ads

Bookmark and Share

الأحد، 3 يناير 2021

106 الترامواى الكهربائى

 الترامواى الكهربائى

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 9 نوفمبر 1995م - 16 جمادى الآخرة 1416هـ


في تمام الساعة الرابعة من عصر يوم الأربعاء 13 أغسطس عام 1896 تحرك أول "ترامواى كهربائى" في التاريخ المصرى، وكان من بين ركابه وكيل الاهرام في القاهرة الذى نترك له وصف الرحلة.. فقال:

"احتفل عصر اليوم بافتتاح خط الترامواى من ميدان العتبة الخضراء إلى شارع محمد على من جهة وشارع بولاق من الجهة الأخرى، وكان في العربة الأولى سعادة فخرى باشا ناظر الأشغال وبعض رصفائه وكبار الموظفين وفى سائر العربات جميع الكبراء والأعيان المدعوين، وكانت النحطة مزدانه بزينة شائقة فسارت العربات تجريها الكهربائية ذهابًا وإيابا ونجحت تجربتها نجاحًا تامًا وسيوالى افتتاح الخطوط في الأيام التالية تباعًا، جعل الله هذا المشروع جزيل الفوائد خلوًا من المضرات"!

وبينما لم يكن ما حدث في ذلك اليوم البعيد قبل قرن من الزمان نهاية لقصة "الترامواى الكهربائى" في مصر، فإنه لم يكن بدايتها، الأمر الذى يستحق الإمساك بطرف خيط تلك القصة، ولم يكن خيطًا واحدًا بل خيطين.

الخيط الأول متصل باستخدام الخطوط الحديدية كوسيلة انتقال والتي يعزى الفضل فيها لجورج ستيفنسون الإنجليزى الذى أنشأ لأول مرة خطًا في بلاده عام 1825، وقد سار على هذا الخط أول قاطرة بخارية استخدمت في البداية لنقل الفحم، ثم تبع ذلك استخدامها في نقل الركاب والبضائع ودخل العالم بذلك عصر التنقل بالسكك الحديد بين المدن، غير أنه لم يكن متصورًا أنه سيتم استخدام هذه السكك داخل المدن، مما يُشكل الخيط الثانى من هذه القصة.

صاحب هذا الخيط جون فرانسيس ترام Tram الذى مد أول خط حديدى داخل مدينة نيويورك عام 1858 تبعه بثلاث سنوات مد أول خط حديدى داخل مدينة لندن، وعرفت تلك الطرق باسم الرجل.. طرق ترام Tramways، ولم يكن لها في البداية ثمة صلة بالكهرباء.

استمرت هذه الطرق ولفترة غير قصيرة تستخدم في سير العربات التي تجرها الدواب، خاصة الخيول، وكان لهذا الاستخدام ما يبرره، فلم تكن الطرق الأسفلتية قد عرفت حتى ذلك الوقت، ومن ثم كان استخدام الخطوط يوفر قدرًا من الاستقرار لتلك العربات لم تكن تعرف من قبل على الطرق الترابية مهما بلغ قدر العناية بها، فضلًا عن ذلك فإن تلك الخطوط الحديدية وفرت قدرًا من الانتظام في تحديد مسار العربات وأوقاتها مما لم يكن معروفًا في لمواصلات الداخلية من قبل، حتى أن التوصيف بوسائل النقل التي تستخدم الخطوط Liners استمر يعبر حتى يومنا هذا عن الانتظام في الطرق التي تسلكها، وفى المواعيد التي تلتزم بها.

المهم ونحن نمسك بطرف الخيط الثانى نجده يقودنا إلى التطورات التي عرفتها بعدئذ خطوط الترامواى بعربات تجرها الحيوانات على الخطوط الحديدية إلى عربات تسير بقاطرة بخارية، وأخيرًا إلى عربات تسير بالكهرباء، وقد عرفت مصر كل هذه التطورات التي انتهت إلى ما حدث في الساعة الرابعة يوم الأربعاء 13 أغسطس عام 1896!

استخدام الخيل في جر الترام تم على نطاق محدود، في خط ترام الرمل في الإسكندرية في الفترة بين 8 يناير و22 أغسطس عام 1863 حين كان هذا الترام الذى يتكون من أربع عجلات تجرها أربعة خيول ينتقل من الإسكندرية إلى جهة "منزل الشيخ إسماعيل" (محطة بولكلى حاليًا) استخدم بعدها قاطرة بخارية بدلا من الخيول.

تشير الأهرام إلى خط "ترامواى بخارى" آخر.. الترامواى الذى صدر الأمر العالى بإنشائه في 27 يناير عام 1896، في المنطقة بين المنصورة والمنزلة، وهو الخط الذى كان قد تم القسم الأول منه خلال شهر يونية من نفس العام بين المنصورة والمطرية وذلك بعد "نزع مليكة الأراضى اللازمة لذلك بالطرق القانونية" كما كتبت الأهرام.

جاءت الأخبار خلال عام 1895 عن النية على إنشاء خط "الترامواى" في بورسعيد غير أن الأهرام لم تتابع قصة هذا الهط وعما إذا كان قد سار بالبخار أم بالكهرباء، غير أن المراجع العلمية تشير إلى أن هذا الخط قد أنشئ بالفعل بطول 12 كيلو مترًا بلغ عدد عرباته 29 عربة تجرها الخيول، وهو ما كان قد سبق وحدث في زفتى حين بنى خط تسير عليه ثلاث عربات حديد و12 عربة خشب لنقل الركاب والبريد إلا أنه كان يستخدم في موسم القطن في نقل هذا المحصول بين وابورى الحلج الموجودين في المدينة!

وبعد كل هذه المقدمات جاء مشروع خط "الترامواى الكهربائى" في المحروسة، وهو المشروع الذى كانت قد بدأت محاولاته قبل نحو عشر سنوات من وضعه موضع التنفيذ..

***

في عام 1887 على وجه التحديد تقدمت إحدى الشركات بطلب "لعمل الترامواى في جميع شوارع القاهرة المهمة" وقد ناشدت الأهرام الحكومة على ألا ترفض هذا الطلب "لما ينجم عنه من الفوائد" وهى المناشدة التي لم تلق استجابة من نظارة الأشغال "لئلا يكون سببً لتعطيل موارد الكسب على أصحاب العربات والبهائم".

بيد أن نفس الطلب الذى تقدمت به الشركة لمد خطوط "الترامواى" داخل الإسكندرية وجد استجابة أفضل فيما عبرت عنه الأهرام في عددها الصادر يوم 28 نوفمبر عام 1887 الذى جاء فيه أنه تشكلت لجنة للنظر في الطلب الذى أعطته موافقتها المبدئية بشرط أن تتعهد الشركة "بإصلاح وترميم الطرقت والمجارى التي ستمر عليها خطوط الترامواى وأن تضع مبلغًا من المال ضمانًا لقيامها بتعهداتها"، ويبدو أن الشروط التي وضعتها تلك اللجنة لم تلائم الشركة التي كفت عن السير قدمًا في مشروعها.

في مطلع التسعينات كانت قد تشكلت شركة بلجيكية باسم "شركة ترامواى القاهرة" التي قررت أن تسير خطوط الترامواى" ولأول مرة بالكهرباء، وأخذت في السعي للحصول على الامتياز بذلك من نظارة الأشغال، الأمر الذى تتبعته الأهرام، ويبدو أن الأمر كان صعبًا، فيما فضحته بعد ذلك قضية نظرتها المحاكم المصرية.

نشرت الأهرام قصة القضية في عددها الصادر في 17 مارس عام 1898 وأعطتها عنوان "فضائح" وهو العنوان الذى كانت تستحقه، خاصة وأن جريدتنا كانت تعزف في العادة عن اختيار مثل هذه العناوين.

طرفا القضية كان "المسي ودى لاهو مدير شركة الترامواى" من جهة والمسيو "أجيون الذى كان سمسارًا في الشركة" من جهة أخرى، والذى استخدمته الشركة في نزع ملكية الأراضى على الخليج ثم استغنت عنه بعد أن نجحت في اصطناع عدد من رجال التنظيم والتثمين، وكان الرجل قد استعد لهذا اليوم فسرق بعض الأوراق التي تثبت فساد الشركة.

ونترك للأهرام رواية الجانب الأهم من القصة فيما تضمنته الأوراق التي أثبتت أن "المسيو لاهو" يذكر لرئيسه أنه رشا فلانًا وفلانًا من كبار الموظفين بمبالغ تختلف وأرقاها يبلغ أربعة آلاف وأنه استخدم فلانًا براتب كذا شهريًا واصطنع جمهور لجنة التثمين إلى آخر ما هناك مما نأبى تعريبه بحرفه لشدة قباحته.. والمرموز إلى أسمائهم بحرف جماعة من كبار الموظفين الأجانب"!

ومع ما تثبته هذه القضية من استشراء الفساد داخل الإدارة المصرية منذ ذلك الوقت المبلكر، وحت ى بين الموظفين الأجانب، فإنها تفسر أسباب السنوات الثلاث التي امتدت بين تقدم الشركة بطلب الامتياز عام 1891 وبين الاستجابة لهذا الطلب عم 1894.

جاء التقدم بالطلب الأول مدعومًا برسومات الخطوط التي طلب مدها والتي كان قد وضعها مهندس الشركة المسيو جون فيل على أن تمتد هذه الخطوط حسب قول الأهرام إلى "ضواحي العاصمة"، ويندهش القاهرى ابن القرن العشرين من توصيف ضوحى العاصمة في أواخر القرن السابق من خلال ما جاء في رسوم المسيو فيل" "خط يبتدئ من فم الخليج مارًا بشارع مصر العتيقة ومن أمام كوبرى قصر النيل فالترعة الإسماعيلية إلى قنطرة الليمون ومن هناك فشارع الفجالة إلى العباسية ويتفرع من هذا الخط فرع يصل بين كوبرى أبى العلا وبولاق ثم خط آخر يبتدئ من كوبرى الليمون وينتهى في أواخر شبرا وخط آخر يبتدئ من كوبرى الليمون أيضًا مارًا من شارع السبتية إلى بولاق وخط آخر يبتدئ من كوبرى قصر النيل إلى الجيزة".

واستمر هذا الطلب محل أخذ ورد خلال العامين التاليين فيما بدأ في مجموعة من أخبار الأهرام..

خبر عن تصديق مجلس النظار على خطة "شركة الترامواى" مع زيادة فرع يبدأ من شارع عبد العزيز إلى مدرسة المبتديان بالناصرية.

خبر آخر عن تراجع الشركة عن خط شبر لارتفاع كوبرى السكة الحديد الذى يجعل مد هذا الخط مكلفًا، الأمر الذى دعا الصحيفة إلى المطالبة بتجاوز هذه العقبة مهما كانت تكاليفها لأن "شبرا قسم كبير من المدينة وفيها نحو ألف طالب يكفى ذهاب معظمهم وإيابهم عملا للترامواى فضلا عن أن القاصدين لشبرا والعائدين منها عدد كبير.."!

انتهى الأمر في نوفمبر عام 1894 حين صدق مجلس النظار على منح الامتيازات المطلوب للشركة التي أعطاها الحق في مد ثمانية خط يتفرع أغلبها من سراى العتبة الخضراء كان أهمها الخط الممتد إلى الخليج المصرى فمصر القديمة إلى جزيرة الروضة ومنها بزورق بخارى للجيزة، على أن يبدأ مد هذه الخطوط بعد تسعة أشهر وتنتهى في فترة لا تتجاوز عامين وأن تسير مركباته بالكهرباء وينتهى امتيازه بعد مضى خمسين سنة.

ومع أن الأهرام رحبت بالمشروع غير أنها تحفظت على مد الامتياز التي ارتأت منها أن الحكومة ترتبط "بعقود لا فكاك لها إلا بعد أجل وأننا لا ننظر في الماضى لنستخرج منه الخطأ الواقع ونطلب إصلاحه في المستقبل وذلك ما يفعله كل صادق في طلب التقدم"، ولعل مكاتب الصحيفة في العاصمة الذى وضع فيها هذا التعليق كان يذكر بامتياز قناة السويس الذى وصلت مدته إلى 99 سنة.

أما رد فعل أخبر عقد الامتياز على العامة فلا نجد أفضل من شهادة معاصرو هو المؤرخ ميخائيل شاروبيم، التي سجلها في الجزء الخامس من كتابه "الكافى في تاريخ مصر" الذى لم ينشر بعد..

جاء في هذه الشهادة "لما شاع خبر ذلك بين الناس تناقله العامة وهم في دهشة وحيرة كيف تسير عربات بالكهرباء على تلك الخطوط الجديدة وكيف يأمن الراكب شر تلك الكهرباء. وجعل بعضهم يصف إلى بعض ما تفعله الكهرباء بالإنسان والحيوان وصفًا لا هو في الموجود ولا هو في المعدوم من علوم الأولين والآخرين. وكان إذ ذكر أحدهم كلمة كهرباء أردفها باللعنات وفحش الشتائم وقال هي والله من عمل الفرنجة الملاعين".

ويبدو أن انتشار مثل هذه الأقاويل هو الذى دعا مجلة الهلال إلى أن تخصص مقلا طويلا بعنوان "ترامواى القاهرة" تشرح فيه كيفية عمل هذا الترام، كان مما جاء في مطلعه "فترمواى القاهرة مؤلفة من بطارية عظمى موضوعة في مركز الشركة قطبها الواحد متصل بالخط الحديدى الممتد في الشوارع والآخر متصل بالأسلاك الممتدة فوق تلك الشوارع وهذا القطبان منفصلان أي أنهما لا يلتقيان من طرفيهما فالدائرة غير تامة" وترتب على ذلك القول بأنه لا يمكن أن يُصاب إنسان بأذى إلا لو "وقف على الخط الحديدى ومد يده حتى لامس السلك العلوى بقضيب من حديد فإنه يُصاب بصدمة كهربائية تقتله حالا لأن المجرى الكهربائى يتم بواسطته"، وتستطرد في عملية الطمأنة بأنه حتى لو انقطع السلك ووقع على أحد المارة فلا يقتله إلا إذا توافرت الشروط السابقة.

بيد أن الأحداث التي تلت ذلك تؤكد أن هذه الطمأنة لم تفعل فعلها فيما بدا خلال فترة عمل الشركة استعدادًا للتشغيل.

***

كان أكثر المعارضين حماسًا خلال تلك الفترة فئة المتضررين من قيام المشروع الجديد من "العربجية والحمارة" الذين كانوا حتى ذلك الوقت يقدمون الجانب الأكبر من خدمات الانتقال داخل المدن، وقد عبر هؤلاء عن سخطهم بوسائل متعددة لا نجد تعبيرًا عنها أفضل مما كتبه الشاهد المعاصر ميخائيل شاروبيم.. قال: "أنشأت الشركة مصنعًا وأقامت آلة بخارية عظيمة لتوليد الكهرباء على رأس قنطرة بولاق إلى الساحل من ناحية قصر النيل وشرعوا في تمديد الخطوط واهتموا بذلك اهتمامًا كبيرًا فكادوا يعطلون بأدواتهم ومعداتهم الطرق ويزاحمون المارة وأبناء السبيل أيامًا كثيرة وكان العامة والعربجية والحمارة ينظرون إلى هذا العمل العظيم بعين السخط ويسخرون بجماعة الصناع الفرنجة الموكلين بالعمل ويرشقونهم بالنكات والسخافات المضحكات المبكيات كأن أولئك النفر من الصناع هم أصحاب المشروع وليس بعسير عليهم تركه إرضاء لهم وفرارًا من نكاتهم وسخافاتهم. واتفق إنى مررت يومًا بشارع المناخ فرأيت جماعة من الحمارة متكاكئين حول أولئك الصناع يسخرون بهم ويستهزأون بقباعاتهم ويتغنون أمامهم بكلمات قد ضموا بعضها إلى بعض مثل (الكهربائية الكهربائية يلعن أبو البلجيكية.. الكهربائية الكهربائية بكرة تقتل ألف ومية). فكان العامة من ورائهم يضحكون ويطربون ويقولون (أي والله يا ملاعين أي والله) وكل هذا ولم أر أحدًا من أولئك الصناع ينبت ببنت شفة بل عاكفون على عملهم دئبون"!

على نفس الجانب كان هناك من يرى إن تشغيل "الترامواى الكهربائى" يمثل عبئًا اقتصاديًا على مصر خاصة أنها بلاد زراعية، وهو الرأي الذى عبر عنه "حضرة النطاسى الفاضل عزتلو الدكتور صالح بك صبحى" في مقال تحت عنون "طلاء التقدم أو الترامواى" جاء فيه "أن مصر بلاد زراعية وأن كان من الأفضل أن يسير الترامواى بالبغال والخيول مما لا يقتضى نعقه جسيمة وكان يفيد المزارعين والمربين للماشية أما استخدام الكهربائية بدلها فمما يبتلع مال السكان ولا يعود على بعضهم ينفع في نظير ذلك من حيث أن مولدات القوة الكهربائية مجتلبة جميعها من أوروبا".

بيد أنه على الجانب الآخر كان هناك المؤيدون، وكانوا في الغالب من جماعات المثقفين الذين رأوا في "الترامواى الكهربائى" وسيلة من وسائل التحضر، وقد رأى هؤلاء أنهم لو عادلوا بين فوائد ومضار المشروع "لوجدنا غاية ضرورة أنه يعطل بعض الحمارة الذين يستطيعون أن يشتغلوا بمهن أخرى كثيرة يكتسبون منها رزقهم وكذلك بعض الحونيين وأصحاب العربات"، ودلف مكاتب الأهرام في العاصمة بعد أن هون من شأن الأضرار في مقالة في العدد الصادر في 23 يوليو عام 1896. دلف إلى تعدد الفوائد وكانت جمة..

منها أولا "الراحة والسرعة والرخص في الانتقال وعدم إضاعة الوقت الثمين في هذا العصر" الذى أصبح للوقت فيه قيمته.

ومنها ثانيًا أن الترامواى الكهربائى سيمكن العديدين من السكنى في الضواحى لأنه سيوفر لهم وسيلة انتقال منتظمة خاصة بعد أن أصبح أجر المنازل داخل المدينة "غلاؤها لا يطاق" مما يؤدى أيضًا إلى تخفيض هذا الأجر.

ومنها ثالثًا تقريب الأطراف النائية من المدينة بكل ما يصحب ذلك ممن سرعة عمرانها، وتحفظ وكيل الصحيفة في القاهرة في آخر تقريره بقوله "وغير ذلك مما ستظهر آثاره بالتجربة"، وهى التجربة التي تابعتها الأهرام.

بعد أن افتتح فخرى باشا الخط في الساعة الرابعة بعد ظهر الأربعاء 13 أغسطس عام 1896 سمح للركاب بأن يستخدموا "الترامواى الكهربائى" من الساعة السابعة من مساء نفس اليوم، وقد بدأ بخطين: أولهما من بولاق إلى جسر أبو العلا وبالعكس، وثانيهما من العتبة الخضراء إلى باب الخلق وبالعكس أيضًا.

وقد أصدرت الشركة إعلانًا بقيمة الركوب جاء فيه "أما الركوب لكل قسم من تلك الأقسام فهو مليمان في الدرجة الأولى والدرجة الثانية ويدفع مليمان للدرجة الثانية على تلك الأجرة وذلك مرة واحدة (أي لأول قسم فقط ومهما كانت المسافة التي يُراد قطعها) أما أقل قيمة تتحصل فهى أربعة مليمات للدرجة الثانية وستة مليمات للدرجة الأولى، ولم ينس هذا الإعلان إرساء المبدأ الذى استمر حتى يومنا هذا بالنسبة لرجال العسكرية الذين تقرر "ألا يتحصل منهم إلا مليمين ونصف عن 3 أقسام فما أدنى وأربعة مليمات عن أربعة أقسام في الدرجة الثانية و4 مليمات من قسم واحد إلى 4 أقسام في الدرجة الأولى".

وفى خلال التجربة التي أعقبت عمل "الترامواى الكهربائى" فى العاصمة تبدت أمور عديدة بعضها متصل بإدارة الشركة، والبعض الآخر متعلق بما أصاب الحمارين والعربجية من كساد، والبعض الأخير خاص بالركاب.

أما إدارة الشركة فقد تعرضت لانتقادات جاء جانب منها من الركاب الذين زاروا أوروبا واستخدموا "ترامواياتها الكهربائية"، وقد رأوا أن الشركة البلجيكية قد استخدمت أنواعًا من التراموايات عدلت عنها الشركة الأوروبية لثقلها وأخطارها، وقد تساءل المنتقدون لماذا "يتم يستخدم في مصر الطراز الجارى في باريز وبرلين وبودابست فإنه طراز لا حاجة معه لنصب الأعمدة ونشر الأسلاك في الهواء".

تعرضت الشركة أيضًا لانتقادات لطريقتها في تشغيل "الترامواى" لعدم مراعاة المواعيد "لدرجة لا تطاق" ولقبول ركاب يزيدون على العدد الذى تسعه العربات، فضلا عن عدم توافر الملاليم الكافية لدى الكمسارية مما يخلق كثيرًا من المشاكل مع الركاب!

أما ما أصاب الحمارين والعربجية فقد قدمت الأهرام اقتراحًا مفاده أن توفر لشركة وظائف للفقراء من هؤلء خاصة في ذلك النوع من الأعمال الذى لا يحتاج إلى خبرة فنية والذى كان يحتكره الأجانب.

يبقى الركاب وكانت لهم حكاية فلم يكن يمضى شهر إلا وتقع حادثة لأحد هؤلاء أو لبعض المارة، مما حفلت به مساحة الحوادث بالأهرام.. ففي سبتمبر 1896 قتلت إحدى عربات الترام طفلا في شارع محمد على، وفى أكتوبر داست على رجل أجنبى بسبب سهو منه فقضت عليه، وفى نوفمبر "صدمت فقيرًا في شارع محمد على صدمة جعلته على خطر الموت"، وفى نفس الشهر صدمت عسكريًا راكبًا جواده فأصابتهما بجراح شديدة، وفى يناير من العام التالى صدمت فتاة صغيرة فقتلتها في لحال، وفى فبراير صدمت جنديًا إنجليزيًا "فسحقت له ساقًا على صورة منكرة"، وقد عزا الأهرام كل تلك الحوادث "لعدم تحذر المارة وعدم اكتراثهم بأنها كأنها عربة من عربات النقل وما هي إلا نار محرقة وصاعقة تصعق كل جسم مسته"!

رغم ذلك يشهد الأهرام على "تسابق الناس على اختلاف مراتبهم إلى ركوبها في الليل والنهار" وهى الشهادة التي تأكدت صحتها بعد أن بدأت نفس الشركة ف العام التالى مباشرة في مد خطوطها بالإسكندرية بناء على طلب من أهلها وموافقة من الحكومة وافتتح الخديو شخصيًا في 11 سبتمبر عام 1897 خطها الأول من المنشية إلى كرموز مما كان دليلا مجددا على دخول مصر عصر "الترامواى الكهربائى"!


صورة من المقال: