ads

Bookmark and Share

السبت، 12 ديسمبر 2020

080 وابور الساعة 12!

 وابور الساعة 12!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 2 فبراير 1995م - 2 رمضان 1415هـ


فى تمام العاشرة من صباح يوم الخميس 5 مايو عام 1892 تم توحيد الوجهين، القبلى والبحرى(!). وبينما يحظى بطل التوحيد الأول.. صاحب التاجين المشهور الملك مينا، بشهرة واسعة فإن بطل التوحيد الثانى لم يحظ بأى درجة من الشهرة، ولم يدخل كتب التاريخ إلا من باب التخصص الدقيق.. باب تاريخ المواصلات فى مصر، فلم يكن بشرًا هذه المرة وانما كان آلة ضخمة تسير على قضبان اشتهر باسم وابور الساعة 12 "المجبل على الصعيد" أى السائر فى اتجاه قبلى مصرى نحو الجنوب، ولهذا اليوم قصة ندع بشارة تقلا مدير الأهرام يرويها فقد كان من بين حضور هذه الواقعة التاريخية.

القصة سجلها الرجل فى أهرام اليوم التالى.. الجمعة 6 مايو. ولا نجد أفضل من أن نسوقها بحذافيرها، بكل ما فيها من تفاصيل، وقبلها من دلالات.. قال:

"كان اليوم الميلاد المعين بفتح جسر امبابة الموصل بين مصر (القاهرة) وخط سكة حديد الوجه القبلى فذهبنا إلى محطة السبتية وهى محطة جديدة أقيمت على مقربة من محطة مصر لخط الوجه القبلى وكانت مزينة بالأعلام واسم الجناب الخديوى المعظم فركبنا القطار المعد للمدعويين وفى جملتهم سعادتلو أرتين باشا وكيل وزارة المعارف العمومية وحضرة الكولونيل مونكريف وكيل نظارة الأشغال".

نتوقف قليلًا عند هذا الاسم الأخير، سكوت مونكريف، الوكيل الانجليزى لوزارة الأشغال، والذى ولى هذا المنصب منذ السنوات الأولى للاحتلال البريطانى لمصر، وارتبط اسمه بأغلب مشاريع الرى والمواصلات التى تم انجازها خلال العقد الذى كان قد انقضى بين حدوث الاحتلال وتوحيد الوجهين، وكان المسئول الأساسى عن هذا العمل الذى كان يجرى افتتاحه يومئذ.. كوبرى امبابة، أو جسر امبابة كما كان يسميه المعاصرون بمن فيهم الأهرام الذى نعود مرة أخرى لرواية مديره..

يقول أنه كان من بين الحضور كبار موظفى الحكومة وعدد من أرباب الجرائد، كان هو منهم بالطبع، ويقول أن القطار تحرك بهم فى تمام الساعة التاسعة حتى إذا ما أشرفنا على الجسر المذكور بعد خمس دقائق من سير القطار سرنا بين صفين من العساكر المصرية المصطفة على الجسر لتأدية واجبات الاحتفال بقدوم الجناب الخديوى المعظم وبلغنا محطة امبابة فى الساعة التاسعة والدقيقة الثالثة عشر وهى محطة مقامة فى منتهى (نهاية) الجسر المذكور البالغ طوله 500 متر أى بزيادة 234 مترًا عن جسر بنها بحسب المذكرة التى وزعتها مصلحة السكة الحديدية على الحضور وكانت المحطة مزدانة مع الجسر والجهة المقابلة لها بالأعلام والرياحين ومزدحمة فيهال الجموع من كل فج وقد أقيم فى صدر المحطة صيوان متقن فرشت أرضه بالطنافس والمفروشات الفاخرة لإقامة جناب الخديوى المعظم وفى جانبه صيوانان آخران لسرائر المدعوين ومائدة حوت كل ما لذ وطاب من المأكولات والمشروبات وكان فى النيل على جانب الجسر ست من بواخر الشركة التوفيقية والرفاص نسيم البحر أحد ركائب الجناب الخديوى.." وانتظر الجميع وصول الحاكم الشاب عباس الثانى، ليعطى إشارة البدء لمسيرة وابور الساعة 12، ولم يتأخر كثيرًا، ونعود مرة أخرى لرواية مدير الأهرام..

"لما كانت الساعة التاسعة ونصف ركب الجناب الخديوى من محطة مصر على القطار الخاص يصحبه حضرات النظار وبعض رجال المعية السنية والخاصة (يقصد الحاشية) وأعضاء صندوق الدين ولجنة السكة الحديدية"، الأمر الذى يدعونا إلى أن نتوقف قليلًا عند هذه الصحبة وهى صحبة لا نظن أن عباسًا كان يسعد بها كثيرًا..

 فمن ناحية كان صندوق الدين الجهة التى تتحكم فى احتياطى الخزينة المصرية، ولم تكن الحكومة السنية قادرة على أن تنفق قرشًا واحدًا من هذا الاحتياطى دون إذن من الصندوق، ومعلوم أن مثل هذه المشروعات الكبيرة تتطلب الحصول على مثل هذا الإذن، أما لجنة السكة الحديد فهى اللجنة التى كان منوط بها إدارة هذا المرفق الحيوى، وكان على رأسها انجليزى وفرنسى ولنفس السبب، فقد كانت إيرادات سكة حديد مصر مرهونة على ذمة بعض الديون.. المهم أن الخديوى وصل إلى محطة امبابة فى الساعة التاسعة والدقيقة الأربعين، ونعود إلى رواية الخواجا بشارة..

"أطلقت المدافع وصدحت الموسيقى بالسلام الخديوى وخف لاستقبال سموه سعادتلو أحمد بك فريد مدير الجيزة وقدم لسموه كبار موظفى المديرية وعلمائها وعمدها ومشايخها وأعيانها ووقف حضرة الأديب حسن بك عابدين عضو مجلس شورى القوانين فى المديرية المذكورة وتلا خطابًا نفيسًا فأصغى إليه سموه باسمًا مسرورًا ثم سار فى وسط هذا الجمع إلى حيث يفتح الجسر فوقف محفوفًا بحضرات نظاره وبعض المدعوين"، وكان ذلك فى تمام الساعة العاشرة من صباح ذلك اليوم.

ففى تلك اللحظة "تقدم أحد المقاولين وجعل يفتح صينية الكوبرى البالغ طولها 58 مترًا ووزنها 150 ألف كيلو وحدة بواسطة دولاب معد لذلك حتى بهت الجميع من إتقان هذه الصناعة وإحكام هذا العمل ولما أن تم الفتح وقف الجميع إلى جانب الجسر مطلين على النيل وصدر أمر سموه بأن يسير اليخت الخديوى نسيم النيل وغيره من البواخر فسارت تشق البحر مارة من فتحة الجسر بسرعة كلية وكان لذلك منظر بهيج انشرحت منه صدور الجميع ثم أمر سموه فأقفل الجسر.. وبعد هنيهة ركب القطار وعاد فودع بمثل ما قوبل به من مظاهر الاحترام.. وسار قطار المدعوين على الأثر الساعة العاشرة وأربعين دقيقة فبلغنا محطة السبتية فى الساعة العاشرة و53 دقيقة".

وقد تصور قارئ أهرام يوم الجمعة أن القصة قد انتهت عند هذا الحد غير أنه فى يوم السبت 7 مايو على أن مدير تحرير الجريدة لم يكن قد أفرغ كل ما فى جعبته بعد، فقد قال:

"أبنت لكم أمس ما كان من الاحتفال لافتتاح جسر امبابة العظيم وأزيدكم الآن من وصفه أن فيه ست قناطر كل منها 62 مترًا وقنطرتين كل منها 74 مترًا وفى طرفيه قنطرتان صغيرتان فى كل منها 11 مترًا وعرضه 3 مترًا ونصف وفى وسطه سكة حديدية إلى جانبها طريقان للمشاة وله فتحة واسعة من وسطه تدور بآلة سهلة وهو فى غاية المتانة وكله من الحديد والصلب والفولاذ وفيه من المعدن ما بلغ وزنه 1.333.000 كيلو جرام ويمكن أن تمر عليه أثقل مركبات السكة الحديد وأعظم أحمالها إلى 800.000 كيلو جرام كما ظهر ذلك بالتجربة".

وإذا كانت قصة مدير الأهرام عن افتتاح الجسر العظيم قد انتهت عند هذا الحد إلا أن قصة الصحيفة مع الجسر ومع "الوابور" المار عليه والذى ربط بأول مرة بطريق البر بين الوجهين القبلى والبحرى كانت قد بدأت منذ وقت طويل واستمرت بعد ذلك لوقت طويل، ربما حتى يومنا هذا من خلال الأخبار التى تسوقها الأهرام بين الحين والآخر عن سكك حديد الوجه القبلى.

بيد أننا قبل البحث فى أصول القصة وامتداداتها يتوجب الإشارة إلى أن رواية الأهرام عن افتتاح "جسر امبابة" تفند إحدى الحكايات الغريبة التى لا نعرف مصدرها..

تقول هذه الحكاية أن المهندس الفرنسى الذى يتولى مسئولية تنفيذ الكوبرى قد انتحر!

والسبب كما راج فى تلك الحكاية التى ظل المصريون يتناقلوها جيلًا بعد جيل أن الرجل عندما جاء وقت "فتح الكوبرى" أمام الخديوى لم يتمكن من هذا الفتح لخطأ فنى فيه، كان هو المسئول عنه بالطبع!

الأطرف من ذلك أن رواة هذه الحكاية يؤكدون أن ذلك المهندس كان هو نفسه المسيو جوستاف ايفل Eiffel.. الرجل الذى ارتبط اسمع بالبرج الشهير فى العاصمة الفرنسية.

ونظن أن هذه الرواية تتداعى أمام رواية الأهرام والتى أبدى فيها مديره كل الإعجاب بالسهولة والإتقان اللذين تم بهما افتتاح الكوبرى، فضلًا عما هو معلوم من أن المهندس الفرنسى المشهور قد توفى على سريره فى باريس بعد افتتاح جسر امبابة العظيم بأكثر من أربعين سنة، فى سنة 1923 عن عمر بلغ 91 عامًا.

***

تشير الكتابات العلمية أن مد خطوط السكك الحديدية إلى الصعيد قد تأخر عن أول خط تم بناؤه بين القاهرة والإسكندرية نحو عشرين عامًا، فبينما يرجع تاريخ بناء الخط الأول إلى عام 1855 فإن خط الوجه القبلى وصل إلى المنيا عام 1867 ولم يصل إلى أسيوط إلا عام 1874 حيث توقف لنحو عشرين عامًا أخرى.

قبل ذلك وبعده استمر نهر النيل يشكل الشريان الأساسى فى ربط الوجهين البحرى والقبلى، واستمرت كافة السفن تمخر عباب النهر الكبير كما كانت تفعل منذ عمر الإنسان المصرى كل بلاده.. الدلتا والوادى.

وتشير هذه الكتابات أيضًا إلى أن النشاط الذى عرفه عصر إسماعيل فى شتى المناحى، سواء الخاصة بالمواصلات أو بغيرها، قد لحق بالملاحة النيلية "جهات قبلى" فأقيم العديد من محطات الخدمة الخاصة على طول النيل لتصل حتى ناحيتى قنا وأسوان عام 1864، ويشير عدد جريدة الجوانب الصادر فى 24 مايو عام 1871، قبل صدور الأهرام بخمس سنوات، إلى أن الحكومة قد اشترت تسع آلات لتنظيف مجارى المياه، وأرسلتها إلى جهة الصعيد لتسهيل مرور السفن "وهى فى غاية الإتقان وأرسلت ىأيضًا عشرين فانوسًا كبيرًا لوضعها فى الشطوط"!

وقد تنوعت السفن المتجهة بحرى والعائدة قبلى بين سفن شراعية وأخرى بخارية، فضلًا عن السفن المخصصة لنقل الركاب والمعروفة باسم "الدهبيات" والتى كان يستقلها فى العادة أبناء الطبقات الميسورة من الصعايدة، أو من السياح الذين عرفوا آثار مصر العليا منذ ذلك الوقت المبكر، بل وقبله!

بيد أن التطورات تتابعت خلال العشرين عامًا التى انقضت بين وصول السكة الحديد إلى أسيوط وبين بناء جسر امبابة، وهى التطورات التى أدت فى النهاية إلى بروز الحاجة لتوحيد الوجهين بشكل أكثر فاعلية عن ذى قبل.

* من بين هذه التطورات ما تأكد من محدودية الدور الذى استمرت تقوم به سكة حديد قبلى..

يؤكد ذلك الإعلانات التى كانت تنشرها المصلحة فى الأهرام عن "جدول مواعيد السكك الحديدية" والتى يتبدى منها أن حركة النقل على خط قبلى كانت لا تقارن بهذه الحركة على خطوط بحرى.

يتبدى منها أيضًا أن الصعيد لم يكن يحظى سوى برحلة يومية واحدة على القطار العادى، ورحلتين أسبوعيًا على قطار الاكسبريس، فهذا الإعلان الذى نشرته المصلحة فى الأهرام الصادر يوم 19 نوفمبر عام 1885 جاء فيه أنه تم "تعيين قطر يقم دفعتين كل أسبوع إلى أسيوط يومى الاثنين والجمعة ليعود يومى الثلاثاء والسبت.

وقد علق مراسل الأهرام فى بنى سويف على هذا العمل بعد بضعة شهور، فى 6 يوليو عام 1886 بأن "العموم يشكرون اهتمام مصلحة السكة الحديد فى ذلك ويودون أن يكون هذا القطر (الاكسبريس) يوميًا فى مثل هذه الأيام نظرًا لكثرة المتجرين وشدة الزحام وزيادة شغلهم من بلد إلى آخر وأن يكون وقوفه أيضًا فى المحطات كافة أسوة بقطار الركاب".

وإن كان هذا المطلب يكشف عن شئ فإنما يكشف عن أن القطار اليومى لم يعد كافيًا وإن الإقبال على استخدام السكة الحديد قد ازداد كثيرًا خلال النصف الثانى من الثمانينات.

يدعم هذا الاستنتاج الخبر الآخر الذى نشره الأهرام بعد شهور قليلة وقد جاء فيه أن الاقتراح "بتعيين قطار يسير يوميًا علاوة غلى قطار الركاب" تقدم به سعادتلو مدير أسيوط لنظارة الداخلية التى أبلغته لنظارة الأشغال" التى بعثت به إلى مصلحة السكة الحديد للنظر فيه".

يتبدى منها ثالثًا أن رحلة الاكسبريس من القاهرة إلى أسيوط كانت تستغرق، تبعًا للجدول وليس للواقع، عشرة ساعات بالتمام والكمال، ولابد أنها كانت تزيد كثيرًا بالنسبة للقطار العادى.

ويتم الإعلان الذى نشرته الأهرام عن مواعيد رحلات قطار الاكسبريس أنه كان يصل عادة فى اليوم التالى ويقضى أغلب الليل إن لم يكن كله فى الطريق، ولعل ذلك ما أدى إلى أن تكون "عربات النوم" قسمًا أصيلًا من هذا القطار، وهو ما تشير إليه إعلانات المصلحة منذ عام 1889، ولعله أيضًا هو الذى أدى إلى توصيف القطار "المجبل على الصعيد" بقطار الساعة 12 فى الأهزوجة المشهورة!

يتبدى منها رابعًا أنه كان على من يرغب فى ركوب قطار قبلى أن يعبر إلى الجانب الغربى للنيل حيث "بولاق الدكرور" والتى أنشئت فيها محطة القيام لخط قبلى، ولا شك أن الأمور كانت تزداد صعوبة بالنسبة للمسافر أو للبضائع القادمة من خطوط بحرى، لما ان يستوجب عليه من قطع المسافة بين وسط العاصمة فى محطة مصر وبين بولاق الدكرور بوسائل نقل بدائية، فلم يكن الترام قد استخدم بعد، ناهيك عن السيارات! ولعل ذلك ما دفع الكاتب البلجيكى فايذر الذى وضع كتابًا بالفرنسية تحت عنوان L. Egypte et ses Chemins de fer قال فيه أن الصلة استمرت منقطعة تمامًا بين الوجهين البحرى والقبلى حتى أنشئ كوبرى امبابة.

* من بين هذه التطورات أيضًا الأحداث الى عرفتها مصر بعد قيام الثور المهدية وما ترتب عليها من الحاجة إلى نقل الجنود والإمدادات إلى الجنوب، وهو الأمر الذى لم ينته رغم تبنى سياسة الإخلاء فى أوائل العام التالى بعد سقوط الخرطوم فى أيدى المهدى.

فقد استتبع ذلك أن تمركز القسم الأكبر من الجيش المصرى الجديد فضلًا عن بعض القوات البريطانية إذا ما دعت الحاجة..

تمركزت عل الحدود فى المنطقة بين أسوان وحلفا، وذلك لمواجهة التهديدات المهدية بغزو مصر، وهى التهديدات التى دخلت حيز التنفيذ فى الحملة الشهيرة التى قادها ولد النجومى عام 1889.

أدى ذلك بالضرورة إلى تعاظم أهمية خط قبلى، سواء بحكم الحاجة إلى النقل العسكرى عليه، جنودًا أو معدات. وهو الانتقال الذى اكتسب شكلًا من الديمومة بعد أن كان يغلب عليه الطابع الموسمى من قبل، أو نتيجة لأن الحاجة كانت تستدعى أحيانًا نقل قوات كبيرة فى حالات التهديد المهدوى، وكانت طاقة البواخر لا تفى بالحاجة فى مثل هذه الظروف.

***

انعكست كل تلك التطورات على تزايد نشاطات المسئولين في مد خط الصعيد باتجاه قبلى إلى جرجا في مرحلة أولى يعقبها مرحلة ثانية بالوصول إلى أسوان، وقد تفاعل البعض فنادى بوجوب وصول تلك المرحلة إلى الخرطوم مؤكدًا أن "وابور الساعة 12" هو الكفيل بإشاعة السلام في الربوع السودانية!، وصاحب المطالبة بمد الخط الإلحاح في بناء كوبرى يعبر النيل ويربط الوجهين.

والملاحظ أن هذه الدعوة قد اتسعت خلال عام 1889 الأمر الذى يدعو إلى الاعتقاد أنه كانت هناك علاقة قوية بين ما عرفته مصر خلال ذلك العام من تهديد مهدوى قوى وبين وابور الساعة 12 والجسر العظيم.

ففي 9 فبراير من ذلك العام ساق الأهرام تقريرًا طويلًا وضعه وكيل نظارة الأشغال يذكر فيه أن مد السكة الحديد إلى جرجا سيفضى إلى "تقريب الوصول إلى أنحاء الحدود في النيل مسافة 140 كيلو مترًا وإرسال العساكر بمسافة تقل يومين عن المسافة الحاضرة فضلًا عن الفائدة التي تحصل بمساعدة المديرية والبوليس في ضبط أعمال الإدارة ومساعدة رجال الرى بمساعدة كلية في مناظرة الترع وتدبير مياهها وحسن توزيعها".

ونعتقد أن وكيل نظارة الأشغال وهو يكتب هذا التقرير كان يفكر في مشروع خزان أسوان الذى كان قد بدأت الخطوات العلمية نحو تنفيذه وقتئذ، بكل ما سوف يتطلبه هذا المشروع من نقل الأدوات والاحتياجات اللازمة له.

وبينما كان المسئولون يعكفون على دراسة أفضل الطرق لمد السكة إل جرجا جرى الاتفاق على الإعلان عن مناقصة لبناء جسر امبابة تقدم لها عديد من الشركات "ألمانية وإنكليزية ونمساوية وبلجيكية وفرنساوية وإيطالية"، فيما تضمنه خبر للجريدة يوم 4 ديسمبر.

قبل نهاية العام وفى يوم 23 ديسمبر على وجه التحديد "اجتمعت لجنة الامتيازات في إدارة السكة الحديد فقررت إعطاء بناء الجسر لشركة فرنساوية (دايدة وبيله) La Maison Dayde et Pille لأن طلبها أقل من جميع الطلبات حتى شركة فيفليل التي بنت جسر قصر النيل بأربعة عشر ألف جنيه أما مجموع ما طلبته شركة دايده فمليونان وثلاثون ألف فرنك".

وبينما أمكن تجاوز المشكلة المالية بالنسبة لجسر امبابة فإنها بقيت حجر عثرة بالنسبة لمد خط قبلى إلى جرجا، خاصة مع ما هو معلوم من أن الأوضاع الاجتماعية المتدنية لسكان تلك المنطقة لن تجعل للخط عائدًا سريعًا يغطى بعضًا من نفقاته، الأمر الذى دعا "المسيو برونت" المدير الفرنسي لمصلحة السكة الحديد إلى تقديم دراسة مؤداها أن يكون الامتداد الجديد بخطوط ضيقة بعرض متر واحد يبلغ التوفير في نفاتها أكثر من 42% عن تلك الخطوط فيما لو مدت بنفس عرض الخطوط السابقة الواصلة إلى أسيوط.

وقد جرت مناقشات حامية حول هذا الاقتراح انتهت بانتصار فكرة برونت التي ظاهرها "سعادتلو بوغوض باشا نوبار العضو الوطنى في مجلس إدارة السكة الحديدية المصرية".

وبينما كان يجرى تنفيذ خط أسيوط جرجا كان يجرى التفكير في مد خط من جرجا إلى القصير الذى تيسر انتقال حجاج الصعيد إلى الأراضى المقدسة، وقد رأى أصحاب المشروع أن عائد ذلك الخط سوف يغطى قدرًا من تكاليفه، وكان يجرى التخطيط أيضًا لمد الخط ليس إلى أسوان فحسب بل إلى دنقلة في السودان، الأمر الذى استغرق نحو عامين حتى يوم 5 مايو عام 1892 حين تم افتتاح جسر امبابة العظيم.

بعد يومين ولأول مرة يبدأ وابور الساعة 12 أولى رحلاته عبر الجسر وبعد أقل من شهرين يفتح الجسر للمشاة "وقد جعلت أجرة المرور مليمين و10 مليمات لكل جمل أو حصان أو بغل ومليمين إذا كانت خاليجية وخمسة مليمات عن كل حمار محمل ومليمًا واحدًا إذا كان خاليًا".

وكان هذا المرور المنتظم للسكة الحديد، جنبًا إلى جنب مع الحمير على الجسر العظيم، بمثابة الإعلان أن الوجهين، البحرى والثبلى، قد اتحدا ثانية، وهى الوحدة التي تمت على قضبان وابور الساعة 12 هذه المرة.


صورة من المقال: