ads

Bookmark and Share

السبت، 12 ديسمبر 2020

078 أطماع فريدون!

أطماع فريدون!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 19 يناير 1995م - 18 شعبان 1415هـ


بول فريدمان يهودى ألمانى نزل مع مجموعة من أتباعه أواخر عام 1891 على الساحل الشرقى من خليج العقبة حيث حاول إنشاء أول مستعمرة يهودية فى التاريخ الحديث، وكانت للرجل وجماعته قصة مثيرة آثرت أيما تأثير فى التاريخ المصرى، ومع ذلك لا يعلمها الكثيرون.


وتبدأ الإثارة بملاحظة ما أصابها من تجاهل حتى من صناعها، ولعل السطور القليلة التى حظيت بها فى كتاب "مصر الحديثة" الذى وضعه اللورد كرومر، المعتمد البريطانى فى القاهرة وقت حدوثها، والشخصية الرئيسية وراء هذا الحدوث، إنما تكشف عن بعض من هذا التجاهل.

وتزداد الإثارة مع التنبه إلى أن تلك المحاولة المبكرة قد تمت قبل انعقاد المؤتمر الصهيونى الأول فى بازل عام 1897،أى بنحو ست سنوات، مما يشير إلى أن هذا المؤتمر قد سبقته مساع لتحقيق الأطماع الصهيونية، ولم يكن نقطة البداية فى العمل على انتزاع الأراضى العربية كما يتوهم البعض!

وتصل الإثارة إلى ذروتها مع العلم بأن مصر التى استمرت تدير سواحل خليج العقبة بأكملها، الشرقية والغربية، الحجازية والسيناوية، قد حرمت من جراء هذه المحاولة من إدارة السواحل الشرقية وكادت تحرم من إدارة السواحل الغربية، مما يجرى فى جو أزمة كبيرة احتدمت خلال الشهور الأولى من عام 1893 فى أعقاب وفاة الخديوى توفيق.

ونبدأ قصة بول فرييدمان، والذى أسمته الأهرام "فريدون" من أولها..

***

(المسرح) الذى جرت عليه القصة هو الساحل الشرقى من خليج العقبة وامتداده إلى الجنوب حتى ينبع. ورغم ما تقرر عام 1841 من انسحاب مصر من شبه الجزيرة العربية إلا أنها استمرت تدير ذلك الساحل بحكم أنه كان يشكل امتدادًا للطريق البرى "لموكب الحجيج المصرى" والذى كانت تقع مسئولية تأمينه على حكومة القاهرة.

من ثم لم يكن غريبًا أن تنشئ هذه الحكومة مجموعة من القلاع على طول هذا الطريق كان أشهرها قلاع العقبة والمويلح وضبا والوجه. وتشير مذكرة لنظارة الأشغال العمومية بتاريخ 29 سبتمبر عام 1883 أن تلك القلاع كانت معدة "لحفظ ذخائر توابع المحمل الشريف ومرتبات العساكر والعربان".

(بطل القصة) هو "الهر فريدون" وزمرته كما أسمتهم الأهرام، وقد تضاربت الروايات حول الرجل.. أقصرها ما أدلى به المعتمد البريطاني في القاهرة، وأطولها ما قدمه مؤرخ مصري معاصر للأحداث لم يتح بعد لمخطوطة الذى ستجل فيه الرواية النشر.

(الرواية القصيرة) قدمها اللورد كرومر في كتابه "مصر الحديثة" وجاء فيها أنه في خلال عام 1980 زار مصر رجل اسرائيلى يدعى "بول فريدمان" واتصل بسلطات الاحتلال البريطاني في البلاد وأبلغها بنيته على الهجرة إلى سواحل الخليج، وأن تلك السلطات لم تمانع في ذلك.

لم يذكر اللورد كرومر أن سلطات الاحتلال التي أشار إليها كانت هو نفسه. وإن كان قد ذكر أن الرجل قد عاد في أواخر العام التالى مع عشرين من اليهود الألمان والروس ونزلوا جميعًا على ساحل الخليج في جهة المويلح، لكن كانت كل الظروف ضد هذه المحاولة اليائسة!

(الرواية الطويلة) سجلها مؤرخ مصري معاصر هو ميخائييل شاروبيم صاحب كتاب "الكافى في تاريخ مصر القديم والحديث" والذى نشر جزؤه الأول عام 1898 - 1900 غير أن جزءه الخامس الذى تضمن هذه الرواية لم ينشر حتى اليوم مما يدعونا إلى تقديمها من مخطوطه!

يبدأ الرواية بالخبر الذى جاء عن احتلال رجل "ألمانى الجنسية اسمه فريدون لجون شرمه" والجون يمعنى الخليج الصغير، وشرمة موقع بين العقبة والمويلح، وأن هذا الاحتلال قد تم عنوة.

يفصل بعد ذلك الخبر بالقول وتحرير الخبر أن الرجل قدم إلى القاهرة واجتمع بقنصل جنرال ألمانيا، وأسر إليه داعى حضوره وأنه يريد احتلال جون شرمة على ساحل البحر الأحمر، فلم يجرأه القنصل على ذلك وخوفه من العاقبة. ثم أشار عليه بمكالمة السير بارنج (كرومر) قبل انقلابه على شرمة. فكلم السير بارنج وأرسل إليه خبر بعثته، قيل فهون عليه بارنج وسهل إليه طريق الذهاب، وهو يرمى بذلك إلى معاكسة السلطان ورده عن مشاغبتهم بطلب تحديد أجل الجلاء عن مصر، فانقلب الرجل على شرمة ومعه جماعة قيل أنهم من مقدمى العسكر الألماني وكبار أركان الحرب، وقيل أنهم من مهندسى القلاع، وقال آخرون أنهم من كهنة اليهود آتون لاستعمار واستثمار ذلك الصعيد (الإقليم).

أما ما فعله هؤلاء في المنطقة فهو ما رواه شاروبيم بشكل ربما لم يقدمه أي طرف آخر ممن قدموا الرواية بما فيهم الأهرام، قال:

"لم يستقر بهذا العدد المقام التي كثروا وبانت عدتهم، وأخذوا يضيفون على العربان المضاربين هنا أسباب الرزق، ليمنعونهم عن الماء والكلأ، ونزع ما يريدون إلى محاكاة الملوك في حجبهم ومركبهم، وناصب أولئك العربان العداء، فقام بعضهم في وجهه فمزق شملهم. وسار إلى المويلح والوجه وغيرهما، فالتقى بالمويلح بجماعة من العساكر السلطانية فطلب منهم الجلاء عنها لأنها من أملاكه وحدود سلطانه، فقالوا له: هذا البلد للسلطان فمن أنت وما شأنك. قال أنا صاحب هذا الصعيد فإن لم تجلوا عنه قاتلتكم. فأخذوا أهبتهم لقتاله، فلما أنس منهم القدرة على الظفر به قفل راجعًا إلى شرمة".

وتصل الدراما إلى عقدتها في الرواية غير المنشورة للمؤرخ المصرى عندما يطلب فريدون النجدة، ولم يجد من يطلبها منها سوى القائد الانجليزى للجيش المصرى، سردار العساكر المصرية الذى طلب منه إجلاء جنود السلطنة عن المويلح "فأجابه إلى ذلك فسارت العساكر إلى ذلك البلد واحتلوه عنوة. فلما تأدى خبر ذلك إلى السلطان أكبره جدًا:

أولًا: لأن تلك المواقع لم تعط مصر إلا للمحافظة على طريق الحج برًا، فلما بدلوا من طريقه بحرًا أهملت تلك المراصد، ثانيًا: أن التغاضى عن السلطنة في أملاكها إلى حد إعطائها للأغرب، في حين أنها جزء من جزيرة العرب ممنوع بحكم المعاهدات الدولية التنازع عن شيء منها، ولا سيما على مقربة من القدس الشريف أحد الأماكن الثلاثة المقدسة".

ولم يكن أمام فريدون بعد أن وصلت الأزمة إلى هذا الحد إلا الرحيل مع مقدميه وكهنته!

(الرواية الثالثة) تقدمت بها الأهرام، ولم تكن قصيرة مثل رواية كرومر ولا طويلة مثل رواية شاروبيم، فقد جاءت على شكل أخبار متتابعة في أعداد الجريدة خلال الشهور الثلاثة الممتدة بين منتصف يناير ومنتصف أبريل عام 1892.

لم تصف رواية الأهرام الكثير في في مجال التفاصيل عن فريدون سوى أن الرجل ومن معه كانوا من "المدعين معرفة اللغة العربية والمتلبسين بالمبادئ العربية لا محبة للأعراب بل لاستخدامهم في سبيل غاياتهم ضد السلطنة السنية سياسيًا والخلافة العظمى إسلاميًا".

غير أنه بعد استبعاد التفاصيل التي جاءت رواية بأكثر منها - فإن أهم ما يلاحظ أن الأهرام قد اتخذ موقفًا معاديًا من السياسة البريطانية تجاه تشجيع "أطماع فريدون"، فيما سجلته في العدد الصادر يوم 6 أبريل والذى جاء فيه: "وعندنا أن الاضطرابات الأخيرة التي حدثت في اليمن وكان لإنجلترا يد فيها يجب أن تكون عبرة للباب العالى تحمله على دفع كل خطر عن شمال بلاد العرب من مثل هذه الجيرة الخطرة، أما مطالب الباب العالى فلم يكن فيها شيء من الغرابة لأن الجيوش العثمانية كانت قد احتلت قلعة الوجه الكائنة في ذلك الإقليم في عام 87 من غير أن تبدى مصر أدنى معارضة إلا أن الأحوال قد تغيرت الآن وأصبحوا لا يريدون أن يجرى في عام 92 ما جرى بكل سهولة في عام 87".

اهتمت هذه الرواية أيضًا بذلك النشاط الذى أبداه الغازى مختار باشا المندوب السامى التركى فى العاصمة المصرية إبان الأزمة، ومعلوم أن الرجل كان قد وصل إلى مصر خلال المفاوضات العثمانية الانجليزية عام 1885 – 1887 والتى انتهت بالفشل، تحولت بعدها مهمته من ممثل حكومة استنبول فى المفاوضات إلى ممثلها فى القاهرة، وهو الأمر الذى لم ترض عنه سلطات الاحتلال وإن كانت لم تستطع أن ترفضه.

مع ذلك فقد بقى وجود الغازى باشا فى العاصمة المصرية رمزيًا أكثر منه فعليًا حتى جاءت أزمة فريدون فاغتنم الفرصة ليؤكد على ذلك، بحرمان مصر من بعض ملحقاتها التى تقرر فى فرمان فبراير عام 1841، وهو فى ذلك قد يسعى للتأكيد على مبدأ أن للدولة حق أن تمنح وأن تمنع رغم الطارئ الجديد الذى حدث بوجود الاحتلال الانجليزى، مما يؤكد على استمرارية التبعية المصرية للدولة رغم هذا المتغير.

أبرزت هذه الرواية ثالثًا الفائدة التى عادت على سياسة سلطات الاحتلال من حادثة فريدون فيما جاء فى قول الصحيفة: "ومعلوم أن مسألة قلاع البحر الأحمر قد خدمت سياسة السير افلن بارنج حتى أخذ يسعى فى إطالتها فإنه بعد أن أظهر لحكومة مصر منافع الحماية الانجليزية تجاه الباب العالى لم يأل جهدًا فى استمالتها إلى قبول النصائح الانجليزية بغير دفاع ولا معارضة. ومن جهة ثانية فإن وزارة لندن رأت من الواجب عليها أن تعزز خطة وكيلها فى مصر بأن يمس جانب العثمانية بتداخله".

فصلت هذه الراية أخيرًا ما ترتب على الأزمة من تعيين Delimitation خط الخدود بين مصر وفلسطين مما أدخل هذه الرواية فى تاريخ الحدود المصرية، ولعل هذه النتيجة كانت أظهر نتائج محاولة فريدون التى نكشف عنها الستار هنا.

***

ما جرى فى شتاء عام 1892 شكل أول نزاع حول الحدود بين الدولة العثمانية وإحدى الولايات التابعة لها. ولم تكن مثل هذه النزاعات معهودة فى تاريخ الدولة العلية من قبل.


ففى داخل دولة واحدة ليس ثمة حدود يمكن أن تفصل بين أرجائها مهما اتسعت تلك الأرجاء، وأقصى ما يمكن السماح به فى مثل تلك الظروف نوع من التقسيمات الإدارية قابلة للتغيير بين الحين والآخر تبعًا لاحتياجات الإدارة.

وعلى الرغم من هذه المبادئ العامة فقد كان لولاية مصر وضع مختلف،وهو وضع أملته طبيعتها الخاصة من جانب، وحركتها السياسية خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر من جانب آخر.

فالتماسك القديم للوطن المصرى فضلًا عن دروعه الصحراوية فى الشرق والغرب فرض نوعًا من الوحدة الإدارية لم يكن حكام استنبول قادرين على المساس به حتى لو أرادوا!

ولعل هذه الميزات هى التى مكنت مصر محمد على من لعب ذلك الدور المتميز خلال ثلاثينات القرن التاسع عشر والذى انتهى بعقد تسوية 1840 – 1841 وهى التسوية التى أقرت بخطوط على الخريطة بين ما أصبح يشكل مصر الأصلية Egypt Proper،والتى أصبح حكمها وراثيًا فى أسرة محمد على وبين ما يتاخمها من الأملاك العثمانية، وهى الخطوط التى ارتأتها الدولة خطوطًا إدارية فيما قررته الأهرام فى عددها الصادر فى أول مارس عام 1892، قالت:

"لا يجهل قارئ الأهرام تاريخ المسألة المصرية القديمة فى عهد المرحوم محمد على باشا، كيف تأيدت امتيازات القطر بفرمانات سلطانية وعهد دولية وتحددت تخوم مصر (إداريًا) وأرفق الفرمان السلطانى بخارطة حددت تلك الحدود".

ولم يكن ثمة خلاف أبدًا على بداية هذا الخط عند البحر المتوسط. شرقى العريش عند رفح، حتى أن مصر فى عهد الخديوى إسماعيل وضعت عمودين من الرخام عند هذه النقطة دون أية معارضة عثمانية.. الخلاف كان عند البحر الأحمر..

فمن ناحية لم تجلو القوات المصرية أبدًا عن أية جزء من سيناء فضلًا عن الساحل الشرقى لخليج العقبة وظلت حكومة القاهرة تنظر إلى تلك المناطق باعتبارها جزءًا مكملًا لمصر الأصلية، وهو ما لم تتقبله حكومة استنبول التى رجعت إلى الخريطة المرفقة بفرمان فبراير عام 1841 والتى تضمنت خطًا يمتد من العريش إلى السويس وطالبت بانسحاب مصرى وراء هذا الخط(!)

ومن ناحية أخرى فإن ما حدث خلال تلك الفترة من شق قناة السويس وحيويتها الشديدة للإمبراطورية البريطانية دفع ساسة لندن إلى رفض إطلال أية قوة كبيرة على هذا الشريان حتى لو كانت الدولة العثمانية مما أزكى الصراع حول خط حدود مصر الشرقى.

ثم إن ما بدأ من تحركات صهيونية مبكرة نتجت عن "أطماع فريدون" قد حرك كل تلك الاعتبارات ليحولها إلى أول أزمة حدود بين مصر والدولة الواقعة شرقيها.

فضلًا عن كل ذلك فإن وفاة توفيق وتولى عباس الثانى للسلطة فى تلك الظروف، ما كان لابد أن يستتبعه من صدور الفرمان السلطانى بتولى الخديوى الجديد هيأ الفرصة للباب العالى لتقديم مطالبه إلى القاهرة.. بفرض خط حدود العريش - السويس الذى لم يوضع فى أى وقت موضع التطبيق.

وقد تصور رجال الدولة بأنهم بإقدامهم على هذه الخطوة يحققون هدفًا أكبر، وهو إحراج الاحتلال البريطانى ودفع حكومة لندن إلى الجلوس على مائدة المفاوضات مرة أخرى لحل المسألة المصرية، وهى المائدة التى كانوا قد هجروها عام 1887 بعد إخفاق مفاوضات وولف - مختار.

***

الأزمة دارت فى جانب منها حول توصيف الخط، وفى جانب آخر حول مساره.

نترك للأهرام شرح أسباب أزمة التوصيف.. قالت: "إن السلطنة السنية رفضت تخطيط خط تخومى (حدودى) لمصر فإن هى إلا من أملاك الجناب السلطانى ولكنها قالت بخط إدارى".

وتصدر أهمية هذا الجانب القانونى من النزاع حول المخاوف التى ساورت دوائر الباب العالى مما يمكن أن يترتب على قبول فكرة الخط التخومى من تسليم بتغير وضع مصر بعد الاحتلال البريطانى مما يمكن أن يكون تمهيدًا لفصلها عن الدولة العلية، وعلى حد تعبير الأهرام فى عدده الصادر يوم 29 مارس 1892:

"رفض الباب العالى الخط التخمى قائلًا: إن أرض مصر كأرض الحجاز وكلها ملك جلالة الخليفة فلم الخط إلا إذا كانت هناك غايات سياسية يضمرها المستشارون الانكليز".

بيد أنه على الجانب الآخر كان المسئولون فى القاهرة يرون أن القبول بفكرة الخط الإدارى سيبقى ملف الحدود الشرقية مفتوحًا لما يتيحه هذا التوصيف للسلطان من صلاحية لتغيير مسار هذا الخط فى أى وقت وبإرادة منفردة.

ولعل ذلك هو الذى أدى فى النهاية إلى الوصل إلى حل وسط.. لا إدارى ولا تخومى، فقد تقرر تسمية الخط بالحد الفاصل Separating Line وتم من خلال ذلك تجاوز الجانب الأول من النزاع، ويبقى الجانب الثانى الخاص بمسار الخط وكان الأكثر تعقيدًا.

فى البداية طالب مختار باشا القوميسيير العثمانى فى القاهرة بالعودة إلى الخط الذى جاء فى خارطة 1841 والذى امتد بين العريش والسويس، وهو ما لم تقبله الحكومة المصرية مدعومة بسلطات الاحتلال.

اعتمد المفاوض العثمانى فى هذا الطلب على ما أصاب "بلاد سلمتها لكم يد الخليفة تفضلًا منها وإحسانًا، وها هى مصوع وزيلع وغيرها شهود على ذلك"، وأضاف مشيرًا إلى تدخل الأجانب فى بعض من تلك الأراضى وقد قصد من وراء ذلك فريدون وأطماعه.

وفى اجتماع لمجلس النظار المصرى فى 12 فبراير تمت الموافقة على "ترك مواقع المويلح وضبا وشرمة وغيرها، أما العقبة فتطلب مصر المحافظة عليها"، حسبما جاء فى الأهرام.

غير أن الاتصالات المحمومة التى جرت خلال الأيام الخمسة التالية انتهت إلى قرار آخر لمجلس النظار "بترك العقبة للسلطنة وقد طلبوا تخطيط خط جديد لحدود مصر ورفعوا المسألة إلى الصدارة العظمى والمنتظر تصديقها على ذلك" غير أن الأهرام كانت متفائلة أكثر من اللازم وهى تتصور مع صياغتها للخبر على هذا النحو أن الأزمة قد انتهت.

فبالرغم مما حدث فى أعقاب صدور قرار مجلس النظار من انسحاب "العساكر المصرية الذين كانوا محتلين جهات العقبة والمويلح وسفرهم إلى مصر وذلك بعد أن احتلت العساكر الشاهانية مكانهم" فقد استمرت الحكومة العثمانية تضغط للانسحاب إلى ما وراء "خط الطور"، الأمر الذى ارتأت معه حكومة لندن ألا مندوحة من تدخلها، وبدئ على الفور فى استخدام ديبلوماسيتها التقليدية.. ديبلوماسية البوارج!

ففى أول أبريل نقلت الأهرام عن بعض الصحف الأجنبية الخبر بوجود "تسع مدرعات انكليزية تقل 3400 بحار فى ميناء الإسكندرية مما يعد بمثابة مظاهرة بحرية معدة لمعاكسة تأثير الفرمان السلطانى الضامن لحقوق الباب العالى فى مصر وسيادته عليها".

وفى مواجهة التهديد حدث التراجع العثمانى الذى سجلته الأهرام على شكل تلغراف مرسل من مختار باشا إلى السدة السلطانية، وجاء فيه أن مصر "ترجو أن تترك لها إدارة جبل الطور كالسابق وأما العقبة وملحقاتها فتضاف إلى مملكة الحجاز.. أما السلطنة فلا ترفض هذا الرجاء على شرط أن يفهم بترك إدارة الطور الترك المؤقت".

ومع ما بدا من أن هذه البرقية قد حلت الأزمة التى فجرتها أطماع فريدون إلا أنه قد بقى لحلها النهائى تسوية أكثر من قضية..

رفض الجانب المصرى التنازل العثمانى بترك إدارة الطور،أى القسم الواقع غرب خليج العقبة. بشكل (مؤقت)، كان يمثل القضية الأولى، فقد كان المطلوب خطًا نهائيًا وليس مؤقتًا، أما القضية الثانية فنتجت عن رغبة بريطانية أن تتوفر ضمانة دولية للخط الممتد من شرق العريش إلى غرب العقبة، وهو ما لم يكن يعجب الباب العالى، وآخر تلك القضايا بأن يتضمن الفرمان الصادر بتولية الخديوى الجديد كل ذلك، مما صنع أزمة أخرى فى تلك الأيام العاصفة من شتاء 1892 هى أزمة "الفرمان العلى الشأن".


صورة من المقال: