ads

Bookmark and Share

الجمعة، 1 يناير 2021

094 اعتصاب الفحامين!

 اعتصاب الفحامين!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 18 مايو 1995م - 18 ذو الحجة 1415هـ


في رسالة علمية أعدت منذ نحو ثلاثين عامًا عن تاريخ الحركة العمالية في مصر أرخ صاحبها لمولدها، بعام 1899، وكانت علامته على هذا المولد إضراب لفافى السجاير الذى حدث أواخر تلك السنة في القاهرة.

بيد أن الدكتور رءوف عباس حامد صاحب هذا العمل كان فطنًا حين تحرز بالقول أن "عملا جماعيًا كهذا لابد أن يكون مسبوقًا بتجارب صغيرة تلقى فيها العمال دروس تنظيم العمل الجماعى الأول".

وقد أثبتت الأهرام صحة هذا الاحتراز في رصدها لأحداث اعتصاب الفحامين في بورسعيد، قبل خمس سنوات من التاريخ المفترض لمولد الحركة العمالية، في مايو عام 1894، وإن لك تكن تجربة صغيرة!

((الفحامون) شكلوا الطائفة الأهم في بورسعيد بحكم الوظيفة التي استمر هذا الميناء يقوم بها.. تموين السفن العابرة لقناة السويس، وكانت في أغلبها بخارية تعتمد على الفحم.

وفى رسالة طويلة لوكيل الأهرام في بورسعيد، نشرتها الجريدة في صدر صفحتها الأولى في 24 مايو 1889 قدم صورة تفصيلية عن هؤلاء..

ينقسم الفحامون إلى طائفتين، طائفة "البنوكة"، وطائفة التفريغ، تضم الأولى ألوف وخمسمائة عامل يرأسهم ثمانية أشخاص اسم كل منهم "الكومندا"، وعملهم نقل الفحومات من البر إلى الوابورات ورصفه فيها.. "والشغل يكون بالمناوبة إذ لا يمكن تشغيل عموم العمال ورؤسائهم دفعة واحدة".

الطائفة الثانية هي طائفة التفريغ وهى مؤلفة ما بين ثمانمائة وألف عامل يتناولون العمل بشروط الطائفة الأولى ويترأسهم ما بين 16 و22 كومندا.

قدم وكيل الأهرام في بورسعيد بعد هذا الرصد صورة لحياة الفحامين من أبناء الطائفتين وأنهم "واقعون في مخالب الأطماع وحقوقهم مدوسة من المستبدين بهم.. ولا يجسرون على رفع تنهداتهم والشكوى بمرارتهم لأنهم كعبيد أرقاء.. وإذا تأملنا لا نرى إلا إشارات الشقاء على وجوههم المصبوغة بغبار الفحم حتى أنك لا تميز الزنجى من أبيض البشرة منهم وترى القذارة على أجسام نحيلة ليس عليها إلا بقية أثواب بالية".

وينهى المكاتب هذا التوصيف بتحذير مشدد من حال هؤلاء ويتوقع أنه إذا لم يبادر المسئولون لإصلاح الأمور بحدوث مضاعفات "وإن غدا لناظره قريب" على حد ما جاء ف آخر المقال.

ومع أن هذا الغد لم يأت إلا بعد خمس سنوات بالضبط (مايو 1889 - مايو 1894)، إلا أنه قد جاء على أي الأحوال وصنع هذه الصفحة المجهولة من تاريخ الحركة العمالية المصرية.

*****

تؤكد متابعة الأهرام لاعتصاب الفحامين أنه خلال تلك السنوات الخمس بدلا من أن تسير أحوال أصحاب هذه الحرفة في بورسعيد إلى الأفضل كانت تتحرك إلى الأسوأ، ولنا هنا ملاحظة على تلك المتابعة..

فبينما كان للصحيفة مكاتب مقيم في الميناء الشهير إلا أنها اعتمدت في متابعتها لأخبار هذا الاعتصاب عمن أسمته "أحد القراء" الذى استمر يمدها برسائل، أُرخ أولاها يوم 22 مايو وآخر في أول الشهر التالى، ونرى أن هذا القارئ إن لم يكن واحدًا من الفحامين فقد كان على الأقل أحد أبناء المدينة المتعاطفين معهم، مما يمكن تبينه من الطابع المؤيد لهم الذى غلب على رسائله.

تدهور أحوال الفحامين يبدوا من صورة شديدة الإنسانية قدمها هذا القارئ الأهرامى وهو تدهور ناتج عن تحكم "الكومندات" في عيش هؤلاء، ونترك لصاحب الصورة تقديمها.. فبعد أن تحدث عن نهب هؤلاء لعرق العمال انثنى ليتحدث عن وسائل تحكمهم فيهم، قال:

"إن هؤلاء الرؤساء لم يقتصروا على هذه الأرباح السيالة المنحدة من جباه عملة المشار إليهم بل إنهم جاوزوا الحدود في الاستيراد والكسب المحرم ولم يبقوا ولم يذروا فكل رئيس فتح حانوت أنسجة لعملته وأجبروهم بشراء كل ما يلزم لهم ولعائلاتهم من الملبس منه وذلك بأثمان مضاعفة ترزح تحتها ظهور الموسرين ومن لم يطع وأهين وحل عشرة رجال في مكانة.. وبعضهم فتح قهاوى للعملة وشرفهم بأن أخذ الفنجان مثل ما يؤخذ من الكبراء والأفندية في قهاوى البحر وبعضهم قد اتفقوا مع البدالين والجزارين على أن يعطوا اللحوم وأنواع المأكولات للعملة بالثمن العادى وهو يحاسبهم بثمن آخر وفى أيام الأعياد يكرهون العملة على شراء الملابس الحريرية من حوانيتهم... والخلاصة أنهم لم يتركوا شيئًا يشترى ويؤكل لازمًا للمعيشة إلا جلبوه... ولم يعد ينقصهم إلا أن يبيعوهم الهواء الذى يستنشقوه وليته كان نقيًا وليس ممزوجًا بغبار الفحم"!

ويقرر صاحب التقرير أن هؤلاء الرؤساء قد تمكنوا من خلال كل تلك الأساليب أن يتملكوا أكثر من نصف حى العرب فضلا عن القصور والبيوت الكبيرة التي ابتنوها لأنفسهم، وهم، قد نجحوا في إعادة "زمن العونة (السخرة) التي أبطلتها أحكام هذا الزمان العادل"!

"غدا لناظره قريب" الذى توقعه وكيل الأهرام في بورسعيد جاءت أول أخباره في عدد الصحيفة الصادر يوم الثلاثاء 22 مايو عام 1894 ومن مكاتب العاصمة مما يكشف عن أن حادثًا كبيرًا قد جرى في الميناء الشهير وأحدث "تأثيرًا كبيرًا في العاصمة" على حد تعبير المراسل.

الحادث كما ساقته الأهرام الذى جاء في "إفادة رسمية من سعادة المحافظ أن الفحامين الذين أضربوا عن الأعمال حاولوا إيقاف أخوانهم عنها فحدثت لذلك مناوشات خفيفة في أثناء الليل".

معنى ذلك ببساطة أن أعمال الاعتصاب كانت قد بدأت قبل النشر بما لا يقل عن ثلاثة أيام. إضراب.. خروج عدد من العمال عن إجماع المضربين.. تدخل البوليس والقبض على آخرين... ولم يمثل كل ذلك إلا بداية اعتصاب الفحامين..

في اليوم التالى يخصص مكاتب الأهرام في العاصمة جانبًا هامًا من رسالته لتقصى أسباب الإضراب، ويبدوا أن من رأى ليس كمن سمع، فقد ثبت فيما بعد من رسائل قارئ الأهرام في بورسعيد عدم دقة ما توصل إليه مكاتب العاصمة.

المهم أن صاحبنا المقيم في المحروسة قد ذكر أن سبب الإضراب أن المحافظة قد أصدرت لائحة لضبط أعمال الفحامين بإجبار الكومندات على "فتح دفاتر ذات حسابات مضبوطة يقيدون فيها يومية كل فاعل وما له وما عليه بحيث يمكن للحكومة من مراقبة تلك الحسابات للاستيثاق من صحتها ومن كيفية معاملة المشايخ للأنفار".

ويخلص من ذلك إلى القول أن الكومندات الذين يحققون أرباحًا فاحشة. والذين استاءوا من هذا الإجراء هم الذين حرضوا "بعض الحمقى من رجالهم للإضراب عن العمل".

بعد يومين تنشر الأهرام أولى رسائل القارئ البورسعيدى الذى قدم أسبابًا مختلفة جد الاختلاف عن أسباب مكاتب العاصمة، وكانت أكثر معقولية، وإن كانت متصلة أيضًا بالعلاقات بين الكومندات والفحامين...

يقول أن تلك العلاقة كانت في أول الأمر "تحت سيطرة المحافظة وكانت دفاترهم أميرية تقيد فيها أسماؤهم وتدفع إليهم أجورهم بالضبط". ثم يضيف أنه لسبب غير معلوم وبعد ومداولات جرت بين المحافظ وشركات البواخر "ترك العملة ورؤساؤهم لشأنهم يديرهم هؤلاء كيف شاءوا"، وأن الأخيرين أخذوا في جنى أتعاب الفحامين "غنيمة باردة لا يراعون ذمة ولا حرمة واستأثروا بهذه الأعمال استئثارًا تامًا واحتكروها احتكارًا عامًا"، وأن ما أنزلوه من مظالم كانت وراء اعتصاب العمال...

وكانت مطالب الفحامين بسيطة ومحدودة: وهى "أن تصنع وسيلة يصيرون بها قادرين على أخذ أجورهم من المحافظة كما تؤديها الشركات والمصارف وأن يكون عليهم مثل هؤلاء الرؤساء الظلمة فلو أبدلتهم الحكومة بعمال من عندها لكان ذلك أرفق وأوفق"!

ويقر صاحب الرسالة بعدالة مطالب الفحامين وأن "كل العقلاء يجدون هؤلاء العملة مصيبون كل الإصابة ولا يرون مانعًا يمنع الحكومة عن تلبية ندائهم بأقرب ما يكون قبل أن يستفحل الاعتصاب".

ومن المتابعة التي قدمها قارئ الأهرام يلاحظ أن الفحامين بعد أن قدموا مطالبهم امتنعوا عن العمل الأمر الذى جنب اهتمام أهل المدينة الذين "ذهبوا أزواجًا وأفواجًا للتفرج على اجتماع العملة وقد غسلوا وجوههم ولبسوا أنظف ما عندهم وعقدوا الجلسات المتوالية في الشوارع وعلى شاطئ البحر والبحيرة وقرب الميناء".

التطور الذى حول الاعتصاب السلمى إلى عمل عنيف نتج عن خروج عدد من الفعلة عن اجتماع المعتصبين مما رصده قارئ الأهرام الذى أخذ على عاتقه إطلاع القراء على بقية مجريات الأحداث..

رصده المرة الأولى ف الر سالة التي نشرتها الصحيفة 25 مايو وجاء فيها أن الفحامين الذين نزلوا إلى العمل ليلة الأحد "لم يعودوا يستطيعون العودة إلى المدينة خوفًا من أن يبطش بهم رفقاؤهم ولذلك فقد أجبروا أن يبقوا على بر آسيا وقد جاعوا وعطشوا وأصبحوا بلا مأوى وتركوا عائلاتهم تتضور جوعًا في حى العرب وقد سمعت أن الشركات بعثت بالمأكولات ريثما يسفر الاعتصاب عن نتيجة ورجال البوليس خائفون من حصول هياج إذا رجع هؤلاء العملة إلى البر".

ورصده المرة الثانية في عدد الاهرما الصادر بعد أربعة أيام، حين وصل العنف إلى ذروته "ففي ذلك اليوم احتاج "بنك ورمس" إلى عدد من العمال لتموين بواخره الراسية في الميناء فنزل رئيسه "المسيو روييه" إلى حى العرب وجمع نجو خمسين عاملا وذهب بهم إلى الميناء تحت حراسة البوليس فكانت الواقعة بعد ذلك، ونترك للرجل روايتها..

فقد تبع سيل جارف من المعتصبين "وأخذوا الحجارة في جيوبهم وملأوا بها زعابيطهم حتى بلغوا بنك رومس الواقع بجوار البوسطة وأخذوا يضربون بها الشرذمة النازلة للعمل وقد طارت عقولهم وطاشت أحلامهم فجرحوا كثيرين وكسروا نوافذ البنك أما المسيو روييه والعمال فدخلوا وأقفلوا البواب والقواس (الحارس) البربرى وهو الذى بقى وحده خارجًا فرجموه بالحجارة رجمًا حتى أثخذوه جراجًا وحينئذ أتت العساكر منهالة من كل صوب ففرقتهم بالعصى وبالضرب وأطلقت في الهواء بعض عيارات نارية تخويفًا لهم وكان قد أتى سعادة المحافظ وعزتلو الوكيل والحكمدار فاستتب النظام وتفرق شمل المتجمهرين".

وليس من شك أن بورسعيد باتت في ليلة يوم الجمعة التي جرت فيه تلك الأحداث، وقد أخذ القلق بتلابيب الجميع لأن "الأمن مس مسا ظاهرًا في ذلك المساء ولا نعلم ماذا يكنه الغد" وقد جاء هذا الغد بتطورات بعضها لم يكن متوقعًا، وبعضها كان في الحسبان!

*****

ما لم يكن متوقعًا أن تتحول قضية إضراب ألفين وخمسمائة عامل مصري ليس فيهم أجنبى واحد إلى قضية دولية تتدخل فيها أساطيل الدولتين الكبريين في ذلك العصر.. إنجلترا وفرنسا، ولكنه حدث ولأكثر من سبب..

فمن ناحية كان إضراب الفحامين يمكن أن يهدد الملاحة عبر القناة فيما يمس المصالح الإمبراطورية، ثم أن تعطيل الملاحة سيؤدى من ناحية أخرى إلى تهديد قناة السويس نفسها فيما يمس المصالح الفرنسية ومن ناحية ثالثة فإن هذا التميز الذى عرفته بورسعيد منذ نشأتها بين حى للعرب وآخر للإفرنج كان يمكن أن يتحول، فيما تصوره المسئولون في لندن وباريس، إلى تهديد لحياة وأملاك من يعيشون في الحى الأخير... من الأجانب طبعًا!

بدأ هذا التدخل، فيما رصده "قارئ الأهرام" يوم الخميس 24 مايو، حين تحركت المدرعة البريطانية الراسية في الميناء، ونزل منها إلى البر عدد من "العساكر شاكى السلاح ليوقف هياج العملة وشاع عن لنسان قنصل إنكلترا هنا أنه إذا لم يمتثل العمال لأوامر جنوده لم يبق عليهم إلا إطلاق النار ترهيبًا وتخويفًا... وبعد أن كانت الدارعة المشار إليها راسية بعيدة عن المدينة دنت حتى كادت تمس الشاطئ وحتى صرنا نرى العساكر فيها ونسمع صليل سلاحهم ونرى بريق سيوفهم"!

يضيف الأهرام في اليوم التالى خبرًا مؤداه أن المدرعة البريطانية التي دنت من الشاطئ مجرورة بباخرة لم تقدن على ذلك إلا بعد أن وردت إليها أومر صريحة، وأن قائدها أرسل إلى المسئولين عن الأمن في المدينة يبلغهم باستعداده للمعاونة إذا ما ادعت الحاجة.

في نفس الأثناء أرسلت فرنسا إحدى قطع أسطولها في المتوسط، الطراد كوسماو، والذى رابط في المياه المواجهة للميناء، جنبًا إلى جنب مع المدرعة البريطانية.

وبينما ألقت الأهرام اللوم على السياسات الإنجليزية التي أدت إلى هذا الموقف وأن الفرنسيين لم يرسلوا بقطعتهم البحرية إلا من جراء المخاوف أن يستولى الإنجليز على باب ترعة السويس على غفلة، فإنها أعربت عن مخاوفها من تلك التطورات فيما جاء في قولها أن "مسألة الفحامين من المسائل التي تستوجب الالتفات لما يترتب عليها من الأمور المضرة فضلا عن أن هذه المسألة ربما اعتبرت سياسية ممن يترقبون وقوع مثلها والدليل على ذلك حلول مدرعتين حربيتين إنكليزية وفرنسية لمساعدة رعاياهما والمحافظة على حقوقهما".

ومع أن القطعتين البحريتين الإنكليزية والفرنسية لم تتدخلا بشكل فعال فى أحداث الاعتصاب، إلا أن مرابطتهما في مياه مدينة الفحامين والقومبانية كما كانت له دلالته كان له تأثيره على محاولات تسوية القضية فيما كان يجرى ابان ذلك...

سارت هذه المحاولات على محوريين التهديد والترضية..

التهديد بدا في دفع مزيد من قوات الشرطة إلى المدينة، وفى أخبار متلاحقة عن وصول قيادات الداخلية من الإنجليز، مثل كولس باشا وستل باشا، على رأس أعداد وفيرة من رجال البوليس، "أما الغرض من كل هذا التجنيد والتأهب فهو إلقاء الرهبة فى قلوب عملة الفحم وحملهم بالقوة الإجبارية على العودة إلى العمل".

أما الترضية فقد بدت في الخطاب الذى وجهه "محافظ عموم القنال" إلى الفحامين وجاء فيه قراران، أولهما: بمنع الكومندات من فتح دكاكين خصوصية وإجبارهم على "أخذ شيء منها لا مأكولات ولا ملبوسات ولا خلافها.. وكل من يخالف يصير رفعه من الأشغال، والثانى بإجراء مراجعة دفاتر حسابات الكومندات بانتظام والتحقق من إيصال المبالغ التي تستحق لكل منهم بالكامل "بدون حجز شيء منها.

ولم ينس المحافظ في هذه المناسبة التلويح بما يمكن أن يصيب الفحامين الذيم يرفضون التسوية، بالتخويف بمواجهة البطالة إ ينوى أصحاب محال الفحم "إحضار شغالة من الخارج بدلا منكم"، وأن الحكومة سوف تعاملهم باعتبارهم متشريدن "وسوف تتخذ طريقة لحضور وابور كبير لسفر كل من توقف منكم بحرًا مع عائلته"!

جاءت ردود فعل سريعة على القرار السابق لحافظ القناة والذى أسمته الأهرام "بلائحة ماهر باشا" خاصة بعد نشره في الوقائع المصرية، وكانت في مجملها سلبية.

بعض ردود الفعل هذه جاءت من حيث لا يحتسب.. من شركات البواخر التي عضد رؤساؤها الكومندات وخطأوا الحكومة "على تركها العملة يعتصبون ويعطلون مصالحها وهم يشددون النكير على سعادة المحافظ لسنه تلك اللائحة وذهب إليه وفد منهم وبينوا له العواقب الوخيمة على الحكومة إذا رفعوا القضية عليها وطالبوها بالتعويض".

البعض الآخر جاء من جانب الفحامين الذين استمروا في المطالبة باستبعاد الكومندات الذين أذلوهم وأن تتولى الحكومة ترتيب أجورهم ليتسلموها منها مباشرة بعد أن تخصم النسبة التي تراها، ويصف مكاتب الاهرام تصرف هؤلاء بأنهم "تفرقوا ضاحكين مستهزئين بالقرار يقولون أننا نفضل السفر إلى بلادنا على الرضى بهذه الشروط المجحفة"!

في مواجهة ذلك لجأت الحكومة إلى سياسة العصا الغليظة بمداهمات لبيوت الفحامين الذين قادوا أعمال الاعتصاب حيث قبض على خمسة وعشرين منهم بعد مناوشات خفيفة وأودعوا السجن وبدأ التحقيق معهم "وشهدت الأيام التالية مزيدًا من أعمال القبض على الفحامين وإن لم يتبين الأهرام عددهم، ويبدو أنه كان كبيرًا فيما كشف عنه خبر للجريدة في أول يونية جاء فيه أنهم قد أرسلوا تحت الحراسة ليسجنوا في "أحد سجون الحكومة إذ أن سجن الثغر لا يسعهم لكثرة مسجونيه".

وقد استغرق الأمر بعض الوقت ليعود الهدوء إلى المدينة، فبعد أكثر من أسبوعين اعترف مكاتب الأهرام في بورسعيد لأول مرة منذ حدوث الاعتصاب أن المدينة "أصبحت على ما يرام من الهدوء والنظام"، ولم يبق بعد ذلك سوى ذيول الاعتصاب...

أحد هذه الذيول متعلق بالفحامين "الذين لا شغل لهم، وقد استدعوا للمحافظة، وتقرر إرسالهم إلى بلادهم على نفقة الحكومة، أما الذين لم يحضروا منهم فسيأخذون علامات متشرين ويحاكمون أمام المحاكم".

ذيل آخر بالمعتصبين الذين ألقى القبض عليهم وصدرت في حقهم أحكام متفاوتة لا تتجاوز بضعة أشهر، وناشدت الأهرام الحكومة أن يكون هؤلاء أولى بعدالتها "بأن تصفح عنهم وقد انتقتهم من عدد عظيم أمسكت بينهم الأثيم والبرئ".

ذيل أخير بدا في المخاوف التي استمرت في تساور السلطات من عودة الفحامين إلى أعمال الإضراب، وهى مخاوف نجد صداها في خبر في الأهرام بعد نحو عام من الاعتصاب  الكبير.. الخبر في 19 مارس عام 1895 وجاء فيه من مكاتب الجريدة في بورسعيد أن "اعتصاب عمال الفحم عندنا عاد خياله طارقًا وتفصيل ذلك أن بعض هؤلاء العملة أرادوا منع العاملين من مباشرة أعمالهم فحضر حكمدار البلدة تصحبه فرقة من البوليس ففرقوا المتجمهرين في الحال دون أن يحدث شيء".

بيد أن هذا الخيال الطارق، الذى استمر يؤرق المسئولين أخذ ينوح في غير بورسعيد، ومن عمال اللفائف (السجائر) الذين قدموا يوم 18 يونية عان 1894 عريضة وقعها نحو 4500 يشكون من "تخفيض أجرة هذه الحرفة وإذلال أصحابها، ويشر الخبر في نفس الوقت إلى أن هؤلاء قد قاموا باعتصابات عديدة من قبل، الأمر الذى يؤكد أن ثمة صلة بين اعتصاب الفحامين واعتصابات اللفافين التي انتهت باعتصاب الميلاد... اعتصاب عام 1899.


صورة من المقال: