ads

Bookmark and Share

السبت، 26 ديسمبر 2020

086 وزارة الـ 72 ساعة

 وزارة الـ 72 ساعة

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 16 مارس 1995م - 15 شوال 1415هـ


كما عرف التاريخ المصرى وزارات طويلة العمر ووزارات قصيرة العمر عرف أيضًا وزارات "مقصوفة العمر"!

أشهر وزارات النوع الأخير كانت وزارة نجيب الهلالى الثانية التى لم تعش أكثر من 48 ساعة وانقصف عمرها بسبب قيام ثورة 23 يوليو، وقصتها شائعة، أما الوزارة التى لم تحظ بنفس القدر من الشهرة، فقد كانت تلك التى ألفها حسين فخرى باشا فى 15 يناير 1893 واضطرت للاستعفاء، بعد ثلاثة أيام بالضبط.

وقصة الوزارة الفخرية فيما سجلته الكتابات العلمية تبدو بسيطة وقصيرة.. الخديوى الشاب عباس الثانى كان قد مضى على اعتلائه للعرش نحو عام أحرز خلاله مجموعة من النجاحات بدا معها وكأنه الصورة الإيجابية التى كان قد قدم أبوه جانبها السلبى، خاصة فيما يتصل بالعلاقة مع سلطات الاحتلال.

أغرى ذلك عباس على أن يقدم على خطوة طالما تاق إليها.. التخلص من وزارة مصطفى فهمى التى كانت قد تشكلت فى مايو عام 1891 أى قبل وفاة توفيق بثمانية شهور والتى وصفها المعتمد البريطانى فى العاصمة المصرية بأنها "أداة طيعة فى أيدى الممثل البريطانى فى القاهرة"، وتبع ذلك بأن كلف حسين فخرى باشا بتأليف الوزارة رقم 14 فى التاريخ الوزارى المصرى، وقامت الدنيا ولم تقعد!

اللورد كرومر المعتمد البريطانى فى العاصمة المصرية قد إنذارًا للخديوى الشاب، وصدرت الأوامر لأسطول المتوسط أن يتحرك إلى الشواطئ المصرية ولم يكن أمام عباس سوى الإذعان فأوعز لفخرى بالاستعفاء وتم تجاوز الأزمة وإن كانت قد تركت شرخًا عميقًا فى العلاقات بين قصر عابدين وقصر الدوبارة حيث يقيم ممثل الاحتلال، وبدأ منذئذ فى تاريخ تلك الحقبة ما سمى "بعصر الشقاق" بين القصرين.

وتنتهى عند ذلك القصة كما روتها كتب التاريخ، بيد أن قراءة الأهرام تقدم رؤية أخرى يتضح معها أن الصحيفة نفسها لم تكن بعيدة عن الأزمة بل كانت أحد صناعها، الأمر الذى يستحق المتابعة.

***

القصة كانت قد بدأت فيما سجلته الأهرام، برسالة كان قد بعث بها مراسل التايمز في القاهرة، ومن المعروف بعلاقته الوطيدة باللورد كرومر، نشرتها الصحيفة الإنجليزية في 28 نوفمبر عام 1892، وقد جاء فيها بالحرف الواحد "أن قصر الجناب الخديوى قد أصبح مقر الدسائس وأن سموه غير محبوب من الشعب"!

فهمت دوائر عابدين من رسالة مكاتب التايمز أن اللورد المقيم في جاردن سيتى قد قرر إعلان الحرب على الخديوى، ولم يكن عباس يتهيب خوضها، واختار الميدان، وكان منصب رئيس النظار، وقدا عاونته الظروف على هذا الاختيار.

فقبل أقل من شهر كان "عطوفتلو مصطفى باشا فهمى" قد أصيب بالتهاب رئوى حاد بدأ معه وكأنه في طريقه للآخره، الأمر الذى اعتقده كرومر أيضًا، ولكن الخديوى لم ينتظر فأرسل مبعوثًا إلى رئيس النظار المريض يطلب منه الاستعفاء، وجاءت إجابته على غير المتوقع، قال "لأوافق لسموه أن يستشير اللورد كرومر قبل أن يقرر أمرًا نهائيًا" وتيقن عباس أن المعركة ليست مع رئيس النظار المحتضر ولكن مع اللورد.

تؤكد قراءة الأهرام خلال الأيام الأولى من شهر يناير عام 1893 أن سيد عابدين قرر أن يخوض المعركة، وأنه قد أعد كل أسلحته من أجل ذلك، وكانت الأهرام واحد من تلك الأسلحة.

أول ما نظن أن قارئ الأهرام في تلك الأيام قد لاحظه أن بشارة تقلا قد ترك الإسكندرية التي كان قد استقر فيها، مديرًا وصاحبًا للجريدة بعد وفاة أخيه، وجاء إلى القاهرة وأخذ يحرر باب العاصمة، مما كان يفعله إبان حياة سليم، وبدأ مع ذلك أنه قد كلف بمهمة محددة في المحروسة.

ولم يكن هذا القارئ في حاجة إلى ذكاء كبير ليعرف طبيعة تلك المهمة من مجموعة المقالات التي كتبها المسئول الأول في الأهرام، والتي شكلت حملة بدت أنها تمهد لعمل كبير ينوى عباس الإقدام عليه..

المقال الأول نشر بتاريخ 9 يناير، وقد اقتنص بشارة فيه واقعة كثيرًا ما كان يجرى مثلها صنع منها قضية كبرى..

الواقعة الأولى أن كولس باشا Coles رئيس البوليس كان قد أرسل منشورًا إلى مديرى المديريات ممهورًا بتوقيع ناظر الداخلية، الذى كان هو نفسه رئيس النظار المريض ورأت دوائر القصر أنها قد أمسكت بموظف بريطاني كبير وهو في حالة تلبس، فيما عبرت عنه الأهرام بقولها:

"اغتنم الإنكليز مرض عطوفتلو مصطفى باشا وبعثوا بالمنشور المذكور إلى جميع المديرين والمحافظين ووقع كولس باشا عليه باسم الناظر المريض وهى قحة لم نعرفها في غير تاريخ الإنكليز الذين أمسوا أصحاب الأمر والنهى في نظارة الداخلية وأصبح المديرون مضطرون إلى مخابراتهم بجميع الأحوال من مسائل الخفراء والمشايخ والضبط والربط مما حصر سلطة ناظر الداخلية في معاونيها وكتاب أقلامها وأمسى حاكم الداخلية حكم الأشغال والحربية والمالية وهذا ما حذرنا منه حكومة مصر وغرور ذلك الوزير ولا حياة لمن تنادى"!

وخلص الأهرام من هذا المقال الطويل إلى مناشدة سمو الأمير بالأمر "بإلغاء منشور كولس باشا ووضع حدا لأمثاله بأن يعهد المناصب إلى رجال مصريين أشربوا الوطنية في شرايينهم فلا يخضعون صاغرين للدخيل كما هو في الأحوال اليوم"!

ونتصور أن هذه المناشدة كان متفقًا عليها مع عباس أو أحد رجاله ثم أن التلميح عن "الرجال الصاغرين" انتهى في المقال الثانى للحملة الذى صدر في اليوم التالى، إلى تصريح..

استجابة الخديو لمناشدة الأهرام جاءت فورية، فقد "أبت وطنية سمو العباس وحزمه المصرى التصديق على أمثال هذه الأمور فأصدر أمره الشريف بإلغاء المنشور واحترام الخصائص المصرية لأبناء البلاد ايده الله في جميع إجراءاته وأعماله"!

على الجانب الآخر انتقلت الأهرام إلى التصريح في هجوم شديد على عطوفتلو رئيس النظار، وقد جاء في تصاعد محسوب..

عابت الجريدة أولا ما في "نفر من أبناء البلاد من المطامع النفسانية والغايات الشخصية" وخلصت من ذلك إلى القول أن ما يحدث من استبداد المحتلين أمر طبيعى "وإلا فلماذا يحضر المستشار المالى في جميع جلسات مجلس النظار وخصائصه (اختصاصاته) لا تخول له حق الحضور في المسائل المالية فقط والحكومة من غير راية ولا يرخص لغيره بذلك الحضور بينما نرى السردار ووكيل الأشغال يحضران أيضًا جلسات المجلس تسامحًا من رجال مصر وتساهلا عده الدخلا من المصريين ضعفًا"!

وينتهى بشارة تقلا في هذا المقال إلى القول "أو لم يقصد الإنكليز من منشور كولس باشا نفس الغاية بأنه إذا أرجع مصطفى باشا لم يعارضهم عليه لأنه يعرف خدمتهم له في مرضه.

ونعتقد أنها المرة الأولى في تاريخ الأهرام التي نهاجم فيها "صاحب دولة أو "صاحب عطوفة" على هذا النحو المباشر، ونرى أن ذلك ما كان ليتم دون اتفاق مع "العباس"، وتمهيدًا لخطوة ينوى الخديوى القيام بها، وهو ما حدق فعلا بعد ثلاثة أيام فحسب من نشر هذا التعليق الساخن.


ما جرى في يوم الأحد 15 يناير عام 1893 يستحق التوقف، ففي ذلك اليوم أطلق الخديوى الطلقة الأولى في الحرب مع اللورد.

نبدأ برواية أحمد شفيق رجل القصر والذى سجل الحادثة في مذكراته فقال أن الخديوى أرسل أحد رجاله وهو محمود شكرى باشا، رئيس الديوان التركى، إلى مصطفى فهمى حاملًا كتابًا بإقالته، وقد جاء فيه "أن جنابه يعطف على دولته وأنه مراعاة لحالته الصحية اقتضت ارادته السامية إراحته من أعباء النظارة مع الشكر على سابق خدماته".

الرواية التي نشرتها الأهرم في 17 يناير وإن اتفقت في المضمون مع رواية رجل القصر إلا أنها اختلفت في الصياغة، وكان للاختلاف مغزاه، قال الأهرام..

"أمر الجناب الخديوى محمود شكرى باشا أن يتوجه صباح الأحد إلى مصطفى فهمى باشا ويسأله "الاستقالة من منصبه بأمر الجناب الخديوى، فأجاب مصطفى فهمى باشا بمصريته (هل ذلك بالاتفاق مع كرومر) ثم استأنف حديثه بوطنيته وقال (إن لم يكن كذلك فاستشير أنا اللورد كرومر) فتركه شكرى باشا وعرض عليه الكيفية على سمو العباس فأصدر أمره بعزل مصطفى باشا وتنصيب فخرى باشا".

ونلاحظ من خبر الأهرام أنها أولا جرد رئيس النظار من لقب التفخيم المعتاد.. صاحب الدولة أو صاحب العطوفة، وأنه ثانيًا سخر من الرجل سخرية شديدة فيقول مرة بمصريته ويقول مرة أخرى بوطنيته في مواقع خلع فيها الرجل كل أردية المصرية والوطنية!

مع هذا الخبر الأهرامى الذى جاء في باب "التلغرافات الخصوصية" كتب بشارة تقلا، الذى لم يغادر القاهرة طوال أيام الأزمة، في باب العاصمة، تعليقًا طويلا، ينم ما جاء فيه عن أن الجريدة دخلت المعركة بكل ما تملك إلى جانب قصر عابدين..

في جانب من التعليق نظر تقلا بك إلى إقالة مصطفى فهمى على أنها "صدى للرأي العام المصرى ونحن نعلم جميعًا أن الجناب الخديوى بما أتاه مباشرة من تلقاء نفسه لم يقصد إلا خدمة الأمة والبلاد كما تقتضيه وطنيته ويأمر به حزمه مما تهلل له كل المصريين".

وفى الجانب الثانى طالب صاحب الأهرام "الوزارة الجديدة المشكلة برئاسة الفاضل فخرى باشا بأمرين: الأول الإخلاص المطلق للذات العباسي ة لاعتقاد المصريين أن حقوق الملة والبلاد مضمونة في شخصه المحبوب، وأما الثانى فتكريس الأوقات في درس المسائل وإذا وفوا هذين الأمرين حققوا أمانى سموه المصرية وقابلهم العموم بالامتنان والشكر".

وتصور الأهرام، ونظن أنه كان بذلك معبرًا عن المشاعر التي سادت في القصر، أن الأمر قد قضى، وبينما كان بشارة يستعد للعودة إلى الإسكندرية تطورت الأحداث على نحو غير متوقع مما كشفت عنه الجريدة في الأيام التالية.

***

لدينا روايتان حول رد الفعل البريطاني للخطوة الخديوية بتغيير الوزارة، الأولى رواية المعتمد البريطاني، والثانية رواية الأهرام..

* الرواية الأولى سجلها اللورد كرومر في الكتاب الذى أصدره عام 1915 في أعقاب خلع الخديو تحت عنوان عباس الثانى ABBAS II، وخصص فصله الأول لوزارة الـ 73 ساعة.

قال المعتمد الشهر أنه ما إن علم بخبر تأليف الوزارة الجديدة حتى طلب الالتقاء بالخديو الذى قابله في عصر نفس اليوم 15 يناير 1893، وطلب منه إرجاء نشر المراسيم الخاصة بالوزارة في الجريدة الرسمية حتى يصل رأى لندن في المسألة، وقبل عباس طلب اللورد.

وفى خلال الـ 72 ساعة التالية جرت الاتصالات اللازمة والتي أسفرت عن اجتماع للوزارة البريطانية بكامل هيئتها يوم 16 يناير استتبعه إرسال برقية كانت أقرب إلى الإنذار.. جاء فيها:

"ترى حكومة جلالتها وجوب استشارتها في الأمور الهامة مثل تغيير الوزراء، وهى لا ترى أن ثمة ضرورة للتغيير الآن، ومن ثم فلا توافق على التعيين المقترح لفخرى باشا".

صباح يوم الثلاثاء 17 يناير توجه اللورد كرومر إلى قصر عابدين حيث أبرز البرقية وأبلغ الخديو أنه ينتظر الرد صباح اليوم التالى وإلا فعليه أن يتحمل نتائج التعقيدات الخطيرة التي يمكن أن تترتب على عدم الاستجابة.

وفى تلك الأثناء لم يضيع كرومر لم يضيع كرومر وقتًا فقد أجرى الاتصالات اللازمة بالممثلين الأجانب في العاصمة المصرية، خاصة القنصل العام الفرنسي، وتأكد أن أحدًا منهم لن يقدم على تشجيع الخديوى الشاب على السير قدمًا في موقفه".

مساء نفس اليوم ذهب إلى قصر الدوبارة بعض رجال الخديوى لإجراء تسوية وتم بالفعل الاتفاق على ألا يستأنف مصطفى فهمى عمله الوزاري، في نفس الوقت يُقال حسين فخرى، ويقوم رياض باشا بتأليف وزارة جديدة، غير أن الأهم من كل ذلك أن يقدم الخديوى بلاغًا مكتوبًا للمعتمد أملى هو نفسه صيغته، وكانت كالتالى "أنها يرغب رغبة شديدة في أن يوجه كل اهتمامه لإيجاد أصدق العلاقات الودية مع إنجلترا، وأنه سوف يستجيب دومًا في المستقبل لنصائح حكومة جلالتها في المسائل ذات الشأن.

* الرواية الثانية هي رواية الأهرام، والتي جاء الجانب الأكبر منها في العدد الصادر في نفس يوم تراجع الخديوى.. والذى روى ما حدث في اليوم السابق.. يوم توجيه الإنذار.. قالت الأهرم:

"أما اللورد كرومر فهاج وماج واضطرب ولكن ذلك لم يغير من حزم العباس فكتب وكيل إنكلترا لوزارة لندن الكتابات المهولة بأن أعمال الخديو هذه تميت شوكة إنكلترا وأن بنجاحها موت النفوذ الإنكليزى في مصر وما شابه ذلك من هذه الكتابات الموافقة لمشربه وسياسته ويقولون أن مكاتبى جرائد لندن أمروا بتعضيد هذه السياسة الكروميرية ثم بتنا ننتظر جواب لندن حتى حضر وحملة اللورد إلى الجناب الخديوى المحبوب في صباح اليوم".

ويبدو أن بشارة تقلا الذى كتب هذه الأخبار، وكان لا زال في القاهرة، كان عليمًا بما يجرى داخل أروقة قصر عابدين، لأنه في نفس اليوم أذاع نص الإنذار البريطاني، وكانت صيغته التي نشرها أن "إنكلترا لا تصدق على أمر تعمله مصر بدون موافقتها وترفض قبول عزل مصطفى باشا رجلها وترفض تعيين فخرى باشا، ويبدو أثر الصيغة الأهرامية في نعت الجريدة لرئيس الوزراء المُقال برجل إنكلترا، كما تبدو أيضًا فيما زعمت أنه رد الخديو على اللورد، والذى لم يتطوع أي مصدر بإثباته سواها.

قالت الأهرام: "أما الجناب الخديوى فأجابه بأنه لا لزوم للانتظار بل أنا أجيبك من الآن - أنى عينت وزارتى بحقوقى الفرمانية وأرفض ما تطلبه كل الرفض".

بعد هذه الإجابة التي تبرعت بها الجريدة على لسان الخديوى شنت حملة ذات اتجاهين: أولهما ضد مصطفى فهمى وثانيهما مع الخديوى.

بالنسبة لرئيس الوزراء المُقال قال تقلا: "إن الجناب الخديوى المحبوب قطع بتغيير الوزارة السابقة لاعتقاده أنها لا تخدم مصر والمصريين ولنا بما أجابه مصطفى باشا لما سئل الاستقالة برهان على انجليزيته التي تغاير مبادئها لحقوق مصر السياسية والملية وكيف يمكن للخديوى أن يخدم بلاده ويقوم بمواجبها ووزارته ليس فقط لا تعضده وتؤيد مشروعاته النافعة بل تعارضه في كل أمر مما تأباه وطنيته الصادقة وشرفه المصرى".

أما فيما يتصل بعباس فقط تساءلت الجريدة "كيف لا يكون المصريون واحدًا مع خديويهم ولم نستمع في شرقنا بمثل حزمه ووطنيته. أيُلام الخديوى لأنه رفض أن يكون آلة لإنفاذ أغراض الدُخلاء أيُلام لأنه يحب بلاده. أيُلام لأنه مصري. أيُلام لأنه وطنى".

في اليوم التالى كانت قد بدت قسمات التسوية والتي عدتها الأهرام نصرًا عظيمًا لمصر، ولسيد قصر عابدين طبعًا!

النصر العظيم لمصر بدا، فيما ارتأته الجريدة أن إنجلترا بعد أن أرادت الانفراد بمصر داخليًا وخارجيًا اضطرت لمخابرة سفراء فرنسا وروسيا وألمانيا بلوندرة (لندن) واعترفت بهذه المخابرات أن المسألة أوروبية غير انجليزية وهو شأن من أهم الشئون في حوادث مصر الداخلية لم نره من سبع سنوات".

ولقد كانت الأهرام تعبر في ذلك عن اتجاه استمر سائدًا في الحركة الوطنية المصرية حتى عام 1904، وهو الاتجاه الذى كان يرى أن السبيل لإحراج الوجود البريطاني وإجباره على الجلاء عن البلاد يتم بتدويل القضية المصرية.

أما النصر العظيم لسيد قصر عابدين فلم تمل الأهرام من تعداد جوانبه..

منها "الجناب العباسى حفظه الله أيد بإجراته الأخيرة الحازمة الوطنية أمرين رئيسيين الأول عزل رئيس النظار أو الناظر الذى لا يرضاه والثانى تعيين الوزير أو الرئيس الذى يريده وفى كلا الأمرين نظر سموه إلى مصلحة الأمة والوطن لأنه إذا كانت الهيئة من غير رأيه فلا تخدم إلا الإنجليز وإذا كان الوزير من غير مبادئ سموه كان خادم المراقبين الدخلاء وعليه فلم ينظر الجناب الخديوى عباس باشا المحبوب إلى هذا أو لذلك بل نظر إلى المبادئ والشعائر وهى خدمات وطنية جليلة قابلها المصريون بتكرار الدعوات الكريمة"!

ومنها أن "الجناب الخديوى كفر عن ضعف هذ وغرور ذلك وإهمال الثالث وأوجد لمصر عنصرًا وطنيًا جديدًا يجب أن تفتخر به الأمر وأن يتخذه المصريون قاعدة لسياستهم ومثلًا لإجراءاتهم"!

ويلاحظ في كل ذلك أن الأهرام لم يأت بذكر من بعيد أو قريب للبلاغ الذى أجبر كرومر الخديوى على توجيهه إليه بل استمر على نفيه لحدوث هذه الواقعة من الأصل!

كتب في ذلك المعنى بشارة تقلا بعد عودته للإسكندرية فنفى "ما نشره روتر وجرائد الاحتلال الإنجليزى من الأكاذيب والاختلاقات بقولهم عن اعتذار سمو الخديوى عما أتاه وعن تعهداته لحضرة اللورد كرومر بأن يعزل وزارة بدون اتفاقه مع إنجلترا وغير ذلك من الأضاليل"! فلم يكن الأهرام على استعداد لقبول فكرة أن أفندينا يعتذر!

بيد أن هذا النفى لم يكن ليغير دون استسلام الخديو للإنذار البريطاني شيئًا، وهى الحقيقة التي ترتبت عليها مضاعفات عديدة ولدت في أحضانها الحركة الوطنية الجديدة، ولم تكن الأهرام بعيدة عن هذه الولادة، فبعد أيام قليلة كانت تفسح صفحاتها لكتابات شاب صغير أصبح فيما بعد أهم زعيم مصر خلال تلك الحقبة، ولم يكن سوى مصطفى كامل!


صورة من المقال: