة طويلة شنتها الاهرام على الحملة في جملة من الأخبار والمقالات.

من بين هذه الأخبار ما كشفت عنه في بعض أعدادها عن الكيفية التي تم بها اتخاذ القرار بالحملة، فتنوه في عدد منها أن الأمر تقرر أولا "بين حضرات اللورد كرومر والسردار وقائد جيش الاحتلال.. وبعد أن صدر الأمر من لوندرا (لندن) أبلغت حكومة مصر لإنقاذه"، وتشير في خبر آخر أن الوزراء المصريين لم يعرفوا بالخبر إلا يوم السبت بعد الظهر "أي ساعة تصديقهم عليه ولم يلتمسوا دقيقة لإدارة فكرهم في دماغهم مرة واحدة قبل الإجابة على ما سألوه"!

وكانت هذه الأخبار مقدمة لتعليق طويل أسفرت فيه الأهرام عن معارضتها لحملة تحقق الأهداف الاستعمارية لدولة الاحتلال بدأتها بالسخرية فيما جاء في قولها أن إنكلترا ما قررت الحملة إلا لخدمة إيطاليا بمال مصر وعساكر مصرية"، وانتقلت من السخرية إلى التعليقات الجادة.

كان أهم تلك التعليقات ما جاء في مقال طويل في عدد الصحيفة الصادر في 20 مارس عدد فيه ما سيعود على إنجلترا من فوائد من إرسال الحملة فكانت سبعًا:

1) "إطالة أجل الاحتلال لمصر" لما سوف تنجح فيه من إيهام أوروبا بالقوة الهائلة لرجال المهدى وخطر تحرر مصر "مع ما فيها من القوة الضعيفة"!

2) "التمهيد لاحتلال السودان على أيدى القوات المصرية"، ولحساب إنكلترا "ومعلوم عند الجميع أن إنكلترا لا تطمع في مصر نفسها نصف ما تطمع في السودان"، على حد تعبير الأهرام.

3) "أما بريطانيا على أوغندا" لأن الدراويش يستطيعون بعد طرد الإيطاليين من كسلا أن يندفعوا جنوبًا في اتجاه أوغندا التي كانت بريطانيا قد أعلنت حمايتها عليها قبل عامين.

4) "الحيلولة بقوة النقوذ الإنكليزى دون تقدم أية دولة أوروبية مجاورة إلى النيل السودانى وبعض ضفافه".

5) "استرضاء إيطاليا المقهورة في الحبشة" وأن يتم ذلك باستبقاء كسلا بأيديها، وتسخر الأهرام مرة أخرى من ذلك من أنها حين تحتاج إلى مودة غير المصريين "تمنحه أملاكهم كالأسلاب المحللة"!

6) "لم شعث التحالف الثلاثى"، وقد مس الأهرام بذلك الجانب الدولى من الحملة، فإيطاليا كانت قد انضمت وقتئذ إلى تحالف دولتى الوسط، ألمانيا والنمسا، فأصبح ثلاثيًا، أما عملية "لم شعث" هذا التحالف في رأى الأهرام، فقد كانت سوف تتم بأنه "كان لابد أن يخجل إذ يرى إنكلترا تعين إيطاليا وهو لا يعينها في شيء"!

7) "استرجاع مودة إمبراطور ألمانيا" وهى المودة التي كانت قد "تزعزعت إنكلترا بفقدها تزعزعًا لم يسبق له نظير من قبل"!

وبينما أثبتت الأيام صحة ما ذهبت إليه الأهرام فيما يتصل بالفوائد الأولى والثانية والرابعة والخامسة، فقد أثبتت أيضًا أنها ركبت سفينة الشطط في بقية الفوائد، وهو ما تبينه المسئولون عن تحرير الصحيفة قبل مضى وقت طويل فآثروا النزول من هذه السفينة.

فقد أثبتت الأيام أن الدولة المهدية كانت قد ضعفت وقتئذ إلى الحد الذى لم تعد تمثل معه أي تهديد للمناطق الجنوبية بالوصول إلى أوغندا أو غيرها، الأمر الذى دعا الأهرام إلى إهمال هذا الجانب بعد ذلك، كما أثبتت نفس الأيام أن البعد الدولى للقضية كان موجودًا ولكن ليس على النحو الذى ساقته الأهرام في الفائدتين الأخيرتين.

غير أنه بعيدًا عما أثبتته الأيام جاء الموقف الأهرامى بالنظر إلى الحملة باعتبارها غرمًا بالكامل على مصر وغنما بالكامل لإنجلترا..

استمرت الجريدة تعبر عن هذا الموقف بامتداد الحملة التي استمرت لأكثر من ستة شهور (مارس - سبتمبر 1896)، فتقول في أحد تعليقاتها أنه لو استطاع الإنجليز استرجاع السودان "بالعساكر المصريين فمن المؤكد أنهم هم الذين سيجنون ثمرة جميع هذا العمل العظيم لأن جنودهم التي ستأتى بلا قتال ولا عناء لتستقر في دنقلة والخرطوم وأم درمان وبربر ودارفور عندما تكون عساكرنا قد استولوا عليها".

وقد زاد انزعاج المصريين لما تواترت الأخبار بأن حكومة لندن تنوى إرسال قوة إنجليزية تعاون في إتمام الحملة ورأوا في هذا توطئة لانتحال الدوائر الاستعمارية في لندن للذرائع لانتزاع السودان من مصر الأمر الذى دعا الأهرام إلى أن توجه خطابًا مفتوحًا إلى حضرات النظار الكرام تحت عنوان "هل نحن في حاجة إلى قوة إنكليزية لإعانتنا على إتمام الحملة" اقترحت  فيه الوسائل لزيادة "العساكر المصريين" ليس لفتح دنقلة فحسب بل لاستعادة السودان كله "ونشر الراية المصرية فيه بلا مشاركة لا يؤمن جانبها من جهة ولا تشرف القطر من جهة ثانية"، وبدا الأهرام في ذلك وكأنما يتنبأ بما يمكن أن يحدث في المستقبل، وقد حدث!

غير أن جريدتنا في كل هذا أهملت السبب المعلن للحملة.. لإنقاذ "كلب الحراسة" أو على الأقل أعطته مساحة محدودة جاءت فيما نقلته عن تصريحات المسئولين البريطانيين أو مقالات جريدة التايمز اللندنية أو بعض "تلغرافات رويتر".

فقد أعرب المسئولون البريطانيون عن الرأي بأن انكسار البريطانيون في عدوة سيؤدى إلى تشجيع الأنصار على الهجوم على كسلا، وأنهم لو نجحوا في طرد الإيطاليين منها فإن ذلك سوف يشجعهم على معاودة الهجوم على الأراضى المصرية، وأنه لا سبيل إلى تخفيف ذلك الاحتمال إلا بحملة "إنقاذ كلب الحراسة".. وقد جاءت الأخبار بعد ذلك لتزيد من هذا الهاجس، ففي خبر لرويتر: "هجم الدراويش في يوم الأربعاء الماضى أربع مراد على ممر سبدرات بالقرب من كسلا فدحروا بعد أن تحملوا بعض الخسائر"، وفى تصريح لستانلى المكتشف المشهور، أن المهديين مجتمعيون في ضواحي كسلا ولكنهم متى علموا أن الجنود المصرية تزحف نحو الجنوب نكصوا على أعقابهم وخلصت كسلا من شر هجومهم ومن الواجب أن تبقى كسلا في حوزة التليان وذلك لخير مصر ومصلحتها"!

الأهم من ذلك ما جاء في البيانات الرسمية للمسئولين البريطانيين في مجلسى العموم واللوردات كان من أهمها البيان الذى ألقاه المستر كرزون والذى جاء فيه أن الأخبار قد وصلت بأن الدراويش يتوجهون نحو طوكر وأنهم يهددون كسلا وأن "مددًا عظيمًا يدنو من دنقلة" بمعنى آخر أن الجانب البريطاني استمر يركز على أن الهدف من الحملة إنما هو إنقاذ كلب الحراسة الإيطالى.

في كل هذا بدا وكأن أخبار الحملة نفسها قد اختفت وراء عمليات الأخذ والرد التي دارت بين الصحافة الوطنية وبين المسئولين من رجال الاحتلال، غير أنه مع تقدم الأحداث أخذت هذه الاخبار تفرض نفسها.

***

أول هذه الأخيار جاء متصلا باختيار الطريق الذى تتقدم منه حملة إنقاذ كلب الحراسة.. طريق سواكن التي استمرت طوال الوقت خاضعة للسيادة المصرية، أم طريق الشمال، وكان لكل الطريقين مزاياه.

الطريق الأول كان قريبًا من منطقة وجود "كلب الحراسة" إلا أنه كان يستلزم من ناحية نقل القوات المصرية المتمركزة على الحدود إلى الشرق مما كان يتكلف جهدًا ومالا، ثم أنه كان سيفضى من ناحية إلى إلى إضعاف قوة الوجود العسكرى المصرى على الحدود بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من زيادة مخاطر التهديد المهدوى، ثم أنه من ناحية أخيرة كان سيقصر الحملة على مجرد إنقاذ الإيطاليين، وهو ما لم يكن الرأي العام المصرى مستعدًا لتقبله بسهولة.

أما الطريق الثانى ففضلا عن تجنب كل مساوئ اختيار الطريق الأول فإنه كان سيترجم عن نفسه على الأرض باحتلال مديرية دنقلة بكل مزاياه السياسية والعسكرية، ومن ثم جاء اختياره ليحقق الفوائد على أكثر من صعيد.. بدءً من صعيد إنقاذ "كلب الحراسة" ووصولا إلى صعيد توجيه ضربة مرغوبة لدولة الأنصار.

ثم أن هذه الضربة بدت وقتئذ غير مُكلفة مما تبينه رجال "قلم المخابرات" الذى كان قد أنشئ آنئذ في الجيش المصرى والذى كان رجاله يتلقون القادمين من السودان ويتعرفون منهم على أخبار الدولة المهدية، فضلا عن الهاربين من معسكرات الأنصار، على رأسهم النمسوى رودلف سلاطين (باشا)، أحد رجال الإدارة المصرية السابقين والذى قدم معلومات وفيرة عن الأحوال داخل معسكر التعايشى، ثم الهاربين من قوات التعايشى نفسه، خصوصًا من السود، الذين قبلوا الانخراط في الجيش المصرى وأصبحوا يشكلون بعض فرقه، وقد ترجمت كل تلك التطورات إلى تحول الأنصار من موقف الهجوم إلى موقف الدفاع، الأمر الذى قرره اللورد كرومر في تقريره الصادر عام 1895 والذى جاء فيه بالحرف الواحد "لم يحصل أمر جديد في العساكر إلا مناوشة في قرية على الحدود لا أهمية لها والمؤكد أنه وإن كانت للدراويش قوة عظيمة إلا أنها دفاعية محضة"!

وقبل بدء الحملة تم دعم القوات المصرية على الحدود بأفراد من الحامية الموجودة في سواكن فضلا عن ثلاث فرق من المدفعية وفيلقين من الفرسان وبطارية مدفعية ميدان وقوتين من راكبى الجمال.

وقد تقرر أن يكون التقدم تدريجيًا ومصحوبًا بمد الخطوط الحديدية هذا فضلا عن توفير السفن النهرية اللازمة، وجرت الحوادث سريعة بعد ذلك.

في 20 مارس احتلت فصيلة متقدمة من الجيش المصرى عكاشة، أعقبه في أول مايو أول اشتباك مع الدراويش في نفس الموقع انتهى بردهم وفى 7 يونية فاجأت القوات المصرية جماعات الدراويش الموجودين في فركة وقضت عليهم تمامًا حيث تقرر البقاء لنحو شهرين انتظارًا لارتفاع مياه النيل حتى تتمكن السفن النهرية من التقدم بمصاحبة الحملة، وأعقب ذلك الوصول إلى سواردة حيث وجدتها قوات الجيش خالية بعد أن انسحب منها الدراويش ليتقدم بعدها المصريون إلى كوشة انتظارًا للقيام بهجمتهم الأخيرة إلى دنقلة.

في 19 سبتمبر طويت الصفحة الأخيرة من العمليات العسكرية، وعلى بعد ستة أميال من كرمة حيث كانت توجد قلعة الدراويش وقعت المعركة الحاسمة والتي شاركت فيها السفن الحربية ووقعت الهزيمة بالأنصار الذين اضطروا للفرار نحو دنقلة التي اتجهت إليها القوات المصرية ووصلتها في 23 سبتمبر فاضطر الدراويش إلى إخلائها، وشهدت المدينة في عصر هذا اليوم الاحتفال برفع العلم المصرى على مبنى الحكومة القديم مما كان بمثابة الإعلان عن انتهاء المهمة العسكرية لحملة انقاذ "كلب الحراسة".

وبينما كانت تسير الحملة على هذا النحو الموفق على أرض المعارك فقد كانت ردود أفعالها متباينة في العواصم الأوربية وفى مصر المحروسة..

على المستوى الدولى كانت تجرى معركة بين فرنسا تدعمها روسيا، وبين إنجلترا تدعمها إيطاليا والنمسا وألمانيا، وكان ميدان المعركة "صندوق الدين" الذى كان يحتفظ بالاحتياطى من أموال الحكومة المصرية ولا يصرف منها إلا بموافقة الأعضاء الذين انقسموا على أنفسهم، وجاء الخلاف بين أن يكون قرار هؤلاء بالإجماع أو بالأغلبية.

وقد انحازت إنجلترا ومؤيدوها إلى فكرة الأغلبية فسحبت نصف مليون جنيه من الصندوق بينما قالت فرنسا بالإجماع، الأمر دعاها إلى اللجوء للمحكمة المختلطة التي غلبت وجهة نظرها، ولم يكن أمام حكومة لندن إلا أن تدفع المبلغ من الخزينة البريطانية، وتقاضت قيمته بعد ذلك أضعافًا، فقد كان أهم مبررات شراكتها في حكم السودان في اتفاق 19 يناير عام 1899.

أما على مستوى مصر المحروسة فقد وقفت الصحافة الوطنية في طليعتها الأهرام موقف الترصد من الحملة اعتقادًا منها أنها تحقق مصلحة إنجليزية على حساب المصلحة المصرية، فيما أشرنا إليه في بداية هذا المقال، وهو ترصد تعددت أشكاله...

من هذه الأشكال المبالغة في قوة الدراويش التى قدرتها في أحد أعدادها بأكثر من مائة ألف مسلحين بأكثر من 30 ألف بندقية، ولعل ذلك ما دفع الأهرام إلى التوجس بأنه "لو أصاب جنودنا فشل أو فشلان لا سمح الله فهناك نجد الطامة الكبرى والمصيبة العظمى إذ نكون كأننا لم نفقد الرجال إلا لنفقد بعدهم البلاد التي كانت لنا بالقوة وكان يمكننا أن نسترجعها بالفعل لو تركنا الإنجليز وشأننا مع أهلها المحبين لمصر"!

منها أيضًا الانتقادات التي وجهت لتوقيت الحملة التي "تسير في زمن الصيف الذى تتفشى فيه الحمى التيفوسية في دنقلة وتفتك فتكًا ذريعًا ولا سيما بالقادمين إليها من بلاد باردة وهى حارة محرقة"، وقد حدث فعلا أن تفشت الأوبئة بين رجال الحملة، خاصة الكوليرا، التي كانت قد انتشرت في مصر عمومًا خلال ذلك العام، وسببت من الخسائر أكثر مما سببته المعارك (47 قتيلا في المعارك و361 بسبب الأوبئة منهم 235 بسبب الكوليرا).

بيد أنه بالرغم من هذا الموقف المترصد فقد حرصت الأهرام على أن تفصل طوال الوقت بينه وبين موقفها من القوات المصرية التي استمرت تصف أرداها بالبسالة والشجاعة "المشرفين لرايتنا المظفرة المعيدين إلينا تخومنا البعيدة في الصحراء والبلاد السوداء، وبقدر ذلك نزداد إعجابًا ببسالتهم واحتمالهم وشدة وطنيتهم التي توردهم موارد الحتف كأنها موارد شرب سائغ"!

من جانب آخر فإن حالة الترصد أخذت في التبدد مع مرور الوقت ومع النجاحات السهلة التي أحرزتها الحملة حتى أن الأهرام تحدثت عن "تحول النقمة إلى نعمة والغم إلى سرور"!

مع أن حملة إنقاذ "كلب الحراسة" قد حققت هدفها، إلا أنها مع الوقت تحولت إلى الهدف الأهم.. أن تكون بداية للقضاء على الدولة المهدية، ولنقرأ المقال من أوله!


صورة من المقال: