ads

Bookmark and Share

الاثنين، 9 نوفمبر 2020

063 حكما وأجزجية

 حكما وأجزجية

بقلم: د. يونان لبيب رزق

الأهرام الخميس 6 أكتوبر 1994م - 1 جمادى الأولى 1415هـ


القرون الثلاثة التي رزخت فيها مصر تحت الحكم العثمانى (أوائل السادس عشر إلى أوائل التاسع عشر) تخلف فيها التطبيب على نحو ربما لم يعرفه المصريون في أي عصر من عصورهم.

يقرر تلك الحقيقة "كلوت بك" الطبيب الفرنسي مؤسس مدرسة "قصر العينى" في كتاب شهير وضعه تحت عنوان "لمحة عامة إلى مصر" ودلل عليها بكثير من المشاهدات..


من بين تلك المشاهدات أن معلومات المصريين الطبية وقتذاك قد استمدت من الطب العربى القديم المأخوذ من الطب اليوناني، فضلًا عن أن مهنة الطب كانت تورث مثل بقية المهن.

من بينها أيضًا أن العمل بالتطبيب كان يشمل جماعتين.. جماعة "الحكما" وكانت معلوماتهم الطبية محدودة توارثوها عن آبائهم يطبقونها على جميع حالات الأمراض التي ضمت أربعة أقسام... الساخنة والباردة والحارة والرطبة(!)، وجماعة "الاسطوات" من الحجامين والحلاقين الذين كانوا بمثابة جراحى العصر، فيقومون بالحجامة والفصادة وتضميد الجروح وعلاج الكسور.

من بينها أخيرًا الاعتماد على صيدلية العطارة، حيث كانت العقاقير تباع في دكاكين العطارين بحالتها الخام فتشترى وتمزج ما توصف به. مما كان لا يخلو في حالات كثيرة من ضرر على المتعاطين.

ومع تداعى عصر العثمنلى خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر كان منتظرًا أن تتداعى معه مفرداته بما فيها النظام التطبيبى!

فمن ناحية لم يعد هذا النظام قادرًا على تلبية احتياجات الجيش الحديث الذى شرع محمد على في بنائه فبدئ في إقامة أو مدرس للطب في أبى زعبل عام 1837، وهى التي انتقلت بعد ذلك بعشر سنوات إلى القصر العينى حيث اكتسبت شهرتها العريضة حتى يومنا هذا.

من ناحية أخرى اقترن بقيام هذه المدرسة مدرسة أخرى للصيدلة في القلعة لم تلبث أن انضمت إلى المدرسة الأم لدى انتقالها إلى القصر العينى، ببرامج دراسة وصلت إلى خمس فرق، انضمت إليهما بعد قليل مدرسة للولادة لتخريج القابلات (الدايات)، وكانت أول مدرسة للبنات في مصر المحروسة!

من ناحية ثالثة شهد نفس العصر عصر محمد على الأطباء من خريجى القصر العينى وقد امتد نشاطهم إلى خارج الجيش.. إلى المستشفى الذى أقيم في الأزبكية في القاهرة تحت اسم المستشفى الملكى، وإلى شقيقتها الت أقيمت في الإسكندرية تحت اسم المستشفى البحرى، فضلًا عن تعيين طبيب في كل مديرية لفحص حالة تلاميذ المكاتب (الكتاتيب) الحكومية في المديرية.

بيد أنه مع المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي عرفتها مصر خلال النصف الثانى من نفس القرن، التاسع عشر، لم يكن متوقعًا أن يبقى الوضع التطبيبى على ما هو عليه.. أطباء حكوميين لهم مهام محددة بينما يستمر بقية أبناء الشعب يستخدمون طرق التداوى التي توارثوها من عصر العثمنلى على أيدى الحكما والاسطوات!

أهم هذه المتغيرات ما عرفته تلك الفترة من هجرة أوربية واسعة لم يكن أبناؤها مستعدين للإقبال على هذا النوع من التداوى الذى غالبًا ما كانوا يسخرون منه، ولم نجد ثمة غرابة مع هذا أن يأتي مع هؤلاء أطباؤهم وصيادلتهم!

من بينها أيضًا التحولات التي أصابت قطاعات هامة من المصريين ممن انخرطوا في التعليم الحديث أو اشتغلوا بوظائف الحكومة وعرفوا بالأفندية، فضلًا عن أبناء الطبقة الجديدة من متوسطى وكبار ملاك الأراضى الزراعية، الذين احتكوا بالحضارة الحديثة وفقدوا ايمانهم مع الوقت بالطب القديم.. طب عجائز النساء (الركة) والحجامة والعطارة، وأخذوا يرنون إلى العلاج بالطب الحديث.

وفى فترات التحول تلك تتشابك الخيوط ويتصارع القديم والحديث وكان الأهرام موجودًا يراقب صناعة النسيج الجديد ويدلى بدلوه في الصراع المحتدم...

***

تصاريح تعاطى مهنة الطب للأجانب التي كانت تمنحها "نظارة الداخلية بناء على طلب مصلحة الصحة" والتي شكلت بندًا ثابتًا من أخبار مكاتب الأهرام في العاصمة تكشف عن كثير من المعلومات عن الأطباء والصيادلة الأجانب، بل تكشف أيضًا الكثير عن الحكيمات والتمرجيات.

من بين ما تكشفه تعدد البلاد التي أتى منها هؤلاء، صحيح أن الايطاليين شكلو النسبة الغالبة إلا أنه كان هناك أطباء وصيادلة من غيرهم...

فهذا التصريح المنشور في أهرام 19 أكتوبر عام 1887 "لحضرة المدام ولهلمينا مائية حكيمة أسنان وحضرات الخواجات سيمون فيان وغيليوم مولتر الصيدليين بتعاطى أشغالهم في القطر المصرى"، انما يدل على أن الألمان بخبرتهم الكبيرة في الصناعات الكيماوية قد دخلوا هذا الميدان.

وهذا التصريح المنشور بعد شهر "للمسيو جرجى أميراداكيس الطبيب والمسيو باتريدس حكيم الأسنان" انما يشى بالوجود اليوناني، وهو وجود شاركهم فيه الأرمن مما يدل عليه التصريح المنشور بعد أيام "للدكتور جبريل بدروسيان بتعاطى صناعة الطب في القطر المصرى".

يلى بعد ذلك في الأهمية الأخبار التي كانت تسوقها الصحيفة بين الحين والآخر والتي جاء بعضها من قبيل التقريظ وجاء البعض الآخر في صفحة الحوادث!

فهذا الخبر الذى تكيل فيه الصحيفة الثناء للدكتور "ليون روتشتين طبيب العيون الذى أجرى في هذا العلم عمليات أوجبت له الثناء" تكفينا فيه الأهرام مشقة البحث عن أصله عندما تذكر أنه "حضر مؤخرًا من الروسية إلي ثغرنا".

وخبر آخر عن "كلينيك (عيادة) النطاسى الفاضل الدكتور شلبى افندى شميل يقصده كثيرون من المرضى فيرون من حضرة صاحبه طبيبًا ماهرًا في العلم والعمل" ينم عن أن الشوام قد احتلوا مكانهم بين أصحاب المهنة الجديدة، وهو ما استمر أصحاب الأهرام يحتفون به في أخبارهم التي كان من أطرفها ذلك الخبر الذى بعث به مكاتب الصحيفة في طنطا مقرظًا حضرة الطبيب نقولا افندى لويس الذى اغتنم فرصة العيد "بمؤانسة مرضى المستشفى الميرى فاحضر لخم الموسيقى ليشاركوا إخوانهم الأصحاء العيد"!

غير أن أغرب ما كشفت عنه الأخبار في ذلك الصدد ما بعث به مكاتب الجريدة في بنى سويف في أول نوفمبر عام 1888 من وصول "الطبيب الحاذق على افندى أكبر وهو ايرانى النزعة.. ولما كان حضرته من الأطباء المعدودين في صناعة الطب الشريفة دعاه البعض من الأهالى لمعالجة مرضاهم فوجدوا فيه طبيبًا شافيًا"، ومصدر غرابة الخبر انه لم يكن معلومًا عن الإيرانيين، حتى ذلك الوقت على الأقل أنهم قد أخذوا بعد بالعلوم الحديثة.

بيد أن الخبر الأكثر غرابة جاء عن إنشاء "شركة تمرجية لاسبتالية القصر العينى مؤلفة من نساء انكليزيات قد تعودن معاطاة هذه الخدمة"، وهى غرابة وإن امسكت بتلابيب القارئ المعاصر إلا أنها كانت جزءًا من تحولات العصر التي يتابعها الأهرام.

الانتقال إلى صفحة الحوادث يكشف لنا عن المزيد من الدور الأجنبي في مهنة الحكما... ففي صباح يوم 11 نوفمبر عام 1887 طالع قارئ الأهرام الحادثة التالية:

"علمنا من أخبار مصر أن أحد الأطباء عالج فتى أصيب بعينيه ففقد بصره فظن والده أن ذلك نشأ عن جهل الطبيب فكتب ضده مقالة في احدى الجرائد فساء الطبيب ذلك ورفع الأمر إل قنصليته فدعت المتهم وحاكمته فظهر لها أنه معتد وحكمت عليه بالسجن لمدة شهر وبغرامة 300 فرنك نقدًا وبدفع جميع مصاريف القضية.. أما الطبيب فسمح بالغرامة إلى صندوق الفقراء الايطاليين".

وتدل الحادثة على أن الطبيب كان ايطاليًا وأن والد الفتى المصرى لم تكتف المحكمة القنصلية بمصابه بفقدان ابنه لنور عينيه وانما أضافت إلى ذلك غرامة لينطبق عليه المثل القائل "موت وخراب ديار"!

لم يقتصر الوجود الأجنبي على "الحكما" وانما امتد إلى الصيدليات وهو امتداد وصل إلى درجة الاحتكار وكان احتكارًا له ما يبرره...

فمن جانب استمر خريجو مدرسة الطب الذين جمعوا في أوقات كثيرة بين مهنتهم وبين الصيدلة، فلم يكن ثمة فارق بين المهنتين حتى ذلك الوقت... استمروا يعملون بالأساس في صيدليات الحكومة.

من جانب آخر فإن العاملين بهذه المهنة، ممن تسموا "بالأجزاجية" كان مطلوبًا أن يتوفر فيهم معرفة اللغات الأجنبية التي كانت تأتى بها العقاقير التي يعرضونها في صيدلياتهم، الأمر الذى يسر لهؤلاء مهمتهم.

أخيرًا فإن الغالبية العظمى من المصريين ظلوا يتعاملون حتى ذلك الوقت مع عقاقير العطارين، الأمر الذى ترتب عليه ظاهرتان صاحبتا ظهور جماعة الاجزاجية في مصر.. الإعلانات والأدعياء!

* فأغلب ما استقيناه من أعمال الصيدلة في مصر في تلك الفترة إنما جاء عبر الإعلانات الداعية إلى ترويج هذا الشكل الجديد من التداوى.

الإعلانات التي أكدت أن أغلب "الأجزاجية" الأوائل كانوا من الشوام.. نخلة عون صاحب "المحل الكائن بشارع كلوت بك" الذى يعلن عن اكتشاف "صبغة للشعر ترجع اللون إلى أصله الطبيعى"!، و "داوود نحول الحائز على ثلاث شهادات امتياز" يعلن عن "مربى الاثمار المسهل ذي العواقب الحميدة ولاسيما ضد البواسير وأمراض الكبد ووجع الرأس"، وأجزاخانة المقتطف التي استمرت تكرر اعلانًا عن حبوب الشفاء "أنفع دواء مجرب للأمراض الصدرية"، ويوسف البترونى الذى يعلن أيضًا عن "صبغة شعر خالية من المواد الضارة" تحت عنوان "معيدة الشباب"!

تكشف هذه الإعلانات أيضًا أن عددًا من الأجزاجية في سبيل ترويج قد عمدوا إلى استدعاء بعض الأطباء لتقديم الخدمات في محالهم، يكشف عن ذلك الإعلان الذى نشره الأهرام يوم 12 نوفمبر عام 1887 ولطرافته نسوقه بنصه..

"أجزاخانة الاتحاد الكائنة بأول شارع كلوت بك والفجالة تتشرف بإعلان العموم أن حضرة الدكتور شكرى المدرس بالمدرسة الطبية وطبيب استبالية القصر العينى قد تكرم بإجابة طلبها وعين وقتًا من الساعة 3 إلى الساعة 4 افرنجى بعد الظهر يوميًا للاستشارات الطبية ولمعالجة المرضى بالاجزاخانة المذكورة".

* الأدعياء شكلوا ظاهرة بارزة في تلك الفترة بين الأجزاجية، وهى ظاهرة طبيعية على ضوء أن فترات التحول تشهد دائمًا اختلاط القديم بالجديد بكل ما يصحب ذلك من ظواهر شاذة..

من بين هذه الظواهر استخدام البعض لبراعتهم في تركيب الأدوية المسممة التي تغير لون الجلد بشكل يمكن الشبان من التخلص من القرعة العسكرية، وربما "التخلص من الحياة أيضًا" على حد تعبير الأهرام التي طالبت بمعاملة هؤلاء معاملة "قاتلى الأنفس".

من بينها أيضًا اشتغال البعض بالصيدلة دون المام كاف بأصولها خاصة في موادها الخطيرة..

وفى هذا الصدد فقد احتلت حادثة الجندى الانجليزى التي جرت في الإسكندرية في أكتوبر عام 1887 مساحة واسعة من الأهرام.

الحادثة باختصار أن هذا الجندى لجأ لأجزجى ايطالى لشراء شربة من "الملح الانجليزى" فأعطاه هذا حامض الاكساليك المسمم الذى ما إن تناوله حتى قضى نحبه، ووصلت المسألة إلى أزمة بين القنصليتين المعنيتين في الثغر انتهت بأن قرر القنصل الايطالى قفل الصيدلية "وهكذا انقضت المسألة" على حد تعبير الأهرام.

غير أن انفضاض القضية، ذلك أنه لم يمض وقت طويل حتى أصدرت مصلحة الصحة قانونًا عموميًا لحفظ السموم وبيعها، كان يوضع كل صنف في اناء على حدة، وأن يقيد كل أجزجى ما يشتريه في "في دفتر خصوصى منمر ومختوم عليه من مصلحة الصحة" وألا يصرف في أدوية من الأنواع المذكورة "إلا بموجب تذكرة موقع عليها من طبيب معلوم" وأخيرًا "حفظ الجواهر السمية ضمن محلات حصينة مقفلة"!

ومع التسليم بأن الأجزاجية لم يكونوا يتعاطون مهنتهم إلا بتصريح من مصلحة الصحة، ومع ملاحظة ما كانت تتدخل به المصلحة بين الحين والآخر لفرض تنظيمات بعينها، إلا أن كل ذلك كان يتم في إطار مرحلة تاريخية انتقالية.. بين العطارة والعقاقير الحديثة!

***

يبقى من هذه المتابعة ما يخص المصريين الذين كانوا قد عرفوا التعليم الطبي الحديث قبل نحو خمسين عامًا من صدور الأهرام..

أول ما يلاحظ في هذا الشأن اتساع نطاق الخدمات الصحية الحكومية التي كان يقع عبؤها الأساسى على الأطباء منهم. فمع مرور الوقت كانت تنتشر الاستباليات في سائر حواضر المديريات التي كانت تتطلب مزيدًا من الأطباء "الحكيمباشية" الذين كانت تتعدد مهامهم.

ومع زيادة الحاجة إلى هؤلاء ورغم سياسة الاحتلال بجعل التعليم بمصروفات فقد استمر طلاب مدرسة الطب يتقاضون رابتًا من الحكومة، فضلًا عن تخفيض الرسوم التي كانت تحصل منهم عند اشتغالهم بالتطبيب من 400 قرش إلى 200 قرش فقط.

لعل ما أدى إلى دخول الأطباء المصريين إلى مجال العلاج خارج "الاستباليات" الحكومية وان كنا نلاحظ أن هذا الدخول قد بدا محدودًا وعلى استحياء. ومع ذلك فقد استقبلته الأهرام بحفاوة ظاهرة بدت في جملة الأخبار التي كانت تسوقها عنهم.

من تلك الأخبار الشهادة الطيبة التي سجلها "جناب الخواجا شبلى كرامة" في الطبيب المصرى أمين افندى عطا "لما أظهره من المهارة والتفنن في معالجة ابن شقيقة الخواجا حافظ صباغ إذ كان قد اعتراه داء خطر لم ينجح فيه دواء نخبة من الأطباء ثم دعى لمعالجته حضرة الطبيب المذكور فنال الشفاء على يديه".

منها أكثر من خبر عن الأطباء المصريين الذين استكملوا دراستهم الخارج.. الدكتور صالح افندى صبحى الذى تلقى علومه في مونبلييه وباريس "وقد وفق بجهده إلى اختراع آلة مفيدة جدًا لتسهيل الولادة الصناعية تفضل على غيرها من الآلات المعروفة الآن"، نبيه افندى خياط "أحد أعضاء عائلة خياط الشهيرة في أسيوط" تتبعت الأهرام رحلته إلى لندن لإتمام علوم الطب، إسكندر افندى رزق الله الذى نتوقف عنده قليلًا لما أعاره الأهرام له من اهتمام خاص..

ففي خلال رحلة مدير الجريدة إلى العاصمة الفرنسية، وضمن تقاريره التي كان يوافى بها الأهرام أرسل بخبر طويل طويل جاء فيه: "قابلت في باريز حضرة الدكتور البارع إسكندر افندى رزق الله وهو بعد أن درس الطب في مدرسة مصر ونبغ به وتعاطاه بضع سنوات في الإسكندرية قدم باريز لإتمام دروسه ونراه برهانًا على أهلية وطنينا الأديب".

ولم يمض سوى أيام قليلة على الخبر حتى بدأ الأهرام ف نشر سلسلة من المقالات للدكتور البارع تحت عنوان "العلم والمجامع العلمية - ثمن الحياة البشرية"، وإذا كان من تقاليد الأهرام أن تستكتب البارزين من المصريين فيما سبق رصده مع الشيخ محمد عبده ومع الأثرى أحمد كمال فإن ما فعلته مع الطبيب المصرى في باريز قد تم في نطاق هذه التقاليد.

بيد أن كل ذلك استمر يحدث في نطاق أقل من أن يصل لمجموع المصريين خاصة أولئك الذين يعيشون في أعماق الريف مما دعا إلى الحرص على الإبقاء على نظام الأسطوات الحلاقين بعد تطويره.

وكان الإبقاء على تطبيب الحلاقين محل مناقشات بين المعارضين والمؤيدين الأمر الذى دعا مصلحة الصحة أن ترسل إلى مفتشيها تسألهم عما يرتأونه في تعليم الحلاقين الجراحة الصغرى، وقد رد هؤلاء بأنه ليس بإمكان "الحلاق العديم المعارف اتقان الأشياء المطلوبة منه وإن اتقنها فيخشى أن يتطرق إلى أكثر من واجباته فيضر ولا ينفع".

رغم ذلك فقد اتخذت مصلحة الصحة قرارها بالإبقاء على نظام الحلاقين بشروط وضعتها.. الالمام بالقراءة والكتابة، الحضور إلى "استبالية القصر العينى" ثلاث مرات مدة كل مرة 15 يومًا ليتمرن فيها على عمليات الجراحة الصغرى والكشف على المتوفين.

حدد هذا القرار أيضًا مهام الحلاق الذى يتلقى هذا اللون من التدريب" "بعملية تطعيم الجدرى" إزالة العفونة من المراحيض بالمواد المضادة لها، تجهيز المنازل التي يصاب فيها أحد الناس بمرض وبائى، تطهير المياه في أيام الأمراض الوبائية وجعلها صالحة للشرب وما أشبه ذلك من التحوطات الصحية الوقائية".

ومع أن مفتشى الصحة تحفظوا على القرار ورأوا أنه لن يكون فعالًا بحكم ضآلة المكافأة التي تقرر أن يحصل عليها هؤلاء والتي لا تتجاوز اعفاءهم من ضريبة الويركو وقيمتها عشرين قرشاَ شهريًا، فانه كان للأهرام رأى آخر.

قالت الأهرام في عددها الصادر يوم أول يونية عام 1888 "أن ترشيح الحلاقين في البلاد إلى الوظيفة بالكيفية المذكورة انما هو مفيد للغاية وأنه لخير عمل عمل تحمد عليه إدارة الصحة".

ونقول نحن فى الأهرام الصادر بعد أكثر من 106 عامًا أنها كانت خطوة ضرورية في تطور هذه الشخصية التي استمرت جزءًا من الحياة اليومية للقرية المصرية، من "الأسطى" صاحب المهنة الموروثة إلى "حلاق الصحة" الذى تنظم السلطة المركزية وظيفته وتشرف عليه، ولم يعد في الإمكان أن يمارس أي من هؤلاء عمله دون "رخصة خصوصية" وإلا تعرض للمحاكمة، وتؤكد متابعة تاريخ "حلاقى الصحة" أنهم قد استمروا مكملين للمنظومة التطبيبية مع الحكما والأجزاجية ورغم التصور باندثار هذه المهنة فقد اثبت حادث الختان الشهير الذى جرى مؤخرًا لاحدى الفتيات وأثار ضجة تجاوزت الحدود المصرية أن أصحاب هذه المهنة مازالوا موجودين.. وبقوة!


صورة من المقال: