ads

Bookmark and Share

الخميس، 3 ديسمبر 2020

075 أصحاب الكارات!

أصحاب الكارات!

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 29 ديسمبر 1994م - 26 رجب 1415هـ


أرباب الحرف الذين يسميهم الأهرام في غالبه كتاباته "أصحاب الكارات" (المهن) ناهز عدد طوائفهم في القاهرة وحده عام 1889، ثلاثمائة طائفة، فيما سجله على مبارك باشا في كتابه "الخطط التوفيقية" الصادر في ذلك العام، كما بلغ المنتسبين إليها 63.487 من أولاد الكار!

ونلاحظ من القائمة التي بها صاحب الخطط أن أكبر هذه الطوائف كان الحمارة فالنجارون تلاهم البناءون، وجاء بعدهم الزياتون فالجزارون فالصرماتية!

غير أن المعلومات التي قدمها على مبارك سواء عن أعداد هؤلاء أو عن اللوائح التي تنظم "كاراتهم"، قد اتسمت بقدر كبير من الطابع التقريرى، فالرجل بحكم أنه كان من أبناء العصر الذى سجل فيه تلك الحقائق لم يتفحص الوضع العام لهؤلاء، والذى كان يشى بأنهم إلى زوال، أو على الأقل إلى تآكل، وهو ما كشفت عنه أعداد الأهرام في العام المذكور وقبيله وأعقابه.

فنظار أولاد الكار أو أبناء الطوائف قد انحدر إلى مصر من عصر سابق هو العصر الاقطاعى، وكان يقوم على تنظيم محكم رباعى الأضلاع.. احتكار للكار أو الحرفة بشكل لا يتعدى معه عليها أي دخيل، تدرج في الكار من الصبى إلى العامل إلى الأسطى تحت إشراف دقيق من شيوخ الطائفة وبطقوس خاصة، وراثة لكار بأن يقوم الآباء بسقى الأبناء "لسر الصنعة" حتى أن أولاد الكار الواحد كانت تتشابك علاقاتهم الأسرية فيتحولون في النهاية إلى عائلة واحدة كبيرة، وأخيرًا شيخ للطائفة مسئول عن تنظيم كل علاقتهم مع السلطات.

وقد تصور البعض أن بناء الدولة الحديثة في مصر خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر قد أجهز على ذلك النظام، فمفردات هذه الدولة من سلطة مركزية وانتشار العلاقات الرأسمالية وانفتاح حارات الطوائف كان يفترض أن يؤدى في النهاية في انهيار البنيان الطائفى، وهو ما لم يحدث، وكان وراء ذلك أكثر من سبب..

كان وراءه أولًا أن التحولات الاقتصادية الاجتماعية لا تحدث بين عشية وضحاها، فمثل تلك التحولات حتى لو صنعتها حكومة مركزية، مثل الحكومة التي أقامها باشا مصر محمد على، والتي استخدمت الأساليب القسرية في صناعة التغيير، كانت تتطلب وقتًا.

وكان وراءه ثانيًا أن العلاقات الإنتاجية الرأسمالية بدأت حكومية حتى أن الاقتصاديين يصفون التغيير الذى حدث في مصر خلال النصف الأول من القرن "برأسمالية الدولة"، وكان مطلوبًا مرة أخرى بعض الوقت لتنقل هذه العلاقات إلى قوى اجتماعية، وتشكل أغلبها للأسف في البداية من عناصر غير مصرية.. من الوافدين من أوربا!

وكان وراءه أخيرًا الانفتاح على السوق العالمية، وهو انفتاح بدأ في ميادين محددة في عصر محمد على.. بيع المحاصيل النقدية للدول الأوروبية في مقابل شراء متطلبات الحكومة والجيش المصرى، وكان الأمر يتطلب وقتًا مرة أخرى تنتشر خلاله أنماط الحياة العصرية بين فئات اجتماعية بعينها أخذت في الاتساع مع الوقت، بما استتبع هذا الانتشار من الحاجة إلى سلع الأوروبيين والانصراف عن منتجات "أولاد الكار" ولعل الخديوى الأشهر إسماعيل عندما أطلق صيحته "أريد أن أجعل بلادى قطعة من أوربا" لم يكن يدرك عواقب هذه الدعوة على هؤلاء، ولكن صناعة التغيير، كما نتعلم من التاريخ، تخلف دائمًا بعضًا من الضحايا!

ولعل أهمية الثمانينات، العقد الذى وضع على مبارك كتابه في أواخره، والذى نتابع الأهرام في خلاله، أن أغلب تلك المتغيرات كانت قد نضجت إبانه..

رغبة حكومية جارفة في تنظيم طوائف "أصحاب الكارات" من الداخل، ظهور حرف جديدة لا تمت إلى الطوائف القديمة بصلة، حرف تنتسب للعصر الجديد.. عصر الانفتاح على معطيات لم يكن يعلم عنها "أولاد الكار القدامى" شيئًا، ونعتقد أنهم ناصبوهم العداء.. وأى عداء!، أخيرًا سياسات تقوم على رفض أساس من الأسس التي استمرت تقوم عليها الطوائف.. الأساس الاحتكارى الذى نجحت إنجلترا منذ عصر محمد على، وبعد معاهدة مشهورة عقدتها مع الدولة العثمانية عام 1838، في ضربة بالنسبة للدولة، ثم جاءت سياسات السلطة الاحتلالية لتقوضه بالنسبة للطوائف أو لغيرهم.

وتبرز قراءة الأهرام بامتداد ذلك العقد كل تلك الحقائق وأكثر، الأمر الذى كان يشى أولًا بأن "أولاد الكار" كانوا موجودين وبقوة حتى نهاية القرن التاسع عشر، وإن كان يكشف من جهة أخرى عن أن شمسهم كانت في طريقها إلى الغروب، فعجلة التاريخ لا ترحم!

***

فترة فارقة في التاريخ المصرى جعلت للعاملين في المواصلات داخل المدن من أبناء كار العربجية والحمارين أهمية خاصة.

بدت تلك الفترة فيما أصاب هذه المدن من خروج من أسوارها القديمة وانطلاقها لأحياء جديدة وصلت في بعضها إلى ضواح بعيدة، وبينما تم التعامل مع الأخيرة، الضواحى من خلال مد الخطوط الحديدة، الرمل بالنسبة للإسكندرية وحلوان بالنسبة للقاهرة، فإن ربط الأحياء القديمة بالجديدة وببعضها البعض من خلال وسيلة مواصلات حديثة لم يتم إلا في منتصف التسعينات، ومن ثم لم يكن أمام المصريين حتى ذلك الوقت سوى استخدام الأدوات القديمة، العربجية والحمارة، في عصر جديد.

التعليق الطويل الذى بعث به مكاتب الأهرام في القاهرة على هؤلاء ونشرته الصحيفة يوم 22 يونية عام 1889 انما ينم عن طبيعة التناقض التي تحفل بها مثل تلك الفترات الفارقة، حين يتداخل القديم والجديد على نحو لابد وأن يثير اهتمام المراقبين..

جاء في هذا التعليق أن أصحاب العربات والعربجية باتوا لا يسألون "بشئ فأصبحت أجرة العربة اجتهادية تفرض على الراكب بأم العربجى، وهو انما يكون جاهل الحرفة أو أرمد العينين أو سكيرًا يتمايل مع حركة العربة تلطم عجلات عربته الرصيفين فيظل الراكب مضطرب الفكر خافق القلب مخافة أن تلطم العربة أحد المارة فتميته، أو يصدم بها شجرة أو رصيفًا أو عربة أو حائطًا فتتحطم وتسحق أعضاء الراكب أيضًا أو يقضى عليه في الحال، وإما أن تكون قد ضاقت أخلاقه من قلة الشغل أو من كثرة التعب والحر أو الشتاء والبرد، أو كان صائمًا أو مختلًا لا يدفع لصاحب العربة غير نصف أجرتها ويريد أن تكون كثيرة فلا يرضيه غير ثمن العربة أجرة"!

وتبع المكاتب هذه الانتقادات للعربجية إلى ملاحظات حول حال العربات "التي ينفلت دولابها في كل مسافة مائة متر مرتين ومنها ما يكون محل العربجى مقسومًا إلى شطرين ومربوطًا بالخيوط، فإن جدت الخيل بالسير انقطعت تلك الخيوط وانقلب العربجى على الراكب وهكذا أما الخيل فمنها الصائم والهزيل والمريض والأعرج والجموح"!

ويخلص من كل ذلك إلى المطالبة بوضع "لائحة كاملة للشروط يشهدها أصحاب الكار. فتدون فيها جميع هذه الملحوظات، ويسأل البوليس في ملاحظة تنفيذها".

ولا ينسى المكاتب خفيف الدم أن يطرح البديل فيما لو لم تصدر الحكومة اللائحة المطلوبة بأن "يعين للعميان والسكيرين والجهلاء من العربجية عندما يساق إليهم أحد الركاب بالقضاء والقدر منادون يركضون أمامهم في الشوارع وينبهون على الناس بالحذر والتحفظ"!

ولم يمض وقت طويل إلا وكانت الحكومة قد استجابت لنداء الأهرام.. الأمر الذى عبرت عنه الصحيفة في أن "سعادة محافظ المحروسة" قد أدخل تعديلات ملحوظة على لائحة العربجية لتخفيف أضرارهم، ومنع المشاكل "الناجمة عن سوء تصرفاتهم مع الركاب بشأن قيمة الأجرة وغيرها.. وأن في عزمه أيضًا أن يطبع من اللائحة عددًا وافرًا، ويعطى لكل عربجى نسخة واحدة".

كان "العربجية" النموذج الأول الذى رصدته الأهرام ودعت من خلاله لتدخل الحكومة في شئون "أصحاب الكارات"، والذى كان. كما أسلفنا القول، بمثابة خطوة أساسية لتفكيك طوائف هؤلاء، وذلك بتعطيل أهم وظائفها.. وظيفة تنظيم شئونها.

وقد طالت يد الحكومة "الحمارين" بعد أن وصلت إلى العربجية، فبعد فترة قصيرة تنتشر الأهرام أن محافظة مصر وضعت "لائحة كاملة الشروط للحمارة".

ونشرت الصحيفة في عدد آخر ماهية هذه الشروط وكانت عديدة.. "أن يقيد الراغب في تعاطى هذا الكار اسمه ولقبه وجنسه بالمحافظة وأن يكون سليم البنية خاليًا من العاهات" وحينئذ يتسلم صفيحة منمرة ليضعها على رأس حماره"(!)، الأهم من ذلك أن المحافظة انتحلت لنفسها حق تعيين "شيخ ووكيل أصحاب هذه الحرفة".

احتل من يشتغلون بتجارة الأغذية مكانة هامة ضمن أصحاب الكارات الذين امتدت إليهم يد الحكومة.. جزارين، طباخين، باعة مأكولات.

كما هي عادة المصريين تمثل أثمان اللحوم معيارًا مهمًا لمستوى الأسعار، مما كانت تشى به الشكاوى التي كثيرًا ما ترددت على صفحات الأهرام.. منها هذه الشكوى التي جاء فيها "كثر استبداد الجزارين في اللحوم وأثمانها وهى شكوى طالما رددها سكان القطر جميعًا، فالأمل حسمها رحمة بالفقراء، ولم يمض وقت طويل ترديد مثل هذه الشكاوى إلا وكان سائر المحافظين والمديرين يضعون لوائح خاصة لأصحاب كار الجزارة.

شكاوى مماثلة صدرت في حق الطباخين الذين "وقد يبيت الطعام عند الواحد منهم ما يزيد على الخمسة والستة أيام.. ثم يبقى معروضًا للبيع فتشتريه العامة قومًا للحياة" فيكون سببًا من أسبابًا الحمى".

وشكاوى أخرى من الباعة والتي تعددت على نحو يفوق الطائفتين الأوليين.. فهم من ناحية "يزحمون الطرق حتى يحولوا دون مرور الناس كثيرًا"، وهم من ناحية أخرى "يحملون المأكل العفنة الكاسدة ولا سيما السمك والفاكهة المضرة، فإنها تباع عندهم بأبخس الأثمان فيغتر بها بعض الأهالى ولا يدرون عواقبها"، وهم من ناحية ثالثة يسمون المشترين "الخسف في الميزان فهم يضعون عوضًا عن عيارات (السنج) عيارات من الحجر الله أدرى بوزنها"!

وكرد فعل لكل تلك الشكاوى خرج محافظ العاصمة بنفسه يتفقد ما عليه الباعة من "خروج عن جادة العدل ولزوم الاختلاس واستعمال الموازين والمكاييل الزائفة، ولهذا عقد النية على سن لائحة يتعين بمقتضاها من مقتضاها من رجال البوليس من يعهد إليهم بالتفتيش على أعمال هؤلاء، وكانت خطوة أخرى في تشديد القبضة الحكومية عليهم أو بالأحرى تفكيك طائفتهم.

يبقى من أصحاب الكارات "طائفة الخدامين" والتي قدر على مبارك أعداد أبنائها في القاهرة وحدها بنحو ألفين وخمسمائة، وليس من شك أن زيادة أعداد أبناء هذه الطائفة في أواخر الثمانينات يعزى في جانبه منه ابطال تجارة العبيد فيما حدث بمقتضى معاهدة مصرية - انجليزية عام 1877 ممن ظلت بيوت الأغنياء في مصر تعتمد عليهم في الخدمة، وفى جانب آخر إلى اتساع طبقة كبار ومتوسطى ملاك الأراضى ونزوح أعداد منهم إلى العاصمة والمدن الكبرى حيث عاشوا في سرايات وبيوت كبيرة كانت تحتاج للخدم والحشم، فضلًا عن الجاليات الأجنبية العديدة التي احتاج أبناؤها لعدد من أصحاب هذا الكار للخدمة في بيوتهم.

وقد شكا مكاتب العاصمة الأهرامى من تدخل المحافظة في شئون هذه الطائفة لما "يتحمله أصحاب الأسر من العناء والمشاكل في استخدام الخدمة المجهولى البلاد والأصل، أو الذين يستخدمونهم بواسطة مشايخ المخدمين لأنهم إما أن يسلبوا ما تصل إليه أيديهم من أمتعة البيت وحلى النساء ويهربون، وإما أن يخدموا مدة خمسة أيام أو عشرة ويتركوا البيت الذى يخدمون فيه بإرشاد من مشايخ المخدمين بغية حصول هؤلاء أعلى الأجرة التي يفرضونها لأنفسهم قبل استحضار كل خادم أو خادمة"، ولما كانت محافظة القاهرة قد وضعت لائحة لأبناء هذا الكار واستمرت لنحو عام دون صدور، فقد ناشدت الأهرام "رفعها إلى جهة الاختصاص للتصديق عليها"، ولم يتأخر استجابة السلطات، وكان معنى ذلك أن يد الحكومة قد وصلت حتى لهؤلاء!

***

بدت علامات الوهن على نظام "أصحاب الكارات" أيضًا نتيجة لتلاحق التطورات على نحو لم يستطع هؤلاء التكيف معه، فإنشاء "قومبانيات" المياه وما قدمته من خدمات وصول المياه العذبة إلى المنازل قد أخذ ينهى مع الوقت دور طائفة من أهم تلك الطوائف.. طائفة السقايين، انتشار خطوط الترام في المدن استتبعه أن بارات بضاعة الحمارين والعربجية أو أغلبها، ودخول الآلات في عدد من الصناعات استتبعه بدوره أن لم يعد لما ينتجه هؤلاء نفس أسواقه القديمة.

وكما هي العادة في تلك المناسبات، فقد جرت مناقشات مستفيضة حول استخدام الآلات في تصميم بعض المنتوجات الحرفية وقد شاركت الأهرام في تلك المناقشات مؤكدة أنه لن يترتب على ذلك التأثير على "أصحاب الكارات" وإن لم تذكر أنها ستؤثر على طوائفهم.

قالت الصحيفة في عددها الصادر يوم 4 يونية عام 1889 دفاعًا عن الآلة: "ولقائل يقول إذا عولنا في الزراعة على الآلات فماذا تكون حينئذ حالة الحصادين وغيرهم من المشتغلين في الزراعة فتجيب أننا لو تأملنا قليلًا لوجدنا المسألة أقل أهمية مما تبدو لنا في الظاهر لأن الأراضى الغير المزروعة في بلاد مصر والتي تحتاج إلى يد الإنسان هي أكثر جدًا من الناس المشتغلين فيها.. ولأن كل تغير يحدث في نوع الأعمال يجر معه تغيير آخر موافقًا له في الاعتمال والذى يشك في ذلك فليقل لنا ما آلت حالة الجمالة والحمالة والبغالة والسقاة وغيرهم بعد ادخال السكك الحديدية إلى بلاد مصر وتوزيع المياه بالآلات"، وترد الصحيفة على ذلك بأن هؤلاء قد تحولوا إلى أعمال أخرى "اقتصدت من أتعابهم وزادت في أسباب كسبهم"!

علامة أخرى للوهن بدت في أن تبقوا رهن طوائفهم واستمروا يطالبون برفع الضرائب عنهم نتيجة لكساد بضاعتهم، وهى المطالبة التي عبرت عنها الصحيفة في مناسبات متعددة.

في المحلة الكبرى "اجتمعت طائفة الصباغين والزجاجيين وباعة الحرير وغيرهم وقدموا عرائض التماس ترفع لجانب الحكومة السنية لرفع عوائد الأملاك والويكو".

في الإسكندرية جاءت المطالبة "بمعافاة طوايف الحريمات الخدامات والحريمات شغالات الأقطان والخضرية والخبازات والبشاكرة واللبانات والفطاطرية والدايات وغيرهن من الحريمات". في ببا كانت أحوال هؤلاء أسوأ الى الحد الذى دفع سلطات المديرية إلى اتخاذ القرار بأن "يرفع ويركو أرباب الكارات" فيما نشرته الأهرام في عددها الصادر يوم 28 يونية عام 1889.

وبينما كان "أصحاب الكارات" القديمة تغرب شمس عصرهم، كان هناك أصحاب حرف أخرى تشرق لهم شمس جديدة.

فقد أدى تخلى الفئات العليا من المجتمع عن أنماط استهلاكهم القديمة والاقبال على الأنماط الأوربية أن أخذت تنشأ في البلاد إلى جوار أصحاب الكارات القديمة أصحاب حرف جديدة.

وتتعدد الملاحظات حول هذه التحول، فبالنسبة لأصحاب حرف عديدة والتي عرفت هذه الازدواجية شاع التمييز بينها.. أصحاب الكارات القديمة أصبحوا يعرفون بأصحاب الحرف البلدى مثل النجارين والمنجدين والخياطين، بينما عرف مقابلوهم بأصحاب الحرف الأفرنجى.

ملاحظة أخرى وهى أن التسمية بالافرنجى لم تنصرف فحسب إلى الطراز الذى ينتجه هؤلاء، بل انصرفت إلى أصحاب الحرفة أنفسهم، فقد اشتغل عديد من اليونانيين والأرمن والشوام بها، ولعل في غلبة اليونانيين عليه ما دعا إلى توصيفهم بالأورام.

يشير إلى ذلك الإعلان المنشور بالصفحة الأولى من عدد الأهرام الصادر يوم 12 يوليو عام 1889 إلى "أهالى مديرية المنيا عمومًا وجميع البلاد القبلية خصوصًا بأننا فتحنا محلًا كبيرًا في بندر المنيا معدًا لتفصيل الهدوم الافرنجية وخياطتها.. ومحلنا المذكور واقع في أحسن نقطة بالبندر بملك الخواجا ينى فر فرازيدى فنرجو تشريفنا للاطلاع على اتقان التفصيل ومتانة الخياطة وعد الامتحان يكرم المرء أو يهان" والتوقيع "أنطوان جوانى" خياط المنيا.

ملاحظة ثالثة أنه انخرط بين هؤلاء أصحاب حرف جديدة لم يعرفها أصحاب الكارات القديمة لعل أهمها حتى ذلك الوقت كان الساعاتية والمصوراتية.

ونتعرف على هؤلاء من صفحة الإعلانات أيضًا.. ونختار من العديد من الإعلانات عن هؤلاء إعلانين:

جاء في الأول أن "حضرة المصور الشهير الخواجا ليكيجيان وشركاءه استحضر إلى محله الكائن أمام أوتيل شبرت بمصر من آلات تصوير الشمس المختلفة الحجم ما هو أحكم صنعًا وأجزل اتقانًا.. ومن يريد أن يتخذ لنفسه رسمًا ينطبق على صورته ومثاله أن يعول في ذلك على هذا المتفنن في ضروب التصوير البالغ حد النهاية في الاتقان"!

أما الإعلان الثانى، فقد جاء من الإسكندرية وكان عن محل "الخواجة جوانى هنيسله الساعاتى المشهور بأن صار نقلة إلى سراى مونفيراتو بالدور الأول على ساحة المنشية فوق مخازن الخواجات جولدنبرج".

ويبد أن استئثار الأجانب بهذه الحرف الجديدة قد أقلق "أحد قراء الجريدة الأفاضل" الذى أرسل مقالًا للأهرام نشرته له في صفحتها الأولى في عددها الصادر يوم 22 نوفمبر عام 1889 يحذر الآباء الذين يعلمون أبناءهم بهدف إلحاقهم بالوظائف التي عزت، ويطالب الحاقهم بحرفة من تلك الحرف التي أخذ الأجانب في احتكارها.. "نجارًا أو خياطًا أو صباغًا أو دباغًا بدلًا من حالة من لا شغل لهم إلا فتل شواربهم وعدل الطربوش من اليسار إلى اليمين ومن الأمام إلى الوراء"!.

وإذا كانت هذه الصرخة من "قارئ الأهرام الفاضل" قد استغرقت وقتًا طويلًا حتى تجد من يستمع إليها أو يعمل بها، فانها كانت لها دلالة بالغة فيما أصاب نظام الطوائف الذى لم يكن يسمح بدخول الغرباء في بنيته، ناهيك عن أن يكون هؤلاء الغرباء من الأفندية أصحاب الطرابيش!


صورة من المقال: