ads

Bookmark and Share

الاثنين، 14 ديسمبر 2020

081 بصراحة.. أول مرة!

 بصراحة.. أول مرة!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 9 فبراير 1995م - 9 رمضان 1415هـ


المقال الأسبوعى الذى يطالعه قارئ أهرام الجمعة بشكل شبه منتظم للأستاذ إبراهيم نافع رئيس التحرير تحت عنوان "بهدوء" يبدو وكأنه تقليد من تقاليد الصحيفة العتيدة، ويعتقد عديدون أنه معبر عن سياسات حكومية إلى حد أن الإذاعات الأجنبية كثيرًا ما تصف الأهرام بأنها الصحيفة شبه الرسمية.

ويرى كثيرون أن الذى أرسى هذا التقليد هو الأستاذ محمد حسنين هيكل خلال فترة توليه إدارة الجريدة العريقة التي نافت عن سبعة عشر عامًا (1957 - 1974).

فقد اعتاد قارئ الجريدة ابان تلك السنوات على أن يطالع صباح كل جمعة مقال "بصراحة" الذى اكتسب شهرة واسعة يمكن أن نعزوها لعدة مسببات.

ليس من شك أن قدرات الأستاذ هيكل الصحفية، التي لا يحاجى منصف في تفردها، كانت من أهم تلك المسببات، بيد أن حصرها في تلك القدرات إنما يغفل الجانب الموضوعى من الظاهرة، فقد تعددت الظروف التي اكسبت "بصراحة" أهميتها..

مرحلة هادرة من التاريخ المصرى المعاصر، سلطة ثورية تمسك بناصية الحكم، علاقة خاصة مع رأس هذه السلطة، إدارة حكومية تمتلك صندوق الأسرار كان قارئ الجمعة يتلهف على من يفتح له الصندوق ليلمح بعض ما فيه، وكان تلك الأسباب وغيرها، والتي أكسبت "بصراحة" شهرتها الواسعة، وهى التي دعت الكثيرين إلى الاعتقاد بأن تقليد المقال الأسبوعى لرئيس تحرير الأهرام قد تم إرساؤه خلال تلك السنوات، وهو ما ليس صحيحًا!

فقبل ثمانين عامًا من تولى الأستاذ محمد حسنين هيكل رئاسة تحرير الأهرام، وفى عام 1887 على وجه التحديد، بدأت المحاولة التي استقرت وتحولت إلى تقليد في تاريخ الصحيفة خلال السنوات الخمس التالية، مما يشكل قصة تستحق أن تروى..

***

يشير الاطلاع على الأهرام خلال السنوات الخمس عشرة الأولى من صدوره إلى لون من تقسيم العمل بين الشقيقين المؤسسين، سليم تقلا صاحب الامتياز، وبشارة مدير الجريدة.

فقد تولى الشقيق الأول الذى أقام على نحو شبه دائم في مقر الصحيفة بالإسكندرية، فضلًا عن أعمال الإدارة، تلقى رسائل المكاتبين، وترجمة كثير من أعمال الصحف والمجلات الأجنبية، خاصة الفرنسية، واختيار ما يناسب الصحيفة منها، وكثيرًا ما كانت تحتل تلك الترجمات الصفحة الأولى من الجريدة، بالإضافة إلى "تلغرافات" وكالات الأنباء التي اشترك الأهرام فيها منذ وقت مبكر.

الشقيق الثانى بشارة، فيما تكشف عنه أعداد الاهرام كان مقيمًا بشكل شبه دائم في المحروسة، وكان يبعث من هناك بتقرير يومى يحتل القسم الأكبر من الصفحة الثانية من الصحيفة تحت عنوان "العاصمة"، ولم يكن هذا القسم يعنى فقط بأخبار القاهرة بل كانت تشمل اهتماماته جميع الشئون المصرية المتداولة في عاصمة البلاد وتتعدد الملاحظات حول دور بشارة تقلا:

1) فهو لم يتوقف عن ملاحقة أخبار العاصمة التي كان يبعث بها في رسالة أو رسالتين يوميتين إلى "الثغر"، بل كثيرًا ما كان يقرن هذه الأخبار بتعليقات طويلة أو قصيرة، وهى تعليقات كثيرًا ما كانت تحفل بروح المد أو القدح، مما كان يشكل ما يمكن تسميته "برأى الأهرام" منذ السنوات المبكرة من عمره.

2) أن مدير الجريدة كان يقوم بين الحين والآخر برحلات قد تطول لتصل إلى شهور فيما فعله أمثر من مرة في رحلاته إلى أوروبا، وقد تقصر إلى أسابيع في بعض رحلاته إلى الشام أو في جولاته في بعض مناطق مصر ذاتها، كما حدث في رحلة له إلى الوجه القبلى لمشاهدة الآثار.

3) كانت الأهرام تكلف أحد مكاتبيها خلال فترات غياب المدير عن العاصمة أن يحل محله، ويلاحظ أنه في مثل تلك الأحوال كانت تتقلص كثيرًا المساحة المخصصة للعاصمة في الصحيفة، فقد كان دور هذا المكاتب يقتصر على الأخبار دون أن يقرنها بأية تعليقات، وكانت في الغالب ذات طابع إدارى لا سياسى، حيث كانت تدور في مجملها حول اللوائح والتعيينات والقرارات وسفريات الشخصيات الهامة، خاصة المتوجهة إلى الثغر أو القادمة منه.

ومن هذا الباب - باب القصور في تقديم رأى الأهرام نتيجة لغياب مدير التحرير، بدأت ظهور "بصراحة" أول مرة، تحت اسم "لمحة".

الظهور حدث خلال صيف عام 1887، على وجه التحديد في شهر يوليو من ذلك العام، وكان بشارة غائبًا في أطول رحلاته، وهى الرحلة التي جال خلالها في أوروبا، واستغرقت ستة شهور بين يونية وديسمبر من ذلك العام. وتقلصت آنئذ وبشكل ظاهر المساحة التي كانت تحتلها أخبار العاصمة، فلم تزد على نهر ونصف من أنهر الصفحة الثانية الخمسة، بعد أن كانت تحتل ثلاثة من تلك الأنهر.

وفى تلك الظروف ألحقت الجريدة بأخبار العاصمة مقالًا تحت عنوان "لمحة سياسية" وقد بدأت كنوع من سد الفراغ حتى لا تفتقر الصحيفة إلى الرأي الذى اعتاد عليه القارئ مع تلك الأخبار، الأمر الذى اصطبغ معه بالشكل المؤقت..

طابع سد الفراغ ظهر أولًا في محدودية المقال الذى لم يشغل في العادة إلا نهرًا واحدًا من الصفحة الثانية، وفى أحيان كثيرة لم يكن يشغل كل هذا النهر، ولعل ذلك ما دعاه إلى اختيار عنوان "اللمحة" له، وهو عنوان استمر يلازم المقالات بعد أن أصبحت تشغل أغلب الصفحة الأولى ولم تعد معه مجرد لمحات!

وبدا هذا الطابع ثانيًا في أن سليمًا لم يكن حريصًا على التوقيع باسمه على المقال على اعتبار أنه شيء مؤقت سوف ينتهى بعودة بشارة وإعادة صفحة العاصمة لما كانت عليه وبدا ثالثًا في نوعية الموضوعات التي اختار صاحب الجريدة أن تكون موضوعًا للمحة، فقد كانت في الغالب تعليقًا على الأخبار التي تأتى في الصفحة الأولى، وهى صفحة استمرت الأخبار الخارجية تحتل معظمها، مما كان يشكل جانبًا من مسئوليات سليم.

ولعل جملة "اللمحات" الأولى التي خصصها صاحب الأهرام "للمسألة البلغارية" تكشف عن هذا الاتجاه، فإن هذه الأمة التي كانت قد برزت إلى الوجود عام 1878 كإحدى نتائج الحرب الروسية - التركية كانت قد بدأت تثير المشاكل مع روسيا التي كانت السبب في الحصول على استقلالها، الامر الذى كان محل اهتمام الصحافة العالمية، وهو اهتمام انتقل إلى الأهرام، أو بالأحرى إلى صفحتها الأولى.

وصف سليم هذا الوضع في جانب من لمحاته الأولى بقوله: "لم يقنع البلغاريون بما نالوه من حرية العمل وشرف الاستقلال في مدة لا تتجاوز ثلاث سنين بل رامو أن يصلوا إلى قمة شامخ الكمال في يوم وكفى بهم غرورًا أنهم راموا مناطحة الروسية وعدم الاكتراث بها فكانوا بمثابة ثعلب يقاوم أسدًا...

ورغم هذه البداية فثمة ملاحظات يمكن رصدها على ولادة "بصراحة" أول مرة..

أن بصمة سليم كانت واضحة رغم أنه لم يضع توقيعه عليها، فالرجل كان مغرمًا بالاستشهاد بأبيات شعرية من قصائد معروفة، وأحيانًا عندما كانت لا تسعفه ذاكرته بالبيت المناسب، كان لا يرى بأسًا بالاستعانة بقريحته لنظم بيت أو أكثر وهو ما لم يكن يفعله بشارة في تعليقاته التي كان يبعث بها مع رسائله من العاصمة.

فهو عندما يرى أن البلغاريين قد تناسوا قدرهم وهم يتحدون روسيا في إحدى "لمحاته" لا يرى بأسًا من الاستشهاد بالبيت القائل

ومن جهلت نفسه قدره

          رأى غيره منه ما لا يرى

وهو عندما يحذر من قوة الروسية في "لمحة" أخرى" يستشهد مرة بالبيت القائل:

إذا رأيت نيوب الليث بارزة

      فلا تظن أن الليث يبتسم

ومرة أخرى بالبيت القائل:

إن الأفاعى وإن لانت ملامسها

       عند التقلب في أنيابها العطب

وينتقل من الاستشهاد بالشعر إلى نظمه في لمحات أخرى كان أهمها اللمحات التي كتبها عن الكارثة التي شهدها محصول القطن خلال صيف نفس العام.. عام 1887، فقد جاء في صدر لمحة من لمحاته التي كاتبها حول الكارثة قوله..

لها في قضم نبت القطن فعل

        به فعل الجراد بعد رحمة

كأن لم يكف بخس السعر حتى

       أتت لتزيد في الطنبور نغمة

ملاحظة أخرى أنه قد ابتدأ بالقضايا الخارجية ثم عرج بعد ذلك إلى القضايا الداخلية ولكن دون أن ينخرط فيها ومن بين تلك القضايا ما اتصل مرة باستشراء خطر دودة القطن الذى كان موضوعًا لأكثر من لمحو، وما اتصل بخطر الكوليرا التي جاءت الأخبار بانتشارها في مالطة مما أدى إلى تزايد المخاوف بوصولها إلى مصر، ثم أخيرًا ما تعلق بالمفاوضات الدولية التي كانت تجرى آنذاك بالأساس بين فرنسا وبريطانيا حول "حيدة بوغاز السويس"،. بكل ما صحب هذه القضة من ملابسات وحساسيات.

ملاحظة أخيرة أن صاحب "اللمحات" قد اعتاد أنها موقوتة بفترة غياب أخيه مدير التحرير، وهو اعتقاد انعكس فى الانقطاع عن كتابتها بعد عودة بشارة وموالاته للجريدة في الإسكندرية برسائله من العاصمة، ولكن هذت الاعتقاد لم يستمر طويلًا، فعلى ما يبدو أن سليمًا قد أحب "اللمحة" ولم يعد يطيق البعد عنها، مما أدخل "بصراحة" أول مرة في مرحلتها الثانية التي حولتها إلى تقليد، وهى المرحلة التي استمرت بين عام 1889 وحتى وفاة سليم في أغسطس 1892.

***

"لمحة في السوادن" تحت هذا العنوان شغل مقال سليم تقلا، وليومى سبت متتاليين، من أيام شهر أغسطس عام 1889.. شغل الصفحة الأولى من الجريدة، والتي لم يزاحم "لمحة" فيها سوى اعلان صغير، فيما نراه الميلاد الحقيقى لـ "بصراحة" أول مرة.

كان قد سبق هذه اللمحة جملة من مقالات تحت هذا العنوان وعن نفس الموضوع في نفس المكان الذى استمر صاحب الجريدة يقدم فيه لمحاته.. الصفحة الثانية بعد أخبار العاصمة، ونتيجة لنفس الظروف.. غياب الأخ بشارة، وإن كنا نلاحظ تغييرًا مهمًا دخل هذه المرة، فقد وقع الرجل باسمه، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد عالجت جملة اللمحات التي كتبها سليم خلال صيف عام 1889 الساخن موضوعًا واحدًا هو موضوع السودان، فقد شهد هذا الصيف الزحف المهدى تجاه الأراضى المصرية الذى انتهى إلى الواقعة المشهورة باسم "توشكى" والتي أعقبها مباشرة انتقال "اللمحة" إلى الصفحة الأولى وحدوث الميلاد بعد فترة حمل طويلة اقتربت من العامين، وهو الميلاد الذى بدا في مجموعة من الشواهد..

(أولًا) غلبة القضايا السياسية على "لمحة" مما كشف انحيازات محددة للصحيفة، وهى انحيازات صنعت في النهاية موقع الأهرام.. معادية لسلطات الاحتلال، موالية للأستانة العلية، ممثلة السلطة الشرعية في العالم العثمانى كله، خاصة للخديوية الفخيمة التي لم تفتأ تعلن عن ولائها لها، متحالفة مع "الجمهورية الفرنساوية" التي ربطت أصحابها بها علاقة خاصة، فقد كانت بمثابة وطنهم الثانى.

(ثانيًا) انتظام "لمحة" وصدورها بشكل أسبوعى، وكان يوم السبت على الأغلب، ولعل ذلك يعود، فيما نراه، إلى أن الأهرام كان يحتجب عن الظهور يوم الأحد من كل أسبوع، ونتصور أن سليم تقلا قد أراد أن يشغل قارئ الجريدة يوم احتجابها بهذا المقال الطويل ولعل نسبة كبيرة من هؤلاء القراء كانت تتفق يوم اجازتهم الأسبوعية مع يوم إجازة الصحيفة.

غير أن ذلك لم يشكل قاعدة غير قابلة للاستثناء، فأحيانًا كان ينقطع سليم عن كتابة لمحاته لفترة قد تصل إلى شهر كامل، وأحيانًا أخرى كانت تصدر لمحة في عدد الأربعاء أو الجمعة لأسابيع متتالية ودون أن يقدم صاحب الأخران أية تفسيرات لهذا الانقطاع أو ذلك التغيير.

(ثالثًا) المكانة التي احتلتها لمحة في الجريدة، فقد انتقلت من الصفحة الثانية إلى الصفحة الأولى، وهى بذلك أرست التقليد الذى استمر الأهرام يتبعه حتى يومنا هذا في مقالات رئيس التحرير، وإذ كان ثمة اختلاف فهو نظام "ألبواقى" لم يكن قد عرف حتى ذلك الوقت، الأمر الذى لم يكن مندوحة معه من النشر الكامل وفى الصفحة الأولى.

(رابعًا) أن صاحب امتياز الأهرام قد بدأ حريصًا على أن يوقع "لمحة" باسمه، وكان التوقيع باسم (سليم) يجئ بشكل واضح وبين زخرفات خاصة حتى تلفت نظر القارئ، تأكيدًا على أهمية المقال وعن أنه المعبر عن سياسة الصحيفة.

بدأ استقرار التقليد خلال العام التالى، 1890، فقد كتب سليم لمحته التي استمرت تشغل أغلب الصفحة الأولى 39 مرة، وخلت الجريدة منها ثلاثة عشر أسبوعًا، أي بنسبة وصلت إلى 75 في المائة وهى نسبة عالية خلال العام الأول من إرساء التقليد.

واستمرت أسباب الاستقرار تزيد خلال العامين التاليين حتى انتقال صاحب لمحة وصاحب الأهرام إلى ذمة الله في خريف عام 1892 ولعل تلك السنوات الثلاث تشكل وضع الأساس المتين لـ "بصراحة " أول مرة مما يتطلب نظرة فاحصة عليها..

تؤكد اللمحة (الأول) من هذه النظرة أنه قد سيطر على رأى الأهرام خلال تلك الحقبة ثلاث قضايا محورية.. على المستوى الوطنى قضية "الانجلاء الانجليزى عن مصر، وقضية، العلاقة مع السودان. وعلى المستوى الداخلى قضية أوضاع "أصحاب الزعابيط"، أي الفلاحين المصريين.

والملاحظ بالنسبة للقضية الأولى أن الأهرام قد بدأ ينحو منحى لم يكن يختطه من قبل بتحفيز المصريين على رفض الوجود الاحتلالى مما جاء مرة أخرى في لمحة تحت عنوان "هل عندنا رجال"!؟، ومرة أخرى في لمحة اختار لها سليم عنوانًا أكثر إثارة.. "من لم يند عن حوضه يهدم"!، من جانب آخر فإن صاحب الأهرام استمر يجذر العلاقة بين مصر والدولة العلية على اعتبار أن هذه العلاقة ظلت تمثل خط الدفاع الأول أمام الوجود الانجليزى في البلاد.

عبر سليم عن ذلك في إحدى لمحاته بقوله: "لا خلاف أن للباب العالى في مصر ما ليس لغيره من دول الأول في المصالح بل جميع المصالح لا تقاس بجزء من مصلحته فيها".

القضية الثانية استمرت الشغل الشاغل للأهرام خلال نفس الفترة، وكان موقفه محددًا بإدانة السياسات الإنجليزية في السودان واعتبارها أس البلاء في كل ما أصاب مصر بعد اتباعها لتلك السياسات.

وكثيرًا ما كان الأهرام يذكر في هذه القضية بإجبار مصر على ترك السودان فيختار لعناوين بعض لمحاته العبارة التي قالها شريف باشا في أوائل عام 1884 "ولئن تركتنا فإنا لا نتركها"، ويذكر في لمحات أخرى بواقعة الإجبار تلك فيما جاء في اللمحة التي احتلت صدر الصفحة الأولى من عدد الأهرام الصادر يوم 10 أغسطس عام 1889 من القول بأن "كلنا يعلم أن مصر لن تترك السودان إلا إجابة لأمر إنكلترا حتى اضطرت وزارة المرحوم شريف باشا إلى الاستقالة لأنها ناقضت هذا الرأي وأعلنت من ذلك العهد أن ترك السودان لا يوافق مصلحة مصر من جميع وجوهه وجاهرت بمبادئها هذه ولكن على غير جدوى فاستقالت وقضى الأمر بترك البلاد".

تبقى القضية المحورية الثالثة، وهى قضية الفلاح، التي خصص لها سليم إحدى عشر لمحة متوالية بدأت يوم 6 سبتمبر عام 1889 وانتهت يوم 30 نوفمبر ونعتقد أن سليم لم يكن قد خطط في بداية تناول هذه القضية أن تشغل كل تلك المساحة لأنه بعد اللمحتين الأوليين عنها أعطى الثالثة عنوان "لمحة تابعة" والرابعة "لمحة استدراكية"، غير أن الحوار الساخن حولها هو الذى أدى إلى أن تمتد لتصبح أكبر مجموعة في سلسلة اللمحات الأمر الذى دفعه إلى أن يخصص آخرها للتذكير بكل ما سبقها وأعطاها عنوان "لمحة في نفحة اللمحات"!

اللمحة (الثانية) في هذه النظرة تبين أن صاحب "بصراحة" أول مرة فضلًا عن الاستشهاد بأبيات الشعر كان يميل إلى اختيار عناوينها بين الكلمات المأثورة أو الأمثال السائرة بما يتفق مع مضمون اللمحة ولا نكاد نعثر على مقال من بين تلك المقالات قد برأ من هذه العادة ولدينا على ذلك عشرات الأمثلة.. الأعمال بالعمال، التبر من التراب، الفعل الجميل يحييه الذكر الجميل، أطلب لكل غلق مفتاح، إنما الأعمال بخواتمها، رب بعيد أقرب من قريب، عود على بدء لا يصلح الغمد لسيفين، وشاورهم في الأمر.. إلخ..

اللمحة (الثالثة) من النظرة لرجل شاعرى مثل سليم كانت تتبدى في تخصيصه بعض مقالاته للتغنى بمصر لعل أظهرها اللمحة التي جاءت في الصفحة الأولى لأهرام يوم السبت 22 نوفمبر عام 1890 تحت عنوان "المنهل العذب كثير الزحام" ولما كان يقصد بالمنهل عذب مصر فالعنوان ينطق بما في المقال في مقابل ذلك استمر يعبر عن حنينه لموطنه في سوريا فيما كان يجئ في بعض لمحاته التي كان يعنونها بالقول "أعد ذكر من أهوى"!

يبقى من هذه النظرة ما اعتقده قارئ الأهرام في أعقاب وفاة صاحب اللمحات في شهر أغسطس عام 1892 من أنها في سبيلها إلى التوقف مع رحيل صاحبها، غير أن المفاجأة التي كانت في انتظار القارئ أنه بعد تلك الوفاة بشهور قليلة إذا بهد يجد اللمحة تعود إلى الظهور ولكن بقلم آخر هذه المرة، وتحت اسم مختلف الأمر الذى يشكل قصة أخرى في تاريخ الصحيفة وينم عن غلبة الروح المؤسسة على الطابع الشخصى وهى أحد أسرار بقاء الأهرام!


صورة من المقال: