ads

Bookmark and Share

الأربعاء، 11 نوفمبر 2020

069 الدراويش على الحدود

الدراويش على الحدود

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 17 نوفمبر 1994م - 13 جمادى الآخرة 1415هـ


أربع سنوات من الكوميديا السوداء عرفتها حدود مصر الجنوبية انتهت في صيف عام 1889.

وجه الكوميديا أن القائمين على أمور الدولة المهدية في أم درمان قد أرسلو حملة إلى حدودهم الشمالية لتغزو مصر.. قوام هذه الحملة التي كان يقودها أحد أمراء المهدية، وهو عبد الرحمن ولد النجومى، خمسة آلاف من الدراويش الجائعين، الفقراء في الأسلحة والامداد، الأغنياء في النساء والعيال، فقد كان من تقاليد حروب الدراويش أن تكون أسرهم بصحبتهم لبث الحمية في نفوسهم!


أما الوجه الأسود من الكوميديا فان هؤلاء قد استمروا يسببون نزفًا ماديًا وسياسيًا لمصر كان من الأسباب التي مكنت سلطات الاحتلال من توطيد أقدامها في البلاد.

عبر الأهرام عن ذلك في مقال طويل في صدر عدده المؤرخ في 10 أغسطس 1889 كان مما جاء فيه: "مر علينا من يوم تركنا السودان إلى الآن نحو سبعة أعوام وحالتنا معها واحدة ذلك أن السودانيين يهاجموننا فندفع عنا شرهم ونستظهر عليهم ببسالة جنودنا فينكفئون ويعودون على الأعقاب خاسئين فنثبت بشرى النصر ويهدأ بالنا من الخوف والقلق مدة شهر أو شهرين ثم نعود إلى نغمة الطنبور فنفعل ما فعلنا في الأول ويتلوه تلوه والحالة واحدة.."!

وقد حفل عديد من الكتابات العلمية بتفاصيل هذه الكوميديا السوداء حتى يبدو وكأنه لم تعد ولا تفصيلة صغيرة من تفصيلاتها مجهولة للقارئ، ولكن القراءة الفاحصة لصحف العصر أثبتت عدم صحة هذا الظن وأضافت الجديد حيث لم يكن يتوقع الانسان أن يعثر على جديد.

هذا بالضبط ما فعتله قراءة الأخبار الخاصة بالوجود الدرويشى على الحدود المصرية في الأهرام خلال تلك السنوات..

بعض هذا الجديد خاص بماهية الحدود المصرية التي كلف الجيش المصرى بالدفاع عنها، البعض الآخر متصل بالحياة اليومية على تلك الحدود، البعض الأخير متعلف بالجانب الانسانى من الموقعة الشهيرة التي جرت في البلدة الواقعة شمال وادى حلفا في 3 أغسطس 1889.. والتي كتب المؤرخون اسمها "طوشكى"، وإن كانت صحف ذلك العصر، على رأسها الأهرام، قد أسمتها "توسكى"!

***

نبدأ بالجديد الخاص بالحدود، ومعلوم أن فرمان 13 فبراير عام 1841 قد منح حكم مصر وراثيًا في أسرة محمد على فضلًا عن الملحقات، ومنذئذ وفى الخريطة المرفقة بالفرمان جرى تمييز بين ما أطلق عليه "مصر الأصلية Egypt Proper" والملحقات بخط يمتد بطول خط عرض 21 درجة و5 دقائق، وهو ما اتفق أن تنسحب القوات المصرية إليه بعد القرار بإخلاء السودان منها.

ومع أن الكتابات العلمية تشير إلى النقطة التي تمثل خط حدود مصر الأصلية عند مجرى النيل، وادى حلفا على وجه التحديد، إلا أنها لا تشير من بعيد أو قريب إلى هذه النقطة عند ساحل البحر الأحمر، خاصة فيما يتصل بحلايب، وهل هي جنوب هذا الخط أو شماله، غير أنه وفى مجموعة متلاحقة من الأخبار يقدم الأهرام تقريرًا كاملًا عن هذه النقطة.

أول ما يلاحظ في هذا التقرير أن الجريدة كانت تكتبها "هلايب" وليس "حلايب".

الملاحظة الثانية أنه قد تم توفير حماية عسكرية مصرية لآبار حلايب منذ وقت مبكر، على وجه التحديد في أبريل عام 1888 حين تعرضت مع آبار المناطق المجاورة إلى تسرب درويشى الأمر الذى دعا سردار الجيش المصرى إلى أن يبعث "بقومندان الأورطة السودانية مع بشير بك شيخ قبيلة العبابدة لاحتلالها وطرد الدراويش وتنظيف المنطقة منهم" عل حد تعبير الأهرام.

تبع ذلك وفى شهر مايو من العام التالى، 1889، أن نشرت الصحيفة ثلاثة أخبار نرى أنها على قدر كبير من الأهمية في التأكد على نقطة الحدود المصرية على البحر الأحمر، مما يدعونا إلى أن نسوقها بنصها:

الخبر الأول في الأهرام الصادر يوم 10 مايو من ذلك العام وكان نصه:

"جاء من حضرة الكولونيل هولد سميث في سواكن أن طابية هلايب، وهى بلدة تبعد نحو 200 ميل عن سواكن، سيتم بناؤها بعد سبعة أيام ولهذا قد عادت الثقة إلى الأهلين وعاودا أشغالهم بالطمأنينة أما الدراويش الذين كانوا يحاولون الهجوم على تلك الأنحاء فقد تأخروا عنها واتخذوا لهم مركزًا في نقطة تبعد عن هلايب نحو العشرين ميلًا إلا أنه يخشى أن يعاودوا الكرة في الجهات المذكورة، أم قبيلة البشاريين فمنتشرة في طلب المرعى".

الخبر الثانى في العدد الصادر بعد 19 يومًا وجاء فيه: "ارتأى سعادتلو هولد سميث باشا قومندان سواحل البحر الأحمر بوجوب مساعدة سكان قرية هلايب مما يسد عوزهم إلى أمد قليل ويمكنهم من القيام بالأعمال المساعدة لهم على الكسب وذلك على اثر ما أصابهم من المضار والفاقة في الموقعة التي جرت بينهم وبين الدراويش في الشهر الغابر".

الخبر الأخير بعد يومين وقد جاء فيه: "قرر سعادلتو سردار الجيش المصرى بأن قبيلة البشاريين القاطنة جهة الهلايب، بلدة بقرب سواحل البحر الأحمر، حفاة عراة لا يملكون قوت يومهم وأن حالتهم هذه تستدعى شفقة الحكومة عليهم ومساعدتها الضامنة سد عوزهم إلى أجل محدود وقد عرض قراره على مجلس النظارة فقرر إجابة سؤاله"!

ولعل مراسل الأهرام على حدود مصر الجنوبية في ذلك الوقت المبكر، وقبل أكثر من قرن من الزمان، لم يكن يعلم وهو يبعث بتلك الأخبار أنه يوفر لحكومة القاهرة كل البراهين القانونية التي تؤكد على مصرية هذا الميناء وتلك المنطقة، بناء الطابية، القوة العسكرية، ورعاية الأهالى كبعض مظاهر السيادة التي تؤكد على صحة امتداد خط حدود مصر الجنوبية من وداى حلفا على النهر إلى حلايب على البحر.

***

الجديد الآخر الذى أضافته الأهرام تلك المعايشة اليومية التي وفرها لقارئه خلال تلك السنوات والتي لا تعتى بها في العادة الوثائق التي تستمد منها الكتابات العلمية أغلب رؤاها.

نتأكد من طبيعة تلك المعايشة على الأهمية التي كان يعلقها الجانب المصرى على تسقط أخبار الدروايش وعلى حقيقة نواياهم بالهجوم على بر مصر!

والملاحظ أن أغلب الأخبار التي كان يأتي بها الجواسيس للقيادة العسكرية المصرى في وادى حلفا قد اتسمت بطابع الطمأنة، فهى إما دارت على أن الأحوال داخل الدولة المهدية في حالة تدهور مستمر وإن سقوطها وشيط، وإما قللت من أهمية الوجود العسكرى الدرويشى على الحدود وأن ليس ثمة ما يخيف من هجوم حقيقة تقوم به، وأن الأمر لن يتعدى الغارات المتقطعة.

عن تدهور الأحوال يروى مراس الأهرام أنه قد قابل من أسماه "أحد الوجهاء السودانيين القادمين من أم درمان"، وأن رأى هذا الوجيه أن "الثورة السودانية قد أصبحت في الأيام الأخيرة اسما لا مسمى لها لأن الدراويش الموجودين تحت قيادة بعض الرؤساء المقربين إلى الخليفة عبد الله التعايشى انما هم مكرهون على الطاعة يترقبون أقل الفرص للهرب"!

مرة أخرى يكتب نفس المراسل، من اسنا هذه المرة، والتي اتخذها مقرًا لتلقى الأنباء، أن سودانيًا وصل إلى المدينة وأبلغه أن "خليفة المتمهدى قليل الجند لتفرق الأهالى إلى مساكنها"!

مرة ثالثة يكتب سليم تقلًا نفسه مقالًا تحت عنوان "لمحة في حالة السودان" يتحدث فيه عن "تفرق الكلمة بين السودانيين وسقوط نفوذهم فلم تبق لهم تلك الشكة التي قامت بالمتمهدى نفسه فإن القوة الطبيعية القائمة بالشخص لا يمكن أن تنتقل بالميراث أو بالوكالة"!

أما عن أخبار الطمأنة فقد استمر مراسل الجريدة على الحدود يدفع بهذا النوع من الأخبار بامتداد السنوات الثلاث الأولى، وحتى أواخر عام 1888، وهذه بعض الأخبار من ذلك النوع الذى استمر الأهرام يطلع بها على قرائه بين الحين والآخر..

"الحالة العمومية في راحة تامة والعساكر يتمتعون بصحة جيدة وإن الأمير سعيد الذى كان في جهة فركة مع ثمانين نفرًا من الدراويش الخيالة قد صدر له الأمر فعاد مع الخيالة المذكورين إلى دنقلة".

خبر آخر: "جاء من وادى حلفا أن الحالة العمومية جيدة وأن الأهلين والعساكر في راحة تامة"، وخبر ثالث بعده بأيام قليلة من وادى حلفا أيضًا يفيد "استتباب الراحة والسكينة لأنه قد مضى أيام عديدة ولم يتردد العصاة عليها وأن النقطة العسكرية مستكملة لمعدات الدفاع"، وخبر رابع وخامس وعاشر وكلها تعزف نفس النغمة.. النغمة المطمئنة!

وعندما جاءت الأحداث لتكذب تلك الأخبار كان صاحب الأهرام أول المنتقدين لمصادرها، فقد كتب مرتين على الأقل يتحدث عن عدم الوثوق من مصادرها..

قال في مرة أن "جميع ما يتصل بنا من أخبار السودان في هذه الأيام الأخيرة سواء كان مصدر رسمي أو من إشاعات منقولة أشبه بالحكايات الملفقة التي لا يرجع في حجتها إلى اسناد"، وكتب في المرة الثانية بأنه منذ ظهور المسألة السودانية فإن "الوثوق بمصادر أخبارها ومخبرى حوادثها رابع المستحيلات"!

جديد آخر أضافه مراسل الأهرام على الحدود خاص بعمليات الاختراق التي استمر الدراويش يقومون بها لتلك الحدود، وكان وراء هذا الاختراق دافعان ذكرهما الأهرام..

الدافع الأول بث الدعاية المهدية خاصة بين القبائل المقيمة في مناطق الحدود المشتركة، وكانت هذه العملية تتم إما بدفع أفراد أو إرسال قوات صغيرة.

الدافع الثانى البحث عن مصادر للمياه والغذاء، فقد قامت سياسة القوة المصرية المعسكرة في وادى حلفا على منع الدراويش المقيمين على الحدود من الاقتراب من النهر أو الوصول إلى القرى التي يحصلون على احتياجاتهم الغذائية منها، وكان هذا المطلب على قدر كبير من الأهمية بالنسبة لقوة دولة من دول العصور الوسطى مثل الدولة المهدية، التي تترك لقواتها حرية التقوت من المناطق المعسكرة فيها دون أن تضع على عاتقها أية التزامات بخطوط امداد أو تموين كما هو الأمر بالنسبة للجيوش الحديثة التي كان يمثلها الجيش المصرى الموجه.

وقد تكررت حوادث الاختراق تلك، كان أهمها ما جرى في ربيع 1888 في كلابشة الواقعة بين أسوان ووادى حلفا التي أثارت قلقًا عميقًا في الدوائر العسكرية في القاهرة عبرت عنه الأهرام بأن "أخبار السودان مقلقة غير حسنة بعد وقعة الكلابشة على مقربة من أسوان".

ووضع الأهرام احتمالين لهذا الاختراق.. أولهما "أن يكون الدراويش من تلك الواقعة مجرد السلب والنهب"، وهو الاحتمال الذى لم يزعج القائمين على الأمر في القاهرة كثيرًا، ما أزعجهم حقيقة هو الاحتمال الثانى أن يكون "قصدهم قطع المواصلات عن وادى حلفا، فيكون الأمر عندئذ "مهم خطير" على حد تعبير الأهرام، والذى نظن أنه كان رأى السلطات العسكرية في القاهرة والتي عبرت عنه بطريقة عملية.

ففي مجموعة من القرارات العسكرية التي نشرتها الصحيفة جاء رد فعل القيادة العسكرية للجيش المصرى.. بدأت بالأمر العسكرى الصادر في 7 أبريل بوضع "سكان الحدود السودانية من أسوان حتى وادى حلفا تحت الأحاكم العرفية" وانتهى بالمنشور الذى أصدره سردار الجيش المصرى إلى مشايخ الحدود في 16 مايو "أظهر لهم فيه أن جميع البلاد الكينة بين خور موسى إلى الجهة البحرية انما هي محافظة واحدة تحت إدارة الميرالاى ودهوس بك قومندان جيش الحدود".

وبدأت بذلك مرحلة جديدة من مراحل وجود الدراويش على حدود بر مصر، وكانت مرحلة تنذر بهبوب العاصفة، الأمر الذى لم يتأخر كثيرًا!

***

العاصفة التي هبت على حدود مصر الجنوبية خلال صيف عام 1889 بمحاولة الدراويش اقتحامها والتقدم شمالًا الأمر الذى انتهى بموقعة طوشكى الشهيرة، أغلب تفاصيلها معروف إلا بعض جوانبها الإنسانية.

من هذه الجوانب أن ولد النجومى لم يسع طوال الوقت إلى الدخول في مواجهة مع الجيش المصرى المرابط في وادى حلفا، بالعكس قامت خطته على الالتفاف حول هذا الجيش والانطلاق شمالًا إلى حيث كان يتوقع وجود الأنصار من "أهالى الجهات البحرية" في انتظاره ليكتسحوا أمامهم جيوش الخديوى والانجليز، وهو ما تنبه له السردار الذى كان قد ذهب في أوائل يوليو مع رجال القيادة إلى وادى حلفا لمواجهة الموقف.

قامت خطة قيادة القوات المصرية في جانب منها على انهاك قوات ولد النجومى بحرمانها من الاقتراب من المياه وتركها تموت عطشًا..

يشير إلى ذلك الخبر الذى جاء في الأهرام الصادر يوم 9 يوليو وقال: "جاء من الحدود أن ولد النجومى متربص مع بعض القوة في بلدة يقال لها فراس عل بعد ثلاثة أميال من معسكر سعادلتو ووردهاوس باشا وأن المراكب الحربية والعساكر واقفة لهم بالمرصاد مانعة عنهم ورود المياه".

خبر آخر أكثر مأساوية عن حاجة الدراويش للمياه جاء فيه أنهم "عاودوا الكرة في طلب الماء فقتل منهم خلق كثير حتى اضطروا أن يبعثوا بالنساء لجلب الماء فكانت الحامية تقبض عليهن ثم حاول بعضهم الكرة في طلب الماء فقتل منهم نحو عشرين.."، باختصار فان ما يمكن أن نسميه "معركة الماء" كان قد خسرها الدراويش قبل المواجهة في طوشكى بأيام غير قليلة.

جانب آخر من الخطة قام على أساس حرمان الدراويش من أية معونة محتملة من أهالى الجهات البحرية، وقد تم ذلك على المستوى الخططى بمنعهم من الالتفاف والتقدم شمالًا للالتقاء بأنصارهم وبإدخال الرعب في قلب كل من يفكر في الانضمام إليهم.

لعل ذلك الخبر الذى نشره الأهرام بعد النجاح الباهر في أسر بعض الدراويش الذين هاجموا بلدة تدعى أرقين يدلل على السياسة التي اتبعت لمنع أي من المناصرين من الانضمام إليهم.. جاء في هذا الخبر  أن "في نية قومندان الحامية أن يضرب الأسرى بالرصاص بحضور الأهالى وفى المحل الذى حصل فيه النهب وانه سيبقى على الأصغر منهم فقط".

وقد بدأ فشل خطة الدراويش في جانبها الانسانى من الخطاب الذى يفيض بأسًا ووالذى أرسله النجومى إلى أن درمان قبيل توشكى بيومين جاء فيه "لم يأتنا من أهل ريف مصر وارد ولا معرج ولا راغب في الدين.. فلكهم قاموا في عون الكفر وحزبوهم كل تحزب من عهد دخولنا ديارهم إلى الآن"!

ويندهش المرء في هذا الجانب الانسانى أيضًا أنه بالرغم من الموقف السئ الذى كانت تعانى منه قوة الدراويش فانه عندما كتب السردار لولد النجومى بطلب الاستسلام جاء رده كام أورده الأهرام في عدده الصادر في 26 يوليو "اننى لا احتسب قوتك أمامى بشئ وأعلم أن عنايتى ليست هي نقطة معينة كما تظن بل نقطتى هي العالم الذى تجب عليه هدايته.. فانتصح لى واستأمن وتذكر هكس وغوردون وكيف أن جيوشهما لم تغن عنهما شيئًا".

وتحتدم المعركة كما خططت لها قيادة الجيش المصرى وتنتهى بقتل ولد النجومى ومعه 12 أميرًا "وتشتت شمل الدراويش وقتل منهم الخلق الكثير وأسر العدد العديد واستولى الهلع والرعب على قلوب الباقين" وتنتهى عند هذه النتيجة رواية الكتابات العلمية ولكن لا تنتهى رواية الأهرام التي عنيت عناية خاصة بمصير الأسرى.

أول خبر عن هؤلاء جاء فيه أنه تقرر نقلهم إلى العاصمة على أن يحتجزوا في قشلاق السراى الحمراء بالعباسية.

الخبر الثانى من مراسل الأهرام في أسيوط والذى صعد إلى أحد المراكب الحاملة للأسرى السودانيين القادمة من حلفا "وعددهم كان في الأصل 100 توفى منهم خمسة ووجدتهم في حالة من الفقر وجميعهم عراة وبنيتهم ضعيفة جدًا وأخبرنى حضرة الملازم المرافق لهم أن الخوف لا يفارقهم والجوع لا ينقطع عنهم"!

غير أنه مع مرور الأيام اتضح زيادة أعداد هؤلاء على نحو فاق كل توقع حتى بلغ "نيفًا وثلاثة آلاف نفس بين رجال ونساء وأولادهم" وتقرر مع تلك الزيادة توزيعهم "على جميع المديريات وتنفق عليهم الحكومة من خزينتها إلى أن يتيسر لهم أعمال تكسبهم أجرة تقوم أودهم وقد بلغ عدد الجرحى منهم المايتى نفر وصل منهم الى استبالية أسيوط وغيرها من الاستباليات نحو الستين نفرًا".

ويرسل مكاتب الأهرام في ديروط بوصول 500 من هؤلاء تقرر اقامتهم في ملوى "وجميع هؤلاء الأسرى في حالة يرثى لها من الذل والجوع وأكثر من نصفهم أولاد ونساء".

وجاء آخر الأخبار عن هؤلاء من مكاتب الأهرام في سوهاج، وكان خبرًا مأسويًا بكل المقاييس، وندع للرجل روايته.. قال:

"ما أذنت الحكومة بإعطاء الأسرى السودانيين لمن يرغب حتى تزاحمت عليهم الأيدى وتنوعت فيهم الرغبات"، ومع أن المكاتب رأى في ذلك انقاذًا لهؤلاء من مناكيد الحظ إلا أنه نبه إلى أن البعض يسعى من وراء هذا إلى إعادة نظام الاسترقاق الذى "لم يعد خافيًا بين العموم اتحاد الحكومات على منعه"، وتحول التنبيه إلى تحذير لذوى الأمر أن يتخذوا الاحتياطات بحيث لا يبيحون لمن يرغب زواج النساء منهم إلا بإذن من جهة الاختصاص إذ ر بما تكون المرأة ذات بعل حكمت بينهم التفرقة بالافتراق"!

ولعل هذا الخبر الأخير يوضح أن ما بدأ في أول الأمر كوميديا قد صل في نهايته إلى لون من التراجيديا لم يكن القائمون على الحكم في أم درمان يدركون يقينًا أبعاده عندما أقدموا على مغامرتهم باختراق حدود بر مصر!


أخبار اليوم فى أرشيف الديوان


صدرت أمس صحيفة «أخبار اليوم» لصاحبها الصحفى البارع الأستاذ مصطفى أمين بك وهى حافلة بمقالات مدججة بقلمه وأقلام طائفة من الكتاب المعروفين كالدكتور محمود عزمى وتوفيق الحكيم والسندباد المصرى والصاوى وابن البلد وغيرهم. وهى حافلة بالأنباء والصور الكاريكاتورية.. وقد جاء فى تقديم هذه الصحيفة للقراء: «نريد جيلا جديدًا من الرجال والنساء وطنيًا متحمسًا، يضحى بنفسه فى سبيل رأيه، ولا يضحى برأيه فى سبيل شخصه، نريد للشباب كرامة لا غرورًا، ووطنية لا تعصبًا، وإيمانًا لا ادعاء».

فنرجو لأخبار اليوم النجاح كما نرجو لها التوفيق فى تحقيق أهدافها الوطنية.

● الأهرام الأحد 12 نوفمبر عام 1944 ●


صورة من المقال: