ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 30 ديسمبر 2020

090 خفير الدرك

خفير الدرك

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 20 أبريل 1995م - 20 ذو القعدة 1415هـ


الخفارة في تاريخ مصر الحديث شيء قديم، أما الخفير بصورته التي شاعت.. رجل طويل القامة يرتدى معطفًا كاكيا في الغالب فوق جلبابه الريفى ويضع على رأسه طربوشًا مميزًا، وقد استبدل عصاه الطويلة التي اشتهرت "بنبوت الغفير" ببندقية من طراز عفا عليه الزمن.. الخفير صاحب هذه الصورة لم وتعرفه مصر إلا في الربع لأخير من القرن التاسع عشر، ولأسباب شديدة الغرابة.

تبدأ قصة الغفير "أبو نبوت" في عصر محمد على، وبعد أن انهار نظام الالتزام الذى كان من بين واجباته الحفاظ على الأمن في الريف، فقد كان مطلوبًا من الفلاحين المصريين أن يضعوا بأنفسهم نظامًا جديدًا لهذا الأمن.

ووقعت مسئولية الأمن وقتئذ على عاتق مشايخ النواحى أو القرى، وتقرر أن تكون جماعية، فيما نصت عليه التعليمات التي صدرت لهؤلاء وقتئذ بأنهم "ملزومون بضبط الفاعل بوقته والبحث والتحرى والتجسسات عن السرقة وآلة القتل أو محل المتهومين أو محل مرورهم".

وقد عانى هؤلاء من تلك المسئولية الجماعية فكثيرًا ما كانوا يدفعون الدية أو ثمن المسروقات، بل كانوا أحيانًا يدفع بهم إلى الليمان بديلًا عن الفاعل الأصلى في حالة عدم التوصل إلى هذا الفاعل!

ولم يكن ثمة بديل أمام هؤلاء المشايخ سوى أن يشركوا الفلاحين في الغرم بدفع قيمة المسروقات أو الديات الأمر الذى لم يحتمله هؤلاء وقتًا طويلا، خاصة أنه كان يستخدم في إجبارهم على ذلك أقسى الوسائل على رأسها الكرباج، مما دفع أصحاب الجلاليب الزرقاء أخيرًا إلى ابتكار نظام الخفر.

قام هذا الابتكار البسيط على تكليف فلاحى كل قرية لمجموعة منهم بحراسة قريتهم، وإن جاءت البداية ضعيفة، فقد كان يتم اختيار هؤلاء في العادة من الطاعنين في السن أو الضعفاء غير القادرين على العمل بالزراعية حتى يتوفر القادرين على العمل بالزراعة حتى يتوفر القادرون على هذا العمل، الأمر الذى دعا لأول محاولة تنظيمية من جانب الحكومة في بدايات عهد إسماعيل حين أصدر مجلس الأحكام إفادة للجهات جاء فيها التعليمات بضرورة "ترتيب الغفر بالجهات من الأشخاص المتصفين بالقوة وشدة البأس حتى يمكنهم المدافعة وحجز ما يلزم حجزه عند حدوث مغايرة بجهة خفرهم"!

عرفت تلك الفترة أيضًا تغير طبيعة سلاح الخفراء فأخذ النبوت في الاختفاء بعد أن أثبت عجزه أمام "الفلاتية الحاملين الأسلحة" فيما جاء في أمر عال صادر عام 1861، والمقصود بهم المنفلتون عن ضوابط النظام والقانون، وبدئ منذئذ بالتصريح لهؤلاء بحمل الأسلحة النارية "بالضمانات اللازمة على أن يعطى كل منهم تذكرة بأوصاف الأسلحة التي يحملها بختم شيخه وتصديق ناظر القسم".

في عام 1870 صدر أول قانون للخفر والذى نص على أن عملهم خفارة "السكن والغيطان والدركات والحدود"، وأن يتم اختيارهم بواسطة نظام القرعة، وأن يكون الخفير في سن مناسبة وغير مصاب بأمراض تمنعه من القيام بأعباء وظيفته.

نظم نفس القانون أيضًا عملية تسليح الخفر بأن "يصرف لهم السلاح من مخازن الحكومة، ونظام التفتيش بتعيين مفتش لكل مديرية "للمرور على البلاد وتفتيش أحوال الخفر بها"، وأخيرًا وفر لهم بعض الامتيازات وكان أهمها الإعفاء من الخدمة العسكرية وأعمال السخرة، وبدأ خفير الدرك يجسد منذ ذلك العام صفته التي لحقت به.. أنه ممثل الأمن في الريف المصرى.

وحين صدر الأهرام بعد ذلك القانون بست سنوات واجه هذه الوضعية وتعامل معها.

***

بعد الاحتلال بعامين، وفى إطار مراجعات عامة لنظام الأمن في الريف صدر ثانى قانون للخفر، وهو القانون الذى حدد نظام اختيارهم، كما عين مهامهم، وقرر حقوقهم، فضلا عن العقوبات التي يتعرضون لها إذا ما أهملوا في أداء واجباتهم.

(الاختيار) أنيط بمجلس يرأسه العمدة وشيخ البلد والمأذون، وكان يضم أيضًا عددًا من أهالى القرية يتراوح بين أربعة  بين أربعة وثمانية أفراد.

ويقوم هذا المجلس أولا باختيار شيخ الخفر.. رجل يتراوح عمره بين 30 أو 50 سنة "سليم الجسم محمود السيرة"، وينضم الشيخ لمختار إلى المجلس الذى ينتقى في تشكيله الجديد بقية الخفراء.. العمر بين 26 أو 45 سنة الجسم سليم والسيرة حسنة، من العائلات المعتبرة، وأن يشكل مجموع هؤلاء ما لا يقل عن 5% من سكان البلدة.

(المهام) أعمال الخفراء التي تنوعت فشملت خفارة البيوت والطواف والأربطة، أي أنه كان على بعض الخفراء تولى حراسة الدركات داخل البلدة، بينما يتولى البعض الآخر الطواف مع شيخ الخفر، ويقيم القسم الأخير في نقاط للحراسة خارج البلدة هي التي تسمى بالأربطة.

(الحقوق) الإعفاء من الأشغال الأميرية، وكان هذا أمرًا طبيعيًا على ضوء أنه مما يلا يتفق مع مهابة حارس الأمن الذى يسوق الفلاحين الذين يتولون مثل هذه الأشغال أن يتعرض هو لنفس الموقت.

من بين تلك الحقوق أيضًا "الماهيات" التي تقررت لهؤلاء.. ثلاثون قرشًا شهريًا لخفير الدرك، وخمسة وأربعون قرشًا للخفير الطواف، وسبعون قرشًا لشيخ الخفراء، وهى أموال لم تكن تدفعها الحكومة!

الذى كان يدفع هذه الأجور أهالى البلدة فيخص كل بيت منها مبلغ معلوم يدفعه كل شهر يقوم بتحصيله الصراف، والذى يقوم بجمعه بنفس الطريقة التى تحصل بها الأموال الأميرية.

(العقوبات) وقد تنوعت بدءًا بالغرامات المالية كجزاء على "التهاون في تأدية الواجبات" وتبدأ بخمسين قرشًا فمائة قرش فالسجن من عشرة إلى ثلاثين يومًا "مع تعيين حلف مؤقت له حتى تنتهى مدة السجن"!

وتتضح جسامة هذه العقوبات المالية بالنظر إلى راتب "خفير الدرك" حتى أن كثيرين منهم كانوا يفضلون السجن على العقوبة المالية، وتحددت تسعيرة لذلك.. أربع وعشرون ساعة مقابل كل عشرين قرشًا!

وقد حرم هذا القانون من يقع عليهم الاختيار لأعمال الخفارة من حق الاعتذار فيما جاء في أحد مواده بأن "كل شخص وقع الاختيار يكون مكلفًا بالانقياد ولا تقبل أعذاره"، إلا فئت بعينها كان منها الحرفيون "المقطعون لكاراتهم الذين لا يشتغلون بزراعة الأرض والفقهاء وطلبة العلم وخدمة المساجد والأضرحة والكنائس والمعابد".

بيد أن تطبيقات القانون كشفت عن عجز بالغ، الأمر الذى رصدته الأهرام بعد أقل من ثلاث سنوات من صدوره..

قالت: "لا نكاد نجد في البلاد إلا خفراء يوفون على ستين سنة وسلاحهم العصى بدلا من الأسلحة النارية ونرى بعض الأهالى ممن يجب أن يدفعوا عشرين قرشًا في الشهر لا يدفعون إلا قرشين وهو مبلغ لا يكاد يفى ببعض نفقة الخفير ولذلك اضطر إلى أن يحرث الأرض في النهار ليقوم بقوت عياله ثم يجئ إلى دركه في الليل فلا يكاد يمضى عليه الهزيع الأول حتى يستولى عليه النوم فيأتى السارق فيتسلق الدار ويتلطف في فتح الأبواب ويسرق ما تصل إليه يده.."!

وفى هذا الصدد ساق مكاتب الأهرام في المنصورة حادثة محددة وهى "أنه بينما كان أحد مستخدمى المديرية في بيته شعر بوطء أقدام على السطح فظن أن اللصوص دهمته فنادى الخفراء من النافذة وأخبرهم بالأمر فأجابوا ليس ذلك من شأننا فادعوا الحرس الطائف فناداهم ولم يكن جوابهم بأحسن وهو أمر يستوجب الالتفات حرصًا على الأرواح والأموال".

ومع ما قدمته هذه الكتابات من صورة إنسانية معبرة عن "خفير الدرك" فإنها انتهت إلى مناشدة ولاة الأمور بتلافى "هذا الخطب بالتبصر والحزم شفقة على الرعية"، وقد عبرت بذلك عن شعور عام بعجز قانون عام 1884 عن توفير "خفير الدرك" المطلوب.. الأمر الذى طرح القضية برمتها على بساط المناقشة، هذا من جانب، والذى أدى إلى إصدار لائحة جديدة للخفراء في صيف عام 1889 من جانب آخر..

***

على نحو يلفت النظر تعددت القضايا التي حفلت بها صفحات الأهرام حول "خفير الدرك" أواخر ثمانينات ومطلع تسعينات القرن الماضى...

* من بين هذه القضايا ما اتصل بنوعية الخفراء التي سادات في ظل قانون عام 1884 فيقول مكاتب ملوى بمناسبة تعيين الخفراء الجدد في البندر أنهم "من رعاع الفقراء الذين لا يملكون شيئًا ويخشى من تسليمهم أمر المحافظة أن يأتوا بما يكدر صفو الراحة"!

وكان من بين تعليقات الأهرام على هذه النوعية قوله: "أن حراسة البلاد بواسطة الخفراء الفقراء الذين لا مال عندهم ولا أجرة تقوم أودهم لا يجعلهم يهتمون بغير راحاتهم وقيامهم بين أهلهم وهو ما يخالف المقصود"، ودللت في هذه المناسبة على قصور هذه النوعية بحادثة رت في الفشن بأن خفيرًا وقف في الدرك بدلا من أحد أقربائه "فصادفه اللصوص وهم ينقبون جدار بيت فأطلقوا عليه رصاصة فقتلوه"! وسخرت في موقع آخر بقولها أنهم "يقفون وبأيديهم العكازات الطويلة يهشون على الجدران أما إذا حدث ما يوجب استخدامها فتراهم يخفونها تحت سراويلهم ويلزمون السكون"!

وقد حدث في وقت ما أن فكر بعض أصحاب الدركات في تعيين خفراء من خارج القرية أو البندر ففي أكثر من خبر تشير الأهرام إلى من أسمتهم "الخفراء البرابرة"، وكانت تقصدر بذلك الخفراء من أصحاب البشرة السوداء، وفى تقديرنا أنه قد تم استجلاب هؤلاء من جماعات الهجانة الذين عرفهم الجيش المصرى والذين استقدموا بالأساس من قبائل العبابدة في جنوب مصر.

فهذا خبر من بندر أسيوط عن "تعيين البرابرة خفراء فيها" مما يجعل الألسنة تلهج بالشكر، وآخر من بندر بنها يحمل نفس المعنى، ولو أن هذا الخبر الأخير تحدث عن "إخلال شيخ البرابرة بواجباته"!

* القضية الثانية دارت حول الأجر الذى كان يتقاضاه الخفراء.. فمن جانب ارتفعت أصوات الشكوى من عدم العدالة في توزيع هذا الأجر، خاصة في البنادر، فيما قرره مكاتب الفيوم من أنه بينما تدفع بعض المحلات أحد عشر قرشًا لا تدفع محلات أخرى أكثر من عشرين قرش، ومن جانب آخر امتنع "أصحاب المنازل والحوانيت" عن دفع ضريبة الخفراء أصلا، ولم تكن هناك قوة تجبرهم على ذلك فيما قال به مكاتب زفتى واستنكروه ورأى أن الخفراء بذلك "معذورون بتهاملهم لأن خدماتهم مجانية إلا إذا كانت لفظة خفير تغنى عن الملبس والغداء، ولوازم الحياة"!

ويكرر مكاتب طهطا نفس الشكوى من عدم العدالة في توزيع الضريبة وكيف أنه قد تم جمع "أجرة خمسة أشهر من ماهيات الخفراء وغالب هذا المبلغ يحصل من أواسط الأهالى وفقرائهم الذين لا يمكنهم إقامة أدنى حجة ولا إبداء أقل تأخر لدى الحاكم وأما الأغنياء والأورباويون فقد توقف كثير منهم عن الدفع بحجة أن البندر إلى الآن لم تنتظم خفراؤه ولم يحرر له دفتر الأنفار الذين تتعين فيه أسماؤهم ودركاتهم".

بيد أن الأمر اختلف في المنصورة حيث نجح المسئولون في "توزيع أجر الخفراء على الوطنيين والمستوطنين وأخذ المنادى ينادى للراغبين من ذوى البنية السليمة في الانتظام في سلك الحرس من أبناء البلدة" ويضيف مكاتب الأهرام في عاصمة الدقهلية أنه قد علم أن كثيرين قد تقدموا لهذه الغاية "خصوصًا لما عرفوا بأن رواتبهم تدفع إليهم في أوقاتها"!

* ثالث القضايا كان مصدرها تصرفات بعض مشايخ الخفراء.. سواء بالنسبة للخفراء أنفسهم، أو بالنسبة لأداء واجباتهم.

سوء معاملة مشايخ الخفراء لخفرائهم كان موضع مراسلات عديدة من مكاتبى الأهرام في الأقاليم.. من طنطا يقول المكاتب أن الخفراء يشكون "عدم معاملة رؤسائهم لهم بالمساواة"، ومن دمنهور يطلب المكاتب "ألا يسخر الخفراء بأشغال خارجة عن وظائفهم التي يجب أن تكون مقصورة على الحراسة ليلا لأن الخفير لا يمكنه القيام بوظيفته ما دام يعمل بأشغاله مدة النهار"!

أما بالنسبة لأداء واجباتهم فإن هذه القصة الطريقة التي بعث بها مكاتب الصحيفة في شبين الكوم تكشف عن تقصيرهم في هذا الميدان.. القصة منشورة في الأهرام الصادر يوم 23 أبريل عام 1890 وقد جاء فيها "حدث في شهر يناير الماضى أن المديرية حجزت حجزًا إداريًا على كمية من الذرة خاصة بأهالى بلدة الألشة من مركز مليج لقاء تأخرهم عن دفع الأموال الأميرية وأودعتها شيخ خفراء تلك البلدة حتى أن زمن تنفيذ مبيعها فتوجه معاون المركز وأحد الكتاب ومعهم ثلاثة رجال من البوليس بإجراء التنفيذ فقابلهم شيخ الخفراء وأهالى البلدة بالسب والشتيمة حتى تجرأوا على ضربهم وسجنهم أيضًا فتوجه معاون بوليس المركز في إلى البلدة المذكورة وضبط الواقعة وأحال أوراقها إلى المحكمة الأهلية فحكمت على الجانين بعقوبات متفاوتة".

* آخر القضايا التي احتلت مساحة واسعة من اهتمامات الأهرام كانت حول ما انتشر من أعمال التواطؤ بين الخفراء واللصوص(!)

يتهم مكاتب المنصورة بعض الخفراء بأنهم "شركاء للصوص في غزواتهم والمرشدون لهم إلى منزل زيد وعزبة عمرو" بينما يرصد كل من مراسلى ميت غمر والفيوم وقائع محددة حول هذا التواطؤ، الأول بضبك بضبط سرقة حمار كان موجودًا في زريبة يحرسها خفيران!

لعل ذلك ما دفع المكاتب الأخير إلى أن يبعث برسالة طويلة إلى الجريدة يتناول فيها الظاهرة جاء فيها قوله: "الخفراء شركاء اللصوص وقد برهنت لنا الحوادث الماضية ما كفانا مؤونة البحث في هذا الموضوع مما هو مسطر في دفاتر البوليس والمحكمة.. فلا يصح أن يكون المنوط بهم أمر الراحة والأمن شركاء للصوص بل واللصوص أنفسهم".

وينهى مراسل الفيوم مقاله الطويل بمطالبة المسئولين أن "يشددوا الأوامر والتنبيهات بملاحظة هذه الفئة التي قد رأينا من أعمالها هذه الأيام ما يلزم مداركته بإصلاح حالهم".

ولم تتأخر كثيرًا طلب مندوب الأهرام في الفيوم "بالمداركة بإصلاح أحوال" خفير الدرك الأمر الذى تجسد في لائحتهم الجديدة والتي كانت بدورها موضعًا لاهتمام الأهرام.

***

بدأت إدارة البوليس بنظارة الداخلية في وضع لائحة الخفراء الجديدة أوائل 1889 وتشير الأهرام إلى أن القضية المحورية لبحث اللجنة قد دارت حول "تأييد الوسائل المثبتة لأجرة الخفراء على كل فرد من أفراد الأهلين والطرق التي تمكن من الاستحصال عليها بتمامها وأن تكون تلك الأجرة ضامنة معاش الخفير المنقطع لهذه الوظيفة".

اختيار الخفراء كان الشاغل الآخر من شواغل اللجنة الجديدة، وقد نصحت الأهرام بأن يتم ذلك "بمعرفة عمدة كل بلدة ومشايخها وتصديق مأمور المركز لأن المذكورين مطالبون بأعمال الخفراء وهم أدرى وأعلم بشئون البلدة التي يقطنونها".

ووصل الأمر في تلك الأثناء إلى تداول القضية في المحاكم التي أدلت بدلوها فيها.. محكمة طنطا ارتأت أن يدفع للخفراء "أجرة مضمونة وأن يعهد بوظيفة الخفارة إلى رجال أشداء ليس لهم سوابق رديئة وأن يكون انتخابهم بمعرفة صغار المستخدمين الموجودين في المديريات"، أما محكمة الإسكندرية فقد ارتأت أن "تفرض خفارة كل ناحية على جميع سكانها الذين هم في سن المقدرة على العمل.. أما الأهلون الذين يكونون في هذه السن ولا يليقون لهذا العمل فيلزمون ببدل معلوم عن تلك الخدمة الواجبة عليهم".

وفى هذا الجو العام من الاهتمام وضعت اللجنة اللائحة الجديدة ورفعتها إلى مجلس النظار الذى أحالها بدوره إلى مجلس شورى القوانين والذى شكل لجنة من أعضائه للمقارنة بين اللائحتين القديمة والجديدة. استغرق عملها أكثر من شهر.

وقد اعترف بعض أعضاء هذه اللجنة لمدير الأهرام بأن أصعب ما في اللائحة الجديدة تقدير أجر الخفراء "والاستحصال عليه من أرباب المنازل لأنه إذا كانت أجرة الخفير قليلة لا تسد عوزه ولا تقوم مقام كسبه في القيام بعمل آخر.. وإذا كانت أجرة الخفير أكثر من القيمة المقررة تعذر على أصحاب المنازل دفعها وتزداد هذه الصعوبة في خفارة الكفور والعزب التي ليس فيها تجار ولا موسرون"!

في 29 يونية 1889 وبعد عدة جلسات وافق مجلس شورى القوانين على اللائحة التي تضمنت 29 مادة عالجت القضايا الأساسية التي استمرت محل مناقشة خلال الفترة السابقة.

تقرر أن يتقاضى الخفير خمسة وعشرين قرشًا والطواف ثلاثين وشيخ الخفراء خمسة وأربعين، وأن تجمع المبالغ المطلوبة لخفراء كل بلدة من أصحاب المنازل فيها والمبالغ المطلوبة لخفراء الدرك من أصحاب الأطيان، وأن يقوم بجمعها الصراف.

في حالة ما إذا لم يكن الخفير من أصحاب الأملاك فقد نصت اللائحة على أن يكون له ضامن "من أحد الوطنيين"، والسبب أنه في حالة تعرض درك خفير ما للسرقة، ولم يتم ضبط اللص فإن على خفراء الجهة "دفع قيمة المال المسلوب وإذا كانوا لا يمتلكون ما بقى بتمام القيمية فيؤخذ قيمة الباقى من الضامن"!

الأدهى من ذلك حالات القتل فقد نصت اللائحة الجديدة على أنه إذا "لم يعرف القاتل بعد دقة التحريات والتحقيق فيسجن الخفراء من ستة أشهر إلى سنتين"!

ألغت اللائحة الجديدة البند القديم الذى كان يقضى بأن يكون "للخفراء ملابس حمراء يعرفون بها وبندقيات من سلاح الحكومة القديم"، وأن يستعيضوا عم ذلك "بملابسهم العادية ويحملوا البنادق التي تصل إلى أيديهم"!

وقد انتقدت الأهرام بشدة اللائحة الجديدة فهى في رأيها لن تمنع من أن يكون الخفراء لصوصًا أو شركاء للصوص بحكم ضعف أجورهم وطالبت بتقليل عدد هؤلاء وزيادة أجورهم، وتنبأت بأن وضع اللائحة موضع التنفيذ لن يكون له من نتيجة سوى أن يكون الخفير "اسمًا على غير مسمى"، الأمر الذى لم تغلق معه الصحيفة ملف "خفير الدرك" الذى استمر مفتوحًا لسنوات أخرى!


صورة من المقال: