مصلحة التنوير العمومى
بقلم: د. يونان لبيب رزق
الأهرام الخميس 23 فبراير 1995م - 23 رمضان 1415هـ
فكرة الإنارة العمومية للميادين والطرق والمبانى العامة ارتبطت ارتباطًا وثيقًا بجملة من المتغيرات الحضرية بدأت على استحياء فى العقد الرابع من القرن الماضى، واكتملت أسبابها فى العقد الأخير من القرن.. عقد التسعينات.
قبل ذلك لم يكن ثمة حاجة لمثل هذه الإنارة ففى مجتمع الحارات التى يحكم إغلاق أبوابها فى أعقاب صلاة المغرب، والتى كانت تضم مجموعة بشرية تكاد تشكل أسرة واحدة.. فى هذا المجتمع الذى تتوافر معه أسباب الأمان، وفى نفس المجتمع حيث ينام الناس من المغرب.. لم تكن هناك ثمة حاجة للإنارة العمومية.بدت الملامح الأولى لهذه الحاجة عندما شرعت سلطات الحملة الفرنسية فى فرض لون من الحكومة المركزية اقتضى الأمر معه خلع أبواب الحارات، وجد أبناء المدن من المصريين أنفسهم فى العراء لأول مرة، وبدأت تلك السلطات فى أعقاب ذلك فى فرض أول تجربة للإنارة العمومية فى مصر، فيما رواه لنا المؤرخ المعاصر عبد الرحمن الجبرتى من أن الفرنسيين شددوا على إيقاد القناديل بالأزقة "وإذا مروا بالليل ووجدوا قنديلًا أطفأه الهواء أو فرغ زيته سمروا الحانوت أو الدار التى هو عليها.. واتفق أن المطر أطفأ عدة قناديل بسوق أمير الجيوش فسمروا حوانيت السوق.. حتى كان الناس ليس لهم شغل إلا القناديل وتفقد حالها وخصوصًا فى ليل الشتاء الطويل"!
وقد تصور أبناء الحارات فى المدن المصرية بعد خروج الفرنسيون أن الأبواب سوف تعود ولن تكون هناك ثمة حاجة "للإنارة العمومية" التى أجبرهم الفرنسيون عليها، ولكن عجلة التاريخ لا ترجع إلى الوراء، فمفهوم الدولة المركزية الذى أتى به الفرنسيون وحاولوا زرعه فى محاولات محدود سار فيه محمد على قدمًا وقد نجح خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر أن يضع أسسه بما فيها بدايات تمدين المجتمع الإقطاعى الذى كان سائدًا من قبل.
أهم مظاهر التمدين لم تقتصر على سقوط أبواب الحارات، وإنما امتدت إلى تهاوى أسوار المدن، فلم تعد المحروسة مثلًا حبيسة للأسوار التى كانت تحيط بها، بل خرجت منها فى الاتجاه شمالًا حيث بنى محمد على قصره الشهير فى شبرا، والأعجب من ذلك أنها عبرت النيل فى عصر إسماعيل ليبدأ امتداد الأحياء غرب النهر الكبير.
اقتضى ذلك ظهور طوائف جديدة تعمل "بالتوير العمومى".. طائفة القندلجية التى تقوم بإضاءة الشوارع والأسواق، وقد انصرف الجانب الأساسى من عملها إلى تزيين الدكاكين بالفوانيس أثناء ليالى المولد، وليالى رمضان هذا من جانب، كما ظهر على الجانب الآخر طائفة المشعلجية وكان لها مهمة أخرى
فقد أدى ترامى أطراف المدينة، بمقاييس العصر طبعًا، إلى ظهور اللصوص فى ضواحى المدن مما حمل الناس على تعليق وإضاءة الفوانيس أمام منازلهم ومحالهم، فى نفس الوقت كان حملة المشاعل من أبناء تلك الطائفة يصحبون أولئك الذين تضطرهم الظروف إلى الخروج ليلًا.
وقد أضاف قيام أحياء تقطنها غالبية الأوربيين، على الجانب الغربى من النيل فى القاهرة، مثل الزمالك وجاردن سيتى، وبامتداد الرمل فى الإسكندرية.. أضاف السبب المباشر نحو قيام جهات بعينها بمهمة التنوير العمومى وعدم الاستمرار فى تركها للقندلجية والمشعلجية فيما حدث عام 1863، عام تولى إسماعيل لعرش مصر، حين تقدم قنصل فرنسا إلى الحكومة المصرية بطلب يتعهد فيه اثنان من الفرنسيين بتنوير الميادين والأزقة والمنازل بالعاصمة والإسكندرية، وتمت الموافقة عليه عام 1865.
الأعوام العشر التالية شهدت تطورين: أولهما أن أعمال الشركة التى شكلها هذان قد أخذت تمتد من الأحياء الإفرنجية إلى الأحياء التى يقطنها غالبية المصريين، خاصة أحياء الطبقة الأرستقراطية التى تنامت خلال القرن.
يؤكد ذلك الخبر المنشور فى الأهرام يوم 20 يونية عام 1888 والذى جاء فيه "نبهنا أولى الشأن مرارًا عديدة إلى ما كتبه سعادة محافظ العاصمة لنظارة الداخلية بشأن تنوير الشوارع التى لا نور فيها وبينا فيما كتبناه الأضرار الناتجة عن عدم وجود النور فى تلك الشوارع البعيدة ولا نرى عدد الأنوار يزداد كل يوم إلا فى الشوارع القريبة التى يقطنها الموسرون والأغنياء، أما الشوارع التى يقطنها الفقراء والمحتاجون فيكلف سكانها بتعليق الأنوار على أبواب منازلهم بنفقات من عندهم"!
التطور الآخر الذى شهدته نفس الفترة تلى الحكومة لونًا من الإشراف على هذه العملية بقيام "مصلحة التنوير العمومى" التابعة "لنظارة الأشغال العمومية"، وهو الوضع الذى واجهته الأهرام لدى صدورها، وكان محلًا لاهتمامها.
***
حتى مطلع التسعينات استمرت قضية "الإنارة العمومية" بالغاز ضمن أهم شواغل الشارع المصرى..
كان افتقاد الأمن الليلى من أهم أسباب تلك الشواغل إلى الحد الذى تم معه عام 1885 إجراء جدير بالملاحظة، فقد تقرر فى ذلك العام تتبيع " مصلحة التنوير العمومى" لنظارة الداخلية بعد أن استمرت منذ نشأتها إحدى مصالح نظارة الأشغال.
وقد استتبع هذا بالضرورة أن تم رسم خطط التنوير العمومى تبعًا للاحتياجات الأمنية، وقد بدا من جملة شكاوى نشرها الأهرام أنها لم تف بتلك الاحتياجات..
نختار عددًا من تلك الشكاوى بعضها من العاصمة والبعض الآخر من الإسكندرية، المدينتين الرئيسيتين اللتين كانتا قد عرفتا "لتنوير العمومى" منذ ذلك الوقت..
شكوى من القاهرة منشورة فى الأهرام الصادر يوم 2 يناير عام 1891 جاء فيها: "يشكو السكان كثيرًا، ولاسيما فى هذه الأيام الممطرة من عدم وجود الأنوار فى الأزقة والحارات مع أنها أشد وجوبًا فيها من سواها لكثرة ما يتخللها من الحفر والبرك التى تقضى على رجال الإصلاح، إما بردمها وقاية للمارة من السقوط فيها، وإما بإنارة أماكنها والأخير لابد منه فى كل حال ولاسيما أن الأول وإن لم يتعذر إجراؤه فقد يطول أمده، وهذا أمر يتعلق بمشائخ الحارات الذين نرجو التنبيه عليهم بملاحظته".
وشكوى أخرى من العاصمة طالب فيها أصحابها بوضع "فوانيس النور فى شارع مدرسة الصانع الموصل إلى كوبرى إمبابة فإن هذا الشارع به كثير من الناس".
أما شكوى الإسكندرية فنختارها من الأهرام الصادر يوم 9 ديسمبر عام 1892 وقد جاء فيها: "نستلفت نظر أولى الأمر إلى شارع الشجر فى محرم بك الذى قامت على جانبيه الأبنية، وأصبح يقطنه جم غفير من الناس لهم عيون كعيوننا لا ترى فى الليل إلا النور، وهم يشكون من حرمانه"!
المشكلة فيما أكدته دوائر "مصلحة التنوير العمومية" كانت المشكلة الأزلية.. مشكلة توفير الاعتمادات المالية اللازمة للاتفاق مع شركة الغاز، مما يكشف عنه عديد من الأخبار التى نشرتها الصحيفة.
فأحد هذه الأخبار تضمن اقتراحًا من "سعادة المحافظ" على المصلحة بجعل "المسافة الكائنة بين فوانيس النور فى شوارع العاصمة ثلاثين مترًا، وذلك لكى يتوافر منها 400 فانوس توضع فى الشوارع المتطرفة التى لا نور فيها ولا تتكلف الحكومة سبيل هذا العمل الضرورى أكثر من المبلغ الذى تدفعه الآن لقومبانية الغاز".
خبر آخر يكشف بصراحة عن أنه لم يزل يحجب المنافع الناجمة عن تنوير الشوارع غير المنورة مسألة الستة آلاف جنيه اللازمة لنقل الفوانيس من جهة إلى أخرى بحيث لو اتسعت المساحة الكائنة بين الفوانيس الموجودة فى الشوارع المنورة مسافة قليلة عما هى عليه الآن لأمكن أن نقتصد منها نيفًا وخمسمائة فانوس".
وبدلًا من توفير الاعتمادات فقد انتهز مجلس النظار فرصة تمديد "الكونترانتو مع قومبانية الغاز بالإسكندرية، فاشترط على الشركة أن نزيل ثمن الغاز بالفانوس الواحد من 7 جنيهات و67 قرشًا بالسنة إلى أربعة جنيهات و80 قرشًا والأربعة آلاف الوفر تنير البلدية بقيمتها 847 فانوسًا جديدًا وتلتزم البلدية بإبلاغ عدد الفوانيس جميعًا إلى 3600 وعددها اليوم 1434".
وقد كشف ما جاء فى تلك الشكاوى والمشاكل عن حقائق جديدة فى تاريخ "التنوير العمومى" فى مصر..
1) أنه مع اتساع نطاق مهمة الإنارة العامة فقد أصبح مسئولًا عنها عدد من الهيئات.. فى القاهرة انتقلت المهمة إلى مصلحة التنظيم التابعة لوزارة الأشغال، بعد أن كانت قد تبعت لنظارة الداخلية كما سبقت الإشارة، وفى الإسكندرية للبلدية التى كانت قد هيمنت على سائر شئون الثغر وقتئذ، أما فى المديريات فقد دخلت تلك المهمة ضمن اختصاصات "المدير الهمام"!
2) يكشف خبر نشره الأهرام فى 7 يوليو عام 1888 أن الإنارة العامة كانت قد انتقلت وقتئذ إلى ثلاثة من عواصم المديريات، وأنها كانت فى طريقها إلى الانتقال إلى العاصمة الرابعة.. فالإنارة كانت قد دخلت إلى كل من المنصورة وطنطا الزقازيق، وكانت فى سبيلها للدخول إلى أسيوط.
بيد أن ذلك لم يعن أنها لم تدخل فى مدن أخرى وإن لم تكن عواصم لمديريات وعلى الأخص المدن التى غلب عليها سكنى الأوربيين، ونعنى بذلك بورسعيد والإسماعيلية، أو على الأقل الأحياء الإفرنجية بهما.
3) أنه مع ما كانت تقوم "قومبانية الغاز" بمبادرات من جانبها لإمداد الإنارة العمومية لمرافق لم تكن فى حسبان "مصلحة التنوير" أولًا ولو على سبيل التجريب، لتغرى الإدارة الحكومية بعد ذلك على طلب إمداد المرافق الشبيهة بالإنارة الغازية.
يكشف عن ذلك الخبر الذى نشره الأهرام عن تنوير كوبرى قصر النيل والذى جاء فيه" "طلبت شركة الغاز من نظارة الأشغال العمومية أن ترخص لها بوضع فانوسين بمنتصف عرض كوبرى قصر النيل على سبيل التجربة على نفقة الشركة حتى إذا وجد استعمال هاته الفوانيس الكبيرة مفيدًا تقرر استعمالها فى المحلات العمومية فصدقت النظارة المذكورة على ذلك وارتأت أن تقيم دائرة على حسابها حول كل فانوس من الفوانيس لوقايتها من صدمات المركبات وغيرها"!
4) حدث فى نفس الفترة أن بدأت، وبشكل خاص جدًا، استخدامات الكهرباء، كوسيلة جديدة للتنوير، وكان لابد أن تنتقل العدوى، وبشكل متسارع إلى التنوير العمومى، مما أدخله فى حقبة تاريخية جديدة، لعلها الحقبة المستمرة حتى يومنا هذا، هى حقبة التنوير الكهربائى، ولهذا الدخول قصة كانت الأهرام ضمن من حفظها لنا.
***
منذ أواخر السبعينات استخدم البعض فى مصر "التنوير الكهربائى" الذى غلب عليه سمتان..
الخصوصية. كانت تنار بعض سرايات كبار رجال الدولة فى مناسبات خاصة أهمها الاحتفالات التى كانوا يقيمونها، فيما كان يسمى "بالباللو" وهو ما أكدته الأهرام فى مناسبتين على الأقل، باللو عابدين الذى كان يقيمه الخديو بين الحين والآخر، وباللو سراى نوبار الذى كان يقيه رئيس النظار المشهور أيضًا بين وقت وآخر، ويبدو أن هذه الإنارة كانت تتم من مولدات ذات قوة محدودة.
وقد امتد هذا اللون من التنوير الخصوصى لبعض المؤسسات ذات الطابع الأوربى، فتسوق الأهرام فى أخبارها يوم 24 يونيه عام 1885 خبرًا يقول "اختبر التنوير بالنور الكهربائى فى أوتيل شبرد فوفى بالمرام والمأمول أن إدارة الفندق ستختاره لتنوير منازلها (حجراتها) بها"، ولا يمضى وقت طويل حتى تقدم خبرًا آخر جاء فيه أنه "سيحتفل المسيو كونيليانو أستاذ الرقص فى مساء غد بليلة راقصة كالتى سلفت يحضرها الراقصون متنكرين مقنعين وذلك فى قهوة البراديز والتى تنار بالنور الكهربائى فى تلك الليلة.
السمة الثانية أن هذا التنوير كان يتم بشكل وقتى ووفقًا للمناسبة التى كان يتم توليد الكهرباء من أجلها، ينم عن ذلك أن الأهرام كثيرًا ما كانت تنهى أخبارها من هذه النوعية بالتنويه إلى أن التنوير بالنور الكهربائى كان يحدث "فى تلك الليلة" فضلًا عن التوصيفات التى كانت تسهب فيها فى هذه المناسبة كأن تقول "الأنوار المتلألئة" أو أن الكهربائيات كانت "مثل الشموس" وغير ذلك!
وجاءت إشارة البدء فى الانتقال من التنوير الخصوصى بالكهرباء إلى التنوير العمومى أواخر عام 1887 حين انشغلت دوائر الحكومة وقتئذ "بإنارة الأوبيرة الخديوية بالنور الكهربائى" مدفوعة فى ذلك بدافعين: أولهما: أن أغلب الدور المشابهة فى أوربا أصبحت تنار بالكهرباء، والثانى "دفعًا لأخطار الحريق، على حد تعبير نظارة الأشغال، التى لم تكن تعلم وقتئذ أنه بعد نحو قرن ذهبت الدار العريقة ضحية لحريق سببته الإنارة بالكهرباء التى تصور المسئولون أنهم ينقذونها بها!
ويدخل يوم 16 أكتوبر تاريخ "التنوير العمومى بالكهرباء" فى مصر، ففى ذلك اليوم كما سجلت الأهرام تم توقيع اتفاقية مع شركة الغاز بمصر "على إنارة الأوبرة بالنور الكهربائى من أول شهر يناير 1888 على مبلغ 5 آلاف فرنك كل سنة وهو المبلغ الذى تدفعه عن الغاز وبعد نهاية مدة العقد (10 سنوات) تصير كل الأدوات ملكًا للحكومة".
وكأنما فتحت تلك الاتفاقية شهية الآخرين على الإقبال على استخدام النور الكهربائى فى سائر المرافق العامة..
تنوير محطات خطوط المواصلات الداخلية كشف عن جانب من هذه الشهية فيما سجله خبر جاء فيه: "أن شركة الرمل الانكليزية عزمت على إنارة محطاتها بالنور الكهربائى وقد شرع حضرة المهندس الماهر المسيو بلاتشك بإجراء امتحان فيها".
وقبل مضى شهور قليلة تنتقل العدوى بشكل سريع إلى مصلحة السكة الحديدية التى قررت "إنارة محطات مصر وإسكندرية بالنور الكهربائى ومدح الجميع هذا المشروع وقد كلفت المصلحة المذكور المسيو كرافيه أن يتفحص هذا المشروع ويقدم تقريره فى ذلك".
ولم يقتصر انفتاح الشهية على الراغبين فى التنوير العمومى بالكهرباء، بل امتد إلى فئات الرأسماليين الذين ارتأوها فرصة استثمارية فى مشروعات جديدة فى مصر..
فبعد أقل من شهرين على الاتفاق بتنوير الأوبرا اجتمع بعض رجال المال فى الإسكندرية "لإتمام مشروع جليل وهو تأليف شركة تسعى لدى الحكومة فى الحصول على رخصة لأجل إنارة الإسكندرية ومصر وغيرهما من مدن القطر بالنور الكهربائى عدد سهامها 1000 سهم وقيمة السهم 20جنيهًا وأن كثيرين من أغنياء الثغر يتقدمون للاشتراك فيها".
بعد ثلاثة أسابيع من هذا الخبر نشرت الصحيفة خبرًا آخر عن اجتماع للجنة المنوط بها فحص طلبات الامتياز بنظارة الأشغال "للمداولة فى طلبات الامتياز المقدمة من بعض التجار بشأن إنارة بعض المدن الكبيرة كالإسكندرية ومصر وغيرها".
وتوقفت الأخبار عن هذه المحاولة عند ذلك الحد لتبدأ أخبار محاولة أخرى قام بها أحد أغنياء الثغر. وهو البارون منشه الذى تقدم فى أوائل عام 1889 بطلب يسأل فيه، التصريح له بوضع النور الكهربائى فى بعض جهات القطر المصرى".
وتكشف الأهرام فى خبر آخر عن جهات القطر التى أراد البارون تنويرها، فيتضح أنها الإسكندرية والرمل وحلوان، أى جهات سكنى الأجانب بالأساس، ونظن أن منشه كان يرى أن تسويق سلعته عند هؤلاء سوف تكون احتمالاته أفضل كثيرًا مما لو سعى إلى تسويقها عند المصريين.
ورغم أن الصحيفة كانت متفائلة بأن ما طلبه الرجل "سينال قبولًا لدى حكومتنا السنية" إلا أن مجلس النظار رفض الطلب اعتمادًا على أن ذلك الإصلاح سيكون من اختصاص المجلس البلدى، هذا بالنسبة للإسكندرية، أما بالنسبة للقاهرة فقد قرر أن تخاطب شركة الغاز أولًا فى إجراء المشروع لما أن الحكومة مرتبطة معها بتنوير المدينة فإن رضيت بذلك أذن لها بالتنوير الكهربائى وإلا عهد بذلك إلى شركة أخرى".
هذا الخبر الذى نشرته الأهرام فى 5 يناير عام 1892 تطلب الأمر بعده أكثر من عشرة شهور من المفاوضات، إلى يوم 22 نوفمبر حين وقعت شركة الغاز على الشروط النهائية التى عقدت "بينها وبين نظارة الأشغال العمومية التى رفعتها إلى مجلس النظار الذى صدق عليها بعد أقل من أسبوع.
والشروط التى تضمنها الاتفاق عديدة، منها أن "مدة التجربة لتنوير الأماكن المراد تنويرها بالنور الكهربائى خمس سنين فقط، ومنها أن تقوم الشركة بدفن الموصلات الكهربائية فى الأرض، ومنها "ألا يجوز فى أية حال أن تتجاوز التعريفة المقررة الآن لتوزيع النور الكهربائى فى مدينة باريس بأكثر من عشرة فى بالمائة"
فضلًا عن ذلك فقد تضمن الاتفاق شرطين جديدين بالإبرا: أولهما ألا تمارس الشركة أى ضغط على أرباب المنازل لإدخال النور الكهربائى فى بيوتهم، وثانيهما التمييز بين أسعار الاستهلاك العامة والخصوصية وذلك بأن "يكون النور فى مدة التجرية بسعر فرنك ونصف للكيلونور وأما محلات الحكومة عدا التياترات فتنار بسعر فرنك و35 سنتيمًا للكيلونور"!
وشرعت منذئذ شركة الغاز الفرنسية، والتى عرفت باسم شركة ليبون، فى القيام بمهمتها فى تحويل التنوير العمومى فى مصر إلى الكهرباء وهى المسألة التى استغرقت بقية النصف الأول من عقد التسعينات، أى نحو ثلاث سنوات جرت خلالها أعمال التجريب ومد الأسلاك وإقامة "وابور الكهربائية فى أرض بعيدة عن السكن كالأراضى الكائنة بجوار محل شركة المياه أو غيرها"، فيما نص عليه أحد شروط العقد، وأصبحت الإنارة بالكهرباء حقيقة واقعة منذ بداية النصف الثانى من عقد التسعينات أى قبل نهاية القرن بنحو خمس سنوات، مما شكل قصة أخرى لم تتوان الأهرام عن متابعة كثير من جوانبها".
صورة من المقال: