ads

Bookmark and Share

الجمعة، 1 يناير 2021

092 "إهانة شرف ملكة الإنكليز"

 "إهانة شرف ملكة الإنكليز"

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 4 مايو 1995م - 4 ذو الحجة 1415هـ


"ملحوظ الخديوى على الأورطة الثانية إهانة للضباط الإنكليز وللشرف العسكرى الإنكليزى ولشرف جلالة الملكة" بهذه العبارة التي نقلتها الأهرام عن بعض الصحف اللندنية لخصت الجريدة الموقف الاحتلالى من الأزمة الشهيرة التي جرت في مطلع عام 1894 والتي عرفت باسم "أزمة الحدود" نتيجة لأنها قد جرت خلال رحلة قام بها الخديوى إلى الحدود الجنوبية، والتي ترددت قصتها في أغلب المراجع التاريخية، وإن كنا نعرفها بدرجة كافية من صناعها أو شهودها القريبين مع أن أيًا منهم لم يتأخر عن تقديم روايته أو الإدلاء بشهادته..

الخديوى عباس الثانى قدم الرواية في مذكراته التي نشرت لأول مرة في جريدة المصرى عام 1951 ثم صدرت مرة أخرى منذ أعوام قليلة تحت عنوان "عهدى" بينما قدم اللورد كرومر، المعتمد البريطاني في القاهرة، والطرف الثانى في الأزمة روايته في كتاب أصدره عام 1915، وفى أعقاب عزل الخديوى وباسمه عباس الثانى ABBAS II.

أحمد شفيق باشا أحد رجال عباس القريبين ومرافقه في "السياحة الصعيدية" على حد توصيف الأهرام، قدم شهادته في الجزء الثانى من مذكراته ومعه بل ربما قبله قدمت الأهرام شهادتها.

يضفى على الشهادة الأخيرة أهمية خاصة هذا النبض الحى الذى يتدفق في عروقها، وهو النبض الذى افتقرت إليه بقية الروايات والشهادات ولسبب بسيط فبينما جاءت كتابات هؤلاء بعد سنوات طويلة من الحادثة عما بدت معه وكأنها خارجة من ثلاجات التاريخ، فإن كتابات الأهرام جاءت مواكبة للأحداث وتراوحت بين الخبر والتعليق والمقال..

ورغم التميز الذى تتسم به تلك الكتابات فإنه يبقى لثلاجة التاريخ أهميتها.. على الأقل بالنسبة لأطراف الحادثة.

***

"نصبوا لى شركًا" هذه هي العبارة التي وصف بها عباس الثانى الحادثة في مذكراته، ولم يكن بعيدًا عن الحقيقة فيما جاء في اعتراف اللورد كرومر في كتابه عن الخديوى.

بعد رصد أشكال سياسات الخديوى العدائية تجاه الاحتلال خلال العامين اللذين كانا قد انقضيا من حكمه قال كرومر بالحرف الواحد: "كان واضحًا استحالة استمرار هذا الوضع.. وقد عزمت على اختيار ميدانى للمعركة في الصراع المتصاعد وبشروطى، وهى أن يتفهمها الرأي العام البريطاني وألا تمنح أي مبرر لتدخل القوى الدولية وإنه إذا ما تحليت بالصبر فسوف توفر لى حماقة خصومى الفرصة المناسبة لتوجيه ضربة قاضية، ولم يخيب هؤلاء توقعاتى".

If I had the patience to wait، the folly of my opponents would afford me some suitable opportunity for striking a decisive blow. They did not belie my anticipations.

الحماقة التي ارتكبها الخديو الشاب، فيما ارتآه كرومر، كانت أولا باصطحابه وكيل وزارة الحربية، محمد ماهر باشا والذى كان قد عينه قبل وقت قصير، كرجل الخديوى في الجيش الذى كان قد سيطر عليه الضباط البريطانيون بعد الاحتلال، وكان الرجل قد اشتبك في معارك شديدة مع هؤلاء خلال ذلك الوقت، وكان اصطحابه بما يمكن أن يترتب عليه من احتمالات المواجهة، مما يعنى ببساطة صب الزيت على النار.

نبه رئيس الوزراء رياض الخديوى لخطورة هذه الصحبة، غير أن الأخير رد بأنه "لا علاقة باصطحابى لماهر باشا وبين المشادة التي بينه وبين السردار" الأمر الذى دفع رياض باشا أن يوجه النصيحة لماهر بأن "الأعمال الإدارية لا تشابه المسائل الحربية لأن الأخيرة خطرة جدًا فأرجوك ألا تتحكك بها فإنها هي النار ولا يلزمنا أن نلعب بالنار"!

الوجه الثانى من الحماقة أن الخديوى الشاب قد صدق أنه القائد الأعلى للجيش المصرى وأن الضباط البريطانيين في هذا الجيش مرؤوسوه وتصرف من هذا المنطق ومن هنا جاءت ملاحظاته على عمل هؤلاء خلال تفتيشه على القوات الموجودة في حلفا عصر يوم الجمعة 19 يناير.

عبر الأهرام عن ذلك بقوله: "لا مشاحة أن الجانب الخديوى هو القائد الأول للجيش المصرى وما السردار ووزير الحربية إلا تحت إمرته وطوع إرادته وإشارته وقد أقسموا على الطاعة في خدمته إذا كانوا صادقين"، ولكن ما يعتقده الخديوى والأهرام شيء، وما حدث نتيجة لملاحظات عباس الثانى كان شيئًا آخر.

وتتوفر أكثر من رواية عن هذه الملاحظات، من أحمد شفيق باشا، ومن اللورد كرومر، ومن الأهرام..

رواية أحمد شفيق أن الخديوى بينما كان يقوم بالتفتيش عل رجال الأورطة الثانية قال لقومندانها الانجليزى "إن هذه الجنود في حالة تدعو إلى الخجل"، بينما قال لقومندان أورطة أخرى "إننى آسف لأن سير هذه الأورطة ليس حسنًا كسير الأورط الأخرى"، ثم التفت لكتشنر قائلًا: "أننى أمدح كل ضابط يقوم بواجباته وألوم كل ضابط يقصر فيما عليه نحو فرقته".

رواية كرومر نقلها عن البرقية التي جاءته من كتشنر عن الحادثة وقد جاء فيها أن "الخديوى أبدى ملاحظات عديدة حط فيها من قدر ضباط القيادة البريطانيين وأعرب لى بعد ذلك عن رأيه بأنه من العار أن يفتقر الجيش المصرى إلى الكفاءة على هذا النحو"!

رواية الأهرام كانت الأكثر تفصيلا وبدأتها الصحيفة بخبر يوم الثلاثاء بأن الخديو أبدى ملحوظاته علانية للجيش فغضب السردار لاعتباره ذلك تحقيرًا للضباط واستقال وأبلغ شكواه للورد كرومر.

بعد أربعة أيام تزيد الصحيفة أخبار الحادثة تفصيلا فتقول أن "سمو الخديو مدح حاميات أصوات وكروسكو وسرس ومدح بحلف الأورطة الثالثة وفرقتى السوارى والطوبجية وضباطهم إنكليز ولكنه ندد بالأورطة الثانية ولما اختلى بكتشنر قال له أنها مخجلة".

ومحاولة الأهرام أن تسجل أن ضباط الفرق التي مدحها الخديوى كانوا من الإنجليز جاءت كرد على الصحف البريطانية التي كانت تشن حملة عندئذ بإيعاز من كرومر كما اعترف فيما بعد، بأنه بينما كال عباس المديح للفرق التي تتشكل من الفلاحين التي يقودها ضباط مصريون، فإن الفرق التي وجه لها انتقاداته كانت من السودانيين الذين يقودهم ضباط بريطانيون، وهو الأمر الذى زادته الصحيفة ايضاحًا في عدد تال قالت..

"استعرض العباس جيشه المصرى وامتدى الضباط والأنفار إلا الأورطة الثانية بحلفا  فندد بها واعترف نفس قومندانها الانكليزى بأحقية القصور مما برهن أن العباس بامتداحه ذلك قد نظام الجيش وقواده الإنكليز حق قدرهم ولم يفرق بين السودانى والمصرى إذ أن في الحدود أرطًا سودانية غير الأورطة الثانية".

وتقدم الأهرام جانب آخر من الرواية فيما نقلته عن الصحف الإنكليزية، وإن كانت قد تحفظت فوصفته بالمزاعم.. جاء فيه "أن الخديوى قد خاطب هذه الفرق بكلام لا يعد قاسيًا فقط بل يحسب في جانب الإهانة والتحقير ثم التفت إلى وزير الحربية ماهر باشا الذى كان إلى جانبه دائمًا وتغافل عن وجود الإنكليز في أركان حربه كأنه لا يراهم وأظهر مزيد رضاه من الجنود الوطنية المحضة واستياءه من الجنود التي ضباطها إنكليز بقوله: ذلك أمر معيب وأن هؤلاء الأنفار ليخجلوننى وذلك شيء فاضح ولا يمكن أن يكون أردأ من هذا وأشكر الله على أنهم ليسوا من جنودى"!

وكيفما كان الأمر فإن الروايات جميعًا تتفق على أن تلك الملاحظات أدت إلى تقديم السردار كتشنر باشا استقالته التي كانت بمثابة إشارة البدء في تفجير الازمة..

***

شهدت الساعات التالية لتقديم استقالة السردار جهودًا مضنية من الطرفين.. الخديوى ورجاله في حلفا يسعى إلى احتوائها والمعتمد البريطاني في العاصمة ارتأتها الفرصة المناسبة لتأديب عباس، ومن ثم تطويرها على النحو الذى يحقق هذا الهدف.

محاولة الاحتواء رواها بالتفصيل شفيق باشا في مذكراته بينما جاوزت الأهرام حدود الرواية إلى المشاركة في المحاولة..

يقول شفيق أن الخديوى أبلغ السردار لدى تقديم استقالته أنه لا يقصد توجيه انتقادات شخصية له، وأنه فعل ذلك مدفوعًا بحبه لجيشه ولهذا لا أفهم لماذا تتحدث عن الاستقالة وتريد أن تعطى لأمر خصوصى معنى سياسيًا؟. عند ذلك عدل كتشنر عن الاستقالة".

ويضيف مُعبرًا عن موقف الخديوى والحاشية "بارحنا في أسوان إلى القاهرة ونحن في شغل شاغل من جراء ما حدث ولكنا كنا نعتبر أن المسألة قد انتهت عند هذا الحد نظرًا لوعد كتشنر"..

تعليق الأهرام في نفس الاتجاه أن الخديو قال ملحوظاته بغاية الاعتدال، ومع ذلك "استاء كتشنر وقدم بين يديه استعفاءه ثم استرجعه وقد رأى أنه اندفع كثيرًا وليس ما يوجب استقالته وإلا فلماذا استرد استعفاءه إذا كان الداعى مهمًا"؟

على الجانب الآخر، وفى القاهرة شرع كرومر في العمل على تصعيد الأزمة التي ارتآها ميدانًا مناسبًا للمعركة كما وضع شروطها..

* فهى مناسبة على ضوء أنه كان قد سبق زيارة عباس إلى الحدود بوقت قصير زيارة قام بها القوميسيير العثمانى إلى القاهرة الغازى مختار باشا والذى أثنى على نظام الجيش المصرى، ولما كان مختار قائدًا عسكريًا كبيرًا ووصل في الجيش العثمانى إلى رتبة المشير، ولما كان عباس، الشاب الذى لم يتجاوز العشرين وقت الأزمة، لم ينل من التعليم العسكرى إلا أقله، فإن ملاحظاته لم تبدو بريئة من الغرض، الأمر الذى ارتآه كرومر نقطة محسوبة له.

* وهى مناسبة انطلاقًا من أن فعلة عباس، فيما أخذ يروج له كرومر، سوف تؤدى إلى سريان روح العصيان إلى الجيش المصرى، وهى الروح التي أدت إلى أحداث الثورة العرابية من قبل، هذا فضلا عن أن توجيه الملاحظات إلى الفرق السودانية يمكن أن يؤدى إلى انشقاق الجيش الذى يتكون من الأورط السودانية جنبًا إلى جنب مع الأورط المصرية.

* وهى مناسبة أخيرًا من وجهة نظر دولية، فإن اقترب الخديو من هذا الميدان الذى قدم دائمًا الذريعة لحكومة لندن للإبقاء على احتلال مصر. كان مما لا ترضاه حكومتا باريس واستنبول لما يوفره للإنجليز من مزيد من حجج البقاء الأمر الذى يحرمها من أي مبرر لمساندة الخديو مما سيوفر لسلطات الاحتلال الانفراد بعباس.

وتأسيسًا على كل ذلك رأى كرومر أنه ليس ثمة فرصة أفضل من تلك لتوجيه "الضربة القاضية" لطموحات الخديو خاصة وأنه قد ضمن تأييد الرأي العام البريطاني الذى يستفزه أن تكون الانتقادات موجهة لضباط جيش الإمبراطورية الذين يعتز بهم ايمانًا واعتزازًا، وبدأ اللورد العتيد في تصعيد الأزمة.

بعد اتصالات سريعة مع الخارجية في لندن جاءته الموافقة على خطته في صورة تعليمات محددة بأن الحكومة البريطانية لا يمكن أن تسمح بإهانة الضباط البريطانيين وحددت شروطها للتسوية.

كشفت الأهرام عن تلك الشروط في عدد الصادر يوم 25 يناير والذى جاء فيه "عرض اللورد كرومر المسألة على حكومته واستقبل أوامرها على ما يوافق غاية سياسته المصرية كما نعهده في مبادئ إنكلترا بمصر ثم اجتمع حضرته بدولتلو رئيس النظار وسأله باسم حكومته إصدار أمر عسكرى خديوى تشكرًا للسردار ومدحًا للضباط الوطنيين والأجانب واستبدال مهار باشا وأن الأخير هو الذى أشار على سمو الخديو بسياسته العسكرية التي ترتب عليها استقالة كتشنر".

وقد تراوحت ردود الفعل على الإنذار البريطاني فبينما خارت عزائم الوزراء ورفعوا الراية البيضاء وفى طليعتهم رئيس النظار رياض باشا، فإن الرأي العام طالب الخديو بالمقاومة.

رفع الراية البيضاء من جانب الوزراء حدث خلال اجتماع كرومر برياض وتيجران ناظر الخارجية اللذين وصفا سلوك الخديو بالحماقة وأبرقا له على الفور بالموقف، في نفس الوقت شد رئيس النظار الرحال إلى جرجا ليلتقى بعباس الذى كان في طريقه إليها.

المقاومة التي طالب بها الرأي العام عبرت عنها لأهرام بقولها أن المصريين "ينتظرون بفروغ صبر ما سيكون من أوامر سموه في هذه المسألة لاعتقادهم أن عباسهم المحبوب لم يقصد ولن يقصد بجميع أعماله إلا خدمتهم ووطنهم العزيز على ما تقتضيه مواجبة الخديوية المقدسة مما زادهم في حسن النتيجة لأن بتضحية ماهر باشا قتل العاطفة الوطنية".

وشنت الأهرام في نفس الوقت حملة عنيفة على الوجود العسكرى البريطاني في الجيش المصرى وأبدت دهشتها من استقالة الضباط الإنجليز مع استقالة كتشنر وتساءلت "أين إقسامهم لطاعة الخديو وخدمته وكيف يلوم الإنجليز أبناء مصر على ميلهم عنهم وقد رأوا من تعصب الموظفين المدنيين بحادثة يناير سنة 93 وتعجب الضباط هذه المرة ما أيد أنهم في مصر لخدمة بريطانيا لا سواها".

في جرجا تم اللقاء الأول بين رياض باشا والخديو لبحث الأزمة، حيث تصور الخديو إمكان الوصول إلى حل وسط بأن يرسل رئيس النظار برقية إلى ناظر الخارجية لإبلاغها للورد كرومر نصها "ان الجانب الخديوى المعظم قد اندهش وشق عليه ما عساه يكون قد قيل بشأن رحلة جنابه العالى إلى الحدود. وقد حفظ لنفسه الحق في تقرير حقيقة الواقع فيما بعد ولكن لما كان جنابه العالى يهمه ألا يكون هناك ريب في تعلقه بجيشه فلذلك يسره أن يكرر صدور الأمر للسردار للإعراب عن حسن رضائه عن جيوشه وعظيم الامتنان الذى شمله حين تفقدهم".

وقد انعقدت أمام رجال المعية السنية في تلك المرحلة على تدخل دولى خاصة من فرنسا للقبول بالتسوية، وهو ما جرى فعلا عندما تحدث المسيو ريفرسو القنصل الفرنسي العام في القاهرة مع اللورد كرومر، وفى تقريره عن تلك المحاولة قال الأخير أن الحكومة الفرنسية كانت تأمل ألا يحدث بين البريطانيين والخديو صدام حول قضية خطأ الخير فيما هو واضح، وأنها في مواجهة هذا الوضع لم يكن ثمة طريق أمامها سوى محاولة التوفيق، ولم تعد قوة فاعلة في التسوية.

ولم تؤد محاولات عباس للخروج من الشرك الذى وقع فيه إلا لمزيد من أحكام الحبل حول رقبته، فكرومر لم يرفض التسوية المطروحة فحسب بل زاد في مطالبه بينما أخذت الصحف البريطانية تلوح بالنية على عزل الخديو وتولية أخيه محمد على توفيق محله.

المطلب الجديد "أن تجرى منذ الآن محاكمة الضباط الإنجليز المستخدمين في الجيش المصرى بين أيدى القائد ووكر (قائد الحامية البريطانية في مصر) الذى يرفع عند اللزوم الدعاوى المعروضة عليه من هذا القبيل إلى القائد الأكبر في لندن".

وعلى الرغم من كل مظاهر الاحتفال التي عدت للخديو في رحلة العودة من السياحة الصعيدية فإنها لم تخف جو التشاؤم الذى سيطر على مرافقيه وبدا أنه لا مناص من الاستسلام، وهو ما حدث في المحطة الأخيرة من الرحلة، خاصة أن كرومر امعانًا في الإذلال رفض إرجاء تلبية المطالب الإنجليزية إلى حين عودة عباس إلى العاصمة.

***

في الفيوم وتحت تحذيرات رياض باشا لعباس أصدر الأخير الأمر الذى طلبت سلطات الاحتلال توجيهه إلى السردار والذى نشر في الوقائع المصرية وكان نصه الذى جاء بالأهرام "يهمنى قبل أن أبرح الوجه القبلى إلى مصر أن أكرر اهتمامى ومزيد انعطافى نحو الجيش الذى زرته في الحدود وأن أثبت لكم رضاى الذى ابنته قبلا من ترتيبه ونظامه. ثم أنه يسرنى أن أهنئ الضباط الذين يقودونه بين مصريين وإنكليز وأن أرى الخدمات التي قام بها الضباط الإنكليز نحو جنودى وأرجوك يا حضرة السردار أن تبلغ هذا الأمر للضباط والعساكر".

ولم ينته الأمر عند ذلك الحد فلم يمض وقت طويل حتى تمت الاستجابة للمطلب الثانى بإبعاد محمد ماهر باشا من وكالة نظارة الحربية وتعيينه محافظًا للقنال، ونكس المعسكر الخديوى بذلك راياته بما فيه الأهرام!

كان كل هم الجريدة خلال الأيام التالية حفظ ماء وجه الخديوى بجملة من المقالات والتعليقات كان من أهمها المقال الصادر في عدد يوم 31 يناير، وقد جاء فيه "سرنا أن الجناب الخديوى خرج طاهر النيل من وقائع هذه المسألة إذ تبعتها على غير سموه وقد عرفت هذه النتيجة في أكثر عواصم أوروبا وفى نفس إنكلترا لأن العدالة لا تحرم من نصير في مثل بريطانيا العظمى ولا تعجب مع ما نعرفه من حرية مبادئ نفس اللورد كرومر إذا كان من هذا الرأي أنه من الذين لا تعميهم المصالح السياسية عن تقدير الرجال والحوادث قدرها".

غير أن هذه المحاولة لم تفلح في إخفاء الحقيقة التي نضحت من بين سطور الأهرام.

فقد استمرت الصحيفة تشير إلى أن الخديو قد امتنع عن الاستقبالات لفترة غير قصيرة، كما أنها أشارت فى نفس الوقت وبمناسبة أول لقاء بين عباس وكرومر بعد الأزمة، إلى أن الأول حرص على عدم الاقتراب من قريب أو بعيد لموضوعها.!

وكالعادة فإن مثل تلك الأزمات يكون لها ضحاياها.. في المعية باستبعاد دومرتينو باشا رئيس الديوان الإفرنجى وكان مصاحبًا للخديو في السياحة الصعيدية ويبدو أن نصائحه كانت السبب وراء تصاعد الأزمة.

الأهم من رجال السراى كانت الوزارة المصرية التي تعرضت بسبب سلوك أعضائها ابان الأزمة لانتقادات شديدة عرفت طريقها إلى صفحات الأهرام.

ففي تعليق لبشارة تقلا في أعقاب انتهاء الأزمة جاء قوله أنه يرى بعد مسألة الحدود أن النظار "منفذون لأوامر الإنجليز وهو الاستعباد أين التملك والاسترقاق"(!) وجاء في أخبار وتعليقات متتالية المطالبة بتعديل الوزارة أو استعفائها، الأمر الذى لم يتأخر كثيرًا.

ففي 14 أبريل بعث الخديو إلى كرومر ينبئه باستقالة الوزارة الخبر الذى رحب به اللورد سواء بحكم ما عُرف عن ميول رياض العدائية للاحتلال أو لأن البديل كان نوبار الذى اعتقد المعتمد البريطاني أنه الرجل المناسب لتهدئة الموقف المتوتر بعد الأزمة وكان هذا التغيير إعلانًا بإغلاق ملف "إهانة شرف ملكة الإنجليز" بعد أن نالت الترضية اللازمة!


صورة من المقال: