ads

Bookmark and Share

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

064 جنينة الأزبكية

 جنينة الأزبكية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 13 أكتوبر 1994م - 8 جمادى الأولى 1415هـ


الشهادة الأولى عن حديقة الأزبكية التي شاع تسميتها "بالجنينة" سجلها المؤرخ المعروف الشيخ عبد الرحمن الجبرتى في يومياته عن شهر مارس عام 1800، وكانت تسمى وقتئذ بالبركة.. جاءت هذه الشهادة على لسان "صديقنا العلامة والنحرير الفهامة الشيخ حسن العطار" أستاذ رفاعة الطهطاوى وشيخ الأزهر فيما بعد...

الشهادة طويلة نختار منها مطلعها والذى جاء فيه:

"بركة الأزبكية هي مسكن الأمراء وموطن الرؤساء أحدقت بها البساتين الوارفة الظلال العديمة المثال، فترى الخضرة في خلال تلك القصور المبيضة كثياب سندس خضر على أثواب من الفضة، يوقد بها كثير من السرج والشموع فالأنس بها غير مقطوع ولا ممنوع"!


وانهى هذه الشهادة بقصيدة من عشرة أبيات جاء في أولها القول:

بالأزبكية طابت لى مرات...

ولذا لى من بديع الأنس أوقات

وإن كانت الأحداث التاريخية تؤكد هذا الجانب المتفائل من الشهادة فإنها تشير في نفس الوقت الى أحداث جسام جرت على ضفاف البركة، فمواطن الرؤساء، حسب تسمية الشيخ العطار لم تكن دائمًا مواطن الأنس فيما صوره..

اغتيال الجنرال كليبر القائد الثانى للحملة الفرنسية الذى كان يتخذ من أحد القصور المطلة على البركة مقرًا له وفع في جانب من "البساتين الوارفة الظلال، يوم السبت 14 يونية عام 1800، ومحاولة اغتيال محمد على من جانب الجنود الأرنؤود بعد نحو عقد ونصف دفعته إلى أن يترك قصره الكائن على البركة ليصعد إلى القلعة.

رغم ذلك استمرت منطقة الأزبكية بعد بناء الدولة الحديثة خلال القرن التاسع عشر تكتسب أهمية متزايدة كلما مر الوقت وجد جديد في هذا البناء مما نستفيده من الشهادة الثانية التي لدينا في هذا الشأن..

الشهادة التي قدمها على مبارك باشا رائد الحديث المصرى الشهير، والأهم من ذلك، ناظر الأشغال في الوزارة المصرية التي كان تطوير المنطقة يقع في دائرة اختصاصه..

الشهادة جاءت ضمن كتابه المعروف "الخطط التوفيقية" الصادر عام 1305 - 1306 هـ أي بعد الشهادة الأولى بنحو تسعين عامًا جرت خلالها مياه كثيرة في البركة مما نتابعه في هذه الشهادة...

أول ما يدلى به الرجل في شهادته أنه عندما تولى محمد على الباشوية لم يكن موجودًا في القاهرة سوى ميدانين.. الأزبكية غرب القاهرة وقرة ميدان قبليها، وقد انصرف اهتمام باشا مصر المرموق إلى الميدان الأول الذى خلف عليه بصمتين مؤثرتين.. انشاء سراى لابنته زينب والتي عرفت "بسراية الأزبكية" الثانية تمثلت في البستان الذى تحول فيما بعد إلى الجنينة المشهورة.

الجانب الثانى من الشهادة تناول فيه كيف تم هذا التحول، الأمر الذى جى في عصر إسماعيل..

بعض من هذا التحول تمثل في اختفاء البركة بعد تجفيف أغلبها ليتحول إلى ميادين عديدة مجاورة.

الجانب الثالث بدا في الاصطباغ بالطابع السياحى ونترك الكلام لعلى مبارك الذى تحدث عن إقامة "اللوكاندة الخديوية وكان انشاؤها بمعرفة جمعية انجليزية ثم اشتراها الخديو إسماعيل وبيعت بعد ذلك لأحد التليانيين المعروف بالخواجة جوزيف اللوكانتجى"، وتحدث أيضًا عن الجزء "الذى أخذ من قبليها وعمل بعضه تياترو"!

الجانب الأخير كان في "تنظيم البستان" بالاستعانة بالخبرة الأوروبية وهو في هذا فعل ما فعله في كثير من أعماله العمرانية التي أقامها في القاهرة أو خارجها بالاستعانة "بالمهندس باريل بى المشهور في تنظيم البساتني".

وكان ذلك ايذانًا بمولد الجنينة التي لم تكن مجرد متنزهًا عاديًا بل شكلت جانبًا من التاريخ المصرى رصدت الأهرام الكثير من أخباره، ولا نريد أن نقول أسراره(!)

***

جملة من الملاحظات ينبغي تسجيلها قبل الدخول إلى الحديقة خلال ثمانينات القرن الماضى، وهو العقد الذى بدأت خلاله تتخذ مكانتها في المحروسة..

* أنه مع ما شهده هذا العقد ومن الامتداد العمرانى للمدينة خارج أسوار القاهرة القديمة تغير موقع الأزبكية من منطقة ضواحي يقطنها أمراء المماليك أو كبار الأعيان إلى منطقة تتوسط المدينة الجديدة، بحيث يمكن القول أنها أصبحت بمثابة سرتها!

* مع هذا التغير عرفت المنطقة المجاورة انشاء الفنادق، وإذا كانت شهادة على مبارك قد تضمنت جانبًا من هذه الظاهرة فلدينا شهادة أخرى من الأهرام جاءت في أخبار عديدة نختار منها الخبر المنشور في العدد الصدار في 5 ديسمبر عان 1887.. جاء فيه:

"صاحب الأوتيل دوريان الكائنة في قسم الأزبكية قد حسن فيها تحسينًا كليًا فأصلح نوافذها وجدد جميع مفروشاتها وأدواتها واستحضر لها بعض المشروبات والأوانى الجيدة وجعل فيها خدمة (عمال) من جميع الأجناس تسهيلًا للذين يقيمون فيها فأصبحت أعظم لوكاندات القاهرة فرشًا ونظافة وخدمة"!

يلفت النظر في هذا الإعلان التنويه بالمشروبات، الروحية طبعًا، والتي كانت تعنى الأجانب قبل المصريين، فضلًا عن العمال من كل الأجناس الذين كانوا ييسرون مهمة الخدمة لهيئة الأمم الأوربية التي كانت تعيش في مصر وقتذاك، يونانيون وايطاليون وفرنسيون وانجليز وألمان وروس، ولعل تلك الحادثة الطريفة التي رواها الأهرام تدلل على ذلك.. تقول: "لعبت الخمر برأس أحد الأوروبيين فأخذ فردًا (طبنجية) وبدا يدخل القهاوى الكائنة بشارع الأزبكية قرب أوتيل دوريان مادًا يده بالفرد المذكور متلفظًا بكلام لا يفهم والناس يتسابقون إلى الفرار إلى أن لم يعد في تلك النقطة الواسعة غيره ووقف معجبًا بنفسه كأنه عنتر بن شداد"!

وإذا أضفنا إلى فندق دوريان الفندق الذى جاء في شهادة على مبارك والذى كان يديره جوزيف اللوكانتجى فضلأ عن أقدم فنادق مصر الذى كان يتاخم الحديقة.. فندق شبرد المعروف، يمكن إدراك الطبيعة الأوروبية للمنطقة، فالفنادق التي أخذت تنتشر في ذلك الوقت انما كانت بديلًا للوكائل والخانات التي كانت تقوم بتلك الوظيفة من قبل، وكان بلا شك بديلًا أوربيًا.

* يفضى هذا إلى الملاحظة الثالثة ومؤداها أنه إذا كان ميدان القناصل مركز التجمع الأوروبى في الإسكندرية، فإن الأزبكية وفى قلبها "الجنينة" كانت مركز هذا التجمع في القاهرة، صحيح أن أعداد الأجانب في العاصمة كانت أقل منها في الثغر إلا أن تركيبتهم كانت متقاربة. اليونانيون ثم الايطاليون ثم الفرنسيون فالإنجليز، اللهم إلا في وجود مجموعة غير صغيرة منهم في الوظائف الحكومية مما كان لا يتوفر بنفس القدر في الإسكندرية.

وقد انعكس هذا الوجود ليس فحسب على الفنادق وانما بدا في النحال التي امتلأت بسائر السلع المستوردة، كما انعكس على نسق الحياة الذى نفر منه المصريون واكسب الأزبكية في نظرهم بعضًا من سوء السمعة!

* ونرى أن ذلك قد أكسب "الجنينة" كثيرًا من طابعها الأجنبي حتى أنه يمكن القول، ومن خلال القراءة الفاحصة للأهرام أنه كان للعاصمة المصرية وقتذاك منتزهان - الأزبكية متنزه الأوروبيين، وشبرا متنزه المصريين، إذ تؤكد هذه القراءة على الحرص البالغ للأخيرين على الخروج بشكل يومى إلى متنزهات شبرا التي كان يخرج لها الخديو توفيق على نحو منتظم في عربته وبرفقته كبار رجال القصر، أما في الأزبكية فقد كان الأمر مختلفًا.

بدا هذا الاختلاف في النظام الدقيق للحديقة، وكان نظامًا قريبًا لما تعرفه الحدائق الكبرى في لندن وباريس وروما.

فمن ناحية كانت "الجنينة" مسورة ولها مواعيد محددة.. من شروق الشمس إلى الساعة العاشرة مساء في الشتاء والحادية عشر في الصيف "وقد يمكن تأخير إقفالها بموجب أمر مدير عموم التنظيم عند الاحتفال بألعاب تياترية وآلات موسيقية وما شاكله"!

من ناحية أخرى كانت الحديقة تحت الاشراف المباشر لجهة حكومية هي نظارة الأشغال، وعلى وجه التحديد مصلحة التنظيم التابعة لهذه النظارة، والتي كانت تحدد مواعيد الفتح والإقفال، ومقدار الرسوم التي تحصل من مرتاديها، وإعطاء التصاريح في حالة إقامة حفل في جنباتها، وأخيرًا الإشراف على سائر محتوياتها من الأشجار والنباتات والمبانى.

وقد حدث في عام 1887 أن رأت السلطات إدخال تغيير في نظام الجنية، فبعد أن كان يتم تقاضى رسوم الدخول من مرتادى الحديقة لفترة الظهر فقط، رأى المسئولون في نظارة الأشغال منع الدخول المجانى في أي وقت، الأمر الذى تداولته الصحف واعترضت عليه خاصة الأهرام!

كان مصدر الاعتراض ما سوف يعانى منه "المعاونون الأربعة المعينون لقبض الرسم في أبواب الحديقة الأربعة أن يجلسوا مدة سبع عشرة ساعة أو ثماني عشرة ساعة في مل يوم بدون أن يكون لهم ساعة واحدة للراحة".

ونكتشف مع الجدل الذى ثار حول تلك القضية أن ايراد الحديقة الشهرى كان يصل إلى تسعين جنيهًا(!)، وأن راتب المعاون أربعة جنيهات، والواضح أنها كانت مبالغ معقولة بمقاييس العصر.. المهم أن الجدل انتهى إلى عدول نظارة الأشغال عن مشروعها وبقى دخول الجنينة مجانيًا في الفترة الصباحية.

ونعتقد أنه كان وراء ذلك العدول التمييز بين الأهالى والأجانب من زوار الحديقة، فبينما كان الصباحيون من المصريين أساسًا، فان الرسم الذى كان يعوق دخول أغلب هؤلاء فترة بعد الظهر جعل المسائيين من الأجانب على الأغلب.

بيد أن ذلك التمايز قد خلق أكثر من مشكلة استمرت الأهرام تعرض لها في مناسبات مختلفة..

في خبر للأهرام الصادر في أول مارس 1889 جاء "كتبت نظارة الأشغال العمومية إلى محافظة مصر أن تنفذ أوامرها للبوليس لأجل مراقبة رعاع القوم الذين يدخلون حديقة الأزبكية منذ الصباح فيقضون فيها النهار بطوله نائمين على البنوكة المعدة لجلوس المتنزهين ويمشون أو ينامون أيضًا فوق المروج الخضراء فيتلفونها ويكسرون بعض أغصان شجر الحديقة، وواضح أن "الرعاع" الذين كان يعنيهم الخبر لم يكونوا إلا من المصريين زوار الحديقة الصباحيين!

خبر آخر عمن أسمتهم الأهرام "بالأولاد السفلة" الذين يتجولون في الحديقة ويتعرضون للمارة "بألفاظ قبيحة وأعمال منكرة" وتطالب بتأديب هؤلاء "الأولاد عديمى التربية والأصل"، ومفهوم طبعًا من هم هؤلاء السفلة!

بيد أن ذلك لم يمنع الأهرام من توجيه انتقادات حادة للزوار المسائيين من الأوروبيين الذين يصحبون كلابهم إلى الحديقة، وانهم لا يستجيبون للأوامر "القاضية عليهم بقيادة كلابهم وعدم تركها في ساحات الحديقة فتدوس من زرعها وتخسر من نضارتها"، وتوصى بتسليم عمال الحديقة "لقمًا ملوثة بالسم لكى يرموا بها إلى الكلاب المتجولة بالحديقة المذكورة فليحذر أصحاب تلك الكلاب ويقودوها اتباعًا للأوامر أو يتركوها في البيوت"!

في نفس سياق الطابع الأوروبى "لجنينة الأزبكية" حرص المسئولون على أن يوفروا  لروادها، والمسائيين منهم على وجه التحديد، فرقًا موسيقية تعزف في جنباتها أغلب أيام الأسبوع.

يدل على ذلك جملة من الأخبار التي ساقها الأهرام، جاء في أحدها "تقرر أن تصدح الموسيقى العسكرية الإنكليزية في حديقة الأزبكية يومى الاثنين والخميس من الساعة التاسعة إلى الساعة الحادية عشرة"، بينما جاء في آخر أن سردار الجيش المصرى قرر أن تعزف الموسيقى العسكرية في الحديقة يومى الثلاثاء والجمعة وفى نفس التوقيت.

وعندما تقرر تغيير مواعيد عزف الفرقة المصرية فأصبحت تعزف عصرًا بدلًا من الليل فإنها ظلت تعزف أيضًا لرواد الحديقة ممن يدخلونها برسوم من الأجانب، وليس زبائن "أبو بلاش" من المصريين!

يزداد تأكد الهوية الأوروبية "لجنينة الأزبكية" من ظاهرة لا نظن أن حديقة عامة في مصر عرفتها، وتستحق أن نفرد لها القسم الأخير من جلسة الديوان في هذه الحلقة!

***

في ثلاث مناسبات محددة على الأقل كانت تتحول حديقة الأزبكية إلى قطعة من دولة أوروبية.. الأولى كانت تأتى يوم 14 يوليو من كل عام "عيد التبعة (الجالية) الفرنساوية"، والثانية يوم 24 يونية "عيد جلالة ملكة إنكلترا الفخيمة"، والأخيرة يوم 28 يناير حين تحتفل "التبعية الألمانية بتذكار عيد مليكها غليوم الثانى".

ونبدأ بوصف الأهرام الصادر 15 يوليو عام 1888 للعيد الأول..

ذكرت الصحيفة أولًا كيف "زينت جميع جهات حديقة الأزبكية بالأعلام الافرنسية والفوانيس المنيرة وأقيم فوق ممر الناس القباب المحاطة بالأشجار المكللة بالزهور ورصت كراسى الجلوس والمقاعد صفوفًا مرتبة في بقع محتاطة بالأشجار".

تنتقل بعد ذلك إلى وصف وفود الناس "الذين ضاقت بهم ساحات الحديقة، وكان في مقدمتهم النظار على رأسهم صاحب الدولة رياض باشا".

أما برنامج الحفل فقد بدأ بالموسيقى العسكرية تعزف المارسيليز تبعه السلام الخديوى العالى ايذانًا بافتتاح الحفلة "ومن تلك الساعة بدأت تصدح الموسيقى العسكرية والآلات العربية وامتلأت الساحة المعدة للرقص بلفيف الراقصين والمتخاصرين وجعلت الناس تتخطر بأطراف الحديقة أزواجًا وأفواجًا".

ويختم مدير الأهرام الذى كان حاضرًا الحفلة وصفه لها بالقول أنه قد "صرفت هذه الليلة الزاهرة بمشاهدة الألعاب التياترية المتقنة والسهام النارية والمناظر الطبيعية المبهجة وسماع أصوات الموسيقات العسكرية والأغانى العربية حتى الصباح".

ولعل بشارة تقلا وهو يقدم كل هذا الوصف التفصيلى لأكبر حفل ليوم قومى تقيمه جالية أوروبية في "جنينة الأزبكية" لم يكن يدرى أن أول مرة يرى المصريون فيها "السواريخ والبالونات" انما جرت في نفس المكان قبل تسعين عامًا (1799) عندما كان اسمه بركة الأزبكية، وحينما كان نابليون يحكم مصر(!)

الاحتفال الثانى كانت تقيمه الجالية الإنكليزية، ونعود للقراءة في عدد الأهرام الصادر يوم 25 يونية عام 1887.. جاء فيه:

"لم تغرب شمس النهار حتى طلعت شموس الأنوار في حديقة الأزبكية وكثير من منازل أعيان الإنكليز احتفالًا بعيد جلالة ملكة إنكلترا الفخيمة، ثم تألف موكب من العساكر الإنكليزية وساروا تتقدمهم المشاعل إلى ساحة الأوبرا حيث التقت بهم الآلات الموسيقية ثم ساروا جميعًا في شارع الأزبكية من أمام أوتيل شبرد إلى باب الحديقة الشمالى وقد كان مكللًا بالزهور والأعلام مزدانًا بالأنوار الساطعة فدخلوه فرحين متهللين ثم أقبلت الوفود من كل جانب حتى بلغ عدد الداخلين إلى الحديثة نحو عشرة آلاف".

يصف بعد ذلك الحفل والذى لم يكن بأبهة الحفل الفرنسي، فبعد السلامين الخديوى والملكى "أقيمت حفلة للرقص وأجريت الألعاب النارية على اختلاف أشكالها وتباين أنواعها وفى نحو الساعة الأولى بعد منتصف الليل أخذ الحضور ينصرفون إلى منازلهم وهم يدعون لجلالة الملكة بطول البقاء!

ولعل عدم مطاولة حفل الأزبكية الإنجليزية لنظيره الفرنسي، رغم أن البلاد كانت واقعة تحت احتلال الأولين، أن الجالية الفرنسية كانت أكبر من رصيفتها الإنجليزية، فضلًا عن طبيعة الانجليز المحافظة مقابل الطبيعة اللاتينية لأبناء السين التي تحتفل بمثل تلك المناسبات أيما احتفال، فوق ذلك الطابع الشعبى للاحتفال الفرنسي مقابل الطابع الرسمي للاحتفال الانجليزى الذى بدأ بمسيرة من جنود الاحتلال، الأمر الذى لم يكن يقينًا يسعد المصريين الذين شاركوا في هذا الاحتفال "من وراء القلب" على حد التعبير المصرى الشائع.

الاحتفال الألماني كان أكثرها تواضعًا ونعود مرة أخرى لأهرام 26 يناير عام 1889 لنقرأ فيه:

"احتفلت التبعة الألمانية ليلة أمس بتذكار عيد مليكها غليوم الثانى فأعدت مأدبة فاخرة في حديقة الأزبكية حضرها جم غفير من وجهاء هذه التبعة في مقدمتهم حضرة القنصل العام وموظفو القونسلاتو وأرسلت لهم الموسيقى العسكرية بأمر من جناب الخديو المعظم فأحيوا ليلتهم بالسرور والطرب ورفع كاسات الشراب بسر مليكهم وأسرته الملوكية إلى ما بعد منتصف الليل بدون أن يحدث ما يكدر"!

ومع أن المكان هو نفس المكان، حديقة الأزبكية، والمناسبة هي نفس المناسبة الاحتفال بعيد قومى، إلا أن كلمات الخبر الأخير ليست في حاجة إلى تعليق لتنم عن حجمه.

وفى تقديرنا أن "الجنينة المشهورة"، ورغم إخفاء البركة، كانت قد تحولت بعد الاحتلال البريطاني لمصر إلى مرآة متعددة الزوايا.. في احداها صورة لهذا المجتمع الذى يحتل فيه الأجانب مكانة متميزة عن مكانة أولاد البلد، وفى زاوية أخرى صورة لثق كل قوة أجنبية في مصر مما كان مثار مخاوف عميقة بين المصريين حتى أنه عندما تقدم بعض من هؤلاء الأجانب بطلب "لبناء مخازن على دائر حديقة الأزبكية" في ربيع عام 1888 واجتمع مجلس النظار والخديوى ورفضوا الطلب اعتبر الأهرام هذا الرفض "حفظًا للحقوق الوطنية وصونًا للمصلحة المدنية وفى ذلك ما يدعو الرأي العام إلى الدعاء بحفظ جنابه الفخيم"، بكل ما يشير إليه هذا الخبر من حساسية أصبحت تثيرها الجنينة كرمز للتدخل الأجنبي لدى الضمير الوطنى المصرى!


صورة من المقال: