ads

Bookmark and Share

الأحد، 3 يناير 2021

105 حضرة العمدة

حضرة العمدة

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 2 نوفمبر 1995م - 9 جمادى الأخرى 1416هـ


"المعلوم أن العُمد هم نواب الحكومة في توطيد نظام الضبط والربط ببلادهم وعليهم المدار في عمارها واستقامة أحوال أهلها وتثبيت أقدامهم فيها وتكثير ثرواتهم بالعدل والمساواة بينهم.. وإذا انعكس الحال فينجم عن ذلك انحلال عرى استقامة أحوال البلاد ويتخلل الفساد أشغالها والدمار أهلها ويقع الفشل والنزاع بينهم"!

كان هذا بعضًا مما جاء في منشور لنظار الداخلية المصرية صدار في سبتمبر عام 1884، وهو منشور يلخص نظرة السلطات الحكومية إلى أصحاب هذا المنصب، وهى نظرة حكمت العلاقة بين الجانبين.. السلطة والعمدة.

وكما أن لهذا المنصب تاريخه فإنه لتلك العلاقة تطوراتها، وهو ما عنيت به الأهرام واستمرت تتابعه بامتداد أعدادها خلال ثمانينات وتسعينات القرن التاسع عشر، الأمر الذى يستحق القراءة.

***

نبدأ بالتاريخ، وأول ما يلاحظ في هذا الشأن حداثة هذا المنصب، فلا يمكن القول أن جذوره تمتد لأغوار بعيد في التاريخ المصرى، إذ تؤكد المتابعة أن تسمى بعض كبار رجال القرى بالعُمد لم يحدث إلا في أواخر عصر محمد على، أي قرب منتصف القرن التاسع عشر، وعلى نطاق محدود، وكان لهذا الظهور أسبابه.

ففي ظل النظام الاقطاعى الذى عرفته مصر خلال العصر العثمانى.. نظام الالتزام كان كبير القرية هو "شيخ البلد"، والذى كان بمثابة الممثل الأساسى للملتزم الذى الذى لم يقطن في العادة في الريف، ورغم قضاء محمد على على نظام الالتزام فقد بقى أغلب رجاله في قراهم، وإن تحولوا من خدمة الملتزم إلى خدمة الباشا، وكان على رأسهم شيخ البلد. وفى تلك الظروف ظهر "حضرة العمدة"!

يسجل هذا مكاتب الأهرام في ميت يزيد في عدده الصادر في 18 مايو عام 1894 فيقول أنه "لما استتب الحكم للمرحوم محمد على باشا وعمد إلى إصلاح البلاد اختار عمدًا من البيوت القديمة فجعل بعضهم مديرين وبعضهم مشايخ على الخطوط وعين لكل خط شيخًا يرأسه براتب من الحكومة وجعل لكل بلدة عُمدة يساعده بعض المشايخ"، غير أن مكاتب ميت يزيد صّور تلك التغيرات التي عرفتها إدارة الريف المصرى في عصر محمد على وكأنها حدثت منبتة الصلة بالتحولات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفها ذلك العصر والتي تنامت بعده.

جاء أساس هذه التحولات بالانتقال من النظام الاقطاعى إلى النظام الرأسمالى، خاصة بزراعة المحاصيل النقدية مما أدى في نهاية الأمر إلى جملة من التطورات تركت بصمتها على شيوخ البلد..

1) لم يعد ممكنًا مع تلك التحولات أن تبقى القرية كوحدة إنتاجية منكفئة على نفسها، وكمان عليها أن تتكيف مع واقع جديد متمثل في شبكة من العلاقات مع القرى المجاورة ومع السلطات المحلية والمركزية، وأخيرًا مع تجار السوق الذين بدأوا يفدون إليها لشراء المحاصيل الجديدة، الأمر الذى أدى إلى اتساع نطاقها وأدى إلى أن تعرف عددًا من شيوخ البلد بدلا من الشيخ الوحيد الذى كان قائمًا من قبل، ونعود مرة أخرى إلى شهادة مكاتب الأهرام في ميت يزيد بأن باشا مصر قد قبل بأن يصل عدد الشيوخ في بعض البلاد إلى 24 شيخًا!

أكبر هؤلاء المشايخ أسمته الوثائق "شيخ المشايخ" أحيانًا، و"الشيخ الكبير" أحيانًا أخرى، و"المقدم" أحيانًا ثالثة، وانتهى الأمر بتسمية العمدة، ومع أن بعضًا من كبار المشايخ هم الذين أطلقوا على أنفسهم هذه التسمية إلا أنها ما لبثت أن شاعت بين الأهالى، ثم أخذت بها السلطات وإن كان هذا قد حدث على نطاق ضيق حتى منتصف القرن.

2) غير أن المنصب أخذ في الشيوع والترسخ في عصر سعيد وإسماعيل (1854 - 1879) وبحكم التطورات التي جرت نحو المزيد من الرأسمالية الزراعية، من التوسع في إنتاج المحاصيل النقدية خاصة القطن، إلى إطلاق الملكية الزراعية، مما أدخل تغييرات ملحوظة على الخريطة الاجتماعية أهم ما يعنينا منها هنا نجاح عدد من شيوخ البلد على وجه الخصوص في اقتناء مساحات من الأراضى الزراعية، وانخرطوا بذلك في طبقات لم تكن معروفة في الريف المصرى من قبل.. كبار ومتوسطى ملاك الأراضى الزراعية.

خلال نفس الفترة نشأت علاقة جدلية بين المنصب والملكية، فبينما استغل شيوخ البلد على رأسهم العمدة مواقعهم لتوسيع ملكياتهم، فإن تلك الملكيات بدورها قد أضفت على هؤلاء أهميتهم التي أضفت الهيبة على المناصب التي شغلوها، وأصبح معلومًا أن أكبر ملاك القرية يشغل تلقائيًا منصب العمدة، والذى كان يشهد تنافسًا محمومًا في حالة تعدد كبار الملاك.

وقد أدى نشوء منصب العمدة في أحضان تلك التطورات الاقتصادية الاجتماعية إلى مجموعة من الظواهر التي ارتبط بها.. منها احتكار عائلات بعينها لهذا المنصب جيلا بعد آخر، طالما استمر أبناؤها يملكون المساحة الأكبر من الأرض، ومنها أن اختيار العمدة كان يتم برغبة الأهالى، والمقصود بهؤلاء المتنفذين منهم، وبتعبير آخر أصحاب الأملاك الآخرين، وفى العادة كان يحدث هذا الاختيار بعد وفاة العمدة القائم، وفى العادة أيَا كان يقع على أبنائه، خاصة كبيرهم، ولم تكن سلطات المديرية تفعل سوى التصديق على هذا الاختيار، ولم تكن تطلب سوى أن يكون "حميد السيرة والسوابق"!

ويبدو أثر الواقع الاقتصادى الاجتماعى في اختيار العمد أن السلطات لم تكن تمانع في اختيار أعيان القرية لابن العمدة المتوفى حتى ول كان قاصرًا، وإن كانت تشترط في هذه الحالة أن يُعين له وكيل إلى أن يبلغ سن الرُشد.. المهم ن تبقى العمودية في بيت كبير القرية!

وتتعدد شهادات مكاتبى الأهرام لتؤكد ذلك الواقع.. منها شهادة مكاتب قويسنا بشأن تعيين عمدة مليج وكيف أنه بعد اختيار الأهالى، وبعد تشكيل "قومسيون خاص مؤلف من كبار رجال المديرية تقرر تعيين نجل العمدة المتوفى"، ومنها شهادة جاءت في الصفحة الأولى من العدد الصادر في 26 يونية عام 1894 بأن طريقة انتخاب العمد تقوم على "انتخابهم من أهل الثقة منهم"، وأن معيار الانتخاب هو "ثروة المنتخبين والمرشحين للانتخاب"!

وكان العمدة يتلقى بعد اختياره، التكليف الحكومى والذى ينم عن واجباته التي ارتأتها السلطات.. جاء في أحد هذه التكاليف: "حيث أنه صار انتخابك وقرر أي من ارتضوك من الأهالى على لياقتك واستعدادك لمراعاة أمورهم.. وشهدوا لك بالاستقامة والسداد، صدر لك هذا التقرير مشمول بما عليه من التصديق والتمهير والإعلان والإعلام، فيجب عليك القيام بتأدية حقوقها وواجبتها لتوفية شئونها ومستلزماتها والاجتهاد في تحسين أحوال الأهالى وعماريتهم وتقدم درجة مزروعاتهم.. والانقياد لما يصدر لك من الأوامر والتنبيهات.. ومعاملة الأهالى بالرفق والرعاية وعدم الميل على أحد منهم لغرض أو لغاية"!

بيد أن الفترة بين نهاية عصر محمد على (1848) وصدور أول قانون للعمودية (1895) عرفت جملة من المتغيرات أدت فى النهاية إلى تدخل حكومي فعال في شئون "حضرة العمدة" مما قرره هذا القانون وكان محل جدل شديد أدلت فيه الأهرام بدلوها، وبشكل احتل مساحات واسعة من الجريدة العتيدة.

كان أهم تلك المتغيرات ما ترتب على التطورات الإدارية في بناء الدولة الحديثة من زيادة العبء على "حضرة العمدة"، وهو عبء تعددت وجوهه..

من بين هذه الوجود ما اتصل بواجب صاحب المنصب في حفظ الأمن في قريته، وهو واجب اقتضى مسئوليات عديدة.. ترتيب الخفراء كان من أهم تلك المسئوليات، وقد استمرت المشكلة التي تواجه "حضرة العمدة" في هذا الصدد، وبامتداد تلك الفترة ناشئة عن تدبير النفقات اللازمة للاحتفاظ بهؤلاء، في وقت لم تكن السلطات تتحمل أيًا من تلك النفقات، الأمر الذى يقرره وكيل الأهرام في جرجا في رسالة له جاء فيها: أن على العُمد مسئولية تدبير "أجر الخفراء بمعرفتهم بدون دخل أحد سواهم"!، منها اتخاذ طرق الوقاية أيام الحصاد "من احتراق أجران المحصولات بما يضعه الفلاحون بجانبها من القش ويوقدون حولها من نيران"، ومنها التعرف على الغرباء الذين يفدون إلى القرية وضرورة سرعة التحرى عنهم، هذا فضلا عن الجرائم المعتادة.. سرقة أو إحراق مزروعات أو قتل!

المسئولية الثانية لم تكن جديدة على كبير رجال القرية.. مسئولية معاونة الصراف فى جمع الأموال الأميرية، فقد كانت إحدى مسئولياته في ظل نظام الالتزام، ربما يكون الاختلاف الذى حدث أن السلطات الحكومية لم تكن تقبل في هذا الصدد الأعذار التي كان يمكن أن يقبلها الملتزم التي كانت تصل إلى حد عزل العمدة إذا ما تقاعس في إنجاز هذه المهمة.

يروى مكاتب الأهرام في سنورس قصة طريفة في هذا الشأن في نوفمبر عام 1890 مؤداها أن أهالى البلدة قد تضامنوا لجمع الأموال الأميرية خوفًا من عزل عمدتهم وإعادة العمدة السابق "الشيخ محفوظ نصر" الذى كان يستخدم وسائل العسف في جمع تلك الأموال.

تقديم الأنفار للقرعة كان يشكل مسئولية أخرى من مسئوليات العمدة، وكان يتعرض للمحاكمة العسكرية التي كانت كثيرًا ما تنتهى إلى الحكم عليه "بالأشغال الشاقة والعزل المؤبد".

ونعثر في هذا الصدد على رسالة لمكاتب الأهرام من أخميم يعرب فيها عن "أسف العموم من عزل حضرة عمدة البندر السابق بالنظر لعد وجود أسباب تستوجب هذا العزل سوى تهمته بالتكتم عن أحد رجال القرعة العسكرية مع أن الحقيقة قد أثبتت براءته"!

هذا فضلا عن مسئوليات أخرى بأخذ الاحتياطات الواجبة في حالة الأوبئة وبمراقبة تقوية الجسور في أوقات الفيضانات، وبالمشاركة في عمليات التعداد التي كانت تتطلبها السلطات الحكومية بين الحين والأخر، الأمر الذى أدى إلى أن يُصرح أحد العُمد لمكاتب الأهرام أن المنصب "مش جايب همه"(!)، وهو ما عبرت عنه حركة واسعة من الاستعفاءات من المنصب الشهير رصد الأهرام بعض جوانبها.

في مارس 1892 يرفع عمدة قويسنا "عريضة إلى سعادة المدير يقول فيها أنه وحيد ولا يقدر أن يقوم بالوظيفة ويطلب إقالته وتعيين غيره"، وفى أغسطس من العام التالى تسوق الصحيفة خبرًا من السنطة عن تحرك المأمور لمواجهة استعفاء أحد عمد الناحية، ولم يجد مناصًا بعد أن صمم هذا على استعفائه من تعيين أخيه "حضرة الفاضل محمد أفندى إبراهيم عويضة"، وحالات أخرى كثيرة.

وكان على القاهرة أن تتحرك بإعداد أمر عال يحدد واجبات حضرة العمدة وحقوقه، فيما صدر في يناير عام 1895، وأثار ضجة كبيرة!

***

في ديسمبر عام 1894 بدأت الأخبار في الورود عن نية الحكمة على إصدار "أمر عال" خاص بالعُمد نشرت الأهرام ملخصً له في مطلع العام التالى، وقد رتب نظامًا جديدًا في تعيين العُمد، نظام اتصالهم بالجهات الحكومية، فضلا عن اختصاصاتهم وامتيازاتهم.

التعيين تقرر أن يكون على "يد لجنة من المدير أو وكيله ومندوب لنظارة الداخلية ومندوب للحقانية وأربعة من أعيان عُمد المديرية، ويؤخذ في التعيين رأى مأمور المركز"، بمعنى أن السلطات الحكومية أصبحت صاحبة اليد العليا في تعيين هؤلاء وليس أبناء قريتهم، أو بالأحرى الأعيان من هؤلاء، فيما كان متبعًا من قبل.

الاتصال بالجهات الحكومية تم ترتيبه على أن يكون العمدة تحت سلطة المأمور "ولا يحق للمديرية استدعاؤه إلا في الأمور الكبيرة الموجبة لحضوره شخصيًا وإلا فالمخابرات تجرى كتابة"، ولعل ذلك يفسر تلك العلاقة الحمية التي أبرزتها سائر الكتابات بين العمدة والمأمور.

تم التوسع في الاختصاصات، فلم تعد مقصورة على ما يخص الأمر والرى والصحة والتجنيد ذات الطبيعة الإدارية، وإنما امتدت لتشمل بعض الصلاحيات ذات الطابع القضائى "بالحكم في القضايا المدنية الجزئية نهائيًا لغاية 200 قرش وفى المخالفات نهائيًا بالغرامة لغاية 15 قرشًا وبالحبس لغاية 24 ساعة، ولعل ذلك ما أدى إلى ضم مندوب للحقانية إلى لجنة اختيار "حضرة العمدة".

بالنسبة للامتيازات، فقد تم الاحتفاظ بالقديم منها، إعفاء اثنين من أبنائه من الخدمة العسكرية، إعفاء خمسة أفدنة من أطيانه التي لا ينبغي أن تقل عن العشرة من الأموال الأميرية، حق ركوب السكك الحديد مجانًا، وأضيف إليها بعض الامتيازات القانونية "فلا يُحاكمون في الجنايات أثناء تأديتهم لوظائفهم ولا يُحاكمون إلا باستعلام جهات القضاء من الحقانية التي تستعلم عن ذلك من الداخلية فتجيز المحاكمة أو لا تُجيزها"، مما أكسب العمدة لونًا من الحصانة لم يكونوا يتمتعون به من قبل.

وعلى الرغم مما بدا لأول وهلة أن المشروع قد وسع من اختصاصات حضرة العمدة وزاد من امتيازاته ضمانًا لإقبال الأسر الكبيرة على العمودية وعدم تركها "للفقراء المعدمين" الذين يستغلونها لتحقيق المآرب الشخصية، فقد كان للأهرام رأى آخر!

كان رأى الجريدة أن المشروع صناعة بريطانية تم وضعه لتحقيق سياسات احتلالية، وأنه لم تم العمل به فسيكون ذلك على حد تعبيرها "خاتمة المصائب التي توالت على الفلاحين في هذه الأيام وكأن الحكومة لم تكتف بما جنت عليهم حتى تريد أن تسلمهم إلى عمد يجرعونهم مرارة الاستبداد"، ودللت على ذلك بحجج عديدة..

من هذه الحجج ن المشروع جاء وليدًا لرأى للمستر سكوت في جانب ولرأى كتشنر باشا عندما كان رئيسًا للبوليس في جانب آخر، ولرأى سعادة ستل باشا في جانب ثالث، والجميع من ممثلي سلطات الاحتلال ممن كانت تحركهم دوافع استعمارية، وكانت الأهرام على حق مما أكدته الدراسات الأكاديمية بعد ذلك.

فقد ارتأى المعتمد البريطاني في القاهرة وقتذاك، اللورد كرومر، أن الضمان الحقيقى لاستقرار الاحتلال البريطاني للبلاد يكمن في الريف وليس في المدينة، تحركه إلى ذلك دوافع عديدة.. منها تحقيق مصالح بيوت التجارة الإنجليزية الساعية وراء القطن المصرى، ومنها أنه طالما بقى الريف هادئًا، بالتحكم فيه من خلال عمده، فقد بقت مصر هادئة، ولم يكن البريطانيون يعولون كثيرًا على تحركات أبناء المدن المعادية لهم، بل غالبًا ما كانوا يوصفونها في كتاباتهم "بصخب الأفندية الذى لا يلبث أن يهدأ"!

وعندما عرضت الأهرام اقتراحًا بأن "تجمع في الداخلية لجنة من أهل العلم والخبرة في الإدارة والقضاء ومن العقلاء الذين تقلبت عليهم القوانين والنظامات فعرفوا نفعها من ضرها" لوضع مشروع جديد لم يلق هذه الاقتراح آذانًا صاغية لأنه كان يتعارض مع السياسات الاحتلالية التي كان قد تم وضعها "لحضرة العمدة".

دعا ذلك القائمين عل ى تحرير الأهرام إلى أن يفسحوا صفحات الجريدة لمنتقدى المشروع الجدي، وكان من أهمها ما كتبه أحدهم، ويدعى "جلبى سالم" من كفر سالم في العدد الصادر في 20 فبراير عام 1895..

اعترض الرجل على مبدأ تعيين العمد بدلا من انتخابهم الذى كان سائدًا من قبل وأن بلده لا تخلو من وجهاء يربأون بأنفسهم عن تلك الوظائف فإذا عين عندهم عمدة هو أحط منهم منزلة ومقامًا طارت شرارات المنافسات بينهم".

رأى جلبى سالم أيضًا أن تعيين العمدة دون انتخابه سيؤدى في نهاية الأمر إلى استبداده بأمور أبناء القرية بحكم أنهم ليسوا من أتو به ولن يكون لهم رأى في بقائه أو عزله، وأشار الرجل في ذلك إلى "المتهالكين على العمودية الذين باعوا أملاكهم ورهنوها أملا في الحصول على العمادة"، وتسائل الرجل "إذا كان للعمدة أخوة أو أبناء أو أصهار أو أقارب واختصم أحدهم مع أحد أضداده فهل يحكم حضرته طوعًا لمقتضى الذمة والعدل؟" ويجيب على ذلك قائلا "كلا ثم كلا لأن العمدة كم هو الآن لا يهمه إلا الانتقام والتشفى ممن بينه وبينهم عداوة وتضاغن"!

لم تقتصر الحملة على المشروع الجديد على الأهرام بل امتدت لبعض الصحف الأخرى، العربية منها والفرنسية، بالنسبة للأولى فقد شاركت "المؤيد" الأهرام في الحملة، وبالنسبة للثانية كان هناك "الفار" و"الجورنال اجبسيان"، والذين كانت تنقل عنهم الأهرام كل ما ينشرونه في هذا الصدد، وكان الهدف من وراء ذلك أن يعيد مجلس شورى القوانين النظر في المشروع لدى عرضه عليه ويدخل عليه "التعديلات" أو "التحويرات" اللازمة التي تصلح من شأنه.

ولم يمض وقت طويل حتى صدر "الأمر العالى المختص بلائحة العمد والمشايخ" من إحدى عشرة مادة نشرته الأهرام في عددها الصادر في 19 مارس 1895، وقد خلا من "التحويرات" المطلوبة، وإن كان قد أضاف في مادته الثامنة ما نصه: "العمد والمشايخ المقررون الآن يستمرون في وظائفهم إلى أن يتقرر انتخاب عمد ومشايخ جديدين بمقتضى أمرنا هذا" مما فهمه المعنيون بأنه بداية لانقلاب كبير تتخلص فيه الإدارة من العمد الذين تم انتخابهم وتعيين عمد تختارهم لجانها الجديدة التي تشكلت على وجه السرعة ونزلت إلى القرى لتفحص حالة كل عمدة على حدة".

تتبعت الأهرام أعمال هذه اللجان في المنوفية والشرقية وكان رأيها في أغلب اختياراتها أن "الإنكليز لا يعينون إلا كل من يثبت أنه رجلهم المخلص في خدمتهم كأنهم يريدون الاستيلاء على القطر بقتل كل حياة فيه".

ولاحظت أن ممثل الداخلية في اللجان كان على الأغلب إنجليزيًا، كما جاء في خبر من المنوفية عن وجود المستر ولسنون معاون الداخلية في اللجنة التي عينت 16 عمدة دفعة واحدة، وعلقت على ذلك في عدد آخر بأن اختيار العمدة في مراكز كثيرة "قد تم على غير رغبة من الأهالى فتكدر السكان من هذا الأمر"، وأثبتت ذلك عددًا من الشكاوى التي كانت ترد إليها "من عدم عدالة انتخاب العمد وقيام الأغراض الذاتية مقام الحصون المنيعة في سبيل الخدمة العامة".

ولم يمض وقت طويل حتى تحققت مخاوف الأهرام من السياسة التي درج عليها المحتلون لتحقيق أهدافهم في الريف المصرى، فيما أخذوا يقدمون عليه من إلزام العُمد بالاشتراك في جريدة المقطم التي اعتبرها مؤرخو الصحافة الناطقة بلسان حال سلطات الاحتلال، مما ارتأته الصحيفة لونًا من إكراه العمد حتى الأميين منهم على الاشتراك في هذه الجريدة.

ولم تفتأ الأهرام تهاجم الأمر العالى وما ترتب عليه من اختلال الأمن في بعض البلاد، خاصة في البحيرة، وتعدد ألوان فساد بعض العُمد، وإن لم تنكر أن "كثيرين من العمد مزدانون بالصفة الأخلاقية الشريفة" ورغم هذا الهجوم فقد استمر الأمر العالى لعام 1895 الركيزة الأساسية التي حددت وضعية "حضرة العمدة" ولسنوات طويلة تالية!