ads

Bookmark and Share

السبت، 2 يناير 2021

096 صاحب الأبهة مُخجل الكرماء!

 صاحب الأبهة مُخجل الكرماء!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 1 يونيو 1995م - 2 محرم 1416هـ


عدد الأهرام الصادر يوم الاثنين 4 مارس عام 1895 نعى إلى القارئ المصرى "الملك الهمام خديو مصر الأسبق صاحب الأبهى إسماعيل باشا جد الجناب العالى".

وفى هذه المناسبة خلعت الصحيفة بضعة ألقاب على الخديو الراحل منه أنه كان "مُحدثًا فاتن السامعين كريمًا مُجل الكرماء طليق المحيا قريب البشاشة، على وقار في الحركة والمسحة من جلالة الملك تملأ القلب من هيبتة، يتضع للوضيع ويكبر على المستكبر"!

ولو كان قارئ أهرام ذلك اليوم رجع لأعداده القديمة، وبالذات العدد الصادر يوم الخميس 3 يوم يوليو عام 1879، أي قبل ستة عشر عامًا، للاحظ تغيرًا جوهريًا في موقف الأهرام، والذى وصم إسماعيل يوم خلعه بالاستبداد "الذى ساعد على زيادة التأخر".

غير أن القارئ المتابع لابد وأن يكون قد لاحظ أن هذا التغير الدرامى لم يتم بشكل فجائى، فقد استمرت الأهرام بامتداد عصر توفيق تصف أباه مرة بالخديو السابق، ومرة بالخديو المخلوع وثالثة بإسماعيل باشا، وعندما كانت تتفضل بإضفاء أحد الألقاب عليه فقد كانت تكتفى بلقب "حضرة"، وهو لقب كان يحظى به أي أفندى في الحكومة المصرية!

اختلف الأمر إبان التسعينات أو على وجه التحديد خلال ما يزيد قليلا عن السنوات الثلاث التي انقضت بن تولية عباس وبين وفاة جده، فقد تغيرت النغمة على نحو يلفت النظر، الأمر الذى تتعدد عليه الأدلة.. لعل ذلك الخبر الذى جاء في العدد الصادر يوم 25 يناير عام 1894 يقدم البرهان على ذلك.. في باب الحوادث المحلية قالت الصحيفة:

"وافق أمس تذكار مولد صاحب الأبهة والسمو إسماعيل باشا الخديو الأسبق فاجتمعت أعضاء العائلة الكريمة في سراى الزعفرانة عند صاحبة العصمة حرم سموه البرنسس الثالثة وهنأوا سوها وأرسلت عشرات من التلغرافات إلى أبهته بالأستانة كلها تهنئة واحترام"!

ونعتقد أن قارئ الصحيفة المتابع كان يدرك وقتئذ أن مياهًا كثيرة كانت قد جرت بين شواطئ الإسكندرية التي أعيد إليها جثمان الخديوى الشهير يوم 11 مارس 1895، وبين شواطئ إيطاليا لتى قضى فيها ردحًا من سنوات النفى، وشواطئ البوسفور التي قضى في قصر من قصور استنبول المطلة عليه السنوات الثمان الأخيرة من عمره..

وكانت الأهرام هناك طوال هذه السنوات ترصد حركة المياه التي تجرى بين تلك الشواطئ، والتي تشكل قصة طريفة ومثيرة من قصص التاريخ المصرى الحديث.

تؤكد حركة تلك المياه في جانب منها أنها قد بدأت قوية مع خلع الخديوى الأشهر.. قوية في المخاوف التي صنعتها عملية الخلع من مشاعر متضاربة تجاه إسماعيل، خاصة فيما يتصل بشخصيته الطاغية وسياساته المالية، فيما تمثل في الموقف الذى تبنته الأهرام، والتي عانى صاحباها في وقت من الأوقات من استبداد الرجل، هذا من جانب، وألقوا على عاتقه من جانب آخر تبعة التدخل الدولى الذى صنعته سياساته، غير أنه مع مرور الأيام تهد المياه وتهمد حدة المشاعر، وتحل نظرة تتسم بقدر أكبر من الموضوعية.

غير أنه مع الزمن، وربما الأهم منه، كان التغير الذى حدث في شخص الجالس على مسند الخديوية.. من الابن إلى الحفيد، فبينما بدت مشاعر توفيق غير الودية تجاه أبيه. فقد جاءت مشاعر عباس مختلفة تمامًا مما يُشكل حادثة متكررة في تاريخ حكام مصر.. ظاهرة أن يسير الخلف على خط السلف بنقيضه!، حتى أنها اتخذت في النهاية شكل الظاهرة وإن لم تصل إلى مرتبة القانون!

وكان لتوفيق أسبابه في النفور من أبيه.. أسباب قبل خلع إسماعيل بدت في تمحك إسماعيل في الزواج من والدة أكبر أبنائه التي لم تكن أكثر من مستولدة، ولم يفعلها إلا تحت ضغط السلطان العثمانى، وأسباب بعد خلعه، وكانت عديدة..

تدل كل المؤشرات على أن أهم تلك الأسباب كانت مخاوف توفيق من مساعى أبيه الدائبة للعودة إلى عرش مصر، مما كان يعنى ببساطة إزاله عنه.

يشى بذلك الخبر الذى نشرته الأهرام في أول يونية عام 1885 وجاء فيه أن الصحف البريطانية قد كذبت ما شاع من أن المستشار الألماني البرنس بسمارك "ميال إلى تعضيد مطامع إسماعيل باشا بخديوية مصر"!

من بين تلك الأسباب أيضًا ما كان قد فعله توفيق في مستهل حكمه من مصادرة السرايات الخديوية، عابدين، الإسماعيلية، القصر العالى بالقاهرة، والنزهة بالإسكندرية، وغيرها، لحساب الحكومة المصرية بعد أن كان أبوه ملكًا خاصًا له، وهو أمر استمر محل جدل بينه وبين أبيه مما تكشف عنه بعض أخبار الأهرام عام 1887..

جاء في أحد هذه الأخبار أن إسماعيل قد طلب من "قومندانية الجيش الإنكليزى" بمصر أن تدفع له أجر خمس من سراياته، نمرة 1 و2 والسراى المعروفة باسبتالية الحريم ومحلية آخرين بجوارها، وعلقت الأهرام على الخبر بأنه "لما كانت القومندانية المشار إليها غير عالمة بحقيقة المسألة المذكورة فقد أحالت النظر فيها على مجلس النظار" ولم تلبث أن نشتر رد المجلس بعد خمسة أيام وجاء فيه "أن المحلات المذكورة هي ملك للحكومة المصرية وذلك بمقتضى حجة محفوظة لديها".

اختلف الأمر بالنسبة لعباس الذى كان يأخذ على أبيه ضعف سياساته تجاه سلطات الاحتلال، مما بدا في تخلصه من رجاله خلال الأسابيع الأولى من حكمه، وتبع ذلك بالصدامات المعروفة مع السلطات الاحتلالية.. صدام وزارة فخرى، وصدام الحدود.

ولم يخف عباس إعجابه بجده في المنفى في مذكراته التي وضعها بعد خلعه عن العرش عام 1914 والتي أفرد فيها قسمًا تحت عنوان "جدى الخديو إسماعيل" أكبر من القسم الذى أفرده تحت عنوان "والدى الخديو محمد توفيق"، وبينما امتلأ القسم الأول بحرارة واضحة فوصف جده "بِبُعد النظر والإستنارة" وعزل إليه فضل إرساء مفهوم الوطنية المصرية، فإن القسم الخاص بأبيه اتسم بالبرود، وكان أفضل ما قاله أنه "كان حسن النية في الاستماع إلى نصائح الدول"!

وهذا الإعجاب لم يخفه أيضًا حينما كان جالسًا على العرش، فيما بدا خلال زيارته لاستنبول عامي 1893 و1894، فقد حرص في كل من هاتين الزيارتين على الالتقاء بالخديوى الأسبق في السراى التي كان يقيم بها على ضفاف البوسفور.. سراى ميركون، وقد وصل احترام عباس لجده المعزول إلى محاولة تقبيل يده لولا أن إسماعيل هو الذى أبى ذلك "إجلالا لمقامه في الضيافة".

وقد ترجمت الأهرام إعجاب عباس بجده إلى متابعة متعاطفة لأخبار إسماعيل، خاصة ما اتصل منها برحلاته الاستشفائية إلى سويسرا والنمسا خلال العام الأخير من حياته والتي كانت تنهيها في العادة بالدعوة لأبهته "بطول السلامة وتمام العافية"، وهى الدعوة التي لم تكن أبواب السماء مفتوحة لها بدرجة كافية بعد أن جاء الخبر بوفاة صاحب الأبهة، الأمر الذى أعده إسماعيل مرة أخرى إلى أسماع وأبصار المصريين من خلال الصحف وغيرها، وإن كنا نرصد هنا ما نقلته الأهرام.

***

من الحكام العشرة من أبناء أسرة محمد على الذين اعتلوا عرش مصر ربما لم يثر حاكم من أسباب الجدل ما أثاره الخديوى إسماعيل، مع أنه لم يكن أطولهم حكمًا، فقد قضى فيه ستة عشر عامًا (1863 - 1879) فحسب، قضى مثلها في المنفى (1879 - 1895)، ولعل ذلك ما أدى إلى تقديم صورتين متناقضتين للرجل..

صورة الحاكم السفيه الذى أوقع مصر في شراك الديون، بكل ما ترتب على ذلك من فتح أبواب جهنم على المصريين.. أبواب التدخل الأجنبي التي ظلت تتسع حتى سمحت في النهاية بتدفق الجيوش البريطانية لاحتلال البلاد بعد ثلاث سنوات فحسب من عزله، ولدى أصحاب هذه الصورة من المناسبات ما يؤكدونها بها، لعل أهمها الاحتفالات الأسطورية التي أقامها الرجل عند افتتاح قناة السويس عام 1869.

على الجانب الثانى يقدم آخرون صورة مختلفة.. إسماعيل الذى أخذ بيد مصر من أوضاع العصور الوسطى إلى معطيات لحداثة التي وجدوا من منجزات الرجل فيها ما يعينهم على تأكيد ما قدموه، وقد نفى هؤلاء ما وضعه أصحاب الصورة الأولى حتى أن أحدهم وهو الأمريكي بيير كرابيتس لم يجد أنسب من أن يسمى كتابًا ألفه عن الخديوى المشهور عام 1933 أفضل من "إسماعيل - الخديو المفترى عليه"

Ismail - The Maligned Khedive

وقد نجحت الأهرام في تجاوز حالة الاستقطاب لأى من أصحاب الصورتين، ففي مقال طويل يوم وصول نبأ وفاة "صاحب الأبهة" قدمت الأهرام سيرة ذاتية للخديوى إسماعيل نعتقد أنها قد نجحت من خلالها في تقديم صورة متوازنة، وواضح أن واضع السيرة كان بشارة تقلا نفسه..

ومع أن المناسبة كنت تقتضى تقديم أسباب المجاملة سواء عملا بالحكمة القائلة "أذكروا محاسن موتاكم"، أو لما أبداه الخديو عباس من أسى لرحيل جده، فإن ذلك لم يمنع واضع السيرة من الإشارة في أولها إلى الجانب السلبى من الصورة.. جانب الحاكم المسرف، وإن صاغه في صورة الملك الكريم.. بل مُخجل الكرماء فيما جاء في القول:

"ومن آيات كرمه الحفلتان العظيمتان اللتان أقام إحداهما في أفراح أنجاله الكرام والثانية في فتح قناة السويس وهما حفلتان أوقف عندهما التصور وأذكر بهما إسراف لويس الرابع عشر في أعياده"!

خصصت الصحيفة بعد ذلك جانبًا من السيرة التي وضعتها لسياسات الخديوى الراحل الخارجية، وقد خلصت بعد استعراض هذه السياسات إلى القول "كان أول من تعرف الدول ورفع لديها شأن مصر الذى كان صغيرًا حتى ساوى عندها شأن مملكة كبيرة فلم يأنف عليه الملوك الغربيون أن يزوروا عاصمتها وينزلوا ضيوفًا على حاكمها".

دلفت الأهرام بعد ذلك إلى سياساته الإفريقية فسجلت أنه هو الذى دفع بجيش مصر "الظافر المنظم إلى حدود خط الاستواء من جهة، وإلى حدود الحبشة من الجهة الأخرى، فأصبحت بها مصر مملكة من أكبر الممالك اتساعًا ومن أوسعها تجارة وعم فيها اليسار".

وفى هذه المناسبة لم ينس واضع السيرة من التذكير بنهضة البحرية التجارية المصرية في عصر الرجل وكيف أن بواخرها أصبحت تمخر مياه البحرين "الأبيض والأحمر وما سواهما وتنشر رايات المدنية الجديدة في مصر الناهضة".

وفى ميدان الحديث عن الجانب السياسى من السيرة كان رأى الأهرام أن إسماعيل هو "أول من بث روح الوطنية في المصريين وألقى أزمة الوظائف إلى أيدى كل من لاق بها منهم".

"الأشغال والتعليم" كانت من أهم ميادين إنجاز الخديوى الراحل فيما عددت الأهرام بعضًا من جوانبه..

وفى الأشغال كان هو الذى "أتم الأعمال الكبرى للرى كما يشهد بفضله في ذلك نفس المهندسين الأجانب اليوم، وهو الذى أنشأ القاهرة على طرازها في الحاضر فجعلها قاهرة لعواصم الشرق مناظرة لعواصم الغرب، وهو الذى أسس التنظيم لسائر مدن القطر وأوجد دوائر الحكومة في قصور شائقة لائقة، وأصلح الخطوط الحديدية وزادها، واستقدم السياح بما أنشأ من المتحف الكبير والملاهى ودواعى المسرات وأفاد الألوف من الصناع والفعلة بما أقامه من القصور".

في التعليم "أنشأ المدارس المختلفة الدرجات المتقنة اللوائح والنظامات واستدعى إليها ألوف الطلبة من أبناء الوطنيين"، ولم تكن الأهرام مبالغة في أي من تلك الجوانب، مع أن المناسبة كانت تستحق المبالغة!

بقى بعد ذلك متابعة الصحيفة لعودة الرجل إلى الوطن، ولكن جثة هامدة!

***

استمرت المشاكل تلاحق "صاحب الأبهة" حيًا وميتًا، فلم تمر أيامه الأخيرة بالسلام الذى يفترض أن تمر به أيام رجل يحتضر!

المشكلة الأولى نشأت الشهر السابق على وفاته، فقد أعرب الرجل عن رغبته في العودة إلى أرض مصر ليموت فيها، وتضاربت المواقف بشأن هذه الرغبة..

الخديو عباس كان ميالا إلى تلبية رغبة جدة، وسجلت الاهرام هذا الميل بقولها أن "أفندينا ولى النعم أعلن أمياله البنوية الصادقة لخدمة جده شفاه الله"، ودخلت في هذه المناسبة في معركة مع الجازيت الناطقة بلسان السلطات الاحتلالية..

كان رأى الصحيفة الإنجليزية اللغة والميول أن حضور إسماعيل إلى مصر "ولو في حالة النزع يكون حجة لمحبى الاضطرابات والقلاقل فيتخذون حضوره لإقلاق الراحة المستتبة التي كانت سببًا في نجاح القطر وتقدمه".

ردت الأهرام على ذلك بإعلان دهشتها من أن يؤدى "رجوع الأمير العليل إلى مثل هذه النتائج إلا أن يكون قصد الجازيت أن تندد بأيام ولايته وتطعن بأعماله".

المهم أن رأى الجازيت هو الذى انتصر في النهاية ولم يسمح لإسماعيل بالعودة إلى مصر، فقد اجتمع مجلس النظار برئاسة نوبار باشا ورفض "ملتمس أبهتلو الخديو الأسبق بالعودة إلى القطر لتغيير الهواء التماسًا للصحة الوعافةي من أمراضه".

ورغم ادعاء الصحيفة الإنجليزية أن المجلس النوبارى قد اتخذ هذا القرار من تلقاء نفسه وأن السلطات الاحتلالية لم تمانع في عودة الرجل فإن كل الدلائل تشير إلى غير ذلك..

فلم يكن معقولا أن يتخذ مجلس النظار قرارًا ضد إرادة الخديوى دون مساندة احتلالية، فضلا عن ذلك فإن الجازيت رغم إعلانها بأن "الإنكليز لم يمانعوا" إلا أنها قد امتدحت قرار النظار الحكيم وأثنت عليهم لرفض الملتمس، وعمومًا فإن عباسًا كان في موقف لم يتمكن معه من فرض "إرادته السنية"، بعد الأزمتين الكبريين اللتين خاضهما مع دار المعتمد البريطاني خلال العامين السابقين، وكان يعلم أن أزمة ثالثة يمكن أن تكلفه عرشه، من ثم لم يكن أماه سوى أن يترك جده يموت في هدوء في قصره المطل على البوسفور، وهو ما جاءت به الأخبار في 4 مارس.

بيد أنه إذا كانت سلطات الاحتلال ووزارة نوبار قد نجحت في منع عودة إسماعيل إلى أرض مصر حيًا، فهى لم تكن تستطيع أن تفعل معه ذلك ميتًا، مما شكل فصلا آخر من رواية رحيل "صاحب الأبهة".

ففي نفس يوم وصول الخبر إلى المحروسة أبرق الخديوى إلى السلطان بأنه قد "أصدر أوامره إلى وابور البوسطة الذى يصل إلى الأستانة بنقل جثة الفقيد وصاحبات الدولة البرنسسات قريناته إلى الإسكندرية" بينما قرر البقاء في قصر المنتزه مع عمه حسين كامل باشا (السلطان فيما بعد)، انتظارًا لوصول الجثمان، في ذات الوقت أصدر أوامره بتنكيس الرايات إيذانًا بالحداد لمدة أربعين يومًا "وأوقفت الموسيقات والاحتفالات العامة لمدة ثلاثة أيام"، ولم يكن الإنجليز أو الوزراء قادرين على وقف كل هذه الإجراءات، التي اتخذت شكلا إنسانيًا من جهة، وطابعًا بروتوكوليًا من جهة ثانية، غير أن ما اتصل بالطابع الأخير خلق أزمة أخرى وصفتها الأهرام بالحادثة، ونترك للعدد الصادر من الصحيفة يوم 14 مارس عام 1895 روايتها..

"كان قد تقرر في ترتيب المسيو بمشهد المغفور له إسماعيل باشا مشى المستشارين الإنكليز الثلاثة مع النظار، فلما أطلع حضرات القناصل على ذلك اجتمعوا عند أقدمهم وهو المسيو فيلبوا قنصل هولندا، وبعد المداولة ذهبوا لمقابلة اللورد كرومر وأبلغوه أن المستشارين المذكورين ليسوا إلا موظفين كغيرهم لا نظارًا وأنه ينبغي أن ينقلوا من صف النظار".

تستطرد الأهرام في تقديم الرواية فتقول أن اللورد قد قبل رأى القناصل إلا فيما يخص السير بالمر لأنه "يمصل المراقبة الثنائية التي حضرت فيه وأنه لا يعد مستشارًا لنظارة المالية فقط، بل مستشارًا للخديوى على مالية البلاد" ولم يقبل القناصل هذا الرأي وبدا أن المسألة سويت حين وافق كرومر على رجوع المستشارين الثلاثة إلى الصف التالى للنظار جنبًا إلى جنب مع أعضاء صندوق الدين، غير أن ما حدث أثناء المشهد أكد استمرارية الأزمة.

فمن ناحية انسحب المندوب الروسى في الصندوق من الجنازة لأنه رفض أن يتساوى بالمستشارين، ومن ناحية أخرى فإن السير بالمر أخذ في التحايل للالتفاف على اتفاق القناصل مع المعتمد البريطاني فيما وصفته الأهرام بشكل طريف بقولها "ولكنه حدث أن السير بالمر في أثناء السير تراجع من المكان الذى نقل إليه وماشى النظار ثانية فساء ذلك القناصل واجتمعوا على أثر المشهد عند المسيو فيلبوا وكتبوا احتجاجًا رسميًا"، وعلقت الصحيفة أهمية كبرى على الحادثة واعتبرتها بداية لرفض دولى لما انتحله المحتلون لأنفسهم من صلاحيات، مما جاء في قولها "لعل الله منشئ لقطرنا العزيز من هذه المقدمات الصغيرة نتائج جليلة مفيدة بمنه وكرمه"، ولكنها كانت في ذلك متفائلة أكثر مما يجب!

أخيرًا، فرغم كل مظاهر الأبهة التي أحاطت بجنازة صاحب الأبهة، سواء في الإسكندرية، أو على طول الطريق الذى قطعه القطار إلى العاصمة، فقد كان يتوقف في كل محطة حيث أعدت الاستقبالات المؤثرة، أو في العاصمة ذاتها حيث احتشد القاهريون إلى حد أنه "سقط بجوار مسجد السلطان حسن منزل فوقه 100 شخص يتفرجون فجرح بعضهم".. رغم كل ذلك تبقى قضية جديرة بالملاحظة.

فقد طلعت الأهرام يوم الثلاثاء 12 مارس، وقد احتل الجانب الأكبر من صفحتها الأولى قصيدة طويلة تحت عنوان "رثاء إسماعيل"، وكان التوقيع باسم شوقى، وهى نفسها لقصيدة التي تم تضمينها في الجزء الأول من الشوقيات تحت عنوان "الخديو إسماعيل"، ومطلعها:

حلم مده الكرى لك مدا           وسدى ترتجى لحلمك ردًا

بكل ما حمله هذا النشر من دلالة أن أحمد شوقى بك قد دلف إلى الحياة العامة من باب "ديوان الحياة المعاصرة"، ولم يكن بعد أميرًا للشعراء، وفى مناسبة توديع الخديوى إسماعيل الذى لم يعد بعد أميرًا للبلاد!