ads

Bookmark and Share

الاثنين، 7 ديسمبر 2020

076 الخديوى يموت بالنزلة الوافدة!

الخديوى يموت بالنزلة الوافدة!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

نشر فى الأهرام الخميس 5 يناير 1995م - 4 شعبان 1415هـ


لو قيل لأحد المصريين صبيحة يوم الخميس 7 يناير 1892 أن "أفندينا ولى النعم" سوف يقضى نحبه فى المساء بسبب دور الأنفلونزا أو الأنفلونزا أو النزلة الوافدة كما كانت تسمى، والتى كانت قد أصابته قبل أقل من أسبوع، لأعتبر هذا القول نكتة سخيفة، ولكنها حدثت! ولنبدأ قصة أغرب وفاة لواحد من أسرة محمد على من أولها.


فقبل ذلك بيومين فحسب على المصريون أن الخديو مريض، فقد طالع قارئ أهرام الثلاثاء 5 يناير خبرًا جاء فيه: "ألمَ بصحة الجناب الخديوى المعظم انحراف قليل فلزم قصره من مساء يوم الخميس وبالسبب المشار إليه أصدر أمر، بتأجيل المأدبة التى كان قد أمر بإعدادها لبعض ضباط الجيش المصرى وجيش الاحتلال.. نسأل الله لسموه السلامة والعافية".

وكان الخبر عاديًا فقد عرف شتاء ذلك العام انتشار الأنفلونزا، وكعادة هذا الوباء الذى كان يرتدى كل بضع سنوات دروعًا مختلفة ويأتى إلى البلاد فى زيارة غير مرغوبة، وهى زيارة تمت فى ذلك العام على نحو أسوأ كثيرًا مما جرى فى أى عام سابق، الأمر الذى تابعته الأهرام وإن لم يكن بنفس الدرجة فى أعقاب ما أطاح بالخديوى.

بعد يومين من الخبر السابق نشرت الصحيفة خبرًا مفاده أن النزلة التى ألمت بتوفيق قد زالت، أو كما قالت الأهرام: "من أخبار حلوان أن صحة سمو خديونا المعظم فى تقدم مستمر وانه أيده الله شفى مما أصابه من الانحراف الذى لم يمنعه من النظر فى شئون الحكومة والاهتمام بمصلحة الرعية".

ونظن أن قارئ الأهرام فى ذلك اليوم البعيد قد اعتقد أن الأمر قد إنتهى عند هذا الحد، وكان لديه من الأسباب ما يدعوه إلى هذا الاعتقاد، فمن ناحية كان الخديوى وقتئذ يقيم فى مشتاه فى قصره بحلوان حيث كان يفضل قضاء أغلب فترات البرد فى هذا المنتجع الطبيعى، ومن ناحية أخرى لم يكن توفيق قد تجاوز وقتئذ العام التاسع والثلاثين من عمره، سن اكتمال الرجولة التى يصعب معها تصور أن نزلة برد يمكن ان تودى به، ومن ناحية ثالثة فالرجل حاكم البلاد الذى تتوافر له العناية الطبية بما لا بتوافر لغيره، ومن ناحية أخرى فقد كان معلومًا أن صحة الخديو طيبة ولم يحدث أن شكا من قبل من أى مرض خطير.

عبر الأهرام عن تلك الحقيقة الأخيرة بقوله انه كان يراعى أسباب "الصحة من جميع لوازمها بين طعام وشراب ومنام بحيث كان الأمير الجليل يعطى أبهة الجلال حقها من التعظيم والجسم حقه من أسباب الراحة والنظام، والاقتصاد فيبكر فى منامه ليبكر فى قيامه..". ومن ثم جاءت المفاجأة لجموع المصريين الذين وجدوا صحيفتهم صباح اليوم التالى، الجمعة 8 يناير عام 1892 مجللة بالسواد وقد جاء عنوانها الرئيسى "سبحان الحى الباقى"، وأدرك قراء الأهرام وقتئذ فقط أن الرجل الذى اعتلى الأريكة الخديوية بموجب إرادة سلطانية يوم الخميس 26 يونيو 1879 قد نزل عنها يوم 7 يناير 1892 بإرادة إلهية، وكان يوم خميس أيضًا!

وصفت الصحيفة العتيدة "فجائية المصاب وبغتة الخطب" على حد تعبيرها بقولها "كانت تبشرنا الأخبار بضدها من تقدمه إلى العافية واتجاهه إلى الصحة والشفاء ولم يكن فى حساب رعيته أن سيفاجئنا هذا النبأ الهائل ويقع عليها هذا الكدر الشامل فى خلسة برق وطرفة عين جمدت على أثرها آماق العيون ثم تلتها بعد ذلك شابيب الشئون"!

وكان من الطبيعى مع هذه البغتة ألا تمر الوفاة بشكل عادى، فإن الوفاة الدرامية لما تحدث لإنسان عادى تنتهى القضية بعد مواراة جثته فى القبر، والعكس صحيح هنا فقد بدأت القضية بعد الجنازة مباشرة.

****

من قليل من حكام الأسرة العلوية الذين توفوا على أسرّتهم كان الخديو توفيق، فقد مات منهم ثلاثة فى المنفى وواحد قتيل آخر مخرفًا، ثم أنه من جانب آخر كان أول من قضى نحبه بين هؤلاء بعد ان وقعت البلاد تحت الاحتلال الأجنبى واكتسبت المسألة المصرية طابعها الدولى، ولعل حادثة الوفاة قد نمت عن كل ذلك.

كشفت جملة "التلغرافات الخصوصية" التى أبرق بها بشارة تقلا من القاهرة إلى مركز الأهرام فى الإسكندرية عن تلك الحقيقة.

فبعد التلغراف الذى بعث به الساعة الثامنة وعشرين دقيقة من مساء يوم الخميس بأن "عزيز مصر المعظم توفاه الله فى نحو الساعة السابعة من مساء هذا اليوم فى قصره بمدينة حلوان" بدأ من صباح اليوم التالى يوالى جريدته بالأخبار بكل ما حملتها من دلالات...

التلغراف الأول ابرق به الساعة ثامنة والأربعين دقيقة، وقد جاء فيه: "اشتدت وطأة الداء على سموه من صباح الأمس وبدأ النزع عند ظهره وعند الساعة الأولى بعد الظهر حضر من مصر إلى سراى حلوان قنصلا فرنسا والروسيا الجنرالان"، وتفهم مبادرة ممثلى الدولتين الكبريين على ضوء إنهما كانتا من أولى الدول المعنية مع بريطانيا بالمسألة المصرية تشكل جانبًا منها.

ويواصل التلغراف تأكيد هذه الحقيقة عندما يتضمن الخبر بوصول السير بارنج، المعتمد البريطانى فى العاصمة المصرية إلى حلوان فى الساعة الرابعة حيث بقوا جميعًا إلى أن توفى الخديو بعد نحو ثلاث ساعات "فالتأم النظار بعد الوفاة ومعهم السير بارنج ولم يتقرر فى ذلك الالتئام إعلام الأستانة العليا" فقد كان على ممثلى سلطات الاحتلال انتظار تعليمات حكومته، والتى يبدوا أنها وصلته بعد سويعات قليلة، الأمر الذى نم عنه التلغراف التالى.

جاء فى الجانب الأول من هذا التلغراف: "أجتمع اليوم حضرات النظار بعابدين واجتمع معهم صاحب السعادة غرنفيل باشا وكتشنر باشا فتقرر أن يتم المشهد بالملابس الرسمية وان يؤتى بهيكل المغفور له من حلوان إلى عابدين"، مما يظهر التمثيل البريطانى القوى فى اتخاذ القرارات.

الجانب الثانى جاء فيه أن "الحكومة بعثت رسميًا بالخبر إلى الباب العالى"، مما يشير إلى أن التعليمات قد وصلت من لندن بالتصريح بإبلاغ الأستانة بالخبر.

وقد عبرت جريدة التايمز عن ذلك فى عددها الصادر فى نفس اليوم مما نقله الأهرام وجاء فيه أن وفاة الخديو "تزيل كل فكر بالجلاء، فإن سمو الخديو عباس باشا لا يستطيع أن يبقى وحده تحت خطر رد فعل ذى خطر شديد. أما العنصر الإنكليزى ووجود الجيش الإنكليزى والنفوذ البريطانى فمن شأنها أن تضمن تبوأه الأريكة الخديوية بسلام مع ثبوت حكومته"!

فى 8 يناير وبعد ان نقل جثمان الخديوى فى الصباح إلى عابدين بقطار خاص تم تشييع الجنازة فى تمام الساعة الثانية من خلال موكب طويل تصفه الأهرام بقولها أنه قد "تقدمه الكفارة وعساكر الجيش وأرباب الأشاير والفقهاء وتلامذة المكاتب (الكتاتيت) الأهلية والأمراء والأوروبيون والوطنيون ثم موظفو الحكومة العظام وقضاة المجالس المختلطة والأهلية ومديرو صندوق الدين والسكة الحديدية والدائرة السنية والدومين ثم الرؤساء الروحيون وقناصل الدول ثم النظار والبرنسات وأعضاء الأسرة الخديوية وشيخ الجامع الأزهر وحضرات العلماء ثم حاملو القماقم والمباخر وأولاد الكتاب والمنشدون الحاملون المصاحف ثم نعش الطيب الذكر".

وبينما يشير هذا الوصف إلى طبيعة البروتوكول الذى يتبع فى مثل هذه المناسبة النادرة فإنه فى نفس الوقت يتضمن وصفًا للطقوس الدينية التى كانت تتبع فى ذلك العصر فى جنازات كبار الشخصيات المصرية، إلا أنه مع هذا وذاك كان له دلالات أخرى.

من بينها الدلالة السياسية الظاهرة فى التمثيل الأجنبى فى الموكب، ولم يكن تمثيلًا دبلوماسيًا فحسب، وهو نوع من التمثيل العادى، وإنما كان هناك التمثيل لأولئك الذين يجسدون المصالح الأوروبية فى البلاد... قضاة فى المحاكم المختلطة، مدير صندوق الدين، مدير السكة الحديدية الإنجليزى.

من بينها أيضًا الدلالة الاجتماعية فقد بدأ بوضوح معالم الطبقة التى كانت تحتل أعلى السلم الإجتماعى فى مصر... البرنسات وأعضاء الأسرة الخديوية، حضرات النظار العلماء والأعلام، وجهاء القوم، موظفو الحكومة العظام، ويلاحظ فى هذا التوصيف أن مكاتب الأهرام قد حرص على التمييز بين هؤلاء وبين "عامة الناس بين رجال ونساء من كل جنس وطائفة وهم ملء الأرصفة وسطوح المنازل ونوافذها وشرفاتها يبكون ويتأوهون بما تنفطر له الأكباد ويتصدع له الفؤاد"!


وتمت الصلاة على الخديوى الراحل فى مسجد الحسين "ثم سار المشهد حتى بلغ به الحجرة المعدة لدفنه فى العفيفى فدفن بالاحتفال اللائق"، غير أن قضية وفاته الغريبة، أو النكتة السخيفة التى لم يصدقها المصريون عندما سمعوا لأول مرة، لم تدفن معه بل ظلت تتداول بينهم الأمر الذى عبر عنه الأهرام بعد ثلاثة أيام فقط من تشييع الخديوى إلى مثواه الأخير.

فقد جاء فى خبر منشور فى عدد الجريدة الصادرة يوم 11 يناير 1892 أن الطبيبين اللذين كانا قائمين على علاج توفيق، سالم باشا سالم وعيسى باشا حمدى، قد نويا على إصدار تقرير مطول يضمناه تاريخ مرض الخديوى وأسباب موته.

الأهم من الخبر ما جاء فى تعليق الصحيفة عليه والذى جاء فيه أنه "إذا صح ذلك فعلوا جميعًا خيرًا وسدادًا لأن الإشاعات كثيرة وغالبها فى غير ما يوافق حسن سمعة حضرة طبيبيه الخصوصيين المتقدم ذكرهما فالأجدر بهما والحالة هذه أن يضعا حدًا لمثل هاته الإشاعات المؤثرة"، الأمر الذى فتح بابًا مهمًا للقضية.

****

الباب قد انفتح بدءاُ من صباح يوم وفاة الخديوى حين شهدت صحته حالة من التدهور المفاجئ دعت مجلس النظار إلى اتخاذ القرار بعدم الاكتفاء بالطبيبين المعالجين، سالم وعيسى، وبادر بدعوة طبيبين من أشهر أطباء العاصمة، هما الدكتور كومانوس والدكتور هيس، ونقرأ معًا هذا التقرير الذى كتباه عن الزيارة.. جاء فيه:

"لقد استدعينا عند الساعة 4 من صباح يوم الخميس 7 يناير الجارى للذهاب إلى حلوان بقطار خاص لاستشارة طبية من أجل سموه فوصلنا إليها عند الساعة 5 والدقيقة 30 من الصباح فاستقبلنا سعادتلو الدكتور سالم باشا طبيب سموه الخاص وبوجيزة الكلام أعلمنا أن سموه أصيب منذ ثمانية أيام بالنزلة الوافدة التى لم يكن فى سيرها إلى أمس شئ غير طبيعى أو غير عادى وأن الحمى زادت فى الليلة الماضية فقط".

القصة التى رواها سالم باشا مختلفة فقد أشار أنه هو ورفيقه اللذان طلبا عقد "كونسلتو" من الأطباء لفحص الخديوى بعد تدهور حالته، وأن الطبيبين الأجنبيين قد جاءا بناء على هذا الطلب، ومختلفة أيضًا فى أنها كشفت عن حالة أفندينا خلال الأسبوع السابق.

هذه القصة نشرها الأهرام يوم 12 يناير فى التقرير الطويل الذى وضعه سالم باشا، وقد جاء فيه أنه علم يوم الجمعة أول يناير أن الخديو لم يؤد صلاة الجمعة بمسجد حلوان حسب عادته الأمر الذى دفعه إلى السفر إلى الضاحية على الفور "فوجدته داخل السراى منحرف الصحة وقد تعاطى شربة من المياه المعدنية صباحًا قبل وصولى"، وكانت هذه نقطة البداية.

وبين مساء الجمعة وفجر يوم الخميس التالى مكث سالم باشا فى حلوان يتابع حالة الخديوى المرضية التى وصفها يومًا بيوم بل ساعة بساعة فى تقريره الطويل الذى نشرته الصحيفة.

ومن بين التفاصيل الكثيرة والحافلة بالتعبيرات الطبية يمكن الخروج بالصورة العامة التالية..

* يوم السبت ارتفعت درجة حرارة المريض حتى تجاوزت 38 درجة مئوية غير أنها مع تعاطى العلاج الذى أمر به سالم باشا انخفضت بعد يومين إلى 37 درجة وخفت حالة السعال حتى ان "جنابة الفخيم" قد نوى على الخروج إلا أن الطبيب نصحه بالاعتكاف.

* صباح الأربعاء عادت درجة الحرارة إلى الارتفاع حتى اقتربت من 39 بعد الظهر "وكان جنابه يخاطبنى وقتئذ وهو مضطجع على سريره متمتعًا بجميع قواه العقلية" وأنه أشار بالاستمرار على نفس العلاج.

* فجر الخميس استدعى الرجل على وجه السرعة إلى السراى وأبلغ أنه قد أرسل قطارًا مخصوصًا لاستحضار الدكتورين كومانوس وهيس وعندما سمح له برؤيته وجد "أنه فى حالة تخدر (غيبوبة) زائد وضيق فى التنفس وانحطاط كلى فى القوى وخراخر صدرية وكانت الحرارة تبلغ 40 درجة"، وقد علم من الدكتور عيسى باشا الذى كان ملازمًا للخديوى أن هذه الحالة طرأت فى الساعة التاسعة، وفى أثناء ذلك وصل كومانوس وهيس، ويتوفر لدينا منذئذ تقريران لا تقرير واحد عن تدهور حالة أفندينا.. تقرير سالم وتقرير كومانوس!

الاختلاف بين التقريرين بدا فى الخلاصة التى إنتهى إليها تقرير سالم باشا، وبعض التفاصيل التى أضافها، ولم تكن هذه أو تلك بريئة تمامًا من محاولة التنصل من المسئولية، وهى مسئولية لابد وأن طبيب الخديوى الخصوصى قد شعر أنها شديدة الجسامة!

ربما كان أهم وجوه الاختلاف أن كومانوس وزميله هيس لم يوجها اهتمامهما فحسب إلى أعراض النزلة الوافدة بل بحثا عن أسباب أخرى ووجداها فى قصور فى وظائف الكلى، وعلى حد ما جاء فى تقرير الرجلين أنه مع خطورة حالة الرئتين فإنها "لم تكن لدينا سببًا كافيًا لما رأينا من الغيبوبة ولذلك وجهنا التفاتنا إلى أعضاء أخرى ولا سيما إلى الكلى وطلبنا من أجل ذلك تعليمات من الأطباء المعالجين عن نوع البول فأجابوا بأنه لم يكن فيه شئ غير عادى"، وهو ما ثبت عدم صحته عندما عاود الطبيبان زيارة الخديوى ظهر نفس اليوم فوجدوا عليه كل علامات التسمم البولى ونعود لتقريرهما مرة أخرى.. قالا "اضطررنا إلى أن نشدد بطلب البول فحيئذ علمنا بأن سموه لم يبل من الأمس فصبرنا بالقساطير واستخرجنا كمية من البول وكان لونه أسمر غامقًا فاتضح لنا من فحصه الكيماوى كثرة الزلال فأثبتت لنا هذه المشاهدة نوع المرض وهو أن سموه قد أصيب على أثر النزلة الوافدة بذات الرئة التسممية يرافقها التهاب فى الكلى من النوع ذاته وان لم يعد أمل فى الشفاء".

تقرير سالم باشا يتعامل مع هذه القضية بشكل مختلف، فيدعى أنه كان قد سأل الطبيب الملازم عيسى باشا، عن حالة البول "فأخبرنى أنه ليس هناك شئ مخالف"، وان ذلك قد تم قبل وصول كومانوس وزميله، وأضاف إلى ذلك أنه وجد أن الغدة التى أمام المثانة (البروستاتا) كانت وارمة ورمًا زائدًا، ويخرج من ذلك إلى القول:

"اتضح لنا أن البروستاتا كانت مريضة من مدة ولم أعلم بذلك إلى ذلك الوقت ولا بما كان جاريًا فى شأنها من المعالجة أو عدمها ولابد أن الكليتين والمثانة كانت فى حالة التهاب".

"الخلاصة" التى وضعها سعادة سالم باشا فى نهاية تقريره بعد أن لخص فيها الحالة وصل إلى القول أنه بعد ظهر الخميس فقط اتضح للجميع "أنه كان هناك مرض فى المجارى البولية والبروستاتا والكليتين وكان هذا غير معلوم عندى مطلقًا من قبل بل أخفى عنى.. وأن المضاعفة الخطرة التى كثيرًا ما تطرأ فى أثناء سير مرض الإنفلينزا قد ساعد على اشتدادها مرض المجارى البولية والبروستاتا".

ويتأكد من التقرير وخلاصته أن الطبيب الخاص لسمو الخديوى أراد إلقاء التبعية على الطبيب الملازم، وهو مالم يقتنع به المسئولون مما أكده سير الأحداث بعد ذلك، ومما جاء فى أخبار الأهرام..

الخبر الأول حمله العدد الصادر يوم 20 يناير وقد جاء فيه أنه "صدر الأمر الخديوى بعزل سعادة سالم باشا وتعيين حضرة الدكتور كومانوس بك حكيمًا خصوصيا لجنابة الفخيم وصدر الأمر العالى أيضًا لسعادة عيسى باشا بالتزام منزله".

ولم يتأخر كثيرًا فصل الآخر فيما أوردته الصحيفة بعد يومين فى خبر قصير جاء فيه "صدر الأمر العالى بفصل عيسى باشا حمدى من وظيفة طبيب الأسرة الكريمة"!

ويبدوا أنها عادة مصرية قديمة بدت فيما لجأت إليه الأهرام من التوسع فى أخبار النزلة الوافدة فى الداخل والخارج، لتبليغ المصريين رسالة فحواها "لسنا وحدنا"!

فهذا خبر من برلين عن اكتشاف طبيبين ألمانيين "للباشلوس" (الفيروس) فى دم المصابين بالنزلة الوافدة و"المظنون أن عدوى هذا الداء تنتقل بالبصاق"، وخبر آخر من إنجلترا بأن النزلة الوافدة "ثقلت وطأتها وقد تعدى حد الوفيات فى مدن كثيرة حده العادى"، وثالث من الأستانة جاء فيه "لا تزال النزلة الوافدة منتشرة عندنا وقد تفشت بغرابة لم يعهد لها مثيل"، أما فى مصر فقد استمرت الأهرام تتحدث فى كثرة من أعدادها عما "كان للنزلة فى هذا العام من فتكات هائلة وخطوب جسيمة"!

بيد أنه قبل إنتهاء موجه "الإنفلينزا" كانت التطورات السياسية تأخذ بتلابيب الأهرام، وقبلها جموع المصريين، الذين كان عليهم أن يودعوا الخديوى القديم ويستقبلوا الخديوى الجديد، فيما عبر عنه الأهرام بعد أيام قليلة من توفيق..

فلأول مرة تنقل الصحيفة عن وكالة الأنباء الفرنسية (هافاس) القول أن الجرائد الفرنسية قد أجمعت "على ان المغفور له الخديوى توفيق كان الطائع المنقاد لإنكلترا" (!)، ومع أن الجريدة قد نقلت هذا الرأى فإن مجرد نشره فى الصحيفة إنما كان يجمل إيماءه.. واضحة لوداع عصر الخديوى الراحل.

أما استقبال الحاكم الجديد فقد بدأ على الفور، وبعد أقل من ثلاثة أيام من وفاة توفيق، فقد جاء تحت عنوان كبير عن "سمو الخديوى عباس الثانى المعظم" ما نصه:

"هو الأمير الذى ينتظر منه الإقدام على عجائب الأعمال كما ينتظر منه العلم والفضل وغرائب الأفعال وهو الشيخ كاملًا فى صورة الفتى سنًا بل هو الكهل حكمًا وحلمًا وعلمًا فى صورة الشاب رسمًا" وكانت مجرد بداية لصناعة "أفندينا" جديد فى التاريخ المصرى الحديث، وربما القديم والوسيط أيضًا!


من أرشيف الديوان

الأهرام - السنة العشرون

* نستهل هذا العام وهو العشرون لجريدتنا بحمد الله على ما ذلل فى سبيلنا من عقبات خدمتنا العامة المفيدة وأيد بصحيفتنا من النهضات المصرية على المبادئ السديدة وبإسداء الشكر الخاص من الفؤاد الصادق الوداد إلى حضرات المشتركين والمكاتبين الذين أخذوا بيدنا انتصارًا للحق ورفعًا لشأن البلاد.

* تودع مصر العام الغائب غير آسفة عليه ولا حنانة إليه. فقد كان عامًا انكفأ فيه عليها من الحوادث المرة المذاق وكابدت فى أثنائه من الأتعاب والمشاق ومر به عليها من العبر والأحوال ما لم تكن تتوقعه ولم يخطر لها ببال.

الأهرام قبل مائة عام (2 يناير 1895)


صورة المقال: